المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

ولا يكون التكليف في المقام حجة إلا على تعلق الغرض بالأقل.

لاندفاعه : بأن التكليف إنما يكون حجة على وجود الغرض وتوقف حصوله على الأقل ، لا على تعلق الغرض به بنحو يعلم بحصوله معه ، بل لا يعلم بحصول الغرض المستكشف بالتكليف في المقام بعد فرض الارتباطية إلا بالإتيان بالأكثر ، لأن الملاك أمر بسيط مترتب على مجموع أجزاء المركب ، فلا يحرز حصول شيء منه إلا بتمامية المركب.

وأشكل من ذلك إنكار وجوب تحصيل غرض المولى ثبوتا وقصر موضوع وجوب الإطاعة عقلا على خصوص تكليف المولى المتقوم بجعل السبيل من قبله.

فإنه مناف للمرتكزات العقلائية جدا ، إذ لا فرق بنظرهم بين التكليف بالشيء وتعلق الغرض به بالنحو الذي يبلغ مرتبة التكليف ، فيلزمون بتحصيل الغرض المذكور في مورد تعذر التكليف على طبقه لعجز المولى عن جعله ، لموانع خارجية من خرس أو خوف أو بعد مانع من توجيه الخطاب أو نحوها ـ وإن استحال ذلك في حق الشارع الأقدس ـ بل يكتفون في الإلزام بالعمل بوجود مقتضي الغرض ولو مع غفلة المولى عنه للجهل بموضوعه ، كما لو تعرض المولى للخطر الذي من شأنه الاهتمام بدفعه ، وكان غافلا عنه أو عن تمكن المكلف من دفعه ، مع تمكن المكلف منه والتفاته ، فلا يصح للمكلف حينئذ الاعتذار عن العمل بما يناسب الغرض المذكور بعدم صدور التكليف من المولى على طبقه.

بل الظاهر أن وجوب إطاعة التكليف في طول وجوب موافقة الغرض بلحاظ كشفه عنه وملازمته له ، ولا دخل للتكليف بنفسه في ذلك.

ولذا لو علم بغرض المولى ، وبعدم وفاء تكليفه به لغافلته ، كان حفظ غرضه منجزا بنحو يحسن العقاب بتعمد تخلفه بالاقتصار على مورد التكليف.

٣٦١

وهذا لا ينافي ما تقدم غير مرة من تقوم التكليف بجعل السبيل ، لا بالإرادة والكراهة ، والمحبوبية والمبغوضية ، لأن المراد بالغرض هنا ما يكون من شأنه جعل السبيل الذي هو منشأ انتزاع التكليف ، لا ما يكون منشأ للإرادة والكراهة.

ودعوى : أن مقتضى ذلك الاستغناء عن مسألة الملازمة بين الأحكام العقلية والشرعية ، إذ لو فرض وجوب تحصيل الملاكات على المكلف عقلا ، بنحو يقتضي العمل ويستحق معه العقاب من دون حاجة إلى الحكم الشرعي لم تكن للملازمة المذكورة أثر عملي يصحح الاهتمام بها.

مدفوعة : بأن وجوب تحصيل غرض المولى لا يرجع إلى وجوب تحصيل الملاكات الواقعية بمجرد إدراك العقل لها ، بل بعد تعلق غرض المولى بها بحيث تكون مضافة له بالنحو المقتضي لجعل الحكم ، فأثر الملازمة المذكورة هو استكشاف تعلق غرض المولى بها الذي هو الموضوع لوجوب الإطاعة ، ولا طريق بدونها لإحراز كون الملاك مضافا للمولى وموردا لغرضه ليجب تحصيله.

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور : أن تنجز الغرض إنما هو بمقدار وصوله ، فكما كان بيان خصوصيات التكليف من وظيفة المولى ، وبدونه فالمكلف في سعة منها ، ولا يعتنى باحتمال دخل شيء فيه وإن كان واحدا ارتباطيا ، كذلك بيان ما هو الدخيل في الغرض من وظيفة المولى ، وليس على المكلف الاهتمام بتحصيل ما يحتمل دخله فيه ، فلو فرض فوت الغرض بسبب قصور بيان المولى فالمكلف امن منه ، كما يأمن من فوت التكليف لذلك.

نعم ، لو لم يتصد المولى لتحصيل الغرض ـ لغافلته أو عجزه عن التكليف ، وإن امتنع ذلك في حق الشارع ـ وعلم به المكلف لم يبعد البناء على وجوب إحرازه ، بخلاف ما إذا تصدى لذلك وشك في وفاء بيانه بغرضه ، كما هو محل الكلام في المقام.

٣٦٢

كما أنه لو كان الأثر المترتب على الفعل موردا للتكليف المولوي ، لا غاية وغرضا منه اتجه لزوم إحرازه وكان من الشك في المحصل.

لكنه خروج عن محل الكلام ، إذ الكلام في ما لو كان المكلف به مرددا بين الأقل والأكثر بنفسه ، لا بمحصله مع عدم الإجمال فيه.

هذا ، ولا يخفى أن منشأ هذه الوجوه الثلاثة المفروضة للاحتياط هو ملاحظة الارتباطية المفروضة في المقام ، والموجبة لوحدة التكليف والغرض ، وإنا وإن أطلنا الكلام في دفعها تبعا للأصحاب ، إلا أنا في غنى عن ذلك ، لأن ما سبق آنفا في توجيه جريان البراءة من عدم الفرق في جريانها بين التكليف الضمني والاستقلالي إن تم ارتكازا فهو واف بدفعها ، لأن فرض كون المشكوك تكليفا ضمنيا مستلزم لفرض العلم الإجمالي ـ بالصورة المتقدمة ـ ولفرض الشك في امتثال التكليف المتيقن ، وفي حصول الغرض.

