المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

ثم توضأ بأحدهما ، فإن مقتضى استصحاب الحدث هو وجوب الوضوء بغيره ، وترك الوضوء حينئذ مخالفة قطعية لمؤدى الاستصحاب ، والوضوء بالآخر وإن كان موافقة احتمالية له ، إلا أنه موجب للقطع بموافقة التكليف الواقعي.

فالتحقيق : أن ما ذكره قدّس سرّه من عدم الأثر للاستصحاب لا يتم بناء على عدم وجوب الموافقة القطعية عقلا ـ الذي هو محل الكلام في المقام ـ وإنما يتم بناء على وجوبها عقلا ـ كما هو التحقيق ـ لأن حكم العقل بوجوبها ملزم بالاتيان بالطرف الباقي مع قطع النظر عن الاستصحاب ، وحيث لم ينهض الاستصحاب بالورود على القاعدة ـ لما تقدم ـ كان التعبد به لاغيا.

ومنه يظهر الفرق بين الاستصحاب في ما نحن فيه واستصحاب عدم الإتيان بالظهر لمن شك في الإتيان بها ، لأن الاستصحاب هناك بيان على بقاء التكليف بالظهر ، بنحو يكون الإتيان بها امتثالا قطعيا ، فيكون واردا على قاعدة الاشتغال ، أما في المقام فالمفروض عدم إحراز انطباق المستصحب ، على الطرف الباقي ، ليحرز كونه امتثالا له بمقتضى الاستصحاب ، بل ليس الإتيان به إلا لاحتمال انطباقه عليه ، الذي هو مفاد القاعدة.

نعم ، لو كان لعدم الإتيان بالواجب أثر آخر غير الامتثال لا تقتضيه قاعدة الاشتغال ـ كوجوب القضاء أو الكفارة ـ كان جريان الاستصحاب في محله ، لترتب العمل عليه. فتأمل.

ثانيها : أن الاستصحاب المذكور استصحاب للفرد الإجمالي المردد بين معلوم الارتفاع ومشكوك الحدوث ، وهو لا يجري على التحقيق ، لوجوه وقع الكلام فيها من غير واحد ، عمدتها منافاة إطلاق لسان التعبد بالاستصحاب في المردد للعلم التفصيلي في الفرد المعلوم الارتفاع ، بالوجه الذي تقدم في الصورة الثانية من صور عروض المانع من منجزية العلم الإجمالي ، التي سبق الكلام فيها في التنبيه الرابع ، ويأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

٣٤١

نعم ، ذلك مختص بالشبهة الحكمية ، ولا يجري في الشبهة الموضوعية ، كما لو صلى المكلف بأحد ثوبين يعلم نجاسة أحدهما إجمالا ، فإن استصحاب عدم الإتيان بالصلاة بالثوب الطاهر ، أو استصحاب وجوب الصلاة فيه ليس من استصحاب الفرد الإجمالي المردد ، وإنما هو استصحاب للأمر المعين في نفسه ، المترتب عليه العمل ، الواجد لركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، وإنما التردد في امتثاله وهو لا يجعله من استصحاب الفرد المردد.

لكنه مثله في الجهة المتقدمة المانعة من جريان الاستصحاب ، فإن التعبد في المثال بعدم الصلاة في الثوب الطاهر أو ببقاء وجوبها يقتضي بإطلاقه تنجيز الصلاة المذكورة ولو في ضمن الثوب الذي صلى فيه لو فرض كونه الطاهر واقعا ، مع العلم التفصيلي بعدم وجوب الصلاة في الثوب المذكور ، إما لنجاسته أو لصحة الصلاة الواقعة به أولا ، فلا مجال حينئذ للتعبد بوجوب الصلاة المذكورة مطلقا وعلى كل حال ، الذي هو مفاد الاستصحاب ، لمنافاة الإطلاق المذكور للعلم التفصيلي المذكور.

وغاية ما يمكن هو التعبد بوجوبها معلقا على بطلان الصلاة المذكورة لنجاسة الثوب المذكور ، أو الأمر فعلا في غير الثوب المذكور احتياطا ، لاحتمال بطلان الصلاة الواقعة به ، أو التعبد بوجوبها في ضمن غير الثوب المذكور.

والجميع أجنبي عن مؤدى الاستصحاب الذي هو عبارة عن التعبد بالكبرى الشرعية الواقعية ابتداء ، أو بتوسط التعبد بالموضوع المقتضي للعمل بها مطلقا وعلى كل حال.

بل الاول مفاد الجعل الواقعي غير الصالح للتنجيز ، لعدم إحراز موضوعه ، وهو بطلان الصلاة الاولى.

والثاني مفاد دليل الاحتياط ، لا الاستصحاب.

