المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

تمنع من الرجوع لأصالة البراءة من وجوب الاتمام ، فيتعين الاحتياط بالإتمام ثم الإعادة.

ودعوى : أن أصالة البراءة من قادحية الزيادة ونحوها تقتضي صحة العمل ووجوب إتمامه ، فينحل بذلك العلم الإجمالي.

مدفوعة : بأن أصالة البراءة لا تحرز مطابقة العمل للتكليف الواقعي وصحته الذي هو موضوع وجوب الاتمام ، وإنما تقتضي المعذورية من احتمال البطلان ، وليس هو موضوع وجوب الإتمام.

ومثلها دعوى التمسك لذلك باستصحاب الصحة. لما تقدم من الإشكال في الاستصحاب المذكور.

فلعل الأولى أن يقال : إن العلم الإجمالي المذكور ـ لو تم ـ لا يقتضي المنع من الزيادة ، ولا ينجز احتمال قادحيتها قبل الإتيان بها ، بل هو مترتب على الإتيان بها ، فالزيادة شرط في حدوث العلم الإجمالي المذكور ، وحيث كان الظاهر عموم حديث : «لا تعاد ...» في الصلاة للجهل ونحوه من الأعذار ، ولا يختص بالسهو ، فهو يقتضي عدم قادحية الزيادة في المقام ، للإتيان بها جهلا بعد فرض عدم صلوح العلم الإجمالي لتنجيز احتمال قادحيتها قبل الإتيان بها ، فيعلم بصحة الصلاة معها ووجوب المضي فيها ، إما لعدم قادحيتها ذاتا ، أو من جهة تحقق العذر فيها ، ولا مجال مع ذلك لفرض العلم الإجمالي المذكور.

نعم ، لو كان احتمال قادحية الزيادة قبل الإتيان بها منجزا ـ كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص ـ لم يبعد قصور حديث : «لا تعاد ...» عنه ، واتجه فرض العلم الإجمالي المذكور.

كما يتجه بناء على اختصاص الحديث بالسهو وعدم شمولاه للجهل.

هذا كله بناء على عموم حرمة القطع لما إذا احتمل بطلان العمل بنحو يقتضي الاحتياط ، وأنه لا مجال للاحتياط إلا بالإتمام ثم الاستئناف.

٤٢١

وأما بناء على قصور دليل حرمة القطع عن ذلك ، لأن تجنب صعوبة التكرار مع الرغبة في الاحتياط من جملة الأغراض العقلائية المسوغة للقطع ، فلا مجال لفرض العلم الإجمالي حتى في الموردين المذكورين ، بل غاية ما يحصل في المقام هو احتمال بطلان العمل بما يحتمل قادحيته ، فلا مانع من

التنبيه الخامس : في تعذر بعض ما يعتبر في الواجب الارتباطي

إذا تعذر بعض ما يعتبر في الواجب ، ودار الأمر بين عموم اعتباره لحال تعذره المستلزم لسقوط التكليف بالواجب رأسا ، تبعا لتعذر قيده ، واختصاصه بحال القدرة عليه ، المستلزم لبقاء التكليف بما عدا المتعذر ، فهل الأصل يقتضي الأول أو الثاني؟

والكلام في ذلك في مقامين ..

الأول : في مقتضى القاعدة الأولية بالنظر إلى الأدلة الاجتهادية أو الاصول العملية.

فاعلم أن في المقام صورتين ..

الاولى : أن يكون لدليل اعتبار الأمر المتعذر إطلاق يشمل حال التعذر. ومن الظاهر أن مقتضى الإطلاق المفروض سقوط الواجب بتعذره ، بمقتضى فرض الارتباطية لتعذر المقيد بتعذر قيده.

ولا مجال معه لاستصحاب التكليف بالوجه الذي يأتي الكلام فيه ، لكونه محكوما للإطلاق المذكور.

ودعوى : أن سقوط وجوب المركب بمقتضى الإطلاق لا ينافي وجوب الناقص بدلا عنه أو لكونه الميسور منه ، فإن قوله عليه السّلام : «لا صلاة إلا بطهور» مثلا إنما يقتضي توقف الصلاة على الطهور المستلزم لسقوط وجوبها بتعذره ، وهو لا ينافي وجوب المركب الخالي عنه لكونه الميسور من الصلاة أو لكونه بدلا

٤٢٢

عنها ، واحتمال ذلك مصحح للاستصحاب.

مدفوعة : بأن الإطلاق المفروض في محل الكلام هو إطلاق اعتبار الشيء في الواجب ، المستلزم لسقوط الواجب بتعذره ، لا إطلاق اعتباره في المركب الذي يجب في بعض الأحوال ، بنحو قد يخلفه غيره ، فإن ذلك خارج عن محل الكلام ، لعدم استلزامه إطلاق اعتباره في الواجب. فلاحظ.

هذا ، وقد تقدم في النقيصة السهوية من التنبيه السابق الكلام في بعض ما يستفاد منه الإطلاق بما لا حاجة معه لإطالة الكلام فيه هنا ، لأن المقامين من باب واحد.