ومرجع تسليم البراءة إلى عدم تمامية الوجوه المذكورة بنحو يكشف عن خلل في تصويرها إجمالا أو تفصيلا ، لوضوح أن كبرياتها لما كانت ارتكازية لم يمكن عمومها للمقام مع التسليم بجريان البراءة ارتكازا.

وإن لم يتم لم ينفع دفع هذه الوجوه في عدم وجوب الاحتياط والأمان من العقاب بدونه ، كما لعله ظاهر.

ثم إنه قد يستثنى مما ذكرنا ما لو كان التردد ناشئا من إجمال عنوان المكلف ، بنحو لا يعلم بصدقه على الأقل ، لدعوى : أن التكليف بالعنوان يقتضي تنجيزه في ذمة المكلف ، فيجب إحرازه في مقام الامتثال ، بخلاف ما إذا شك في مقدار المكلف به من دون أن يتنجز بعنوان يخصه ، فإن المتيقن منه خصوص الأقل ، فهو المتنجز لا غير ، كما تقدم.

لكن تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات الفصل الأول أن ذلك إنما يتم فيما إذا كان العنوان حاكيا عن المركب بلحاظ خصوصية زائدة عليه ، مترتبة عليه ـ

٣٦٣

كعنوان الدواء الصادق على المركب بلحاظ ترتب الشفاء عليه فعلا أو اقتضاء ـ أو قائمة به ـ كعنوان الأكبر والمطلوب ـ لرجوع التكليف بالعنوان حينئذ إلى التكليف بمنشإ انتزاعه ، المفروض عدم الإجمال فيه والشك في حصوله ، فيتنجز ويجب إحرازه ، نظير حال الشك في المحصل.

أما إذا كان حاكيا عن المركب بنفسه ـ كعنوان السكنجبين الصادق على الخل والسكر بشرط الغليان أو مطلق الامتزاج ـ فلا مجال لوجوب الاحتياط فيه ، لأن التكليف بالعنوان إنما هو بلحاظ حكايته عن المعنون ، والمفروض التردد فيه بين الأقل والأكثر ، فلا يكون بيانا على الأكثر. فراجع ما تقدم هناك وتأمل.

هذا تمام الكلام في الأصل العقلي.

وأما الثاني ، وهو الأصل الشرعي الثانوي فقد اختلف فيه كما تقدم ، والكلام فيه ..

تارة : بناء على المختار من جريان البراءة العقلية.

واخرى : بناء على عدمه ، وأن الأصل الأولي الاحتياط.

أما على الأول ، فلا مانع من جريان البراءة من التكليف بالأكثر ، لتحقق موضوع الأصل فيه ، وهو الشك ، ولا يعارض بأصالة عدم وجوب الأقل ، للعلم بوجوبه على كل حال ، المقتضي للإتيان به ولزوم امتثاله.

وربما يدعى جريان البراءة أيضا بالإضافة إلى خصوص الزائد للشك في التكليف به ضمنا ، فيرفع بالأصل.

وهو لا يخلو عن إشكال ، لانصراف الأدلة إلى التكليف الاستقلالي ، دون التكليف الضمني ، لعدم كونه في الحقيقة تكليفا مجعولا ، وانحلال التكليف الاستقلالي إليه ليس حقيقيا ، بل هو من باب التحليل العقلي ، فينصرف عنه إطلاق الرفع.

ولذا كان الظاهر قصور حديث الرفع عنه في بقية الفقرات ، فمن استكره

٣٦٤

على ترك بعض أجزاء الواجب الارتباطي كان المرتكز في تطبيق الحديث في حقه هو تطبيقه في التكليف بتمام الواجب المقتضي لسقوطه ابتداء ، لا سقوط خصوص أمر الجزء المكره عليه وسقوط غيره بتبعه بسبب الملازمة.

ومن ثمّ كان المرتكز مع الشك في أصل التكليف ـ كوجوب ركعتي الوتيرة ـ تطبيق الحديث على التكليف التام ، لا التكاليف الضمنية التي ينحل إليها.

نعم ، لو كان في أدلة البراءة ما يختص بالأقل والأكثر لم يبعد انصرافه إلى خصوص الزيادة ، لانصراف الشك إليها والغافلة عن فرضه بالإضافة إلى المركب الواجد لها ، كما هو الحال في البراءة العقلية أيضا لأنها ليست من سنخ العام العنواني ، ليتوجه دعوى انصرافه ، بل هي دليل لبي وارد في كل مصداق بنفسه.

ولا يهم مع ذلك عدم كون التكليف الضمني مجعولا ، لأن المراد بالرفع في أدلة البراءة محض السعة في مقام العمل من حيثية المشكوك ، ولا مانع من جعلها شرعا بالاضافة إلى الجزء وإن لم يكن التكليف به مجعولا.

لكن لا مجال لذلك في الأدلة العامة لما عرفت من انصرافها عن الجزء.

هذا ، وقد يتمسك في المقام بالاستصحاب ، لأن مقتضاه عدم وجوب الأكثر ، لانه حادث مسبوق بالعدم ، كما تقدم نظيره في أدلة البراءة.

وهذا هو العمدة من وجوه الاستصحاب ، دون مثل استصحاب عدم وجوب الزائد ، أو عدم جزئيته.

