المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

والمصاديق مع تحديد الكبرى الشرعية وعدم الإجمال فيها ، لوضوح عنوان المكلف به ، فالشك في المقام في دخل شيء في المكلف به ..

تارة : يكون لعدم إحراز تحقق عنوان المكلف به بدونه ، بأن يكون للمكلف به عنوان منتزع من جهة زائدة على ذاته احتمل توقفها على الأمر المحتمل ، كما لو وجب تهيئة الحطب الذي يغلي به الماء ، وشك في كميته ، أو وجب تهيئة سكين يصلح للذبح ، وشك في توقف صلوح السكين له على صقلها.

واخرى : يكون لعدم إحراز انطباق عنوان التكليف عليه ، بأن يؤخذ العنوان فيه بما له من الأفراد على نحو العموم المجموعي ، ويشك في مقدار تلك الأفراد ، كما لو وجب إكرام كل عالم في البلد وشك في كون زيد منهم.

أما لو كان بنحو العموم الاستغراقي كان مرجع الشك المذكور إلى الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، الذي لا إشكال في جريان البراءة فيه.

كما أنه لو كان بنحو العموم البدلي كان مرجع الشك المذكور إلى الشك في تحقق المكلف به من دون إجمال فيه ، الذي لا إشكال في لزوم الاحتياط فيه.

ومثله ما لو علم مقدار المكلف به وشك في مقدار المأتي به ، كما لو وجب إكرام عشرة ، وشك في بلوغ الجماعة الذين أكرمهم العدد المذكور.

فمحل الكلام مختص بالصورتين الاوليين.

أما الصورة الاولى ، فقد تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة أن المرجع فيها الاشتغال ، لصلوح العنوان المذكور لتنجيز منشأ انتزاعه المفروض عدم إجماله ، فيجب إحراز الفراغ عنه ، فهو ملحق بالشك في المحصل حكما ، وإن اختلفا موضوعا ، بلزوم كون مورد التكليف في الشك في المحصل هو المسبب المترتب على فعل المكلف ، كالتذكية ، وفي ما نحن فيه هو نفس فعل المكلف المردد بين الأقل والأكثر.

٣٨١

وأما الصورة الثانية ، فالظاهر جريان البراءة فيها ، لأن تحقق العنوان وسعة انطباقه مأخوذ في موضوع التكليف ، لا في المكلف به ، ولذا لا يجب السعي لتحقيق العنوان لو كان ممكنا ، فلا يصلح الجعل الشرعي لفعلية التكليف إلا بضميمة انطباق العنوان ، فالشك في مقدار المعنون مستلزم لاجمال التكليف الفعلي وتردده بين الأقل والأكثر ، كسائر موارد الدوران بينهما ، التي عرفت أنه لا مجال فيها لتنجز التكليف بحده الواقعي ، بل لا يتنجز منه الا المتيقن ، وإن كان ارتباطيا.

فلا فرق بين هذه الصورة وما لو كان العموم استغراقيا إلا الارتباطية التي عرفت أنها لا تكون فارقا في جريان البراءة.

بخلاف الصورة الاولى ، لأن التكليف فيها بنفسه يقتضي تحصيل العنوان ، فهو صالح لتنجيزه بحده الواقعي بعد فرض عدم الإجمال فيه وصلوحه للبيان ، نظير : ما لو علم بمقدار المكلف به ، وشك في مقدار المأتي به ، الذي تقدم أنه لا إشكال في لزوم الاحتياط فيه.

ولا يفرق في ما ذكرنا بين الشبهة الوجوبية والتحريمية ، فلو فرض ورود النهي عن الطبيعة بنحو يقتضي ترك مجموع الأفراد ، ولو ارتكب بعضها فلا إطاعة له أصلا جرت البراءة في فردية شيء لها ، للشك في فعلية التكليف وسعته بالإضافة إليه ، خلافا للمحقق الخراساني قدّس سرّه حيث ذكر في بعض تنبيهات البراءة أن اللازم في ذلك الاحتياط.

هذا ، وقد مثل شيخنا الأعظم قدّس سرّه للشبهة الموضوعية في المقام بمثالين :

الأول : ما لو وجب الطهور وهو الفعل الرافع أو المبيح للصلاة ، وشك في جزئية شيء للوضوء أو الغسل.

الثاني : ما لو وجب صوم شهر هلالي ـ وهو ما بين الهلالين ـ فشك في أنه ثلاثون أو ناقص.

٣٨٢

ويظهر من غير واحد أن الأول راجع إلى الشك في المحصل.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم من اختصاص الشك في المحصل بما إذا كان المكلف به هو المسبب الذي هو فعل المكلف بالتسبيب ، لا السبب الذي هو فعله بالمباشرة ، كما هو الحال في المثال المذكور.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في الشك في المحصل ـ بعد فرض كون المثال منه ـ من أنه بالنسبة إلى السبب تكون الشبهة حكمية لا موضوعية.

فقد يدفع : بأن منشأ إلحاق المثال بالشبهة الموضوعية هو كون الاشتباه في المصداق ، وإن كان تشخيص المصداق وإحرازه بالرجوع إلى الشارع.

على أن كلامه يعم ما تقدم منا التمثيل به ، وهو الشك في المقدار الذي يغلي الماء من الحطب ـ وإن لم يمثل به شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ مع وضوح عدم الرجوع في تشخيصه للشارع أصلا.