الثانية : ألا يكون لدليله إطلاق ، وحينئذ فإن كان للتكليف بباقي الأجزاء إطلاق يشمل صورة تعذر الأمر المذكور لزم الاقتصار في جزئية المتعذر على حال القدرة عليه والبناء على عدم جزئيته في حال تعذره ، المستلزم لعدم سقوط المركب حينئذ.

وإلا لزم البناء على الإجمال والرجوع للأصل العملي ، من الاستصحاب أو البراءة.

أما الاستصحاب فقد يتمسك به لإحراز وجوب الباقي للعلم بوجوبه سابقا حين القدرة على التام ويحتمل بقاء التكليف به بعد التعذر.

وفيه : أن المعلوم سابقا هو وجوبه ضمنا في ضمن التكليف بالتام ، وهو معلوم الارتفاع بسقوط التام ، غاية الأمر أنه يحتمل حدوث الوجوب الاستقلالي له بعده ، والأصل عدمه.

ودعوى : أن وجوب الباقي المشكوك متحد مع وجوب التام المتيقن سابقا ، لوجوده في ضمنه ، وليس الاختلاف بينهما إلا في الحدود ، وهو لا يوجب تعدد المحدود ، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

مدفوعة : بأن اختلاف الحدود إنما لا يوجب تعدد المحدود إن رجع إلى

٤٢٣

اختلاف مرتبة الوجود الواحد ، كالسواد الخفيف الموجود في ضمن السواد الشديد ، لا في مثل اختلاف الوجوبين باختلاف حدود متعلقيهما ، فإن كلا من الوجوبين محتاج إلى جعل مستقل يباين جعل الآخر ، وليس أحدهما بقاء للآخر ، لتقوم التكليف بمتعلقه على ما هو عليه من الحد الملحوظ للجاعل ، فلا بد مع اختلاف الحدين من اختلاف الجعل ، الموجب لتعدد المجعول. فلاحظ.

وأما استصحاب كلي الوجوب الجامع بين الوجوب الضمني والاستقلالي ، الثابت سابقا للباقي والمشكوك في بقائه بعد التعذر فهو من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وهو لا يجري على التحقيق.

على أنه لو كان يجري في نفسه لكان مختصا بما إذا كان الأثر للكلي ، والأثر في المقام للفرد ، وهو الوجوب الاستقلالي ، والاندفاع إنما يكون عنه ، لا عن كلي الوجوب ، بل ليس الاندفاع مع الوجوب الضمني إلا عن الوجوب الاستقلالي ، إذ ليس الوجوب الضمني إلا تحليليا ، لا يكون موردا للأثر بنظر العقلاء.

وإحراز كون الوجوب استقلاليا باستصحاب الكلي مبني على الأصل المثبت.

ومثله في ذلك استصحاب الوجوب الاستقلالي للعنوان ـ كالصلاة ـ لإحراز تحققه بالناقص وكونه فردا اضطراريا له.

نعم ، قد يتمسك باستصحاب الوجوب الاستقلالي للناقص فيما إذا كان متحدا مع التام عرفا ، بأن يكون المتعذر لقلته من سنخ الحالات المتبادلة على الموضوع الواحد غير الموجبة لتعدده ، لا مقوما له عرفا ، بناء على الاكتفاء بالتسامح العرفي في موضوع الاستصحاب ، كما جرى عليه غير واحد في مثل استصحاب كرية الماء.

٤٢٤

لكن المبنى المذكور غير تام في نفسه ، على ما يأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

هذا كله مع العلم بسبق التكليف بالتام تعيينا ، بحيث لا يجوز تعجيز النفس عنه ، أما لو احتمل التكليف به من أول الأمر تخييرا ، بحيث يجوز التعجيز عنه ، لاختصاص ملاكه بحال القدرة عليه ، فليس المتيقن سابقا هو التكليف بالتام بنحو يسقط بالتعذر ، ويحتمل حدوث تكليف آخر بالناقص ، بل التكليف بالباقي في الجملة إما مقيدا بالمتعذر لا غير فيسقط بالتعذر ، أو مخيرا بينه وبين المطلق في حال التعذر ، فيبقى مع التعذر ، ولا يبعد حينئذ جريان استصحاب التكليف بالميسور على ما هو عليه من الترديد والإجمال ، لصلوحه للداعوية ظاهرا ، نظير ما تقدم في مناقشة بعض مشايخنا في آخر الكلام في النقيصة السهوية ، وإن لم يكن عينه. لكنه محتاج إلى كثير تأمل.

ثم انه لو جرى الاستصحاب في نفسه اختص بما إذا كان مسبوقا بالقدرة في الوقت وتجدد العجز في أثنائه ، بحيث يعلم معه بفعلية التكليف سابقا في حقه.

لكن عن بعض الأعاظم الاكتفاء بسبق القدرة ولو قبل الوقت ، بدعوى : أن الاستصحاب في الأحكام الكلية الذي هو وظيفة المجتهد لا يتوقف على فعلية الموضوع خارجا ، ومن ثمّ يتمسك الفقيه في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال بالاستصحاب ، مع عدم تحقق الموضوع خارجا.