للإشكال في الأول بما عرفت من عدم كون وجوب الجزء مجعولا بنفسه ، ليصح نفيه بالاستصحاب ، بل هو هنا أظهر ، إذ لا إشكال في اختصاص الاستصحاب بالمجعول الشرعي وموضوعه.

وفي الثاني بأن جزئية الجزء منتزعة من وجوب المركب المشتمل عليه ، فلا مجال لجريان الاستصحاب إلا في منشأ انتزاعها ، وهو يرجع إلى الوجه الذي

٣٦٥

ذكرناه.

وهناك بعض الوجوه الاخرى للاستصحاب لا ينبغي إطالة الكلام فيها بعد وضوح إشكالها.

وأما على الثاني ـ وهو القول بعدم جريان البراءة العقلية ولزوم الاحتياط ـ فقد عرفت أن منشأه إما العلم الإجمالي المدعى ، أو قاعدة الاشتغال بالأقل المتيقن ، للشك في الفراغ عنه بدون الزائد ، أو لزوم إحراز غرض المولى.

والظاهر امتناع جريان البراءة الشرعية على جميع الوجوه المذكورة.

أما على الأول ، فلأن مبنى منجزية العلم الإجمالي المذكور أحد أمرين ..

الأول : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن العلم بوجوب الأقل لنفسه أو في ضمن الأكثر لا يصلح لحل العلم الإجمالي ، لتوقف منجزيته على كل حال على تنجز الأكثر ، فلا تكون مانعة من تنجزه.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن العلم بوجوب الأقل لما كان بنحو الإهمال مرددا بين لا بشرط وبشرط شيء فهو عين العلم الإجمالي ، وليس علما آخر صالحا لحله.

ولا يخفى أن أدلة البراءة من الأكثر لما لم تنهض بتعيين حال وجوب الأقل المعلوم ، وأنه لنفسه وبنحو اللابشرط ، لا في ضمن الأكثر وبشرط شيء ، فهي لا تنفع في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية.

من دون فرق بين القول بوجوب موافقة العلم الإجمالي القطعية لذاته والقول بوجوبها لتعارض الاصول.

لأن أصالة البراءة من وجوب الأقل إنما لا تجري ولا تعارض أصالة البراءة من وجوب الأكثر إذا كان وجوب الأقل المردد بين الوجهين صالحا للعمل بنفسه ، ليكون العلم به صالحا لتنجيزه على كل حال ورافعا لموضوع الأصل فيه.

٣٦٦

أما بناء على أن الصالح للعمل والتنجيز هو العلم بوجوبه لنفسه بنحو اللابشرط ، فحيث لم يكن ذلك معلوما كان الأقل مشمولا لأدلة الاصول ، فيكون الأصل فيه معارضا للأصل الجاري في الأكثر.

لكن ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن أدلة البراءة ـ كحديث الرفع ـ تقتضي رفع القيدية برفع منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر الواجد للقيد ، فتصلح لرفع الإجمال عن الأقل ويثبت بها إطلاقه ، إذ ليس الإطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ القيد وعدم أخذه.

وهو لا يخلو عن غموض ، إذ بعد الاعتراف بأن القيدية لا ترتفع بنفسها ، بل بمنشإ انتزاعها ـ وهو التكليف بالأكثر ـ كيف يمكن إثبات الإطلاق ، مع وضوح أن الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد في الأقل في فرض الأمر به ، وهو أمر مباين لعدم وجوب الأكثر.

بل لو فرض تطبيق دليل البراءة بالاضافة إلى خصوص التكليف الضمني بالزيادة ـ وغض النظر عما تقدم منا ـ لم ينفع في إثبات الإطلاق أيضا ، فإن الإطلاق غير متقوم بعدم وجوب الزيادة ، بل بعدم أخذها في الواجب ، الذي هو عبارة عن عدم التقييد بها ، ولا مجال لتطبيق أدلة البراءة عليه بعد عدم كونه مجعولا بنفسه ، ولا موردا للعمل ، بل هو أمر انتزاعي لا مجال لتطبيق أدلة البراءة إلا على منشأ انتزاعه ، كما اعترف به قدّس سرّه.

ونظيره ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في الكفاية ، فإنه بعد الاعتراف بأن الجزئية منتزعة من وجوب الأكثر ورفعها يكون برفعه ، ذكر أن نسبة حديث الرفع الناظر إلى أدلة الأجزاء نسبة الاستثناء من تلك الأدلة ، فيكون مفاد تلك الأدلة معه جزئية الجزء إلا مع الجهل ، ولازم ذلك اختصاص الأمر بالاجزاء المعلومة ، وهي الأقل.

إذ فيه : أن ذلك موقوف على تطبيق الحديث على نفس جزئية

٣٦٧

المشكوك ، لا على منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر ، إذ رفع وجوب الأكثر ظاهرا لا يقتضي الأمر بما عداه إلا بالملازمة ، الموجبة لكون الأصل مثبتا غير حجة.

نعم ، لو كان رفعه واقعيا كان حجة في لوازمه ، كسائر الأدلة الاجتهادية. لكن لا يظن منه البناء على ذلك وإن أوهمته بعض كلماته في نظائر المقام.

على أنه بعد فرض كون الوجوب الصالح للتنجيز والعمل هو خصوص الوجوب النفسي الاستقلالي فتطبيق دليل البراءة على الأكثر معارض بمثله في الأقل.

وبالجملة : لا مجال للجمع بين كون الجزئية أمرا انتزاعيا لا يرتفع بنفسه ، بل بمنشإ انتزاعه ، وكون رفعها محرزا لوجوب الأقل.