وأشكل من ذلك ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من كون المثال الثاني ـ أيضا ـ من الشك في المحصل ، حيث ذكر أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه أرجع الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر إلى الشك في المحصل ، كما يظهر من تمثيله بالطهور ، وأن المناسب للمقام فصلهما والكلام في كل منهما على حدة ، وكأنه غفل عن ذلك ، أو تخيل عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية.

لوضوح كون المثال المذكور أجنبيا عن الشك في المحصل جدا.

نعم ، يشكل المثال المذكور : بأنه ـ بعد حمله على كون الوجوب ارتباطيا لا انحلاليا ـ إن اريد بوجوب صوم ما بين الهلالين وجوب صوم شهر كلي يتخير المكلف في تطبيقه على ما يشاء من الشهور ، فلزوم الاحتياط فيه وإن كان متينا ، لانشغال الذمة بالعنوان المذكور بما له من المفهوم الظاهر ، فيجب إحراز الفراغ

٣٨٣

عنه بتحقيق ما يقطع بانطباقه عليه.

إلا أن هذا ليس من الدوران في المكلف به بين الأقل والأكثر ، لفرض صلوح المكلف به للانطباق على كل منهما ، فهو نظير : ما لو وجب إشباع الفقير واختلف الفقراء في مقدار ما يشبعهم ، وجهل حال فقير خاص.

وإن اريد به وجوب شهر معين مردد بين المقدارين ، كشهر رمضان المعين ، فهو وإن كان مرددا بين الأقل والأكثر بنفسه ، إلا أن الظاهر جريان البراءة فيه ، لرجوعه إلى وجوب صوم كل يوم واقع بين الهلالين ، بنحو يكون وقوع اليوم بين الهلالين شرطا في وجوب صومه ، فيرجع إلى الشك في عنوان التكليف ، نظير ما تقدم في الصورة الثانية.

إن قلت : ما الفرق بين الوجهين بعد فرض أخذ حدّ واحد فيهما؟

قلت : لما كان الحد مبينا بمفهومه مجملا بمصداقه ، فإن ورد التكليف على الكلي القائم بالمفهوم كان صالحا لتنجيز المفهوم ، فيجب إحراز الفراغ عنه بالفرد المتيقن انطباقه عليه.

وإن ورد على الشخصي المعين لم يتنجز المفهوم لعدم ورود التكليف عليه ، ولا المصداق بحده الواقعي ، لفرض الإجمال فيه وعدم صلوح المفهوم لبيانه ، بل يتعين تنجيز خصوص المتيقن دخوله في الحد من المصداق.

وبعبارة اخرى : انطباق العنوان في الأول شرط في صلوح الفرد للامتثال مع فعلية التكليف ، واللازم مع الشك في الامتثال الاحتياط ، وفي الثاني شرط لفعلية التكليف الضمني والمرجع مع الشك فيه البراءة.

ومن هنا يتعين الفرق بين مثل وجوب إكرام علماء بلد بنحو يختار المكلف أي بلد شاء في مقام الامتثال ، ووجوب إكرام علماء بلد خاص ، فيجب الاحتياط بإحراز الاستيعاب في الأول ، دون الثاني ، بل يقتصر فيه على المتيقن الفردية.

٣٨٤

ثم إنه قد جعل بعض الأعاظم قدّس سرّه من أمثلة الشبهة الموضوعية التي تجري فيها البراءة ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم وغيره.

بدعوى : أنه بناء على ما هو الظاهر من مانعية غير المأكول من الصلاة ، فالمانعية تختلف سعة وضيقا على حسب ما لغير المأكول من الأفراد ، ويكون كل فرد منه مانعا برأسه ، لأن الأصل في باب النواهي النفسية والغيرية هي الانحلالية ، فالنهي عن الصلاة في ما لا يؤكل ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من الأفراد خارجا ، ويكون عدم كل فرد قيدا للصلاة ، فإذا شك في فردية اللباس الخاص له فقد شك في مانعيته وأخذ عدمه قيدا للصلاة ، فيؤول الأمر إلى الدوران بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية ، الذي تقدم منه جريان البراءة الشرعية فيه دون العقلية. ووافقه على ذلك في الجملة سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث اللباس المشكوك.

وفيه : أن مانعية غير المأكول ليست مجعولة شرعا ، بل هي منتزعة من التكليف بالصلاة المقيدة بعدم استصحابه ، فلا بد من إحراز الصلاة المذكورة ، ولو بالأصل ، ودليل البراءة لا ينهض بإحرازها. وليس الشك في سعة التكليف ، لعدم الإجمال في حدوده.

وما ذكر من الشك في سعة المانعية لا يرجع إلى معنى محصل.

إذ لو اريد بذلك نفس المانعية ، فهي غير مجعولة ، لتكون موردا للأصل.

وإن اريد بها النهي عن الصلاة في غير المأكول ، بدعوى كونه انحلاليا مشكوك الشمول للفرد المشكوك ، فالنهي المذكور ليس مولويا ، لا نفسيا ولا غيريا ، بل هو للارشاد إلى تقييد الصلاة المأمور بها بعدم استصحاب غير المأكول.

