المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

القسم الأول

في البراءة والاحتياط والتخيير

وفصوله أربعة ..

الفصل الأول

في الشك في أصل التكليف

والمشهور المعروف الرجوع فيه للبراءة ، ونسب لقاطبة الاصوليين.

وعن معظم الأخباريين أو قاطبتهم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية ، وعن المحدث الاسترابادي وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية أيضا ، وفي محكي كلام المحدث البحراني موافقته فيها مع إجمال النص.

لكن في محكي كلام آخر له إطلاق الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، ونفى عنه الخلاف في الوسائل (١).

كما أن الظاهر عدم الخلاف في الرجوع للبراءة في الشبهة الموضوعية مطلقا تحريمية كانت أو وجوبية ، وإن ذهب غير واحد إلى وجوب الاحتياط في

__________________

(١) ج ١٨ ، في ذيل الحديث : ٢٨ من باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.

٢١

بعض الموارد ، مثل الشك في عدد الفوائت ، لتخيل كون الشك فيها في الفراغ ، لا في أصل التكليف.

وكيف كان ، فالحق الرجوع للبراءة العقلية والشرعية مطلقا.

وينبغي الكلام هنا في مقامين ..

الأول : في مقتضى الأصل الأولي مع فرض عدم البيان الشرعي حتى بالإضافة للوظيفة العملية مع الجهل بالتكليف الواقعي.

الثاني : في الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة لبيان حكم الجهل بالتكليف الشرعي الواقعي.

ولا ينبغي الخلط بينهما مع اختلاف مفاد الأدلة المستدل بها في المقام.

أما الأول : فلا ينبغي الريب في حكم العقل بالبراءة في المقام ، الراجع إلى حكمه بقبح العقاب من غير بيان ، وهو المراد بالبراءة العقلية ، فإن هذا يقتضي السعة في باب التكاليف المبنية على الإلزام والاحتجاج والمؤاخذة وهو لا ينافي لزوم الاحتياط مع الاحتمال فيما لو تعلق الغرض بإصابة الواقع ، كما في الأضرار الواقعية التي يهتم بتجنبها.

هذا ، ولا يبعد كون الحكم المذكور مسلما عند الكل.

نعم ، لو فرض كون مراد القائلين بأن الأصل في الأشياء الحظر هو الأصل الظاهري ، بعد ورود الحكم الشرعي ـ الذي هو مرجع الوجه الثالث من الوجوه المتقدمة عند الكلام في الأصل المذكور ـ كان ذلك منهم إنكارا للحكم العقلي المذكور. لكنه في غير محله قطعا ، لأن الحكم العقلي المذكور قطعي ارتكازي.

والاستدلال للحظر : بأن ملكه تعالى للعبد وأفعاله يقتضي عدم تصرف العبد مع الشك في إذنه ، إذ لا يجوز التصرف بملك الغير بمجرد احتمال إذنه.

في غير محله ، كما يظهر مما سبق من أن ملكيته تعالى الحقيقية لا تقاس بالملكية الاعتبارية ، بل هي لا تقتضي إلا سلطانه تعالى على العبد بتكليفه له ،

٢٢

ولا بد في تنجز التكليف عقلا من بيان شرعي ، وإن كان بوجوب الاحتياط ، ومع عدمه فالعبد في سعة من أمره ، يقبح عقابه ومؤاخذته بمجرد الاحتمال.

ومثله ما عن شيخ الطائفة قدّس سرّه من الاستدلال على أن الأصل في الأشياء الحظر ، أو الوقف : بأن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من مفسدته ، وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته.

لاندفاعه : بأن الحكم المذكور إن رجع إلى حكمه بقبح الإقدام على احتمال الضرر ، فهو لا يقتضي احتمال العقاب ، لينافي حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان. وإن رجع إلى التقبيح المستلزم للحكم الشرعي المستتبع للعقاب فهو ممنوع. وقد تقدم في الوجه الأول للاستدلال على حجية مطلق الظن ما ينفع في المقام.

وكيف كان ، فالظاهر أن الحكم المذكور مسلم عند الأخباريين ، وأن نزاعهم في المقام لا يبتني على إنكاره ، بل على دعوى المخرج عنه ، من بيان شرعي وارد عليه ، رافع لموضوعه ، على ما يأتي الكلام فيه.

ومن ثمّ استدل شيخنا الأعظم قدّس سرّه بالإجماع من المجتهدين والأخباريين على أن الحكم في ما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو ولا من حيث أنه مجهول الحكم هو البراءة ، وعدم العقاب على الفعل.

وإن كان الاستدلال على الأحكام العقلية بالأدلة الشرعية لا مجال له ، إلا أن يكون لمجرد الاستظهار لسوق الأدلة الشرعية مساق الإرشاد للحكم العقلي المذكور.

أو يكون المراد أنه لو فرض التشكيك في الحكم العقلي المذكور أمكن الاستدلال بالأدلة الشرعية على الأصل المذكور ، كأصل شرعي أولي ، فلا يكون مرجع الاجماع إلى قبح العقاب ، ليكون إرشادا لحكم العقل ، بل إلى مجرد تأمين الشارع منه.