نعم ، يظهر منه قدّس سرّه في حاشية الرسائل أن الجزئية مجعولة حقيقة تبعا لمنشا انتزاعها ، وينالها الرفع كذلك تبعا له ، وليس الجعل والرفع مختصا بمنشإ الانتزاع.

وعليه يكون رفع الأكثر المشكوك مستلزما لرفع الجزئية المشكوكة ، دون الجزئية المعلومة لامتناع شمول الحكم الظاهري للمعلوم ، ومقتضى الجمع بين وجوب الأقل المعلوم على كل حال ورفع جزئية المشكوك التعبد بكون الأقل تمام الواجب وكونه بنحو اللابشرط موردا للتكليف.

لكن هذا رجوع عن كون الجزئية أمرا منتزعا من التكليف بالمركب إلى كونها أمرا حقيقيا مسببا عنه مجعولا مثله بتبعه. ولا مجال للبناء عليه ، كما حقق في محله.

ولعله لذا عدل في هامش الكفاية عن جريان البراءة الشرعية ، حيث قال : «لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالا بالتكليف الفعلي الأمر الواقعي ، وهو واضح البطلان».

٣٦٨

ومما ذكرنا يظهر عدم جريان الاستصحاب في المقام ، لأن استصحاب عدم وجوب الأكثر أو الزيادة لو تم لا يحرز إطلاق الأمر بالأقل ، وكون التكليف به استقلاليا ، واستصحاب عدم قيدية الزائد أو جزئيته لا يجري في نفسه بعد عدم كونهما مجعولتين ، بل منتزعتان من وجوب الأكثر.

وأما على الثاني ، فعن الفصول توجيه عدم جريان البراءة الشرعية بأن أصالة الاشتغال في الأكثر رافعة لموضوع الأصل ، لعدم صدق حجب العلم معها ، نظير الأدلة الظنية ، كخبر الواحد والبينة.

لكن يشكل : بأن موضوع أدلة البراءة الشرعية هو الشك في التكليف الشرعي ، وأصالة الاشتغال ليست كالأدلة الظنية بيانا على التكليف الشرعي ، بل هي عبارة عن حكم عقلي طريقي وارد في مورد بالجهل ، فهي لا ترفع موضوع أصل البراءة.

فالعمدة في ذلك : أن دليل البراءة أو الاستصحاب إنما يقتضي عدم التكليف شرعا بالأكثر من حيث كونه محتمل التكليف ، وهو لا ينافي لزوم الإتيان به عقلا لإحراز الفراغ عن الأقل المتيقن التكليف.

ومنه يظهر الحال على الثالث ، لوضوح أن عدم التكليف بالأكثر شرعا بأدلة البراءة أو الاستصحاب من حيثية كونه مشكوكا لا يفي بتعيين الغرض ، ولا يحرز حصوله بفعل الأقل ، كما لا ينافي لزوم الإتيان به عقلا لذلك.

نعم ، لو كان مفاد أدلة البراءة أو الاستصحاب رفع القيدية أو الجزئية كانت رافعة لموضوع قاعدة الاشتغال على الثاني ومحرزة لحصول الغرض على الثالث ، لصلوحها لشرح التكليف المجمل وإحراز الفراغ عنه وحصول غرضه بالاقتصار على الأقل.

ولذا حكي عن الفصول سلوك ذلك في تقريب جريان البراءة.

لكن ذكرنا عدم تماميته لعدم جعل الجزئية والقيدية.

٣٦٩

والمتحصل : أنه لما كان مبنى القول بوجوب الاحتياط وعدم جريان البراءة العقلية عدم كفاية العلم بوجوب الأقل على كل حال في تنجيزه والاكتفاء به في مقام الفراغ ، ولم تكن الاصول الشرعية من براءة واستصحاب وافية بشرح حال التكليف المعلوم ، ولا محرزة لوجوب الأقل لا بشرط بنحو يكون تمام الواجب ، ليكون الاقتصار عليه محرزا للفراغ والغرض ، لم تنهض برفع اليد عن مقتضى الأصل العقلي المذكور ، ولا تصلح لرفع موضوعه ، كما هو الحال في المتباينين.

هذا ، وقد يدعى أن مقتضى الاستصحاب الإتيان بالأكثر ، لاستصحاب بقاء التكليف بعد الإتيان بالأقل ، فيلزم العقل بالإتيان بالأكثر تحصيلا للفراغ اليقيني ، لا لإحراز وجوبه بالاستصحاب ، ليدعى أنه مثبت.

والاستصحاب المذكور له نحو حكومة على البراءة العقلية أو الشرعية ، لا من جهة كونه بيانا رافعا لموضوعها ، بل لكونه حكما ثابتا لجهة اقتضائية مقدما عملا على الحكم الاولى الثابت من جهة غير اقتضائية ، إذ البراءة إنما تقتضي عدم لزوم الإتيان بالأكثر من حيثية الشك في تعلق التكليف به ، والاستصحاب يقتضي لزوم الإتيان به من حيثية كونه محرزا للفراغ عن التكليف المستصحب.

وقد جعل بعض مشايخنا الاستصحاب المذكور من القسم الثاني من استصحاب الكلي ، لتردد التكليف المستصحب بين مقطوع الزوال ومقطوع الارتفاع.