وأما النهي الغيري فهو النهي عن استصحاب ما لا يؤكل لحمه تجنبا لمقارنة الصلاة له ، نظير الأمر بالطهارة مقدمة لوقوع الصلاة مقارنة لها ، وعدم

٣٨٥

العلم بالنهي المذكور بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، لعدم إحراز موضوعه ، لا يكون موردا لأدلة البراءة ، لعدم كونه بنفسه موردا للعمل والتنجيز والتعذير ، بل ليس موضوعها إلا التكليف النفسي ، وهو الأمر بالصلاة المقيدة ، والمفروض تنجزه ولزوم إحراز الفراغ عنه ، ولذا لا تجري البراءة مع احتمال حصول الشرط ـ كالطهارة ـ الرافع لموضوع الأمر الغيري به ، وإن استلزم الشك في فعلية الأمر الغيري المذكور.

وإن اريد بها تقييد الصلاة بعدم استصحاب غير المأكول الذي منه تنتزع المانعية ، فلا إجمال في التقييد المذكور بعد فرض عدم إجمال غير المأكول.

ودعوى : أن التقييد المذكور انحلالي ويشك في شمولاه للمشكوك.

مدفوعة : بأن الشك المذكور لا يكفي في جريان الأصل ، لأن القيد بنفسه ليس موردا للتكليف الحقيقي الضمني أو الاستقلالي ، لفرض خروجه عن المكلف به ، وإنما يجب تبعا لوجوب المقيد ، وهو الحصة الخاصة المقارنة له.

فإجمال القيد وتردده بين الأقل والأكثر إن رجع إلى إجمال الخصوصية المعتبرة في المكلف به ، فحيث لا منجز للخصوصية المشكوكة لم يتنجز المشكوك من القيد بتبعها ، كما لو فرض إجمال الاستقبال المعتبر في الصلاة وتردده بين استقبال الجهة العرفية واستقبال الكعبة الشريفة.

أما إذا لم يوجب إجمال الخصوصية ، فحيث تكون الخصوصية في الواجب منجزة في نفسها ، لفرض بيان التكليف بها ، فلا بد من إحراز الفراغ عنها ولو بالمحافظة على مشكوك القيدية ، كما في المقام ، لوضوح أن الصلاة غير مقيدة بالافراد بخصوصياتها المفهومية ، ليكون إجمال الفرد مستلزما لإجمالها ، بل هي مقيدة بالافراد بلحاظ الجهة العنوانية المشتركة بينها ، على ما هي عليه من الشيوع وعدم الحصر ، وحيث كانت الجهة العنوانية المذكورة مبينة في نفسها كانت صالحة لبيان الحصة المطلوبة من الصلاة وتنجيزها ، فيجب إحراز الفراغ

٣٨٦

عنها بتحصيل ما يشك في فرديته للقيد من جهة الشبهة الموضوعية ، نظير ما تقدم في النهي الغيري.

وهذا بخلاف ما إذا كانت الشبهة الموضوعية في نفس المكلف به ، كما لو شك في كون المائع خمرا ، فإن الشك المذكور مساوق للشك في كون شربه شربا للخمر المحرم ، فيشك في سعة التكليف الضمني أو الاستقلالي به ، أو شك في وجود الساتر على بدن الأجنبية ، فيشك في كون النظر إليها من النظر المحرم ، وبيان عنوان التكليف الكلي في مثل ذلك لا يرفع الإجمال في مصداقه الذي هو التكليف الفعلي الذي يترتب عليه العمل ، فيجري فيه أصل البراءة.

ولا يفرق في ما ذكرنا بين رجوع التقييد بعدم استصحاب ما لا يؤكل لحمه إلى التقييد بالعدم المطلق المقابل لصرف الوجود ، بنحو لو اضطر إلى نقض العدم في بعض الأفراد لم يجب حفظه في غيرها ، ورجوعه إلى التقييد بالعدم الساري ، بنحو يجب المحافظة على كل مرتبة منه عند تعذر غيرها.

لعدم رجوع الثاني إلى التقييد بالخصوصيات الفردية بمفاهيمها المتباينة ، ليلزم إجمال المكلف به تبعا لاجمال الأفراد ، بل ليس التقييد إلا بالعنوان الجامع الذي لا إجمال فيه ، غايته أن القيد هو تمام المراتب المقدورة ، والتقييد بكل مرتبة منوط بتعذر ما فوقها على نحو الترتيب بين التقييدين ، فمع الشك في فردية بعض الخصوصيات المقدورة لا يحرز امتثال المأمور به ـ وهو الحصة المقارنة للمرتبة المقدورة ـ إلا بالمحافظة عليها.

هذا ، حاصل ما تيسر لنا في توجيه عدم الرجوع للبراءة في المقام ونحوه ، خلافا لما ذكره العلمان قدّس سرّهما ، ولا مجال لتعقيب كلماتهما ، لظهور حالها بما ذكرناه. فتأمل جيدا.

ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٣٨٧

التنبيه الثالث : في الشك في القاطعية

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الفرق بين المانع والقاطع أن المانع هو الذي يكون عدمه معتبرا في المركب ، فيكون وجوده بنفسه مخلا به ، كالإخلال بسائر ما يعتبر فيه من الأجزاء والشروط ، والقاطع هو الذي لا يكون مخلا بنفسه ، بل بلحاظ قطعه للهيئة الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الأجزاء ، بحيث يسقط به الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاجزاء اللاحقة بعد سبق قابليتها لذلك.