٢٣

لكن الاستدلال بالإجماع لا يخلو عن إشكال ، لقرب استناد المجمعين لحكم العقل المذكور ، أو لغيره مما يأتي الكلام فيه ، فلا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن الحكم الشرعي.

وأما ما يأتي من الاستدلال بسيرتهم في مقام الاستدلال على الرجوع للبراءة فلعله إجماع منهم على الأصل الثانوي ، لمثل حديث الرفع ، لا على الأصل الأولي الذي هو محل الكلام.

ثم إنه قد يستدل على الأصل المذكور ـ بعد حكم العقل والإجماع المتقدمين ـ بأدلة من الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) بناء على أن بعث الرسول كناية عن وصول البيان ، لا مجرد البعث وإن لم يصل البيان ، فإن ذلك هو المناسب لظهور كون القضية ارتكازية ـ كما هو المناسب لسياقها ـ لما هو المرتكز عرفا من توقف العقاب على البيان.

نعم ، لو كانت بصدد بيان لزوم بعث الرسل على الله تعالى لحفظ الملاكات الواقعية وإيصالها للمكلفين ، من باب اللطف الذي لا ينافي اختفاء البيان لطوارئ خارجية ناشئة من المكلفين أنفسهم ، كانت أجنبية عما نحن فيه ، إلا أنه لا يناسب إناطة العقاب به ارتكازا.

فالإنصاف ظهورها في عدم العقاب من دون بيان ، كما هو مفاد حكم العقل في المقام.

وقد أورد شيخنا الأعظم قدّس سرّه على الاستدلال المذكور : بأن ظاهر الآية الشريفة الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٥.

٢٤

وكأنه لما اشتهر من دلالة (كان) على النسبة في الزمان الماضي. لكن الظاهر انسلاخها فى المقام ونحوه عن ذلك ، وتمحضها لبيان أصل النسبة ، فيدل هذا التركيب على نفي النسبة المذكورة ، بل على أنه ليس من شأنها الوقوع ، نظير قوله تعالى : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(١) ، وقوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(٢) ، وقوله عزّ وجل : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)(٣) ، وقوله جل شأنه : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(٤) ، إلى غير ذلك مما سلط فيه النفي على (كان) واريد به بيان لزوم النفي ، فيناسب المقام.

نعم ، لو سلطت (كان) على النفي كانت ظاهرة في الزمان الماضي ، كما في قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)(٥) ، وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً)(٦) ، ومنه لو قيل في المقام : «كنا لا نعذب حتى ...».

هذا ، مع ظهور العذاب في ما يعم العذاب الاخروي أو يخصه ، ولا سيما بملاحظة سوق الآية في سياق آيات استحقاق العذاب الاخروي ، لبيان قضايا ارتكازية ، قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ...)(٧).

__________________

(١) سورة الكهف : ٥١.

(٢) سورة الانفال : ٣٣.

(٣) سورة الإسراء : ٢٠.

(٤) سورة مريم : ٦٤.

(٥) سورة المائدة : ٧٩.

(٦) سورة النبأ : ٢٧.

(٧) سورة الإسراء : ١٣ ـ ١٦

٢٥

على أنه لو تم ما ذكره قدّس سرّه فمن الظاهر عدم سوق الآية لمحض الإخبار ، بل لبيان جريانه تعالى في العذاب على طبق الموازين العقلائية العامة الراجحة أو اللازمة من توقفه على إقامة الحجة ، فيدل على ثبوت ذلك في العذاب الاخروي بتنقيح المناط ، بل بالأولوية ، لأهمية العقاب الاخروي ، بلحاظ شدته ، وتمحضه في الجزاء ، الذي هو أولى بالاحتياج للحجة ، بخلاف العذاب الدنيوي ، حيث أنه قد يكون من سنخ الآثار الوضعية للأفعال وإن كانت عن عذر ، أو يكون للامتحان ، أو نحوهما مما لا يكون من سنخ الجزاء ولا يتوقف على إقامة الحجة ارتكازا. فالإنصاف أن دلالة الآية وافية جدا.

ثم إنه ربما يقرب دلالتها على نفي الاستحقاق بما أشرنا إليه من ظهور التركيب المذكور في أنه ليس من شأن النسبة الوقوع ، بل هي لازمة الانتفاء.

لكنه أعم من عدم الاستحقاق ، لإمكان أن يكون اللزوم بلحاظ التزامه تعالى بمقتضى اللطف وإن لم يكن واجبا ، نظير قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(١) مع وضوح الاستحقاق ، كما يشهد به قوله تعالى بعد ذلك : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...)(٢)

وكيف كان ، فيكفي في الاستدلال بالآية دلالتها على نفي فعلية العقاب وإن لم تدل على نفي استحقاقه لكونها حينئذ مؤمّنة من العقاب ، فلا يحتمل الضرر المقتضي للحذر والمستلزم لتنجز التكليف المحتمل. غايته أنها إن دلت على نفي الاستحقاق كانت إرشادا لحكم العقل المتقدم بقبح العقاب من غير بيان ، وإلا كانت دليلا على الأصل الأولي المذكور في قباله.