واورد عليه .. تارة : بأن الرجوع لاستصحاب الكلي في القسم الثاني موقوف على عدم إحراز حال الفرد ولو بضم الأصل إلى الوجدان ، وإلا كان الأصل المحرز لحال الفرد حاكما على استصحاب الكلي ، كما لو علم المكلف بالحدث الأصغر واحتمل حدوث الجنابة ، فإن استصحاب عدم الجنابة حاكم على استصحاب كلي الحدث ، وفي المقام حيث كان الأقل متيقنا والأكثر

٣٧٠

مشكوكا فاستصحاب عدم وجوب الأكثر حاكم على استصحاب الكلي بالاضافة إلى التكليف.

واخرى : بمعارضته باستصحاب عدم تعلق جعل التكليف بالأكثر لو لم نقل بكونه محكوما له.

لكن يندفع الأول : بأنه لو تم ما ذكره من الشرط في استصحاب الكلي وفي مثال الحدث فالمقام ليس نظيرا لذلك ، لمنع ما ذكره من أن الأقل متيقن سابقا والأكثر مشكوك ، بل المتيقن هو التكليف بالأقل في الجملة ولو في ضمن الأكثر ، وهو لا يقتضي سقوطه بفعل الأقل ، كما في الحدث الاصغر الذي يعلم بارتفاعه بالوضوء ، بل ذلك من لوازم التكليف بالأقل استقلالا بنحو اللابشرط ، ومن المعلوم عدم إحرازه ، غاية الأمر أن اليقين المذكور لا يصلح إلا لتنجيز الأقل.

نعم ، لو علم سابقا بالتكليف بالأقل استقلالا ، ثم احتمل تبدله بالتكليف بالأكثر ، كان نظيرا لمثال الحدث.

وأما استصحاب عدم كون التكليف المتيقن تكليفا بالأكثر ، فهو ـ لو جرى في نفسه ـ معارض بمثله.

ويندفع الثاني : بعدم التعارض بين الأصلين المذكورين ، لعدم التناقض بين مؤدييهما ، فإن عدم التكليف بالأكثر شرعا بعنوانه الخاص لا يناقض بقاء التكليف الكلي ، وإنما يلازم عدمه ، والتفكيك بين المتلازمات بسبب الاستصحاب غير عزيز. كما لا تنافي بين الأصلين عملا ، لأن استصحاب عدم التكليف بالأكثر إنما يقتضي عدم الإتيان به امتثالا للتكليف به شرعا ، وهو لا ينافي الإتيان به لإحراز الفراغ عن التكليف الكلي المستصحب.

فالعمدة في المقام : أن الاستصحاب المذكور ليس من استصحاب الكلي ، لعدم الأثر العملي لكلي التكليف ، بل العمل مترتب على كل تكليف بشخصه ،

٣٧١

حيث يلزم موافقته عقلا ، والموافقة الإجمالية عند العلم الإجمالي إنما هي لكون العمل قائما بالفرد المردد بين الفردين ، لا لقيامه بالكلي الجامع بينهما.

فالاستصحاب في المقام من استصحاب الفرد المردد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، وقد تقدم في التنبيه العاشر من تنبيهات الفصل السابع أنه لا مجال لجريانه.

بل يزيد هنا أنه إذا كان العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر لا يقتضي إلا تنجز الأقل ـ كما تقدم ـ فاستصحاب التكليف المذكور لا يزيد على ذلك ، وحيث يمتنع تنجيز الأقل بعد فرض الإتيان به للعلم التفصيلي بعدم وجوبه يمتنع الاستصحاب.

وحاصل محذور الاستصحاب هنا : أنه بنفسه ينافي العلم التفصيلي ، بخلافه هناك ، فإنه لا ينافيه بنفسه ، بل بإطلاقه.

نعم ، لو فرض ترتب الأثر على كلي التكليف ، كما لو نذر المكلف أن يتصدق بدرهم إن بقيت ذمته مشغولة ساعة مثلا ، جرى الاستصحاب المذكور ، وكان من القسم الثاني من استصحاب الكلي ، لو كان مراده الانشغال الواقعي. وإن كان مراده الانشغال العقلي المتفرع على التنجز فلا مجال للاستصحاب ، لورود أصالة البراءة الشرعية ، بل العقلية عليه ، لارتفاع الشك معها حقيقة.

المسألة الثانية : في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين.

لا يخفى أن مرادهم بالتخيير العقلي هو التخيير في مقام الامتثال عقلا بين أفراد الماهية التي تكون موردا للتكليف التعييني الشرعي ، فكلما كان المكلف به مرددا بين الماهية المطلقة ـ التي هي مورد التخيير العقلي ـ والمقيدة بالخصوصية ـ الملزم بتعينها في مقام الامتثال ـ كان من الدوران بين التعيين والتخيير العقليين ، سواء كانت الخصوصية جزءاً خارجيا متحدا مع الواجب مأخوذا فيه ـ كالاستعاذة في الصلاة ـ أم قيدا مباينا للماهية موردا لفعل المكلف

٣٧٢

في مقابلها ـ كالطمأنينة والطهارة في الصلاة ـ أم عرضا قائما بالموضوع قابلا للزوال عنه ـ كالإيمان في الرقبة ـ أم عرضا ليس من شأنه الارتفاع عن الموضوع ـ كالرجولية والهاشمية في الإنسان ـ أم خصوصية مقومة للذات والماهية ـ كالإنسانية في الحيوان ـ أم خصوصية مقومة للفرد ـ كخصوصية زيد في الإنسان ـ لعدم الفرق بين هذه الصور في الجهة المذكورة.