وفيه : أنه مع عدم فعلية الموضوع يعلم بعدم التكليف ، فلا معنى لاستصحابه بعد الوقت مع الشك ، بل المتعين استصحاب عدمه وإجراء المجتهد للاستصحاب في الأحكام الكلية إنما هو بمعنى حكمه بأن وظيفة من يفرض في حقه فعلية الموضوع والقطع بالتكليف هو البناء على بقائه ، لا الحكم فعلا بالبقاء في حقه مع عدم فعلية الموضوع في حقه ، كما في المقام ، فإنه خارج

٤٢٥

عن مفاد الاستصحاب ، كما أطال في توضيح ذلك بعض مشايخنا. فراجع.

نعم ، بناء على جريان الاستصحاب التعليقي يتجه الرجوع له في المقام ، فيقال : كان الباقي حين القدرة على الجزء لو دخل الوقت لوجب ، فهو بعد التعذر كذلك.

وكذا بناء على كون الوقت شرطا للواجب لا للوجوب ، لفعلية الوجوب حينئذ قبله ، فيتجه استصحابه.

وعلى أحد هذين الوجهين يتجه التعميم من شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

لكن الوجهين ضعيفان في نفسيهما ، مخالفان لمذهب بعض الأعاظم قدّس سرّه.

هذا ، ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه التمسك باستصحاب جزئية المتعذر في حال التعذر ، المقتضي لسقوط التكليف رأسا بالتعذر ، وحكومته على استصحاب التكليف لو فرض جريانه في نفسه.

وقد أطال في ذلك بما لا مجال لمتابعته فيه ، لضعفه. فراجع.

وأما أصل البراءة فقد يتمسك به لنفي جزئية المتعذر أو شرطيته حال تعذره ، بدعوى : أن المقام من صغريات الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

ويندفع بأن الجزئية والشرطية ليستا من الأحكام المجعولة ، بل هما منتزعتان من وجوب المركب الذي اخذ فيه المشكوك ، وهو مما يقطع بارتفاعه بسبب التعذر ، فلا معنى لجريان البراءة منه ، وإنما الشك في حدوث وجوب الباقي ، ودليل البراءة لا يثبته ، بل ينفيه.

بل لو فرض جريان البراءة من الجزئية والشرطية في نفسها فلا مجال له في مثل المقام مما لا يكون له أثر إلا الإلزام بالناقص ، لمنافاته للامتنان الذي هو مساق أدلة البراءة.

نعم ، لو فرض العلم بتجدد القدرة في الوقت تعين البناء على الاكتفاء بالناقص حال التعذر ، للعلم بالتكليف حينئذ ، إما بالأكثر الذي لا يحصل إلا في

٤٢٦

آخر الوقت ، أو بالأقل الميسور في تمامه ، ومقتضى الأصل الاكتفاء بالأقل.

وكذا لو فرض حصول العلم الإجمالي بالتكليف بسبب وجوب القضاء أو الكفارة ، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب الأقل في الوقت ، أو بوجوب الكفارة أو القضاء في خارجه.

وفي ما عدا ذلك حيث يشك في التكليف بالناقص فالأصل البراءة منه. إلا أن يكون محكوما لقاعدة الميسور الآتية ، أو للاستصحاب الذي تقدم الكلام فيه.

هذا ، ولا يخفى أن ذلك لا يختص بمحل الكلام ، وهو الشك في عموم الجزئية لحال التعذر ، بل يجري في ما يشك في أصل جزئيته ـ كالاستعاذة في الصلاة ـ لو فرض تعذره ، فإن الشك في أصل جزئيته إنما يكون مجرى للبراءة مع العلم بفعلية التكليف في الجملة ، أما مع الشك في أصل التكليف لتعذر ما يحتمل دخله فيه فالمتعين جريان البراءة منه.

إلا أن يكون محكوما لقاعدة الميسور ـ لو فرض جريانها فيه على تقدير اعتباره ـ أو لاستصحاب التكليف لو فرض تجدد العجز في أثناء الوقت ، حيث يمكن معه استصحاب التكليف على ما هو عليه من الإجمال والتردد بين الأقل والأكثر الذي عرفت أنه صالح للداعوية للأقل ، أو يكون طرفا لعلم إجمالي منجز ، كما لو فرض وجوب القضاء أو الكفارة ، على ما أشرنا إليه ، أو فرض تجدد التكليف بتعدد الوقائع ، حيث يعلم حينئذ إما بالتكليف بالأقل في الواقعة المقارنة للتعذر ، أو بالتام في الوقائع الاخرى ، إلى غير ذلك مما يجب الخروج فيه عن مقتضى أصل البراءة ، ولو لاه لكان هو المرجع في ذلك وفي ما نحن فيه. فلاحظ.

٤٢٧

المقام الثاني : في مقتضى القاعدة الثانوية بعد الفراغ عما تقدم من التفصيل في المقام الأول.

ولا إشكال في الاكتفاء بالميسور في كثير من فروع الفقه في الصلاة والحج وغيرهما ، وإنما الإشكال في ثبوت عموم يقتضي الاكتفاء به يكون هو المرجع عند الشك ، وهو ما يسمى بقاعدة الميسور ، التي وقع الكلام فيها بين الأصحاب.