بقي شيء ، وهو أنها حيث كانت دالة على الأصل الأولي ، فلا تنافي

__________________

(١) سورة الانفال : ٣٣.

(٢) سورة الانفال : ٣٤.

٢٦

وجوب الاحتياط في التكليف المجهول لو فرض دلالة الأدلة الشرعية عليه ، لأن العقاب على التكاليف حينئذ يكون بعد إرسال الرسول ، فيكون دليل وجوب الاحتياط رافعا لموضوعها.

نعم ، لو كان مفادها توقف العقاب على إرسال الرسول ببيان نفس التكليف المعاقب عليه كانت منافية كذلك ، لأن دليل وجوب الاحتياط وإن كان بيانا لوجوب الاحتياط إلّا أن العقاب ليس عليه ، لأنه حكم طريقي ، وليس العقاب إلا على التكليف الواقعي المجهول ودليل وجوب الاحتياط لا يكون بيانا له ، فينافي الآية.

إلا أنها غير دالة على ذلك ، بل على اشتراط العقاب بالبيان في الجملة وإن كان على وجوب الاحتياط.

ثم إن هناك بعض الآيات الأخر ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، ويظهر ضعف الاستدلال بها مما ذكره قدّس سرّه وذكرناه في تعقيب كلامه ، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها ، وإن كانت هي لا تخلو عن إشعار وتأييد للمطلب ، ككثير من الآيات الواردة في إقامة الحجة على العباد ، يضيق المقام عن استقصائها.

وأما السنة فقد يستدل منها بأحاديث ..

الأول : ما روي من قوله : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (١) ، بناء على أن (ما) مصدرية ظرفية. إذ تكون الرواية حينئذ مسوقة لبيان الأصل الأولي المذكور ، الذي لا ينافي وجوب الاحتياط لدليل شرعي موجب للعلم ، لإطلاق العلم فيها لما يشمل ذلك ، ولا تدل على عدم ارتفاع السعة إلا بالعلم بخصوص الحكم الواقعي الذي هو مورد العقاب.

نعم ، لو كانت (ما) موصولة قد اضيفت إليها السعة كانت دالة على ثبوت

__________________

(١) لم نعثر عليه ، سوى ما في عوالي اللئالي ج ١ ، ص ٤٢٤ ، وقال النبي صلّى الله عليه وآله : «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».

٢٧

السعة بلحاظ نفس التكليف المجهول ، الذي هو مورد الأصل الثانوي ، فينافي وجوب الاحتياط المقتضي لعدم السعة بالإضافة إلى التكليف المجهول ، ولا يصلح دليل وجوب الاحتياط لرفع موضوعه ، لعدم كونه موجبا للعلم بالتكليف الواقعي ، كما تقدم قريبا عند الكلام في الآية.

ولعل هذا هو الأقرب ، لما ذكره بعض مشايخنا من أن (ما) الزمانية حسب استقراء موارد استعمالها لا تدخل على فعل المضارع ، وإنما تدخل على الماضي ، فلو كان المضارع في الخبر مدخول كلمة (لم) لكان للاحتمال الأول وجه متين ، لكنه خلاف الواقع.

ولو سلم دخولها على فعل المضارع أحيانا فلا ريب في ندرته ، فلا يصار إليه في غير الضرورة ، فحمل (ما) على الموصولة هو الأنسب. وإن كان في بلوغ ذلك حدّ الظهور إشكال.

ولا سيما مع عدم خلو إضافة السعة للموصول عن تكلف ، بل نحو من الركاكة. فإجمال الرواية ودورانها بين الأصل الأولي والثانوي هو المتعين.

نعم ، ورد في بعض نسخ الرسائل المطبوعة التي لا تخلو عن ضبط ذكر الحديث هكذا : «الناس في سعة ما لم يعلموا» ومن الظاهر أن مدخول (لم) بمنزلة الفعل الماضي ، فيتعين معه كون (ما) زمانية مثلها في قولهم عليهم السّلام : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» (١) ، وغيره مما هو كثير. إلا أنه لا طريق لتعيين أحد الوجهين بعد ما قيل من عدم العثور على الحديث في كتب الأخبار.

ومنه يظهر قصوره عن مقام الاستدلال لضعف السند. نعم ؛ في رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السّلام الواردة في سفرة وجدت مطروحة في الطريق كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها قال عليه السّلام : «فقيل يا أمير المؤمنين عليه السّلام :

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ، الباب ٥ من أبواب الخيار.

٢٨

لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال : هم في سعة حتى يعلموا» (١) ، وهو مختص بمورد خاص من الشبهة الموضوعية ، ولعله راجع إلى أمارية أرض المسلمين على تذكية اللحم ، فيكون أجنبيا عما نحن فيه.

الثاني : قوله عليه السّلام : ـ كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (٢) ، فإنه ظاهر في الجهالة من جميع الجهات التي هي موضوع الأصل الأولي فلا ينافي وجوب الاحتياط لدليل رافع للجهل به.