لكن الموضوع في هذه المسألة ليس ذلك على إطلاقه ، وإلا دخلت فيها المسألة الاولى ، ولم تكن مقابلة لها ، بل المراد خصوص قسم منه يمتاز عن موضوع تلك المسألة ، وإنما أطلقنا العنوان المذكور عليه لضيق التعبير ، لعدم عنوان يخصه.

والملاك في التمايز بين الموضوعين اشتمال أحدهما على خصوصية تقتضي أولويته بجريان الاحتياط.

وقد سبق منا عدم الفارق بين الأقسام الثلاثة الاولى ، وأن تخيل تميز الأول عن الثاني والثالث في غير محله ، كتخيل الفرق بين الثاني والثالث بعد اشتراكها في احتمال التقييد وأخذ خصوصية زائدة في المتيقن.

ومن ثمّ كان موضوع المسألة الاولى شاملا للأقسام الثلاثة المذكورة ، كما يقتضيه عموم عنوانه.

وأما موضوع هذه المسألة فالمتيقن منه القسمان الأخيران ، وربما يعمم إلى القسم الرابع ، على كلام يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا فيقع الكلام ..

تارة : في مقتضى الأصل العقلي.

واخرى : في مقتضى الأصل الشرعي.

أما الأصل العقلي فلا ريب في أن مقتضاه الاحتياط ، بناء على أن ذلك مقتضاه في المسألة الاولى ، لاشتراكها في الجهة المقتضية لذلك ، من فرض

٣٧٣

العلم الإجمالي ، أو الشك في الفراغ ، أو في حصول الغرض.

أما بناء على أن مقتضاه هناك البراءة فقد صرح غير واحد بجريانها هنا أيضا ، لعين الوجه المتقدم هناك من أن الخصوصية كلفة زائدة ، والمرجع فيها البراءة عقلا بملاك قبح العقاب بلا بيان ، لعدم الفرق فيها بين أصل التكليف وخصوصياته.

وما تقدم هناك من دفع شبهة العلم الإجمالي والشك في الامتثال وفي حصول الغرض جار هنا.

وقد خالف في ذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه فالتزم بالاحتياط ، مدعيا عدم تحقق ملاك الأقل والأكثر حتى بحسب التحليل العقلي ، إذ الملاك في ذلك أن يكون الأقل بذاته ـ لا بحده ـ محفوظا في الأكثر ، نظير الكليات المشككة المحفوظ ضعيفها بذاته ـ لا بحدّ ضعفه ـ في ضمن شديدها.

ولا مجال لذلك في المقام ، لأن الأقل ـ وهو الماهية المعراة عن قيد الخصوصية ـ كسائر الكليات المتواطئة تتحصص إلى حصص متعددة متباينة في ضمن أفرادها المتباينة بحيث تكون الحصة المتحققة منها في ضمن كل فرد مباينة للحصة المتحققة في ضمن الفرد الآخر ، فالحيوانية المتحققة في ضمن الإنسان مباينة للحيوانية الموجودة في ضمن غيره من الانواع ، كما أن الإنسانية المتحققة في ضمن زيد مباينة للإنسانية المتحققة في ضمن غيره من الأفراد.

وعليه لا تكون الماهية المطلقة الجامعة بين الحصص محفوظة في ضمن الخصوصية ، ليمكن دعوى وجوبها على كل حال ، وينحل بها العلم الإجمالي ، بل المحفوظ في ضمنها هو الحصة الخاصة من الماهية المباينة للحصص الاخرى ، فلا يمكن دعوى اندراج ما نحن فيه في الأقل والأكثر ، بل ليس في المقام إلا العلم الإجمالي بتعلق التكليف إما بالحصة الخاصة أو الجامع المطلق بين الحصص المنطبق عليها وعلى غيرها ، ومرجعه إلى العلم إما بوجوب

٣٧٤

الحصة الخاصة وحرمة تركها مطلقا ، أو وجوب غيرها في ظرف تركها.

وبعد عدم انطباق أحد التركين على الآخر ، وعدم قدر متيقن في البين مشمول للتكليف النفسي الأعم من الضمني والاستقلالي ، يرجع الأمر إلى المتباينين ، ويجب الاحتياط بالإتيان بالخصوصية ، للقطع بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين.

هذا ما ذكره فيما إذا كانت الخصوصية المحتملة منوعة أو مشخّصة.

وقد الحق بذلك ما إذا كانت عرضية ولم يكن كل فرد قابلا للاتصاف بها ، بحيث يمكن تعاقبها ، وجودا وعدما على الفرد الواحد ـ وهي القسم الرابع من الأقسام الستة المتقدمة ـ كالهاشمية في الإنسان.

بدعوى : رجوع الشك فيها إلى الشك في كون المكلف به خصوص الحصة الواجدة للخصوصية ، أو المطلق الجامع بينها وبين الفاقد لها ، بخلاف ما إذا كانت الخصوصية العرضية مما يمكن اتصاف كل فرد بها ، كالقيام والعقود ، حيث يرجع الشك حينئذ إلى الشك في اعتبار الخصوصية زائدا على الحصة ، مع اليقين بالتكليف بأصل الحصة إما ضمنا أو استقلالا.

هذا حاصل ما ذكره في المقام ، وقد أطلنا في بيانه محافظة على الخصوصيات والنكات التي اعتمدها في استدلاله.

لكنه يشكل .. أولا : بأنه لما كان الملاك في الأقل والأكثر أن يكون الأقل محفوظا في الأكثر بذاته لا بحده ، فلا مجال لتوجيه إخراج محل الكلام عنه بعدم كون واجد الخصوصية واجدا للماهية المطلقة ، ضرورة أن الماهية المطلقة هي الأقل بحده ، ولا ريب في عدم اعتبار حفظها في الأكثر في جميع الأقسام المذكورة في المقام ، بل ليس المحفوظ فيه إلا حصة منها وهي الماهية الخاصة ، المحفوظة في المقام أيضا في ضمن الأكثر الواجد للخصوصية.