وعمدة ما يستدل به لها أمران :

الأول : دليل رفع الاضطرار ، وما لا يطيقون ونحوهما ، بدعوى : أن مقتضاه سقوط جزئية المتعذر ، المستلزم لبقاء التكليف بما عداه بعد فرض ثبوت مقتضيه لو لا التعذر.

لكن تقدم في الأمر الثاني من الكلام في النقيصة السهوية أنه لا مجال لاستفادة ذلك من حديث الرفع ، وأن مفاده رفع التكليف بالتام ، لا تشريع التكليف بالناقص. فراجع ، فإن المقامين من باب واحد.

ومنه يظهر ضعف الاستدلال بما دل على الحلية بالاضطرار والتقية ، بناء على عمومها للحلية الوضعية.

الثاني : بعض النصوص المتضمنة لوجوب الإتيان بالميسور ، وهي ما عن عوالي اللئالي عن النبي صلّى الله عليه وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ، وعن أمير المؤمنين عليه السّلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» ، وعنه عليه السّلام أيضا : «ما لا يدرك كله لا يترك كله».

بدعوى : ظهورها في لزوم تبعيض العمل الارتباطي بحسب الميسور من أجزائه وشرائطه ، فتكون حاكمة على إطلاق دليل اعتبار الأمر المتعذر الشامل لحال تعذره لو فرض ثبوته.

وينبغي الكلام في هذه النصوص ..

٤٢٨

تارة : في السند.

واخرى : في الدلالة.

أما السند فلا إشكال في ضعفه في جميعها ، لعدم ذكر أصحابنا لها في كتب الحديث المعروفة ، وإنما ذكرت مرسلة في محكي عوالي اللئالي الذي هو من الكتب المتأخرة عصرا غير المعروفة بالضبط وانتقاء الحديث المعتبر ، بل طعن فيه صاحب الحدائق مع ما هو المعلوم من حاله من عدم شدة اهتمامه باسناد الأخبار.

قال في ردّ مرفوعة زرارة الواردة في تعارض الخبرين : «مع ما هي عليه من الرفع والارسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه الى التساهل في نقل الأخبار والإهمال ، وخلط غثها بسمينها ، وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور» ، وإنما ورد الأول مسندا في كتب العامة على اختلاف مضامينه بما يأتي الإشارة إليه.

نعم ، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في توجيه حجية هذه النصوص : «وضعف إسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما لا يخفى على المتتبع».

وفيه : أن تمسك الأصحاب بها غير ثابت ، وغاية الأمر موافقتهم لها ، وهي لا تصلح للجبر ما لم يثبت اعتمادهم عليها وتسالمهم على الرجوع إليها ، ولا مجال له بعد عدم تعرض القدماء لها في مقام الاستدلال في ما أعلم ، وإلا لما اقتصر على نسبتها للكتاب المذكور مع ما هو عليه من الوهن.

بل لم يجروا عليها في كثير من فروع العبادات فضلا عن غيرها ، كما يشهد به تتبع حالهم في الصوم ، والخمس ، والزكاة ، وكثير من فروع الحج والصلاة ، فإنهم وإن تنزلوا في كثير من الموارد عن بعض المراتب ، كاستبدال القيام بالجلوس في الصلاة ، واستبدال المشي أو الركوب بالحمل في الطواف

٤٢٩

والسعي ، بل وعن بعض الأجزاء والشرائط رأسا كالسورة والطمأنينة ، إلا أنهم لم يتنزلوا عن كثير من الأجزاء والشروط ، فلا مجال عندهم للتبعيض في ركعات الصلاة أو بعض مناسك الحج ، واشتهر عندهم عدم صحة الصلاة من فاقد الطهورين.

فمن القريب جدا أن يكون اجتزاؤهم بالناقص في كثير من فروع الطهارة والصلاة ، والحج لعدم إطلاق دليل الأمر المتعذر ، أو لقرائن خاصة كالإجماع ، والسيرة ، والأخبار الكثيرة الواردة في كثير من تلك الفروع ، والتي قد يتعدى الفقيه منها لفهم عدم الخصوصية لمواردها ، أو لنحو ذلك مما لا مجال معه لدعوى انجبار الأخبار المذكورة بعمل المشهور.

وأما الدلالة فهي لا تخلو عن قصور في الجميع ..

أما الأول فلأن (من) وإن كانت ظاهرة في التبعيض ، إلا أن التبعيض قد يكون بلحاظ الوحدة النوعية ، فيكون البعض هو الفرد من الكلي ، وقد يكون بلحاظ الوحدة الاعتبارية بين الامور الخارجية ، فيكون البعض هو الجزء من الكل ، والأول راجع الى التكرار في المأمور به ، والثاني هو الذي ينفع في ما نحن فيه ، ولا مجال لحمل الإطلاق عليهما معا ، لعدم الجامع العرفي بينهما بعد اختلاف الجهة المصححة للتبعيض ، كما لا مجال للحمل على الثاني ولا سيما بعد احتياجه إلى نحو من العناية في فرض الشيء مركبا ذا أجزاء من دون إشعار للكلام به ، فإطلاق الشيء يناسب إرادة الأول.