نعم ، استشكل فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأنه ظاهر في اعتقاد الصواب أو الغافلة عن الواقع ، ولا يعم صورة الشك والتردد التي هي محل الكلام.

وكأن وجهه ظهور الباء في قوله عليه السّلام : «بجهالة» في السببية لا محض المصاحبة ، ولا يكون الجهل سببا للعمل الا مع الغافلة أو اعتقاد الصواب ، أما مع الشك والتردد فالجهل لا يقتضي الإقدام ، بل التوقف ، والإقدام يستند إلى أمر آخر من أصل أو نحوه مما يعتمد عليه الشاك في مقام العمل.

مضافا إلى الإشكال في استعمال الجهالة بمعنى محض عدم العلم ، بل هي تناسب القصور الحاصل من الغافلة أو اعتقاد الخلاف ، كما تقدم التنبيه له في آية النبأ. فتأمل.

الثالث : ما رواه في البحار عن الكافي عن حمزة بن الطيار ، بسند لا يخلو عن اعتبار ، عن أبي عبد الله عليه السّلام : «ان من قولنا : ان الله يحتج على العباد بما اتاهم وعرفهم ، ثم أرسل اليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ...» (٣) ، فإن المنسبق منه الحصر الراجع إلى عدم الاحتجاج عليهم بما لم يعرفهم. وهو لا يدل إلا على الأصل الأولي ، إذ لو فرض دلالة الدليل على وجوب الاحتياط كان

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، باب : ٢٣ من أبواب اللقطة ح : ١.

(٢) في الوسائل : «أي رجل ...» ج ٥ ، باب : ٣٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٣) الكافي ج : ١ ص ١٦٤.

٢٩

مما اتاهم وعرفهم ، فيكون موردا للاحتجاج منه تعالى عليهم بمقتضى الحديث.

الرابع : ما عن كتاب التوحيد بسنده عن عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السّلام عمن لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال : «لا» ، فانه ظاهر في بيان الأصل الأولي المذكور الذي لا ينافي وجوب الاحتياط للدليل الموجب لمعرفته. من دون فرق بين كون المراد بالشيء الأول فردا مرددا أو فردا معينا مفروضا في الخارج ، وكون المراد به العموم لأنه نكرة في سياق النفي.

وما ذكره شيخنا الاعظم قدّس سرّه من أنه على الثاني يكون ظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا.

مدفوع : بأن ظاهر الحديث السؤال عمن لم تتحقق له المعرفة ، لا عمن لا قابلية له للمعرفة.

نعم ، من لا يعرف شيئا أصلا قاصر غالبا ، إلا أن ظاهر الحديث كون الجهة المسئول عنها هي عدم معرفته لا قصوره.

الخامس : ما في ثواب الأعمال (١) ، وعن كتاب التوحيد ، بسنده عن حفص بن غياث ، سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم» (٢) ، فإنه صريح في عدم المؤاخذة مع عدم العلم.

نعم ، يكفي العلم بوجوب الاحتياط في لزوم العمل الذي تضمنه الحديث ، كما هو مفاد الأصل الأولي المذكور.

هذا حاصل ما تيسر لنا عاجلا من الأدلة على كون مقتضى الأصل الأولي البراءة. وقد عرفت أن عمدتها ـ بعد حكم العقل ـ الآية الشريفة والأحاديث

__________________

(١) باب ثواب من عمل بما علم ص : ١٣٣ ، طبع النجف.

(٢) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٠.

٣٠

الثلاثة الأخيرة.

وأما المقام الثاني : وهو مقتضى الأصل الثانوي ، فالظاهر أنه لا حكم للعقل فيه ، بل هو مما يختص به الشارع ، فكما يمكن عقلا جعل الشارع للبراءة يمكن جعله لوجوب الاحتياط. ولو تم وجوب الاحتياط كان رافعا لموضوع حكم العقل في المقام الأول.

لا لكون العقاب معه عقابا على ما يعلم وورد به البيان ، إما من حيث كون دليله موجبا للعلم بوجوب الشيء بعنوان كونه مجهول الحكم ـ كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ أو من حيث كونه بيانا للتكليف المجهول في ظرف وجوده ـ كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ.

لاندفاع الأول : بأن وجوب الاحتياط طريقي لا يكون موضوعا للعقاب والثواب ، بل مصححا للعقاب على التكليف الواقعي المجهول في ظرف وجوده ، وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من كونه نفسيا تكلف مخالف لظاهر أدلته جدا.

واندفاع الثاني : بعدم صلوح دليل الاحتياط لبيان الواقع ، بل الوجه في ارتفاع موضوع حكم العقل بدليل وجوب الاحتياط أن حكم العقل مختص بما إذا لم يهتم الشارع الأقدس بحفظ التكليف الواقعي في ظرف الجهل به بايجاب الاحتياط.

وقد تقدم تمام الكلام في ذلك في مبحث قيام الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي من مباحث القطع. فراجع.