والثالث مفاد قضية اخرى غير المتيقنة سابقا ، لوضوح أن المتيقن سابقا

٣٤٢

هو وجوب الصلاة بمطلق الثوب الطاهر الشامل للثوب المذكور ، فالتعبد بوجوبها في غيره لا يكون إبقاء ظاهريا للمتيقن.

ودعوى : أن امتناع الإطلاق في القضية عقلا يقتضي تقييدها ، لا إلغاءها رأسا.

مدفوعة : بأن ذلك إنما يتم في تقييد عموم الدليل وإخراج بعض أفراده ، وحيث كان العموم في المقام هو عموم دليل الاستصحاب ففرده الذي يمتنع شمولاه له هو استصحاب الموضوع أو الحكم في محل الكلام ، لا الثوب المذكور ، بل الثوب المذكور فرد لمتعلق القضية المستصحبة ، التي يكون تقييدها مستلزما لمباينة المستصحب للمتيقن وفقده لركن الاستصحاب ، لا لتقييد دليل الاستصحاب. فلاحظ.

بل لو فرض انحصار طريق الامتثال بالطرف الباقي ـ بأن لم يكن عند المكلف في المثال إلا الثوب الذي لم يصل فيه من الثوبين المعلومين بالإجمال ـ كان امتناع التعبد بمقتضى الاستصحاب من جهة عدم إحراز متعلق الامتثال الموجب لامتناع إطلاق التعبد به بنحو يقتضي العمل عليه على كل حال.

وما قيل : من عدم الاعتناء باحتمال التعذر ولزوم ترتيب أثر القدرة معه. مختص بما إذا شك في مقدار القدرة ، لا في حال المقدور ، كما أشرنا إليه في أول التنبيه الرابع. فراجع.

نعم ، لا يبعد جريان الاستصحاب لو فرض خروج الطرف الذي احتاط به المكلف أولا عن الابتلاء ـ بتلف أو نحوه ـ بنحو لا يكون إطلاق القضية المستصحبة عمليا بالإضافة إليه ، وكان لمتعلقها فرد متيقن غير الطرف الآخر ، إذ لا محذور حينئذ في التعبد بالقضية المتيقنة على إطلاقها بعد فرض إحراز متعلقها وعدم ترتب العمل المنافي للعلم التفصيلي عليها ، كما لو كان للمكلف ثوب طاهر تفصيلا من الصوف ، وأخر مردد بين ثوبين من القطن ، فصلى

٣٤٣

المكلف في أحد ثوبي القطن ، ثم تلف وبقي الآخر منهما مع الثوب الصوف ، فإن مقتضى الاستصحاب هو الصلاة في الثوب الطاهر الصالح للانطباق عليهما ، غاية الأمر أنه إن صلى بالقطن أجزأه وإن لم تحرز طهارته ، للعلم بامتثال الأمر الواقعي حينئذ الرافع لموضوع الاستصحاب.

هذا ، وربما يستشكل في خصوص الاستصحاب الموضوعي : ـ وهو استصحاب عدم الإتيان بالواجب ـ بأن الغرض من ذلك إن كان هو إثبات بقاء التكليف ووجوب الفراغ عنه ، فليس ذلك أثرا شرعيا له ، بل هو أثر عقلي راجع إلى مقام الامتثال. وإن كان أمرا آخر ، كوجوب القضاء أو الكفارة أو نحوهما مما يترتب شرعا ، فهو خارج عن محل الكلام.

ويندفع : بأنه لما كان ارتفاع التكليف عقلا بامتثاله ، وبقاؤه مع عدمه من شئون داعويته ومما يترتب عليه من العمل بلا واسطة صح الاستصحاب وغيره من أنحاء التعبد المولوي بلحاظها وجودا وعدما ، ولذا لا ريب في إمكان التعبد بالامتثال بالاستصحاب وغيره ، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الثوب المحرزة لصحة الصلاة فيه ، وحصول الفراغ من التكليف بها.

بل لا إشكال في جواز الرجوع للاصول المحرزة لحصول الموانع أو فقد الشروط للمكلف به ، الراجعة للتعبد بعدم الامتثال في مواردها ، الذي هو نظير المقام.

الأمر الثاني : لا فرق في ما ذكرنا من وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية والاكتفاء به بين العباديات والتوصليات.

لكن قد يشكل الأمر في العباديات بتعذر التقرب المعتبر فيها في كل طرف ، لعدم إحراز انطباق المأمور به عليه.

وعلى ذلك ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ على اضطراب في كلامه ـ أن مراتب الامتثال أربعة : التفصيلي ، ثم الإجمالي ، ثم الظني ، ثم الاحتمالي ، ولا يجوز التنزل

٣٤٤

للمرتبة اللاحقة مع التمكن من السابقة.