وليس المراد بالقدر المتيقن الذي هو مورد التكليف النفسي ـ الأعم من

٣٧٥

الاستقلالي والضمني ـ إلا الماهية المهملة الصالحة للانطباق على المطلقة والمقيدة ، وهو موجود في المقام ، ضرورة أن التكليف بالأكثر الواجد للخصوصية ـ في محل الكلام ـ راجع إلى وجوب الماهية الخاصة في ضمنه ، والتكليف بالأكثر راجع إلى التكليف بالماهية المطلقة ، ومع التردد بينهما يعلم بالتكليف الضمني أو الاستقلالي بالماهية في الجملة الصالحة للانطباق عليهما.

وغاية ما يتصور من الفرق بين محل الكلام وما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع عن الفرد أمران ..

الأول : مباينة الذات الواجدة للخصوصية للذات الفاقدة لها في محل الكلام ، والاتحاد بينهما فيما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع.

الثاني : غلبة بساطة مفهوم الواجد للخصوصية في محل الكلام ، بسبب كون العنوان الحاكي جامدا ، وتركبه من الذات بمفهومها العام والخصوصية ، في ما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع ، لإفادتهما بعنوان اشتقاقي مركب من مفاد الهيئة والمادة ، أو بطريق التقييد الذي هو نحو نسبة قائمة بين القيد والمقيد.

لكن الأول ممنوع ، فإن الاتحاد مع قابلية الخصوصية للارتفاع إنما هو بين القابل للخصوصية والقابل لعدمها ، ولا أثر له ، لعدم دخل القابلية قطعا ، وإنما يحتمل أخذ فعلية الخصوصية ، والتباين بين واجد الخصوصية وفاقدها فعلا حين فعلية التكليف ظاهر ، فلا يكون الإتيان بالفاقد محصلا لشيء من المكلف به على تقدير أخذ الخصوصية فيه.

غايته أن منشأ التباين ليس هو الخصوصية ، بل ما يقارنها مما يقوم الذات ، بخلاف ما لو كانت الخصوصية نوعية أو شخصية ، فإنها بنفسها تكون منشأ للتباين بين الحصتين ، ولا أثر لذلك في حكم العقل ، ولذا التزم قدّس سرّه بالاحتياط في الخصوصية العرضية غير القابلة للارتفاع ، مع أنها ليست بنفسها منشأ للتباين بين الحصص.

٣٧٦

وأما الثاني فلا أثر له ، لأن إفادة الذات بعنوانها العام بعد فرض تقييدها راجع إلى كون الموضوع خصوص الحصة المصاحبة للقيد ، كما هو الحال في ما لو اريدت الحصة بعنوان جامد يختص بها ، وليس الفرق بينهما إلا في طريق البيان ، ولا أثر له في حكم العقل الصرف ، وإن كان قد يحتمل دخله في الامور العرفية المبنية على الاستظهار من الإطلاق ونحوه ، على ما يأتي الكلام فيه عند الكلام في الأصل الشرعي إن شاء الله تعالى.

وثانيا : بأنه حيث كان المكلف به هو فعل المكلف المتعلق بواجد الخصوصية وفاقدها فهو في جميع فروض المسألة من القسم الرابع ، لامتناع اتصاف كل فرد بالخصوصية ، بل الفرد الواجد للخصوصية لا ينفك عنها ، لاستحالة انقلاب الشيء عما يقع عليه ، فالعتق المتعلق بالرقبة المؤمنة لا يتعلق بغيرها ، كما أن الصلاة الواجدة للطهارة أو الاستعاذة يمتنع خلوها عنهما ، كما يمتنع اتصاف غير الهاشمي بالهاشمية.

والفرق الذي ذكره إنما يتصور في المتعلق نفسه ، كالإنسان المعتق ، فإن الخصوصية المأخوذة فيه قد تقبل الارتفاع كالإيمان ، وقد لا تقبله ، كالذكورة ، ولا أثر لذلك بعد عدم كونه بنفسه مكلفا به ، بل هو متعلق للمكلف به.

وبالجملة : ما ذكره قدّس سرّه لا ينهض بإخراج ما نحن فيه عن مسألة الأقل والأكثر ، بل التحليل العقلي قاض بدخوله فيه.

نعم ، التحليل المذكور أخفى من التحليل في الشك في الشرطية ، لما عرفت من غلبة التركيب في المفهوم هناك والبساطة هنا ، كما أن التركيب في الشك في الجزئية أظهر منه في الشك في الشرطية ، لمقارنته للتركب الخارجي بين الأجزاء ، وإن كان بعضها قيدا في الآخر بمقتضى الارتباطية المفروضة ، كما في الشرط.

إلا أن هذا لا ينافي جريان البراءة العقلية في الجميع بعد فرض وجود

٣٧٧

القدر المتيقن بحسب التحليل العقلي ، وبعد أن كان ملاك قاعدة قبح العقاب بلا بيان يعم الخصوصيات المأخوذة في التكليف الواحد ، بمقتضى الارتباطية المفروضة ، كما تقدم في المسألة الاولى. هذا كله يرتبط بالأصل العقلي.