هذا ، ولا يخفى أن مجرد سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاجزاء اللاحقة بسبب حدوث بعض الامور لا يكشف عن اعتبار الهيئة المذكورة زائدا على الأجزاء والشروط ، بحيث يكون الأمر الحادث قاطعا لا مانعا ، بل يجري ذلك في حدوث المانع وغيره من موارد الإخلال بما يعتبر في المركب من الأجزاء والشروط ، فإنه مقتضى الارتباطية المفروضة ، حيث يكون كل جزء بنفسه صالحا للانضمام لغيره ليحصل منها المركب ويتحقق الامتثال به ، إلا أنه لا يعتبر في فعلية ذلك حصول تمام ما يعتبر في المركب من الامور الوجودية والعدمية.

نعم ، للشارع أن يعتبر الهيئة الاتصالية بين الأجزاء بجعل زائد عليها ، بحيث يكون المكلف متلبسا شرعا بالعمل وإن لم ينشغل بشيء من أجزائه ، لتخلل سكون أو نحوه ، نظير اعتبار الاعتكاف مع خروج المعتكف عن المسجد لقضاء حاجة معتادة ، ونظير اعتبار الائتمام في الصلاة مع السكون وعدم الانشغال بشيء من أجزائها.

وحينئذ يمكن للشارع جعل شيء قاطعا للهيئة المذكورة ، فيخرج به المكلف عن كونه منشغلا بالمركب بنظر الشارع ، وإن لم يكن للقاطع بنفسه دخل في نفس المركب ، فالقاطع بهذا المعنى مباين للمانع.

٣٨٨

وحيث لا مصحح للاعتبار الشرعي لأمر إلا فرض الآثار العملية الشرعية له في الجملة فلا بد من كون الهيئة المذكورة موضوعا لبعض الأحكام ، بحيث لو فرض انقطاعها لم يترتب الحكم المذكور ، نظير حرمة شمّ الطيب على المعتكف حال خروجه عن المسجد لقضاء حاجة معتادة.

ولا يلزم من عروض القاطع بهذا المعنى سقوط ما وقع من الأجزاء عن قابلية الانضمام لبقيتها ، بل يمكن بقاؤها على قابلية الانضمام ، بأن يكتفي الشارع برجوع المكلف للانشغال بالمركب وإتمامه بعد الخروج عنه وانقطاعه ، بل هو مقتضى الأصل ، الذي لا بد في الخروج عنه من دليل يدل على أخذ الهيئة الاتصالية المذكورة وعدم انقطاعها قيدا في المركب ، ليكون القاطع مخلا بالمركب تبعا لإخلاله بها.

وقد تحصل : أن القاطع بمعنى ما يسقط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للّاحقة ليس مقابلا للمانع ، بل أعم منه ، ولا يتوقف على فرض الهيئة الاتصالية ، بل هو من لوازم الارتباطية المفروضة ، وبمعنى ما يقطع الهيئة الاتصالية موقوف على اعتبار الهيئة المذكورة شرعا ، ولا يستلزم سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للّاحقة ، إلا أن يكون المركب المكلف به مقيدا بوحدة الهيئة المذكورة ، وفي مثل ذلك يكون القاطع مخلا بالعمل كالمانع ، وإن كان مباينا له.

ثم إن بعض الأعاظم قدّس سرّه فرق بين المانع والقاطع : بأن المانع ما يكون حصوله حين الانشغال بالأجزاء مخلا بالمركب ، والقاطع هو الذي يخل مطلقا وإن وقع في حال عدم الاشتغال بالأجزاء ، لكشفه عن الهيئة الاتصالية زائدا على الأجزاء الخارجية.

وما ذكره غير ظاهر ، إذ لا وجه لتخصيص المانع بذلك ، بل هو تابع لعموم دليله وخصوصه ، كما قد تختص قاطعية القاطع بخصوص حال تبعا لاعتبار من

٣٨٩

بيده الاعتبار.

هذا ، وقد ظهر مما ذكرنا : أن بين القاطع بالمعنى الأول والقاطع بالمعنى الثاني عموما من وجه ، حيث كان المعيار في الأول بطلان العمل وان لم تفرض له هيئة اتصالية اعتبارية ، والمعيار في الثاني قطع الهيئة الاتصالية الاعتبارية وإن لم يبطل به العمل ، لإمكان إتمامه بعد انقطاعه.

كما أن الانقطاع في كليهما ليس حقيقيا ، لتوقفه على فعلية الاتصال الحقيقي ، ولم يؤخذ في الأول الاتصال أصلا ، والمأخوذ في الثاني هو الاتصال الاعتباري لا الحقيقي.

بقي في المقام أمران :

الأول : الظاهر أنه لا مرجح لأحد المعنيين إثباتا ، فكما يمكن إطلاق القاطع بلحاظ سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للّاحقة لتكوين المركب الارتباطي المحقق للامتثال ، كذلك يمكن إطلاقه بلحاظ رفع الهيئة الاتصالية في فرض اعتبارها ، لأن كلا من الارتباطية والهيئة الاتصالية منشأ لفرض الوحدة في العمل المصححة لفرض انقطاعه وعدم إتمامه.

وما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن إطلاق القاطع يكشف عن أن لأجزاء المركب هيئة اتصالية في نظر الشارع.

غير ظاهر ، إن أراد به الهيئة الاعتبارية. بل إن ورد ذلك في مقام بيان عدم الاجتزاء بالعمل فالمتيقن منه المعنى الأول ، ولا طريق معه لإثبات اعتبار الهيئة زائدا على المركب الارتباطي.