ويترتب على ذلك أمران :

الأول : أنه لو تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي بالفحص أو غيره لم يجز له الاكتفاء بالإجمالي. بل قد يجب عليه تقليل الإجمال لو فرض تعذر رفعه كلية ، فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر تفصيلا وعجز عن تعيين القبلة ، الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات.

بل قد يلتزم بأنه لو كان المشتبه واجبين مترتبين شرعا ، كالظهر والعصر المترددين بين القصر والتمام لم يجز الدخول في محتملات اللاحق إلا بعد الفراغ من محتملات السابق ، محافظة على المقدار الممكن من مراتب الجزم بالامتثال ، ولا يجوز في مثل ذلك الإتيان بالصلاتين معا قصرا ثم تماما ، لأن الدخول في العصر قصرا قبل الإتيان بالظهر تماما موجب لاحتمال عدم مشروعيتها لكونها قصرا ، ولعدم تحقق الظهر قبلها ، وإن كانت الجهتان متلازمتين خارجا ولم توجب الثانية زيادة التكرار ، أما الدخول في العصر بعد الفراغ من محتملات الظهر فهو موجب لعدم مشروعيتها من الجهة الاولى لا غير.

الثاني : أنه لو تعذر الامتثال التفصيلي فلا مجال للاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ، بل يتعين التنزل للامتثال الإجمالي ، الراجع إلى قصد امتثال الأمر الإجمالي بكل من الأطراف على أن يكون الداعي في كل طرف هو امتثال الأمر الإجمالي به أو بصاحبه.

ولازم ذلك هو العزم على استيفاء تمام الأطراف ، إذ لو عزم على الاقتصار على بعضها لم يتحقق منه الجزم بامتثال الأمر الإجمالي ، فلا يصح العمل حتى لو صادف الواقع ، للإخلال بالتقرب المعتبر.

لكن لا وقع للإشكال من أصله بعد ما تقدم في مبحث العلم الإجمالي من

٣٤٥

مباحث القطع وغيره من الاكتفاء في التقرب المعتبر في العبادة بالاندفاع عن الأمر المحتمل حتى مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، فلا يجب رفع الإجمال ، فضلا عن تقليله ، كما يصح العمل مع الإجمال لو فرض مصادفته للواقع حتى مع عدم العزم على استيفاء الأطراف.

ومبنى المسألة أنه لو كان العمل في التقرب وفروعه مع الشك على السعة ـ كما هو الظاهر ، عملا بالإطلاق اللفظي ، أو المقامي ، أو أصل البراءة ـ كان الالتزام بكل قيد محتاجا إلى الدليل. وإن كان العمل على الاحتياط ـ لقاعدة الاشتغال ـ كان نفي كل قيد محتمل هو المحتاج إلى الدليل.

الأمر الثالث : لا فرق في وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية المحصورة بين أن يكون الاشتباه في أصل الواجب ـ كالظهر والجمعة ـ وأن يكون في بعض ما يعتبر فيه ـ كاشتباه القبلة بين جهتين ، والتردد بين الجهر والاخفات ـ لعموم ما تقدم من الوجه لذلك.

ودعوى : أنه لا بد من رفع اليد في الثاني عن اعتبار الأمر المشتبه محافظة على الجزم بالامتثال حين العمل في العبادة.

مدفوعة : بما أشرنا إليه آنفا من عدم اعتبار الجزم المذكور.

على أنه لو تم اعتباره جرى في الاشتباه في أصل المركب ، حيث يمكن فيه المحافظة على الجزم المذكور بالبناء على التخيير بين الأمرين المشتبهين ، ففرض وجوب الاحتياط فيه مبني على التنزل عن الجزم المذكور محافظة على الواجب الاولي المعلوم بالإجمال ، وذلك يجري في المقام أيضا ، لعدم الفرق بينهما ارتكازا.

نعم ، قد يدل الدليل الخاص على سقوط الأمر المعتبر في حال الاشتباه ، فيرتفع موضوع وجوب الاحتياط ، كما هو الحال بناء على أن المتحير يصلي إلى أي جهة شاء صلاة واحدة ، المستلزم لسقوط شرطية الاستقبال في حقه.

٣٤٦

كما قد يدل الدليل على الترخيص في المخالفة الاحتمالية مع بقاء أصل الاشتراط فيه ، كما لا يبعد البناء على ذلك في من يعسر عليه الصلاة إلى جهتين عند اشتباه القبلة بينهما ، حيث لا يبعد البناء على التخيير بينهما من دون أن يسقط أصل الاستقبال في حقه ، فلا يجوز له الصلاة إلى جهة غيرهما. وتمام الكلام في الفقه.