وأما الأصل الشرعي فإنما يتوقف الاستدلال عليه إذا قيل بعدم جريان البراءة العقلية ولزوم الاحتياط ، كما هو مختار المحقق الخراساني وبعض الأعاظم قدّس سرّهما في جميع صور الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ومختار بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في خصوص هذه المسألة.

وقد منع بعض الأعاظم قدّس سرّه من جريان البراءة الشرعية هنا مع التزامه بجريانها في المسألة الاولى ، وسبقه إلى ذلك المحقق الخراساني ، وإن أشرنا إلى اضطراب كلامه هناك ، لإلحاق الشك هنا بالمتباينين ، فقد ادعى بعض الأعاظم قدّس سرّه التباين عرفا بين العام والخاص في المقام ، بنحو تكون نسبة أدلة البراءة الشرعية إلى كل منهما سواء ، فتسقط بالمعارضة.

وما ذكره قدّس سرّه قريب جدا بناء على مسلكه في تلك المسألة من عدم كفاية العلم بالتكليف بالأقل في تنجيزه بنفسه ، بل لا بد من إثبات إطلاق الأمر به ، وأنه يتم برفع التكليف بالأكثر بالأصل ، لرجوعه إلى رفع قيدية الزائد وإطلاق الأمر بالأقل.

فإن إحراز إطلاق الأقل من نفي التكليف بالأكثر بالأصل بالوجه المتقدم موقوف على كون الخصوصية من سنخ القيد الزائد المعتبر في الأقل ، ولا يجري في مثل المقام مما كانت الخصوصية متحدة مع الذات ، بنحو تكون مباينة للماهية مفهوما ، لا أمرا زائدا معتبرا فيه.

وبالجملة : لما كان مبنى البراءة الشرعية على الظهورات التي يكون المرجع في تطبيقها العرف أشكل نفي اعتبار الخصوصية في المقام بعد أن لم تكن من سنخ القيد الزائد عرفا ، بل مقوما لأحد طرفي الترديد مع بساطة

٣٧٨

مفهومه ، ولا يكفي في ذلك التحليل العقلي المغفول عنه عرفا ، لعدم ابتناء الأدلة الشرعية عليه ، بل على التطبيق العرفي ، وإنما ينفع في الحكم العقلي المحض.

وعلى هذا لا يفرق بين القول بلزوم الموافقة القطعية للعلم الإجمالي بنحو يمتنع جريان الأصل في بعض الاطراف لو فرض اختصاص موضوعه به وعدم سقوطه بالمعارضة ، والقول بامكان جريان الأصل في بعض الاطراف ، للاكتفاء بعدم لزوم المخالفة القطعية.

أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلمعارضة الأصل في الأكثر بالأصل في الأقل بعد فرض التباين بينهما وعدم انحلال العلم الإجمالي بالعلم بوجوب الأقل على كل حال ، لفرض عدم جريان البراءة العقلية.

وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من جريان البراءة الشرعية على القول الثاني في الأكثر ، لعدم لزوم المخالفة القطعية بتركه في ظرف الإتيان بالأقل بفرد آخر.

فهو مبني على إغفال تحقق موضوع الأصل في الأقل ومعارضته للأصل في الأكثر المستلزم للمخالفة القطعية.

هذا ، كله بناء على أن مقتضى الأصل العقلي الاحتياط ، وأما بناء على أن مقتضاه البراءة من الأكثر ، ولزوم الإتيان بالأقل ، بعد فرض العلم بالتكليف به على كل حال إما ضمنا أو استقلالا ، فلا مانع من جريان البراءة الشرعية من الأكثر ، وإن لم يحرز بها إطلاق الأمر بالأقل ، لعدم معارضته بمثله في طرف الأقل بعد فرض العلم بالتكليف به في الجملة ، كما تقدم نظيره في المسألة الاولى.

٣٧٩

تنبيهات

التنبيه الأول : في الشبهة التحريمية

تقدم أن الشبهة التحريمية يمكن فيها فرض التردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، وأنه مختص بما إذا كان عموم النهي لأفراد الماهية مجموعيا ، فلا يكون له إلا إطاعة واحدة بترك جميع الأفراد ، أو معصية واحدة بفعل بعضها ، فإنه إذا احتمل أخذ شيء في الحرام كان مما نحن فيه ، وكان الضيق بالبناء على الأقل وهو الإطلاق ، والسعة بالبناء على الأكثر وهو ذو الخصوصية ، عكس الشبهة الوجوبية.

وحيث لم يكن الضيق ناشئا من أخذ الخصوصية في المنهي عنه ، فلا مجال فيه لفرض الأقسام السابقة ، التي عرفت اختلاف الحال فيها وضوحا وخفاء لاختلاف سنخ الخصوصية المحتملة.

بل حيث كان ناشئا من أخذ الأفراد الفاقدة للخصوصية منضمة للأفراد الواجدة لها في المنهي عنه ، فلا بد أن يكون انبساط التكليف عليها من سنخ انبساطه على الأجزاء المتباينة في أنفسها ، ويتعين رجوع الشك في المقام إلى الشك في الجزئية ، الذي تقدم أن جريان البراءة فيه متيقن بالإضافة إلى بقية الأقسام.

التنبيه الثاني : في الشبهة الموضوعية

تقدم في أول الكلام في الاصول العملية خروج الشبهة الموضوعية عن الغرض المهم في المقام ، وإن حسن التعرض لها استطرادا لو اختصت ببعض الجهات في تنبيه مستقل. ومن ثم عقدنا هذا التنبيه.

وحيث كان المعيار في الشبهة الموضوعية هو اشتباه الامور الخارجية

٣٨٠