هذا ، مع أن قرب أخذه مما رواه العامة يناسب الحمل على الأول ، فعن مسلم والترمذي في صحيحيهما عن أبي هريرة أنه قال : خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال : «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت صلّى الله عليه وآله حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم

٤٣٠

بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».

بل رواه النسائي بالسياق المذكور هكذا : «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم» فيكون أجنبيا عما نحن فيه جدا وصريحا في المعنى الأول.

ودعوى : أن الحمل على إرادة التكرار لا يناسب عمل الأصحاب ولا سيرة المسلمين في الاكتفاء بالمرة ، بل هو خلاف المقطوع به في المورد.

مدفوعة : بأن ذلك لا يصلح قرينة عرفية على الحمل على المعنى الثاني بعد أن كان خلاف الظاهر في نفسه ، بل لعل الاولى الحمل على الاستحباب.

بل هو الظاهر في نفسه مما سبق في رواية العامة ، كما يناسبه ظهور كونه تخفيفا في مقابل الأمر بوجوب الحج في كل عام ، وظهور الاستطاعة فيه في العرفية التي لا تسوغ ترك الواجب.

كما أنه مقتضى الجمع بينه وبين ما عن عوالي اللئالي عن الشهيد عن ابن عباس قال : «لما خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله بالحج قام إليه الأقرع بن حابس : أفي كل عام؟ فقال : لا ، ولو قلت لوجب ، ولو وجب لم تفعلوا ، إنما الحج في العمر مرة واحدة ، فمن زاد فتطوع» (١) وحكي نحوه عن أبي داود والنسائي وأحمد والحاكم في صحاحهم.

نعم ، لا بد من تقييده بما يكون مشروعا في نفسه بنحو الاستغراق ، كالحج والصدقة ، فيكون مسوقا لبيان معنى ارتكازي عقلي ، وهو حسن الاستزادة من الخير والإكثار منه بحسب المستطاع ، بعد فرض كونه خيرا لكونه انحلاليا ، لا لبيان سقوط الارتباطية بالتعذر الذي هو معنى تعبدي محض.

بل هذا هو الظاهر منه عرفا ، ولذا يصدق بلا تكلف على مثل الصدقة

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ٣ من ابواب وجوب الحج حديث : ٤.

٤٣١

بالمقدار الميسور ، ومساعدة المؤمن ونحوهما. فتأمل جيدا.

وما ذكرناه أولى من دفع الاستدلال باحتمال كون «من» في المقام بمعنى الباء ، أو بيانية ، أو زائدة.

لأن ورود «من» بمعنى الباء وإن حكي عن يونس مستشهدا عليه بقوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ)(١) ، لكن من القريب جدا كونها في الآية ابتدائية لبيان المنشأ ، نظير : جرى الماء من الميزاب ، فكأن الطرف منشأ للنظر ومصدره.

مع أنه لو سلم فهي بمعنى باء الاستعانة أو الآلة ، لا باء التعدية ، كما هو المدعى في المقام.

كما أنه لا يبعد رجوع البيانية التي يراد بها جنس ما قبلها ، نظير : خاتم من حديد ، إلى الابتدائية ـ التي لا مجال لها في المقام ـ أو التبعيضية ، فكأن المراد خاتم ناشئ من حديد ، أو بعض منه.

مع أنها تختص بما إذا كان ما بعدها جنسا لما قبلها ـ كالمثال المتقدم ـ دون مثل المقام مما وقعت فيه بين الفعل ومتعلقه ، إذ لم يعهد إرادة الجنس منها حينئذ ، كي يكون المراد هنا : إذا أمرتكم بشيء فحققوا نوعه ما استطعتم.

وأما زيادة «من» في غير ما إذا كان مدخولها نكرة مسبوقة بنفي أو نهي ، فهو وإن قيل في مثل قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)(٢) إلا أن الظاهر رجوعها فيه للتبعيضية ، وأن المراد الأمر بانقاض النظر ، إما بلحاظ المرتبة في مقابل الاشباع وملء العين ، أو بلحاظ المنظور ، لأن المنهي عنه هو النظر لبعض الأشياء كالأجنبية.

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٥.

(٢) سورة النور : ٣٠.

٤٣٢

وربما احتمل كونها لابتداء الغاية ، وإن كان لا يخلو عن بعد.

وكيف كان ، فزيادتها في الآية بعيدة ، وفي الحديث أبعد ، لأن «أتى» لا تتعدى للمأتي به بنفسها.

فالظاهر أنها في الحديث للتبعيض ، وأن التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية ، كما ذكرنا.

وأما الثاني فلظهوره في رفع احتمال سقوط الميسور بعد فرض ثبوت مقتضيه ، لبيان قضية ارتكازية عقلائية ، لا التصرف في أصل الجعل ، بنحو يكون ناظرا لأدلته الأولية وشارحا لها ، ومبينا لحال الأجزاء وأنها ناشئة عن مقتضيات متعددة لا يوجب سقوط بعضها بالتعذر سقوط الآخر ، ليكون حاكما على الأدلة الأولية الظاهرة في الارتباطية في مقام السقوط.