وكيف كان ، فالأصل في المقام شرعي محض لا دخل للعقل به. ومن ثم ينبغي أن يستدل عليه بالأدلة الشرعية ، وقد استدل على البراءة بالأدلة الثلاثة ..

٣١

أما الكتاب ، فبقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١) ، فقد يستدل به على البراءة بناء على أن المراد بالإيتاء في التكاليف الإعلام بها وإيصالها للمكلف فتدل على عدم التكليف بما لم يصل للمكلف ، وتكون معارضة لأدلة وجوب الاحتياط المقتضية للتكليف بالواقع والمؤاخذة به مع الجهل به ، من دون أن توجب العلم به ليخرج عن موضوع الآية.

ومجرد اقتضائها العلم بوجوب الاحتياط لا ينفع بعد عدم كونه موردا للمؤاخذة ، لكونه طريقيا ، كما تقدم.

نعم ، لو كانت بصدد بيان توقف المؤاخذة على قيام الحجة في الجملة وإن لم تتعلق بنفس التكليف المؤاخذ به كانت مساوقة للآية المتقدمة في الأصل الأولي ، كما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه.

لكنها بعيدة عن ذلك ظاهرة في لزوم ايتاء نفس التكليف المؤاخذ به.

ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن مفاد الآية إنما هو نفي الكلفة من قبل التكاليف المجهولة ، بمعنى عدم صلوحها بنفسها لإيجاب المؤاخذة ، لا نفي الكلفة عليها مطلقا ولو من قبل جعل إيجاب الاحتياط.

لاندفاعه : بأن ظاهر الآية ليس مجرد عدم صلوح التكاليف المجهولة لتسبيب الكلفة ، كي لا تنافي تسبيب إيجاب الاحتياط لها ، بل عدم تحقق الكلفة بالإضافة إلى التكاليف المجهولة مطلقا ، فينا في مقتضى أدلة الاحتياط من تحقق الكلفة بالاضافة إليها.

وأشكل منه ما ذكره قدّس سرّه من أن إيتاءه تعالى لما كان عبارة عن إعلامه ، وكان المراد منه إعلامه بالطرق المتعارفة التي هي عبارة عن إرسال الرسل وأمرهم بتبليغ الأحكام ، كان مقتضى الآية عدم ثبوت مسئولية التكليف مع عدم أمر

__________________

(١) سورة الطلاق : ٧.

٣٢

الرسل بتبليغه الراجع إلى كونه مما سكت الله عنه الملازم لعدم فعليته ، ولا تدل على عدم المسئولية بالتكليف لو فرض فعليته والأمر بتبليغه ، وإنما كان اختفاؤه بسبب الطوارئ الموجبة للضياع كظلم الظالمين ونحوه.

إذ فيه : أنه مخالف للظاهر جدا ، فإن ظاهر الإعلام هو الإعلام الفعلي ، ولا سيما مع إضافته لكل مكلف بشخصه ، لا لنوع المكلفين. ومجرد كون ذلك هو المراد بوجوب الإعلام على الله تعالى من باب اللطف ، لا يقتضي الحمل عليه في المقام.

فالإنصاف قوة دلالة الآية بناء على أن المراد من الايتاء هو الإعلام في المقام.

لكنه غير ظاهر ، لأن حقيقة الإيتاء الإعطاء ، فلا بد إما من حمله على حقيقته مع حمل الموصول على المال ويكون التكليف به بمعنى التكليف بإنفاقه. أو حمله على الاقدار مجازا مع حمل الموصول على الفعل ويكون التكليف به حقيقيا. وكلاهما مناسب لورود القضية مورد التعليل لقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ).

ولعل الأول أقرب ، لما يستلزمه الثاني من اختلاف معنى الايتاء ومتعلقه في الموردين. ومجرد كون الثاني أشمل لا يقتضي ظهور القضية فيه مع كون الأول ارتكازيا مثله.

نعم ، الظاهر أن منشأ اشتراط التكليف بإنفاق المال بإعطائه هو عدم التكليف بغير المقدور ، بقرينة وروده مورد التعليل الظاهر في كونه ارتكازيا ، فيكون عدم التكليف بغير المقدور علة للقضية المذكورة ، لا أنه مؤدى بها.

وكيف كان ، فالآية أجنبية عما نحن فيه من عدم التكليف بما لا يعلم.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن إيتاء كل شيء بحسبه ، فإيتاء المال بإعطائه ، وإيتاء الشيء فعلا أو تركا بالإقدار عليه ، وإيتاء التكليف بايصاله

٣٣

والاعلام به.

فيندفع : بأن الإيتاء لغة وعرفا الإعطاء ، وتعذره بالإضافة إلى غير المال من الامور المذكورة موجب لحمله على غير معناه فيها ، فلا وجه للحمل عليها من دون قرينة ملزمة.

ومن الغريب ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من صدق الإعطاء ـ الذي هو معنى الإيتاء ـ في الفعل والترك بالإقدار ، وفي التكليف بالإعلام.

فإن أدنى تدبر في معنى الإعطاء شاهد ببطلانه.