الأمر الرابع : لو فرض كون الشبهة الوجوبية غير محصورة فالظاهر جريان ما تقدم فيها من أن رافعية عدم الانحصار فيها لتنجيز العلم الإجمالي ليس لخصوصيته في ذلك ، بل بلحاظ ما قد يصاحبه من حرج أو تعذر أو نحوهما ، وحينئذ فإن كان المانع المفروض مختصا ببعض الأطراف معينا كان مانعا من تنجز التكليف الإجمالي مطلقا حتى بلحاظ الموافقة الاحتمالية ، فيجوز المخالفة القطعية.

وإن لم يختص ببعض الأطراف معينا بل مخيرا جرى فيه ما تقدم في التنبيه السادس ، وكان نظير الاضطرار إلى بعض غير معين من الأطراف ، الذي تقدم أن الظاهر فيه سقوط العلم الإجمالي فيه عن المنجزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية لا غير ، فيجب الاقتصار فيه على ما لا يلزم منه المحذور المانع من حرج ونحوه. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

هذا تمام الكلام في مباحث العلم الإجمالي ، ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، والحمد لله رب العالمين.

٣٤٧
٣٤٨

الفصل الرابع

في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين

أشرنا في أول الكلام في الاصول العملية إلى أن النزاع هنا ليس في حكم هذه المسألة كبرويا ـ كما هو الحال في الفصول السابقة ـ بل هو نزاع صغروي راجع إلى أن محل الكلام من صغريات مسألة الشك في أصل التكليف ، التي عقدنا لها الفصل الأول ، والتي كان التحقيق فيها البراءة ، أو من صغريات مسألة الشك في تعيين التكليف ، التي عقدنا لها الفصل الثالث ، والتي كان التحقيق فيها وجوب الاحتياط ، فالكلام فيها مبني على الفراغ عن حكم المسألتين المذكورتين.

ولو فرض وقوع الكلام في بعض الجهات الأخر فهو غير مقصود بالأصل.

ومن هنا ينبغي تقديم امور تمهيدا للكلام في المقام ..

الأول : أن دوران التكليف بين الأقل والأكثر يكون ..

تارة : مع فرض أن الزائد المحتمل مورد لتكليف مستقل غير التكليف المتيقن ، ناشئ عن غرض آخر في قباله ، بحيث يمكن التفكيك بينهما في الاطاعة والمعصية ، سواء كان أمرا مقابلا للمتيقن وموردا للعمل في عرضه ، كما لو دار الأمر بين الدرهم والدرهمين ، أم من شئونه القائمة به ، كما لو احتمل وجوب إيقاع الفريضة في المسجد ، لتعلق النذر به.

واخرى : يكون مع فرض وحدة التكليف للارتباطية بين أجزاء متعلقه ،

٣٤٩

بحيث لا تكون له إلا إطاعة أو معصية واحدة.

والأول خارج عن محل الكلام داخل في الشك في أصل التكليف ، ولا وجه لتوهم دخوله في الشك في تعيين التكليف بعد فرض امتياز المتيقن عن المشكوك عملا ، وكون إطاعة المتيقن غير متوقفة على المشكوك.

وليس الكلام إلا في الثاني ، لأن الارتباطية المفروضة فيه قد توهم كون الشك فيه راجعا إلى الشك في تعيين التكليف المعلوم ، المقتضي لوجوب إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.

الثاني : أن احتمال دخل شيء في الواجب يكون ..

تارة : مع التردد بين دخله فيه وعدمه من دون أن يحتمل قادحيته فيه.

واخرى : مع التردد بين دخله فيه وقادحيته فيه.

وثالثة : مع التردد بين دخله فيه وقادحيته فيه وعدمها. ومحل الكلام في المقام هو الصورة الاولى.

أما الثانية فهي راجعة إلى الدوران بين المتباينين ، للتباين بين مفاد بشرط شيء وبشرط لا ، فيجري حكمه بلا كلام.

وأما الثالثة فالكلام فيها يبتني على الكلام في الصورة الاولى ، فإن قيل فيها بوجوب الاحتياط للشك في تعيين الواجب وجب الاحتياط في هذه الصورة بالجمع بين الواجد والفاقد ، وإن قيل بجريان البراءة فيها للشك في زيادة التكليف كانت هي المرجع في هذه الصورة أيضا.

الثالث : الظاهر أن المعيار في الارتباطية بين المشكوك والمتيقن ـ التي عرفت في الأمر الأول اعتبارها في محل الكلام ـ على وحدة التكليف لبا ، وعدم انحلاله إلى تكاليف متعددة بعدد أفراد الماهية ، بأن ينشأ من غرض واحد وله إطاعة ومعصية واحدة ، كي يكون تردده بين الأقل والأكثر موجبا لتردد إطاعته بينهما.

٣٥٠

أما لو كان انحلاليا مستغرقا لتمام أفراد الماهية ، بأن يكون لكل منها غرض وإطاعة ومعصية مختصة به ، مع قطع النظر عن بقية الأفراد ، فلا مجال لفرض الارتباطية فيه مع تردده بين الأقل والأكثر ، إذ يكون للمتيقن من الأفراد تكاليف مستقلة مباينة للتكاليف بالأفراد المشكوكة ذاتا ، وغرضا ، وطاعة ، ومعصية.