ومن ثمّ اطلق القاطع في النصوص على ما يعم المانع ، وفقد الشرط ونحوهما مما يخل بالمركب الارتباطي ، ولو مع عدم اعتبار الهيئة الاتصالية فيه ، حيث اطلق في الصلاة على القهقهة ، والكلام ، ونواقض الوضوء ، وخروج الدم الرافع للطهارة الخبثية ، والالتفات المنافي للاستقبال.

٣٩٠

بل اطلق على بعض المكروهات ـ كعبث الرجل بلحيته ـ بلحاظ منافاته لكمالها. فراجع النصوص المذكورة في أبواب قواطع الصلاة من الوسائل ، فإن التأمل فيها شاهد بأن المراد بالقاطع فيها ما ينافي العمل ويفسده ، وهو الذي فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) منها.

الثاني : الشك في قاطعية شيء بالمعنى الأول إن رجع إلى الشك في اعتبار شيء في المكلف به كان المرجع ما تقدم في أصل المسألة.

ولا مجال معه لاستصحاب عدم قاطعيته ، لعدم جعل القاطعية بالمعنى المذكور ، بل هي منتزعة من التكليف بالمقيد ، فلا بد من الرجوع للأصل فيه.

ومثله استصحاب صحة العمل ، لعدم كون الصحة مجعولة أيضا ، ولا موضوعا للأثر الشرعي ، فإن موضوع التكليف نفس الفعل ، والمفروض تردده بين المطلق والمقيد ، وليست الصحة إلا منتزعة من مطابقة المأتي به للمأمور به ، وهي ـ مع عدم الاثر لها إلا الإجزاء العقلي ـ بالإضافة إلى المركب التام لا تحصل إلا بعد تمامه ، وبالإضافة إلى الأجزاء السابقة على حدوث مشكوك القاطعية مراعاة بتمامية المركب ، لفرض الارتباطية بينها وبين بقية الأجزاء ، فلا يعلم حصولها قبله كي تستصحب.

نعم ، لو كان منشأ الشك في قاطعية شيء للمركب احتمال رافعيته لشرطه المتيقن الحصول أمكن استصحاب الشرط نفسه ، كما لو شك في قاطعية المذي للصلاة لاحتمال نقضه لشرطها وهو الطهارة.

وأما الشك في قاطعية شيء للمركب بالمعنى الثاني المبني على فرض اعتبار الشارع لهيئته الاتصالية فيمكن معه استصحاب الهيئة المذكورة بعد كونها أمرا مجعولا ، كالطهارة ، فيترتب أثرها ، سواء كان هو صحة العمل والاجتزاء به ، كما لو فرض تقييد المكلف به ببقاء الهيئة المذكورة ، أم أمرا آخر.

نعم ، الكلام في استصحابها هو الكلام في استصحاب الأمور التدريجية

٣٩١

التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود ، كالكلام والمشي ونحوهما ، الذي يأتي في مباحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وقد أطال غير واحد في المقام بما لا مجال لتعقيبه ، لاتضاح الحال فيه بعد ما ذكرنا. فراجع وتأمل جيدا.

التنبيه الرابع : في الشك في الركنية

إذا علم بأخذ شيء في المركب الارتباطي وشك في ركنيته فيه ، فهل الأصل ركنيته أو لا؟

وينبغي ذكر مقدمة يتضح بها محل الكلام في المقام.

فاعلم : أن عنوان الركن حيث لم يذكر في الأدلة ، وإنما ذكر في كلمات الفقهاء فلا ينبغي الاهتمام بتحقيق مفهومه ، وأنه هل يراد به ما يبطل العمل بنقصه سهوا فقط ، أو مطلقا ولو عمدا ، أو ما يعم بطلان العمل بزيادته سهوا أو عمدا ، بل ينبغي الكلام في الجهات المذكورة بنفسها ، للاهتمام بها في مقام العمل ، كما نبه له في الجملة شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

نعم ، ينبغي التنبيه لأمرين :

الأول : أن الكلام في ذلك لا يختص بالجزء ، وإن خصوه بالذكر في تحرير محل الكلام ، بل يعم الشرط الوجودي والعدمي ، لاختلاف الشروط في بعض هذه الجهات ، حيث لا يكون الإخلال ببعضها سهوا مبطلا للعمل ، كالطمأنينة.

بل يمكن فرض الزيادة فيها ، وإن كان الظاهر عدم الإشكال عندهم في عدم بطلان المركب بها في ما هو محل الكلام ، وهو ما إذا كان المأخوذ الماهية بنفسها لا بشرط من حيثية الزيادة ، إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص الكلام بالجزء.

وشيخنا الأعظم قدّس سرّه وإن حرز النزاع في الجزء ، إلا أن ظاهر ما ذكره في

٣٩٢

مسألتي الزيادة العمدية والسهوية المفروغية عن عموم جهة الكلام للشرط.

الثاني : جعل شيخنا الأعظم قدّس سرّه الكلام في جهات ثلاث : النقيصة السهوية ، والزيادة السهوية والعمدية.

وظاهره خروج النقيصة العمدية عن محل الكلام ، لما صرح به من أن عدم بطلان المركب بنقص الجزء عمدا مناف لفرض جزئيته ، وتبعه في ذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه.