هذا ، مع أنه لو فرض إمكان شمول الإيتاء للإعلام بالتكليف فلا مجال له في المقام ، فإن عدم تعلق التكليف بالتكليف المجهول ليس كعدم تعلقه بالمال أو الفعل غير المقدور ، إذ المراد بالأول عدم التعلق ظاهرا بلحاظ المؤاخذة ، لوضوح عدم كون الجهل رافعا للتكاليف واقعا ، وبالثاني عدم التعلق واقعا لامتناع التكليف بغير المقدور.

مع أن الأول شرعي تعبدي ، والثاني إرشادي عقلي ، وحيث لا إشكال في شمول القضية للثاني بقرينة المورد كانت منصرفة عن الأول الذي هو محل الكلام.

وأما ما قيل في وجه امتناع العموم : من أن تعلق التكليف بالتكليف من باب تعلق الفعل بالمفعول المطلق ، لأنه عينه ، وتعلق التكليف بالمال أو الفعل من باب تعلق الفعل بالمفعول به ، ولا جامع بين النسبتين ، ليمكن العموم لها.

فقد يندفع : بإمكان تصور التكليف بالتكليف من باب تعلق الفعل بالمفعول به ، بأن يراد بالتكليف في الآية محض الكلفة المتقومة بالمسئولية والعقاب ـ التي ذكرنا انها ظاهرية ـ وبالتكليف المجهول هو الحكم الواقعي الذي يتعلق به الجعل ، ويكون موضوعا للعقاب والثواب. فتأمل جيدا.

ثم إنه قد يتوهم صحة الاستدلال بالآية لما نحن فيه بضميمة رواية عبد

٣٤

الأعلى عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قلت له : هل كلف الناس بالمعرفة؟ قال : «لا ، على الله البيان ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لا يكلف الله نفسا إلا ما اتاها».

ويندفع : بأن المعرفة بنفسها غير مقدورة للإنسان قبل تعريف الله سبحانه ، فلا يحتاج إلى إرادة الإعلام من الإيتاء ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

فالمراد من البيان ليس بيان وجوب المعرفة ، بل بيان ما يراد معرفته بنصب الأدلة الكافية عليه ، لتتيسر المعرفة لمن يريدها ، ويكون مراد السائل أنه هل يحتاج التكليف بالمعرفة إلى نصب الأدلة من قبله تعالى على ما يراد معرفته؟ لا أنه هل كلف الناس بالمعرفة من دون أن يعلمهم بوجوبها ، ليكون مما نحن فيه ، إذ لا شاهد على ذلك ، بل المناسبة تقتضي الأول.

نعم ، الرواية تقتضي سوق الآية لبيان عدم التكليف بغير المقدر مطلقا ولو في غير المال ، إما لدلالتها عليه بالمطابقة ، او لاستفادته منها بضميمة كون التعليل ارتكازيا ، كما ذكرناه آنفا.

هذا ، وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه آيات أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها ، لوضوح قصور دلالتها ، كما يظهر بمراجعة ما ذكره قدّس سرّه وذكرناه في تعقيب كلامه ، فالاقتصار على ما سبق هو الأنسب بالمقام.

وأما السنة ، فقد استدل منها بأحاديث ..

الأول : حديث الرفع المروي بطرق مختلفة ، ومتون مختلفة ـ أيضا ـ زيادة ونقصانا.

منها : الصحيح المروي عن الخصال ، عن حريز عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : رفع عن امتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق [الخلوة خ. ل] ما لم ينطقوا [بنطق] بشفة».

وعن التوحيد روايته بنفس السند مع اختلاف في المتن يسير ، وعن

٣٥

الفقيه روايته مرسلا بتفاوت لا يضر في ما نحن فيه ، ونحوه ما عن محمد بن عيسى في نوادره عن اسماعيل الجعفي. وروي بمتون آخر لا شاهد فيها (١).

ووجه الاستدلال به : أن ظاهره بدوا كون الجهل والخطأ والنسيان سببا في رفع التكليف واقعا ، حيث تقدم في أوائل الفصل الأول من مباحث القطع إمكان ذلك في الجملة ، ولا سيما مع كون الرفع في بقية الفقرات واقعيا ، إلا أنه حيث كان ذلك منافيا لما هو المتسالم عليه من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، فلا بد من صرفه عن ظاهره بحمله على الرفع الظاهري الراجع إلى عدم اهتمام الشارع بحفظ الحكم الواقعي في ظرف الجهل به المستلزم لعدم وجوب الاحتياط فيه.

بل قد يقال : إنه حيث كان الحديث واردا مورد الامتنان ، ولا امتنان في رفع التكليف الواقعي في حال الجهل أو النسيان أو الخطأ ، بل يكفي فيه الرفع الظاهري بالوجه المذكور ، فلا ظهور له في نفسه في الرفع الواقعي ، بخلاف الرفع في بقية الفقرات المذكورة ، إذ بعد عمومها للعلم بالحكم لا يتم الامتنان فيها إلا برفعه واقعا.