ومنه يظهر أن فرض الارتباطية في الشبهة الوجوبية يختص بما إذا كان التردد بين الأقل والأكثر في العموم البدلي ، دون الاستغراقي ، فإذا وجب إكرام علماء البلد يوم الجمعة فالشك في إطلاق الإكرام مما نحن فيه ، والشك في عموم العلماء خارج عنه.

كما أن فرض الارتباطية في الشبهة التحريمية يختص بما إذا كان ورود النهي على الماهية بلحاظ مجموع أفرادها ، فلا يكون له إلا إطاعة واحدة بترك تمام الأفراد ، كما لو حرم قتل الحيوان وتردد بين مطلق القتل ، وخصوص ما يحرّم اللحم بنحو لا يشمل التذكية.

أما لو كان النهي انحلاليا بلحاظ كل فرد فرد ـ كما هو الغالب في النواهي الشرعية ـ فلا مجال لفرض الارتباطية فيه.

ولعل الغلبة المذكورة هي الوجه في تخصيص شيخنا الأعظم قدّس سرّه الكلام في المقام بالشبهة الوجوبية ، وإلا فهو غير مختص بها.

غايته أن الاحتياط في الشبهة التحريمية بالبناء على حرمة الأقل الذي هو المطلق عكس الشبهة الوجوبية.

هذا ، وأما احتمال أخذ خصوصية في الترك المطلوب بحيث لا يمتثل التكليف إلا بها ـ كالطهارة والتقرب ـ فهو راجع إلى الدوران بين الأقل والأكثر في الواجب ، لرجوعه إلى احتمال طلب الترك المقيد ، فيكون القيد كالترك مطلوب الحصول ، لا محرما ليكون من دوران الحرام بين الأقل والأكثر أو

٣٥١

المطلق والمقيد.

ومما سبق يظهر حال ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من التمثيل للشبهة التحريمية بما إذا تردد التصوير المحرم بين أن يعم بعض الصورة ، وأن يختص بتمامها لكن بحيث يحرم الشروع في الصورة في ظرف الإتمام ، بأن يكون للبعض حظ من الحرمة النفسية الواردة على التام ، لأن قوام الارتباطية انبساط الحرمة على تمام الأجزاء ، كما هو الحال في الواجب الارتباطي.

لاندفاعه : بأن عموم تحريم التصوير حيث كان استغراقيا انحلاليا لا مجموعيا لم يكن مما نحن فيه ، بل التصوير التام متيقن الحرمة ، وتصوير البعض مشكوكها.

وحديث انبساط الحرمة على الأجزاء لا دخل له في الارتباطية بين الأقل والأكثر الذي هو محل الكلام ، بل هو لازم للارتباطية بين أجزاء الأكثر على تقدير حرمته ، فالحرام هو الأجزاء بمجموعها ، لا كل جزء جزء ، ولا عنوان الا الإتمام الذي تكون الأجزاء مقدمة له.

الرابع : الدوران بين الأقل والأكثر ..

تارة : يكون في نفس المكلف به ، كما لو احتمل اعتبار الاستعاذة في الصلاة.

واخرى : يكون في سببه المحصل له من دون أن يستلزم الإجمال فيه ، كما لو وجب تطهير المسجد واحتمل اعتبار تعدد الغسلة فيه.

ومحل الكلام هنا الأول.

وأما الثاني فقد تعرض له غير واحد هنا ، وتقدم منا تفصيل الكلام فيه في التنبيه الثاني من تنبيهات الفصل الأول ، وربما يأتي هنا ما ينفع فيه.

الخامس : بعد ما تقدم في الأمر الثاني اختصاص محل الكلام بما إذا احتمل اعتبار شيء في الواجب من دون احتمال قادحيته فلازم ذلك وجود

٣٥٢

المتيقن في مقام الامتثال الذي يقطع بالفراغ عن التكليف الواقعي على تقدير سلوكه وإن لم يعلم بالتكليف به ، وذلك بالمحافظة على الأمر المحتمل اعتباره المفروض عدم قادحيته.

ولا يخفى أن وجود القدر المتيقن في مقام الامتثال كما يكون مع الشك في حال متعلق التكليف مع العلم بنحو تعلقه ـ كما هو المفروض في محل الكلام ـ كذلك يكون مع الشك في نحو التكليف نفسه بأن يتردد التكليف بين التعييني والتخييري ، كما لو ترددت الكفارة بين المخيرة والمرتبة.

وعمدة كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه ومن بعده في الأول ، وربما تعرض بعضهم للثاني استطرادا.

وحيث كان الكلام فيه مهمّا كان المناسب التعرض له هنا.