لكن لا يخفى أن المعيار في جزئية الجزء وشرطية الشرط على أخذهما في المكلف به ، لدخلهما في الغرض الداعي للتكليف ، ولا يلزم من ذلك إلا عدم تحقق الامتثال ولا تمام الغرض بدونهما ، وهو لا يستلزم بطلان العمل ، إذ لا يراد ببطلانه في محل الكلام إلا عدم إجزائه بنحو تسقط معه الإعادة والقضاء ، ويكفي في الإجزاء بالمعنى المذكور تعذر تدارك الغرض التام أو قصوره عن جعل التكليف لحدوث المزاحم ، بسبب فعل الناقص وإن لم يف بشيء من الغرض ، فضلا عما إذا كان وافيا ببعض مراتبه ، ولا يختص الإجزاء بحصول الامتثال وتحقق تمام الغرض ، ليمتنع مع فرض نقص الجزء عمدا.

نعم ، لا ريب في كون ذلك خلاف الأصل ، فإن التكليف يدعو إلى متعلقه بتمام ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، وسقوط التكليف بغير الامتثال محتاج إلى دليل خاص.

ومن ثمّ لا ينبغي إطالة الكلام في النقيصة العمدية.

كما لا ينبغي إطالة الكلام في الزيادة السهوية ، إذ لا خصوصية لها في البطلان ، بل الزيادة في نفسها إن لم تخل بالمركب ولو مع العمد فهي لا تخل به مع السهو بالأولوية ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه. وإن كانت مخلة به ، لفرض أخذ عدمها فيه ، كان الإتيان بها سهوا راجعا إلى الإخلال بالشرط سهوا ، فيلحقه حكم النقيصة.

٣٩٣

فينبغي قصر الكلام على مسألتين ..

المسألة الاولى : في الإخلال ببعض ما يعتبر في المركب سهوا.

ولا إشكال في إمكان صحة العمل معها بمعنى إجزائه عن الاعادة والقضاء ، كما وقع في كثير من أجزاء الصلاة وشروطها.

ولتنقيح مقتضى الأصل في ذلك يقع الكلام في امور ..

الأول : أن دخل الجزء في المركب لما كان متفرعا على دخله في ملاك التكليف به فلدخله بالوجه المذكور صورتان :

الاولى : ألا يكون للنسيان دخل في الملاك ، بل يكون اقتضاء الملاك للتكليف بالتام مشتركا بين الملتفت والناسي.

وهي على وجهين :

الأول : ألا يكون للإتيان بالناقص من الناسي أثر في الملاك بوجه ، بل يبقى على ما هو عليه من فعلية التأثير في التكليف.

الثاني : أن يكون الإتيان بالناقص من الناسي مانعا من بقاء التكليف بالتام وموجبا لسقوطه وإن لم يستوف ملاكه ، إما لكونه مانعا من استيفاء الملاك ، أو لكونه موجبا لحدوث جهة مزاحمة للملاك مانعة من تأثيره في التكليف ، وإن أمكن استيفاؤه بالإتيان بالتام ، نظير ما تقدم في العامد.

الثانية : أن يكون الملاك مختصا بحال الالتفات لبا ، بحيث يختلف الملاك في حق الملتفت عنه في حق الناسي ، إما لتبدل الملاك في حقه ، أو لعدم توقفه على الجزء المنسي ، بل يحصل تمام الملاك منه بالفاقد له.

والفرق بينها وبين الوجه الثاني من الصورة الاولى أن قصور الملاك عن تأثير التكليف بالتام في هذه الصورة يكون بمجرد عروض النسيان ، وفي الوجه المذكور لا يكون إلا بعد فعل الناسي للناقص.

وإن كانا يشتركان في إجزاء الناقص من الناسي ، بخلاف الوجه الأول ، فإنه

٣٩٤

يتعيّن معه عدم الإجزاء ، كما لعله ظاهر.

الثاني : إذا فرض عموم الملاك لحال النسيان تعين عموم التكليف للناسي لبا ، وليس النسيان كالاضطرار مانعا من فعلية التكليف مع فرض عموم ملاكه ، بل هو كالجهل مانع من منجزيته ، لظهور كونه من شئون مقام الاثبات الدخيل في التنجيز ، لا من الامور الثبوتية الدخيلة في فعلية التكليف.

فما تردد في بعض كلماتهم من قبح تكليف الناسي بالأمر المنسي إنما يتم إن رجع إلى قبح عقابه مع عدم تقصيره ، كما قد يعبر بذلك مع الجهل أيضا ، وهو المناسب للإجماع المدعى على التخطئة ، واشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.

وما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم توجه التكليف بالتام في حق الناسي ، غير ظاهر.

وأشكل منه ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من تعليله بعدم القدرة عليه في هذا الحال.

إذ لا ينبغي التأمل في عدم دخل الالتفات في القدرة ، لعدم السنخية بينهما بوجه.

وأما دعوى : رافعية النسيان شرعا ، بمقتضى حديث رفع النسيان ، لحكومته على الاطلاقات الأولية ، وظهوره في الرفع الواقعي ، لأنه الأصل.

فهي مدفوعة : بأن ذلك وإن كان ممكنا ، إلّا أن المناسبات تمنع من حمل الحديث عليه ، إذ بعد ما ذكرنا من كون النسيان من الجهات الاثباتية الدخيلة في التنجيز والمؤاخذة ، كالجهل ارتكازا فظاهر الحديث إرادة ذلك بالإضافة إلى الحكم المنسي ، كما هو الحال في الخطأ أيضا جريا على الارتكاز المذكور ، بل يتعين ذلك بلحاظ ما أشرنا إليه من الاجماع على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.