وبعبارة اخرى : وجوب الناقص بعد سقوط التام.

تارة : يكون بملاك كونه بدلا عنه وتداركا له ، نظير وجوب الفدية مع تعذر الصوم.

واخرى : لقيام الملاك بالكل بنحو الانحلال وتعدد المطلوب ، بحيث يكون كل جزء منه وافيا بمرتبة من الملاك القابلة للاستيفاء عند تعذر الباقي.

والأول لا يناسب التعبير بالسقوط الظاهر في تحقق مقتضي الثبوت للميسور مع قطع النظر عن تعسر المعسور.

والثاني وإن كان مناسبا للتعبير المذكور ، إلا أن الظاهر من الحديث الإشارة إلى الكبرى الارتكازية إرشادا لها ، لا لبيان تحقق صغراها تعبدا ، لشرح حال التكاليف بالمركبات على خلاف ظاهر أدلتها الأولية في الارتباطية.

نعم ، لو كان واردا في خصوص مورد المركبات الظاهرة أو الموهمة للارتباطية كان ظاهرا في شرح حالها.

لكن المفروض عدم المورد للحديث بنحو يكون صارفا لظهوره في

٤٣٣

محض بيان الكبرى المذكورة ، نظير ما تقدم في الجواب عن الاستدلال لوجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بروايات النهي عن ارتكاب الشبهة. فراجع.

هذا ، ولكن قد يقال : فرض السقوط في الميسور ليس بلحاظ سبق ثبوت الملاك له ـ وإلا لامتنع تطبيقه على الجزء بعد فرض الارتباطية في حال تيسر التام ، لقيام الملاك بالتام حين تيسره ، لا بكل جزء جزء ، وقيام الملاك بالناقص إنما يكون بعد التعسر ـ بل بلحاظ سبق التكليف به ، وهو كما يصح بلحاظ سبق التكليف الاستقلالي به ، كالصلاة مع تعسر الصوم ، كذلك يصح بلحاظ سبق التكليف الضمني به ضمن التكليف بالمركب ، حيث يصح أن يقال : لا يسقط التكليف بالجزء بسبب تعذر بقية الأجزاء.

لكن فيه .. أولا : أن فرض السقوط بلحاظ سبق التكليف وإن كان مقبولا غير مستهجن ، إلا أن الاظهر مع عدم القرينة حمله على كونه بلحاظ ثبوت المقتضي له لدفع توهم المانع عن تأثيره ، كما ذكرناه آنفا.

وثانيا : أن الأمر حينئذ يدور بين الحمل على سقوط التكليف بالميسور بعد سبق التكليف الاستقلالي به ، لاستقلاله بالملاك ، فيكون إرشادا إلى الكبرى الارتكازية التي هي أجنبية عما نحن فيه ، والحمل على سقوط التكليف به بعد سبق التكليف الضمني به لبيان قضية تعبدية محضة تنفع في ما نحن فيه ، وتحكم على الأدلة الأولوية المقتضية للسقوط. ولا جامع بينهما ، لعدم الجامع بين الأمر الإرشادي والتعبدي المولوي ، كما نبه له بعض مشايخنا.

بل يتعين الحمل على الأول ، لأن انس الذهن بالقضية الارتكازية يوجب انصرافه إليها من الكلام بنحو يحتاج خلافه إلى تنبيه وقرينة ، فترك المتكلم لذلك قرينة عامة على إرادة ما ينصرف إليه الذهن بطبعه. بل لعل ذلك موجب للانصراف حتى مع فرض إمكان شمول الإطلاق للأمرين.

وما قيل : من أن الأصل في بيانات الشارع المولوية لا الإرشاد.

٤٣٤

إنما هو في ما إذا علم المراد من الكلام ، وشك في صدوره بداعي الارشاد أو المولوية ، كما لو دار الأمر بينهما في بعض الأوامر والنواهي في بعض الامور التي يحتمل صدورها للإرشاد إلى آثارها الوضعية ، لا للمولوية ، وكما قيل في أوامر الاحتياط في الشبهة البدوية.

أما مع تردد معنى الكلام بين أمرين أحدهما ارتكازي قد أنس به الذهن فالمتعين الحمل عليه ، وإن لزم منه الإرشاد.

هذا ، مضافا إلى أن المنصرف من عدم السقوط هو البقاء بالنحو الذي كان ثابتا سابقا ، فكما يكون بقاؤه بالتكليف به استقلالا يكون المفروض ثبوته سابقا بالوجه المذكور ، لا في ضمن التكليف بالكل ، كما لعله ظاهر بالتأمل.

ودعوى : إشعار الحديث بالارتباطية بين المعسور والميسور ، بنحو يصح الردع عن توهم سقوط الثاني تبعا للأول ، إذ مع عدم الارتباطية بينهما لا منشأ للتوهم المذكور ، ليحسن الردع عنه.

مدفوعة : بأن ذلك لا يتوقف على الارتباطية بينهما شرعا ، بل يكفي فيه الارتباط بينهما في مقام العمل ، بسبب الارتباط بينهما في حدوث الداعي لهما في نفس الفاعل ، لكون أحدهما من شئون الآخر الموجبة لكماله واعتداده به ، وإن لم يكن قيدا فيه شرعا ، فلا يصلح ذلك للخروج عما ذكرنا.