كما أنه حيث كان مختصا ببعض الفروع والتنبيهات المهمة كان المناسب تخصيص بحث له وفصله عن الأول ، فيكون الكلام في هذا الفصل في مقامين ، ليختص كل منهما بما يناسبه من الفروع والتنبيهات. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

٣٥٣

المقام الأول

في الشك في دخل شيء في المكلف به

وقد ذكروا له صورا ثلاثة ، لأن الشيء المشكوك ..

تارة : يكون جزءاً خارجيا متحدا مع الواجب ، كالاستعاذة في الصلاة.

واخرى : يكون جزءاً ذهنيا منتزعا من خصوصية زائدة على الواجب كالطمأنينة في الصلاة ، والإيمان في الرقبة.

وثالثة : يكون جزءاً ذهنيا منتزعا من خصوصية متحدة مع الواجب عقلا ، كما لو تردد الأمر بين الجنس والنوع أو الطبيعي والفرد.

ويعبر عن الشك في الأول بالشك في الجزئية ، وفي الثاني بالشك في الشرطية أو القيدية ، وفي الثالث بالدوران بين التعيين والتخيير العقليين.

لكن الشك في الجزئية يرجع إلى الشك في الشرطية في الجهة المهمة في محل الكلام ، لأن اعتبار الجزء في المركب الارتباطي راجع إلى تقييده به لبا ، كتقييده بالشرط الخارج عنه ، والفاقد للجزء كالفاقد للشرط مباين للواجب خارجا ، لا بعض منه ، وإنما يكون الجزء بعضا من المركب الواجب في ظرف تماميته.

غايته أن الجزء ليس قيدا في تمام المركب كالشرط ، بل في ما عداه من الأجزاء كما أن أخذه فيها ليس بصريح التقييد ، بل بنتيجة التقييد. كما أنه في ظرف أخذه داخل في المركب ومتحد معه ، بخلاف الشرط ، فإنه خارج عنه.

لكن لا أثر لهذه الفروق في الجهة المبحوث عنها في محل الكلام.

٣٥٤

ومن هنا لا وجه لفصل الكلام في أحدهما عن الكلام في الآخر ، بل المناسب الجمع بينهما في كلام واحد.

ومنه يظهر أنه لا مجال للفرق في الشرط بين ما إذا كان المشروط أمرا متعلقا لفعل المكلف ، كالطهارة في الصلاة ، وما إذا كان عرضا قائما بالموضوع ، كالإيمان في الرقبة.

بدعوى : ان الأول لما كان فعلا خارجيا كان موردا لتكليف زائد مدفوع بالأصل ، بخلاف الثاني.

لاندفاعها : بأن المعيار لما كان على التقييد ، فهو مشترك فيهما ، ولا أثر معه لاختصاص الأول بكونه عملا خارجيا ، لأن وجوبه مقدمي ناشئ من التقييد.

على ان الثاني قد يكون موردا للعمل ، كما لو انحصر العبد بمن يمكن هدايته من غير المؤمنين ، فإنه يجب هدايته تحصيلا للقيد المعتبر في الواجب.

نعم ، لو كان ملازما لا يمكن اتصاف كل فرد به كالهاشمية والرجولة فقد يدعى إلحاقه بالدوران بين التعيين والتخيير العقلي ، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

نعم ، الشك في أخذ الجزء الذهني المنتزع من الخصوصية المتحدة مع الذات يختص بجهات ينبغي الكلام فيها مستقلا. ولا وجه لما صرح به بعض الأعيان المحققين في صدر كلامه من خروجه عن محل النزاع بعد ترتب غرض النزاع عليه وعموم بعض كلماتهم له ، ولعله لذا تعرض له عند الكلام في تحقيق المختار والاستدلال عليه. ومن ثمّ كان كلامه مضطربا.

وكيف كان ، فيقع الكلام في مسألتين ..

المسألة الاولى : في الشك في أخذ شيء في المكلف به جزءاً كان أو شرطا.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرح

٣٥٥

بعض متأخري المتأخرين بوجوبه ، وربما يظهر من كلام بعض القدماء ، كالسيد والشيخ. لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ، بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه. وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، والظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصة المتقدمين منهم والمتأخرين ، كما يظهر من تتبع كتب القوم ، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخر عنهم.

بل الإنصاف : أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك ، كالسيد والشيخ بل الشهيدين قدس سرهم».

وهو وإن ذكر ذلك في الشك في الجزئية ، إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين الشك في الشرطية عندهم ، كما قد يظهر منه قدّس سرّه ذلك.

وكيف كان ، فيقع الكلام ..

تارة : في مقتضى الأصل العقلي الأولي.

واخرى : في مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة. لبيان حكم الجهل بالتكليف ، فقد اختلفت كلمات القوم في المقامين.