٣٩٥

نعم ، قد يكون الرفع واقعيا بالإضافة إلى الآثار المترتبة على التنجز التي هي من سنخ الالزام والمؤاخذة ، كالكفارات والحدود ، كما هو الحال بالإضافة إلى رفع ما لا يعلم أيضا ، بخلاف مثل القضاء والاعادة المترتبين عقلا وشرعا على مجرد عدم الامتثال ، من دون أن يردا مورد الإلزام والمؤاخذة ، وقد تقدم في الاستدلال للبراءة بحديث الرفع ما ينفع في المقام.

على أنه لو فرض كونه كالاضطرار مانعا من فعلية التكليف فمقتضى فرض عموم الملاك للناسي عدم الاجتزاء بالناقص منه ، كعدم الاجتزاء بالناقص من المضطر ، بل يجب عليه التدارك بالإعادة بعد ارتفاع نسيانه في الوقت ، لفرض عدم استيفائه الملاك ، كما يجب عليه التدارك لو نسي أصل الواجب.

بل ذلك هو مقتضى إطلاق الخطاب ، لأن ثبوت التكليف في كل جزء من أجزاء الوقت ليس بعناية البقاء والاستمرار من اللاحق للسابق ، نظير الحكم الاستصحابي ، ليكون سقوطه في حال النسيان مانعا من فرض الاستمرار في ما بعده ، بل من حيث تمامية الموضوع فيه ، فامتناع ثبوته في بعض الأجزاء من جهة النسيان لا ينافي ثبوته في ما بعده ، لتحقق الموضوع فيه.

وأما لو ارتفع النسيان بعد الوقت فوجوب القضاء مبني على إطلاق دليله ، فإن كان موضوعه عدم الإتيان بالواجب في ظرف تمامية ملاكه كان واجبا مطلقا ، وإن كان موضوعه عدم الإتيان بالواجب في ظرف فعلية وجوبه كان واجبا إن قلنا بعدم رافعية النسيان للتكليف ، وإلا لم يكن واجبا ، كما هو الحال في الاضطرار.

نعم ، لو فرض كون المأتي به مانعا من استيفاء الملاك ، أو موجبا لحدوث المزاحم المانع من فعلية تأثيره في التكليف ـ على ما تقدم في الوجه الثاني من الصورة الاولى ـ تعين الاجتزاء به ، كما سبق.

إلا أنه لا ريب في كون ذلك خلاف الأصل ، لأن سقوط التكليف بغير

٣٩٦

الامتثال محتاج إلى دليل ، كما أشرنا إليه في المخالفة العمدية.

أما لو فرض تبدل حال الملاك في حق الناسي ، بحيث يكون الناقص منه وافيا بالملاك الثابت في حقه ـ كما تقدم في الصورة الثانية ـ تعين الإجزاء ، كما هو الحال في سائر موارد الامتثال الذي يكون الإجزاء فيه عقليا.

وقد ظهر بما ذكرنا أن الإجزاء في الصورة الاولى وإن كان ممكنا إلا أنه خلاف الأصل ، أما في الصورة الثانية فهو المتعين.

الثالث : مقتضى إطلاق الخطاب بالمركب الواجد للجزء ثبوت التكليف به في حق الناسي واشتراكه فيه مع الملتفت ، المستلزم لاشتراكهما في الملاك المقتضي للتكليف ، فيرجع إلى الصورة الاولى التي عرفت أن إجزاء الناقص فيها من الناسي خلاف الأصل.

وربما يدعى قصور الإطلاق عن شمول حال النسيان لأن النسيان من الجهات الثانوية المتفرعة على التكليف المتأخرة عنه رتبة ، وأنه لا بد في تعميم الحكم للنسيان أو قصوره عنه من جعل آخر متأخر رتبة عن الجعل الأول متمم له. كما التزم بعض الأعاظم قدّس سرّه بنظير ذلك في تعميم الحكم لحال الجهل به.

لكن تقدم منا دفع ذلك في مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي ، وذكرنا هناك ، أنه لا مانع من التمسك بالإطلاق لعموم الحكم.

على أنه لا ريب ظاهرا في أنه لو فرض قصور الإطلاق اللفظي عن إثبات عموم الحكم لحال النسيان كفى الإطلاق المقامي في ذلك ، لبناء العرف في تكاليفهم وخطاباتهم على العموم ، واحتياج التقييد بحال الالتفات فيها إلى عناية زائدة.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في المقام المذكور من التمسك للعموم بالإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

فهو لا يتم بناء على ما يظهر منه من التمسك بالإجماع على العموم مع

٣٩٧

دعوى تخصيصه في بعض الموارد ، إذ لا معنى لتخصيص العموم القطعي ، إلا أن يرجع إلى الاجماع على العموم الظاهري ، الذي يكون الدليل على خلافه واردا عليه لا مخصصا له.

وهو بعيد جدا عن حال نقلة الإجماع.

نعم ، لو ثبت عموم الإجماع ـ كما هو غير بعيد ـ أو خصوصه في بعض الموارد كان التمسك به في محله.

وكيف كان ، فلا إشكال في البناء على عموم التكليف بالمركب التام للنسيان مع إطلاق دليله اللفظي أو المقامي.

وقد ذكرنا أن إجزاء الناقص من الناسي حينئذ مخالف للأصل ومحتاج إلى دليل مخرج عنه.