نعم ، قد يشكل ذلك بصعوبة التفكيك بين الفقرات عرفا ، بل امتناعه ، لإسناد الرفع في صدر الحديث إلى التسعة بإسناد واحد ، فإما أن يراد به الواقعي أو الظاهري.

فالأولى أن يقال : مصحح إسناد الرفع للتسعة ليس إلا رفع الكلفة الحاصلة بسببها ، والثقل الناشئ منها من العقاب ونحوه مما يترتب فعلا على الحكم ولو بضميمة وصوله ، وبيان خلاص المكلف من التبعة في الامور المذكورة.

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ٥ ، باب : ٣٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، وج : ١١ ، باب : ٥٦ من أبواب أبواب جهاد النفس ، وج : ١٦ ، باب : ١٦ من كتاب الايمان.

٣٦

إلا أن ذلك مع العلم بالتكليف الواقعي أو موضوعه مستلزم عرفا لارتفاعه ، لأن بيان عدم العقاب على الشيء وعدم التبعة فيه صالح عرفا لبيان عدم التكليف واقعا ، لما هو المعلوم من تقوم التكليف بالتبعة المذكورة الراجعة إلى استحقاق العقاب ونحوه ، لتقوم التكليف بذلك وعدم صحة انتزاعه بدونه.

أما مع فرض الجهل أو الخطأ أو النسيان فالرفع المذكور لا يستلزم عرفا ارتفاع الحكم الواقعي ، بل يقتضي التأمين من التبعة لا غير ، المستلزم لعدم وجوب الاحتياط مع الشك ، وعدم وجوب التحفظ من الخطأ والنسيان والغافلة ، ولا ملزم برفع الحكم الواقعي ، إذ لا يلغو بقاؤه في عالمه ، فإن عدم ترتب البعث والزجر عليه حينئذ لعدم الشرط وهو المنجز ، لا لقصور في الحكم.

ودعوى : أن الرفع بالمعنى المذكور مع الجهل يكفي فيه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، بلا حاجة إلى رفع شرعي وراء ذلك ، وظاهر الحديث كون الرفع شرعا.

مدفوعة : بأن سلطان الشارع على رفع موضوع حكم العقل بإيجاب الاحتياط والتحفظ من الغافلة عن التكليف الواقعي بالفحص مصحح لنسبة الرفع إليه ، فإن الرفع بالمعنى المذكور وإن لم يستند للشارع في المرتبة الاولى ، إلا أنه يستند إليه في المرتبة الثانية بعد فرض سلطانه عليه بقاء.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا حاجة الى إضمار المؤاخذة أو بقية الآثار ، لما في الاضمار من العناية والتعسف ، فلا مجال لتكلفه من دون ملزم به ، بل الظاهر أن ارتفاعها مصحح لإسناد الرفع للتسعة المذكورة من دون حاجة للتقدير.

كما لا حاجة إلى تكلف أن المرفوع حقيقة هو إيجاب الاحتياط ، وأن نسبة الرفع إلى الحكم الواقعي المجهول بالعرض والمجاز ، من حيث كون منشأ رفع وجوب الاحتياط دفع مقتضيات الأحكام الواقعية عن تأثيره ، لأن وجوب الاحتياط هو الذي يكون رفعه ووضعه بيد الشارع ، دون المؤاخذة ونحوها من

٣٧

اللوازم العقلية.

إذ فيه : أن العناية المذكورة لا تصحح نسبة الرفع للحكم الواقعي عرفا ولو مجازا ، بل ما ذكرناه هو الأظهر في وجه النسبة وإن كان يلزمه عدم وجوب الاحتياط ، وعدم وجوب التحفظ عن الغافلة بالفحص ، كما تقدم.

ثم إنه قد يستشكل في الاستدلال بالحديث بدعوى : اختصاصه بالشبهة الموضوعية لوجوه ..

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» بقرينة بقية الموصولات هو الموضوع ، وهو فعل المكلف غير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم أنه شرب الخمر أو شرب الخل فلا يشمل الحكم غير المعلوم ، كحرمة شرب التتن.

وفيه : أن تعلق الاضطرار وأخواته بالموضوع ليس كتعلق العلم والنسيان به ، فإن تعلق الأولين بالموضوع من حيث هو بذاته ، من دون دخل للعنوان أصلا ، غاية الأمر انه قد يكون جهة تعليلية له ، بخلاف العلم والجهل والنسيان ونحوها ، فإنها لا تتعلق بالذوات بأنفسها ، بل بها من حيثية كونها ذات عناوين ، فالعلم إنما يتعلق بأن الشيء خمر ، أو حرام ، أو مضر ، أو نحوها مما هو مفاد القضية.

وحينئذ فاللازم ملاحظة العنوان المناسب للرفع في المقام ، وهو خصوص العنوان المنتزع من التكليف ، لأنه هو الذي يكون منشأ الضيق والتبعة ، وبقية العناوين الموضوعية ـ كالخمرية والميتة ونحوهما ـ لا تكون منشأ للضيق إلا من حيث ملازمتها له ، فلا مجال لملاحظتها بأنفسها ، خصوصا مع كون العناوين الموضوعية لا جامع لها عرفا إلا من حيث اشتراكها في كونها منشأ للتكليف ، فملاحظة عنوان التكليف بنفسه أظهر وأشمل.