أما الأول ، فالظاهر حكم العقل بالبراءة في المقام من الزائد المشكوك ، بملاك قبح العقاب بلا بيان الذي تقدم تقريبه في الشك في أصل التكليف ، لعدم الفرق في الملاك المذكور بين التكليف الاستقلالي والضمني بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في باب التعذير والتنجيز المبنيين على المسئولية بالتكليف والعقاب عليه الذي هو المهم في المقام والدائر مدار البيان بلا كلام.

نعم ، لو تعلق الغرض بتحصيل الواقع على ما هو عليه إما للاهتمام باثره الوضعي ـ كما في الأوامر الإرشادية ـ أو لتنجزه من جهة اخرى ـ كما في موارد التقصير في الفحص ـ أو للاهتمام بتحصيل غرض المولى قياما ببعض حقوقه ،

٣٥٦

أو مداراة له في دفع شره وجوره ـ كما في بعض الموالي العرفيين ـ زائدا على ما تقتضيه المسئولية التابعة للتنجيز عقلا ، تعين الاحتياط فيه ولو مع عدم البيان الواصل ، كما هو الحال في الشك في أصل الواجب أيضا.

إلا أنه خارج عن محل الكلام ، إذ المفروض عدم المنجز الخارجي ، وأن الغرض لم يتعلق إلا بالخروج عن تبعة التكليف والمسئولية به عقلا ، التي هي منوطة بالبيان المفروض عدمه بالإضافة إلى المشكوك.

ولا ريب في ما ذكرناه بعد التأمل في المرتكزات العقلائية وفي سيرة أهل الاستدلال الارتكازية ، فإن المرتكز أن خصوصيات التكليف كأصله هي المحتاجة إلى البيان.

هذا ، وربما يستشكل في الرجوع للبراءة بوجوه ..

الأول : دعوى تنجز التكليف الواقعي على ما هو عليه من الحد الواقعي المردد بين الأقل والأكثر الملزم بإحراز الفراغ عنه بالاحتياط ، وذلك من جهة العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الوجهين المنجز لاحتمال كل منهما ، والملزم بالقطع بالفراغ عنه على ما هو عليه من الترديد والإجمال.

وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه دعوى انحلال العلم الإجمالي المذكور بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل إما لنفسه أو مقدمة للأكثر ، بنحو يقتضي تنجزه على كل حال.

لكن يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه استحالة الانحلال في المقام ، لأن تنجز التكليف المقدمي موقوف على تنجز التكليف النفسي لأن داعويته في طول داعويته ، فلا مجال لتنجيزه دونه.

وعليه يكون تنجز التكليف بالأقل على كل حال حتى لو كان مقدميا موقوفا على تنجز التكليف النفسي بالأكثر ، ولا منجز له إلا العلم الإجمالي المفروض ، فكيف يكون تنجز الأقل على كل حال موجبا لانحلال العلم

٣٥٧

الإجمالي ومانعا من تنجز الأكثر على تقدير وجوبه.

هذا ، ومن الظاهر أن ما ذكراه قدّس سرّهما مبني على مقدمية الجزء للمركب ، وعلى تعلق التكليف المقدمي الغيري به تبعا له.

والتحقيق ـ تبعا لبعضهم ـ منع كلا الأمرين ، كما أوضحناه في مسألة مقدمة الواجب.

بل صرح المحقق الخراساني قدّس سرّه في المسألة المذكورة بمنع الثاني منهما ، وربما نسب ذلك لشيخنا الأعظم قدّس سرّه أيضا وإن لم أتحققه.

على أنه لا ريب ظاهرا في انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء ، وجبت بالوجوب الغيري أيضا ، أم لم تجب ، فيكفي في تقريب الانحلال وجوب الأجزاء نفسيا على كل حال ، كما ذكره بعض مشايخنا.

ولعله لذا جزم بعض الأعاظم قدّس سرّه بعدم إرادة شيخنا الأعظم قدّس سرّه لظاهر كلامه ، وأن مراده من وجوب الأقل تفصيلا هو وجوبه النفسي.

بل لا يبعد كون ذلك هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه أيضا ، فيرجع ما تقدم منه في منع الانحلال إلى دعوى الملازمة بين التكليف الاستقلالي والتكاليف الضمنية في مقام التنجز ، كما هي متلازمة في الملاك والجعل والامتثال ، فلا يعقل تنجز الأقل على كل حال إلا مع تنجز الأكثر ، فلا يكون تنجزه مانعا من تنجزه وموجبا لحل العلم الإجمالي المفروض.

لكنه يندفع : بأن التكليف الاستقلالي بالمركب متحد مع التكاليف الضمنية بأجزائه ، فداعويته عين داعويتها ، وتنجزه عين تنجزها ، لأنها من حدوده ، ولا موضوع للملازمة بينه وبينها.