وأما إذا لم يكن لدليل الحكم إطلاق قاض بشموله لحال النسيان ، كما لو قام إجماع على التكليف بالمركب التام ، وفرض الشك في عمومه لحال النسيان ، فقد وقع الكلام في إمكان الاختلاف بين الملتفت والناسي في المكلف به ، بحيث يختص التكليف بالتام بالملتفت ، ويكلف الناسي بالناقص الذي يأتي به.

ولا يخفى أن الكلام في ذلك فرع إمكان اختلافهما في الملاك ، كما تقدم فرضه في الصورة الثانية ، ولا ينبغي التأمل فيه ، وقد تقدم في مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي توجيه نظيره في الجهل ، حيث ذكرنا إمكان رافعية الجهل لفعلية الحكم. فراجع.

إذا عرفت هذا ، فقد منع شيخنا الأعظم قدّس سرّه من اختلاف التكليف بالنحو المذكور ، بدعوى : أن الناسي غير قابل لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى المنسي إيجابا أو إسقاطا.

وكأنه راجع إلى أن الخطاب بالتكليف إنما يحسن مع إمكان الاندفاع عنه ،

٣٩٨

ليكون داعيا للمكلف نحو العمل ومنشأ للسبيل عليه ، وذلك إنما يتم مع إمكان التفات المكلف إلى تحقق موضوع التكليف في حقه ، وحيث يمتنع التفات الناسي إلى نسيانه إلا بعد ارتفاعه لم يصلح التكليف للداعوية نحو العمل في حقه ، فيكون الخطاب به لغوا.

وقد حاول غير واحد توجيه تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي ، بحيث يكون الناقص منه امتثالا ، بأحد وجوه ..

الأول : ما حكاه بعض الأعاظم قدّس سرّه عن بعض تقريرات درس شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن امتثال التكليف لا يتوقف على قصده تفصيلا ، بل يكفي قصده إجمالا ولو مع الخطأ في التطبيق ، ويتسنى للناسي قصد الأمر الفعلي المتوجه إليه الذي اخذ فيه النسيان ، وإن تخيل أنه الأمر المتوجه للملتفت ، لغافلته عن نسيانه.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من عدم كفاية ذلك بناء على أن الدعوة والانبعاث عن الأمر من لوازم وجوده العلمي ، ومع فرض الغافلة عن النسيان وعدم الالتفات إلى الأمر الذي يخصه ولو إجمالا لا يكون الداعي والباعث إلا أمر الملتفت ، الذي لم يتوجه إليه حقيقة.

ففيه : ـ مع الغض عن عدم وضوح دخل المبنى المذكور في ذلك ـ أن الغافلة عن النسيان إنما تستلزم عدم الالتفات إلى الأمر الذي يخصه تفصيلا ، ولا تنافي الالتفات إليه إجمالا بعنوان كونه الأمر الفعلي المتوجه إليه ، نظير الغافلة عن خروج الوقت المستلزمة لعدم الالتفات إلى أمر القضاء تفصيلا ، وإن أمكن الالتفات إليه إجمالا بالوجه المذكور.

نعم ، قصد الأمر الواقعي بالوجه المذكور وإن كان ممكنا إلا أنه ليس بناؤهم ظاهرا على دوران الصحة مداره ، ودعوى تحققه دائما لا تخلو عن خفاء.

٣٩٩

على أن الكلام ليس في كيفية تحقق الامتثال بعد الفراغ عن إمكان الأمر بالوجه المذكور ووقوعه ، بل في أصل إمكان الأمر ، لعدم صلوحه للداعوية بعد فرض امتناع الالتفات إلى موضوعه ، ولذا يجري الإشكال في الأوامر التوصلية التي لا يعتبر في امتثالها القصد ، ومن الظاهر أنه لا يكفي في دفعه إمكان الالتفات بالوجه المذكور ـ كما ذكر ذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ ضرورة أن توجيه التكليف للناسي بالناقص لغو بعد فرض وقوعه منه على كل حال ، وإن لم يلتفت للتكليف أصلا.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه وارتضاه غير واحد ممن تأخر عنه من توجيه خطاب واحد مشترك بين الذاكر والناسي بالأركان التي يبطل العمل بالإخلال بها حتى من الناسي ، ثم توجيه خطاب يخص الذاكر لبا ببقية الأجزاء التي لا يبطل الإخلال بها من الناسي.

وفيه : أن ذلك إنما يتم مع عدم الارتباطية بين الأركان وغيرها في حق الذاكر ، حيث يكون في المقام أمران :

الأمر بالاركان المشترك بين الملتفت والناسي ، والصالح للداعوية في حق كل منهما بعد التفاتهما إلى موضوعه.

والأمر بالزائد عليها المختص بالذاكر والصالح للداعوية في حقه ، لفرض التفاته إلى موضوعه أيضا. أما مع فرض الارتباطية ووحدة الأمر في حق الذاكر فالمتعين اختصاص الأمر بالمطلق بالناسي ، فيعود الإشكال.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من عدم دخل الارتباطية بوحدة الخطاب ، بل هي منوطة بوحدة الملاك ، فرب ملاك واحد لا يستوفى إلا بخطابين.

بل الذي يظهر من جملة من النصوص ان التكليف بالصلاة إنما كان بخطابين : خطاب من الله تعالى بما فرضه ، وخطاب من النبي صلّى الله عليه وآله بما سنّه وفرضه.

٤٠٠