فالمتعين حمل الحديث الشريف على إرادة التكاليف المفروغ عن كونها انحلالية بلحاظ الميسور ، من مراتبها الفاقد لبعض الأجزاء أو الخصوصيات الكمالية ، ردعا عما قد يقع من كثير من الناس ، بل أكثرهم ، من التسامح عن الميسور حينئذ لعدم الاعتداد به ، كما نشاهده في كثير من أعمال الخير التي يتركها الناس رأسا ، لعدم تيسرها بالمراتب المعتد بها بنظرهم ، فمن لا يستطيع إشباع جائع لا يعينه بتمرة ، ومن لا يستطيع صلاة النافلة من قيام لا يغتنمها في حال الجلوس أو المشي ، معتذرا بالمعسور غافلا عن اغتنام الميسور.

٤٣٥

ومنه يظهر الحال في الثالث ، فإن من القريب جدا حمله على الإرشاد للقضية الارتكازية المذكورة بعد الفراغ عن انحلال التكليف ، لا على بيان حال التكاليف الواقعية تعبدا وشرحها على خلاف ظاهر أدلتها الأولية في الارتباطية ، لتكون حاكمة على تلك الأدلة.

ولذا كان المرتكز شمولاه ـ كالثاني ـ للمرتبة القليلة بعد فرض الانحلالية ، كشق التمرة بالاضافة إلى إشباع الفقير ، مع أن قاعدة الميسور مختصة عندهم بما إذا كان الميسور معتدا به من المركب ، فلو لا كون الحديثين لبيان قضية ارتكازية آبية عن التخصيص لكان اللازم البناء على قصورهما عن ذلك بعد فرض الإجماع على قصور القاعدة التي هي تعبدية محضة. فتأمل.

وقد تحصل : أنه لا مجال لإثبات عموم قاعدة الميسور من حديث الرفع ونحوه ، ولا من النصوص المتقدمة ، بعد قصورها دلالة وسندا.

فلا مجال بعد ذلك للكلام في عمومها للمستحبات ، وللشروط ، وغير ذلك مما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره.

نعم ، المعنى الارتكازي الذي تقدم حمل النصوص عليه لا إجمال فيه ، وهو شامل للأمرين. والله سبحانه وتعالى العالم ، والحمد لله رب العالمين.

٤٣٦

المقام الثاني

في دوران التكليف بين التعييني والتخييري

والمراد التخيير الشرعي الراجع إلى أخذ خصوصية كل من أطراف التخيير في المكلف به شرعا ، كما في الكفارة المخيرة ، لا التخيير العقلي ، الراجع إلى التكليف شرعا بالماهية ، المقتضي لتخيير العقل بين أفرادها ، لعدم الفرق بينها في تحصيل الغرض ، لأن الكلام في ذلك قد سبق في المسألة الثانية من المقام الأول.

وينبغي التمهيد لمحل الكلام بامور ..

الأول : أن التخيير ..

تارة : يكون في الحكم الواقعي في مقام الجعل والتشريع ، لقصور الملاك عن اقتضاء كل طرف معينا ، كالتخيير في خصال الكفارة.

واخرى : يكون في الحكم الواقعي ، لكن في مقام الامتثال ، للتزاحم بين التكليفين ، المقتضي لتعيين الأهم منهما ، والتخيير بينهما مع عدم الأهمية.

وثالثة : يكون في الحكم الظاهري ، كالتخيير بين الحجج في مقام التعارض لو فرض قيام الدليل عليه.

ومحل الكلام هو الأول ، لمناسبته لباب الأقل والأكثر الارتباطيين ، الذي فرض فيه الشك في اعتبار خصوصية في المكلف به بنحو لا يعلم بالامتثال وتحقق شيء من الغرض الا مع المحافظة عليها ، فما هو المتيقن في مقام الامتثال لا يعلم بأخذه في مقام الجعل.

٤٣٧

أما الثاني فمرجع الدوران بين التعيين والتخيير فيه إلى الشك في حال نفس التكليفين لاحتمال أهمية أحدهما بعينه من دون إجمال في المكلف به ، مع العلم بأن موافقة كل منهما محصلة لغرضه ، لعدم الارتباطية.

كما أن الدوران بينهما في الثالث لا يرجع إلى الشك في خصوصية التكليف بوجه ، بل في حال طريقه.

نعم ، يحسن التعرض لهما استطرادا بعد الفراغ عن محل الكلام في تنبيه يعقد لذلك إن شاء الله تعالى.

الثاني : صور الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي كثيرة ، إلا أن ما يناسب المقام هو ما لو علم بفعلية التكليف بشيء وشك في كون التكليف به تعيينيا فلا يتحقق الامتثال إلا به ، أو تخييريا لأن له عدلا يمكن امتثال التكليف به ، كما لو دار الأمر في الكفارة بين المخيرة والمرتبة ، لاشتراكه مع مبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين في وجود المتيقن في مقام الامتثال الذي يشك في اعتباره في مقام الجعل.