وعليه لا يلزم في المقام التفكيك بين التكليف الاستقلالي والتكاليف الضمنية في التنجز ، بل اختصاص التنجز للتكليف الاستقلالي بحدوده التي صارت موردا للبيان وعدم التنجز له بحده الذي لم يتعلق به البيان ، وهو عبارة

٣٥٨

اخرى عما تقدم منا من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في التكاليف الضمنية.

نعم ، استشكل بعض الأعاظم قدّس سرّه في الانحلال في المقام : بأن وجوب الأقل المعلوم في البين ليس هو وجوبه على نحو الإطلاق واللابشرط ، بل وجوبه المردد بين كونه بشرط شيء وكونه لا بشرط ، وهو عبارة اخرى عن العلم الإجمالي المفروض في البين ، وليس علما آخر ملازما له صالحا لحله ، فدعوى انحلال العلم الإجمالي بالعلم بوجوب الأقل بالنحو المذكور ترجع إلى دعوى حل العلم الإجمالي لنفسه ، وهو غير معقول ، بل مقتضى لزوم إحراز الفراغ عن المعلوم بالإجمال وجوب الاحتياط فيه بالإتيان بالأكثر.

فلعل الأولى أن يقال : إن كان المراد بالعلم الإجمالي هو العلم بالأقل أو الأكثر ، فليس هذا علما إجماليا ، إذ لا بد في العلم الإجمالي من أن ينحل إلى قضية منفصلة يتباين طرفاها ، وحيث كان التكليف بالأقل داخلا في التكليف بالأكثر لا مباينا له لم تصدق القضية المنفصلة المذكورة ، بل مرجع العلم المذكور إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه ، فلا علم إجمالي حتى يحتاج إلى الانحلال.

وإن كان المراد به أنه بعد العلم بوجوب الأقل تفصيلا فهو مردد بين أن يكون بنحو اللابشرط وأن يكون بشرط شيء ، لوضوح التباين بين المفادين ، فليس هذا العلم الإجمالي منجزا ، لعدم كونه علما بالتكليف ، لوضوح كون أحد طرفيه السعة ، ولا يقتضي الإلزام على كل حال ، نظير دوران الأمر بين وجوب شيء وإباحته ، كما نبه له شيخنا الاستاذ قدّس سرّه.

الثاني : ما قد يظهر من الفصول من أن المنجز وإن كان هو خصوص الأقل ، إلا أن مقتضى لزوم الفراغ اليقيني عنه هو الإتيان بالأكثر ، لعدم إحراز الفراغ عنه إلا بذلك بعد فرض الارتباطية على تقدير وجوب الأكثر ، لأن سقوط التكليف منوط بتمامية المركب.

٣٥٩

نعم ، لو احرز كون الأقل تمام الواجب اتجه الاكتفاء به في الفراغ عنه. لكن الأصل لا ينهض بشرح المعلوم بالإجمال ، إلا أن يكون مثبتا.

ويندفع : بأن اليقين بالفراغ لا يجب في مثل ذلك مما كان الشك فيه ناشئا من عدم البيان مع العلم بحال المأتي به ومطابقته لما ورد البيان على التكليف به ، وإنما يجب اليقين بالفراغ في ما إذا كان الشك فيه ناشئا من الشك في حال المأتي به وفي مطابقته لما ورد البيان بالتكليف به ، وهو مورد قاعدة الاشتغال.

الثالث : أنه بناء على ما هو المشهور عند العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يكون المكلف به موردا لغرض المولى ، وحيث لا يحرز حصول غرضه بالاقتصار على الأقل تعين الاحتياط بالأكثر ، لوجوب إحراز غرض المولى.

نعم ، بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها لا في متعلقاتها ـ كما عن بعض العدلية ـ لا يجب الاحتياط ، لاستيفاء المولى غرضه بنفس التكليف ، وتعلق غرض آخر له بنفس الفعل غير معلوم ، ليجب إحرازه.

وكذا بناء على عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أصلا.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الجواب عن ذلك من تعذر العلم بحصول غرض المولى حتى مع الإتيان بالأكثر ، لاحتمال توقفه على معرفة الأجزاء تفصيلا غير المتيسرة في المقام.

فهو ـ مع اختصاصه بالعبادات ـ مدفوع : بأن التأمل في مرتكزات العقلاء والمتشرعة قاض بعدم دخل ذلك ، كما تقدم في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع.

ولا سيما مع تعذره لانسداد باب العلم ـ كما في المقام ـ حيث اعترف قدّس سرّه غير مرة بإمكان الاحتياط وعدم اعتبار المعرفة التفصيلية حينئذ.

ومثله ما قد يقال من عدم وجوب إحراز الغرض إلا مع قيام الحجة عليه ،

٣٦٠