فالمراد حينئذ ما لا يعلمون التكليف به إيجابا أو تحريما ، فيشمل الشبهة

٣٨

الحكمية ، إذ كما يصدق مجهول الحرمة على السائل الخاص المجهول الخمرية ، كذلك يصدق على الكلي ـ كالتبغ ولحم الأرنب ـ بل على أفراده الجزئية أيضا ، وإن اختلف منشأ الجهل ، فهو في الشبهة الموضوعية ناشئ من اشتباه الامور الخارجية وفي الشبهة الحكمية ناشئ من عدم البيان الشرعي.

بل حيث عرفت اختلاف الامور المذكورة في كيفية التعلق بالموضوع فلا مجال للاعتماد على قرينة السياق ، بل الأقرب حمل الموصول في «ما لا يعلمون» على العنوان ابتداء ، لانه الذي يصح أن يسند إليه العلم والجهل عرفا ، وإن كان تعلقهما حقيقة بمفاد القضية ، وحينئذ يتعين لحاظ العنوان المنتزع من التكليف ، لأنه المناسب للرفع كما تقدم ، وهو راجع إلى حمل الموصول على الحكم. فتأمل جيدا.

الثاني : ما ذكره هو قدّس سرّه من أنه لو فرض تقدير المؤاخذة فالظاهر نسبتها للمذكورات بأنفسها ، كما هو مقتضى قرينة السياق مع بقية الموصولات ، فكما يقدر المؤاخذة على ما لا يطيقون يقدر المؤاخذة على ما لا يعلمون ، فيكون المراد بما لا يعلمون الموضوعات التي لا تعلم ، لأنها هي التي تكون المؤاخذة عليها ، أما الأحكام فليست المؤاخذة عليها ، بل على متعلقاتها ، وهي الموضوعات الخارجية ، فيختص الرفع بالشبهة الموضوعية.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم ، لما سبق من عدم ابتناء الكلام على التقدير والإضمار ، وأن رفع المؤاخذة مصحح لنسبة الرفع لنفس المذكورات من دون حاجة إلى إضمارها ، ليتعين تقدير نسبتها إلى نفس المذكورات ، مضافا إلى ما تقدم من أن تعلق العلم بالموضوعات إنما هو من حيث كونها ذات عناوين ، وأن ملاحظة عنوان التكليف حينئذ أظهر وأشمل. على أنه لا يبعد صحة نسبة المؤاخذة لنفس التكاليف بلحاظ كونها منشأ لها. فافهم.

الثالث : ما أشار إليه غير واحد من أنه لا جامع بين الشبهة الموضوعية

٣٩

والحكمية ، لكون الجهل في الاولى متعلقا بالموضوع ، وفي الثانية بالحكم ، وإسناد الرفع إلى الأول من قبيل الإسناد إلى غير ما هو له ، وإلى الثاني من قبيل الإسناد إلى ما هو له ، والثاني في نفسه وإن كان أظهر ، إلا أن قرينة السياق تقتضي الأول.

ويظهر الجواب عنه ـ أيضا ـ مما تقدم من أن الجهل في الشبهة الموضوعية ـ أيضا ـ يرجع إلى الجهل بالحكم وإن اختلفت مع الشبهة الحكمية في منشأ الجهل ، فهما يرجعان إلى جامع واحد.

مضافا إلى أن الرفع حتى لو اسند إلى الحكم لا يكون حقيقيا ، لما عرفت من أن رفعه مناف لما هو المتسالم عليه من اشتراك الأحكام بين الجاهل والعالم ، وليس رفعه إلا ادعائيا بلحاظ رفع التبعة الناشئة منه ، وبلحاظ ذلك يصح نسبة الرفع للموضوع في بقية الفقرات.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالحديث الشريف. وقد تصدى غير واحد في بعض الجهات المتعلقة بالحديث الخارجة عن محل الكلام استطرادا ، ولا بأس بمتابعتهم في ذلك ، فيقع الكلام في امور ..

الأمر الأول : ذكر غير واحد أن الرفع في المقام تشريعي راجع إلى تنزيل الامور المذكورة منزلة العدم شرعا ، لعدم ترتب الأحكام والآثار الشرعية.

وهو غير ظاهر من الحديث الشريف ، بل الظاهر ما تقدم من أن مصحح إسناد الرفع رفع تبعة الفعل أو التكليف وما يكون من شئون المسئولية المترتبة عليهما ، فيختص بالآثار التي هي من سنخ التبعة والكلفة المترتبة على الفعل أو التكليف ، كالمؤاخذة في الأحكام التكليفية ، وكوجوب الكفارة ، والحد ، ونفوذ العقد ، والإقرار ونحوها ، دون بقية الآثار ، كالنجاسة ، وتحريم الحيوان مع الخطأ في التذكية ونحوهما. من دون فرق بين الفقرات.

غايته أن الرفع بلحاظ المؤاخذة يستلزم في الجهل والخطأ والنسيان عدم

٤٠