بخلاف بقية الصور ، فمثلا لو دار الأمر بين التكليف التخييري بأحد امور والتكليف التعييني بكل منهما ـ كما لو دار الأمر بين كفارة الجمع والمخيرة ـ يكون كل منها صالحا للامتثال ومحصلا للغرض في الجملة وإن لم يحرز به تمام الغرض ، نظير الدوران بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين ، وكذا الحال في غيرها من الصور التي يأتي التعرض لها بعد الفراغ عن محل الكلام في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.

الثالث : الكلام في هذه المسألة يختلف باختلاف المباني في حقيقة الوجوب التخييري حيث اختلف في ذلك على أقوال ..

الأول : التكليف بالجامع بين الخصوصيات تعيينا ، إلا أن الجامع المذكور لما لم يكن عرفيا تعينت الإشارة إليه بأفراده في مقام بيان التكليف به.

٤٣٨

الثاني : التكليف بكل منها تعيينا مع كون امتثال أحدها مسقطا للباقي ، لتعذر استيفاء ملاكها معه وإن كان فعليا.

الثالث : التكليف بكل منها تعيينا لكن مشروطا بعدم فعل الآخر ، فهو يرجع إلى تكاليف مشروطة ، لا تكليف واحد مطلق.

الرابع : التكليف التعييني بأحد الأطراف المعين عند الله تعالى.

الخامس : سنخ خاص من التكليف ، مخالف للتكليف التعييني يتعلق بكل طرف طرف ، لا يقتضي الإتيان به إلا في ظرف عدم الإتيان بغيره ، فهو يتعدد بتعدد الأطراف. وإليه قد يرجع ما قيل من أنه طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة.

السادس : التكليف بأحد الأطراف ، على تفصيل يأتي الكلام فيه ، لابتناء الكلام عليه ، لأنه المختار دون الوجوه السابقة.

هذا ، ولا ريب في رجوع الشك في المقام على الأول إلى الدوران بين التعيين والتخيير العقلي ، الذي تقدم في المسألة الثانية في المقام الأول أن المرجع فيه البراءة.

ومجرد الجهل بحدود العنوان المفهومية وانحصار معرفته بأفراده لا يصلح فارقا بعد صلوحه بنفسه للتكليف.

كما أنه يرجع على الثاني إلى الشك في المسقط الذي يكون المرجع فيه الاشتغال.

وعلى الثالث إلى الشك في التكليف الاستقلالي في حال الإتيان بالطرف المشكوك ، الذي يكون المرجع فيه البراءة.

وعلى الرابع إلى الشك في الامتثال ، الذي هو مورد الاشتغال.

وأما على الخامس فمقتضى العلم الإجمالي بثبوت تكليف تعييني واحد في المتيقن ، أو تكاليف تخييرية بعدد الأطراف هو الاحتياط والعمل على

٤٣٩

التعيين ، لعدم إحراز الفراغ بدونه.

ودعوى : أن وجود المتيقن في البين ، وهو عدم جواز ترك المتيقن لا إلى بدل اللازم لكلا طرفي العلم الإجمالي ، يقتضي حلّ العلم الإجمالي المذكور ، والاقتصار على ذلك الراجع إلى التخيير.

مدفوعة : بأن المتيقن المذكور ليس متيقنا في مقام الجعل بنحو تكون موافقته موافقة قطعية للتكليف المتيقن ، لينهض بحل العلم الإجمالي ، بل هو من شئون إطاعة التكليف ، وليس المجعول إلا الطلب بأحد الوجهين من دون متيقن في البين ، فالاقتصار على عدم ترك المتيقن لا إلى بدل لا يوجب إلا ترك المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ، من دون أن يستوجب الموافقة القطعية لتكليف متنجز ينحل به العلم الإجمالي.

نعم ، بناء على رجوع الوجه المذكور إلى أن التكليف التخييري طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة قد يتجه الانحلال ، للعلم التفصيلي بالمرتبة الناقصة في المتيقن التي يكفي في إطاعتها وعدم مخالفتها عدم تركه لا إلى بدل ، والشك البدوي في المرتبة الزائدة التي يتم بها الطلب ويكون تعيينيا ، وهي مدفوعة بالأصل.

ودعوى : حصول العلم الإجمالي إما بتحقق المرتبة التامة من الطلب في المتيقن ، او بتحقق المرتبة الناقصة منه في بقية الأطراف ، فتحقق المرتبة الناقصة في المتيقن ليس تمام المتيقن ، لينهض بحل العلم الإجمالي ، بل بعضه ، نظير ما لو علم إجمالا إما بوجوب إكرام كل من زيد وعمرو بدرهم ، أو بوجوب إكرام زيد بدرهمين ، فإن وجوب إكرام زيد بدرهم وإن كان متيقنا ، لكنه لما لم يكن تمام المتيقن لم ينهض بحل العلم الإجمالي.

مدفوعة : بعدم الأثر للتكليف الناقص في بقية الأطراف زائدا على ما يقتضيه المعلوم بالتفصيل ، وهو المرتبة الناقصة في المتيقن ، وذلك مانع من

٤٤٠