المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

العقلائية ، التي لا مجال لها هنا ، للفرق بين المقامين بأن المانع المفروض هناك من سنخ الطوارئ الثبوتية الرافعة للتكليف المعلوم بالإجمال ، مع عدم التبدل في مقام الإثبات ، لبقاء العلم الإجمالي على ما هو عليه ، بخلاف العلم التفصيلي هنا ، فإنه من سنخ الطوارئ الإثباتية ، الموجبة لارتفاع العلم الإجمالي الذي به قوام التنجيز ، مع عدم تبدل التكليف المعلوم ثبوتا ، بل عدم تبدل شيء في مقام الثبوت أصلا ، فقياس أحد المقامين بالآخر في غير محله ، بل المرتكزات هنا لا تمنع من الرجوع للاصول الترخيصية في بقية الأطراف.

هذا ، ولو فرض قياس أحد المقامين بالآخر فحيث تقدم في التنبيه السابق أن المعيار في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بطروء المانع على بعض الأطراف على مقارنة المانع للتكليف المعلوم بالإجمال أو تقدمه عليه ، وإن تأخر العلم به عن حصول العلم الإجمالي ، وأن عدم تأثير المانع مشروط بتأخره تعين في المقام البناء على سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ، لأن المفروض كون المعلوم بالتفصيل متحدا مع المعلوم بالإجمال غير مباين له ، فهو في حكم المقارن ، وإن تأخر العلم به عن العلم الإجمالي.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان المنجز في بعض الأطراف التفصيلية طريقا شرعيا لا يوجب العلم ، فإنه وإن لم يوجب ارتفاع العلم الإجمالي ، لفرض احتمال الخطأ ، كما لا يوجب الفراغ اليقيني عن المعلوم بالإجمال ، لفرض عدم تضمنه تعيينه في ضمن الأطراف التفصيلية ، إلا أنه لما كان مفاد الطريق المذكور ثبوت مؤداه من حين حصول المعلوم بالإجمال ، لفرض كونه عينه أو منه ، اتجه البناء على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بقيامه بالملاك المذكور هناك.

بل لا يبعد إلحاق ذلك بما ذكرناه هنا في العلم التفصيلي من تبدل الحال في مقام الإثبات ، لأن العلم الإجمالي الراجع الى القضية المنفصلة المشار إليها وإن كان موجودا حقيقة إلا أن قيام الطريق يوجب إلغاءه عملا والتعبد بقضية

٣٢١

حملية تعيينية في خصوص مورد الطريق وإن لم تكن معلومة حقيقة ، وحيث لا يكون التعبد بالوجه المذكور منافيا للعلم المفروض ، لإمكان صدقهما معا ، فلا مانع منه ، ويتعين لأجله رفع اليد عملا عن خصوصية الترديد المقتضية عقلا للاحتياط ، والتي هي خارجة عن الانكشاف الذي به قوام المنجزية في العلم الإجمالي.

وبعبارة اخرى : العلم الإجمالي متقوم بانكشاف تحقق المعلوم ، وباجماله وتردده ، والأول هو المعيار في المنجزية ووجوب العمل عقلا ، والثاني منشأ لوجوب الاحتياط في مقام الامتثال.

ومن الظاهر أن الأول لا ينافي التعبد بالطريق المفروض في المقام ، ليكون ليكون مانعا منه ، والثاني وإن نافاه ، إلا أن التعبد بالطريق يقتضي إلغاءه عملا ، كإلغاء الطرق للجهل في سائر الموارد التي يكون فيها موردا للاصول الترخيصية أو الإلزامية ، فتلحق الطرق بالعلم التفصيلي في ذلك. فتأمل.

كما تلحق به الاصول الإحرازية التعبدية ، كالاستصحاب ونحوه ، بخلاف أصل الاحتياط ، حيث لا مجال لرافعيته للاجمال تعبدا ، لعدم تعرضه لاثبات التكليف في مورده بوجه ، وينحصر الوجه في سقوط العلم الإجمالي معه عن المنجزية بما ذكرناه في الطرق أولا ، من ابتنائه على ما تقدم في التنبيه الرابع في وجه سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بطروء بعض موانع التنجيز في بعض الأطراف.

وقد تحصل مما ذكرنا : أن العلم التفصيلي في المقام موجب لرفع العلم الإجمالي حقيقة ، فلا موضوع معه للاحتياط في الأطراف الأخر. كما أن الطرق والاصول التعبدية رافعة له حكما.

وأما الاصول غير الإحرازية ـ كالاحتياط ـ فهي لا تصلح لشيء منهما ، وإنما تكون مانعة من منجزية العلم الإجمالي بملاك طروء بعض موانع التنجيز في

٣٢٢

بعض الأطراف ، الذي تقدم في التنبيه الرابع.

وعلى ما ذكرنا يبتني الكلام في كثير من المباحث المتقدمة ، كالعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ، والدليل العقلي على حجية الخبر ، ودليل الانسداد ، والدليل العقلي للأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، وربما تقدم منا خلاف ذلك ، ويظهر حاله مما ذكرناه هنا. فراجع.

بقي في المقام شيء ، وهو أن المفروض في تقدم في ما التنبيه الرابع أن التكليف المعلوم بالتفصيل مباين للمعلوم بالإجمال ، كما أن المفروض هنا عدم التباين بينهما ، بل المعلوم بالتفصيل هنا عين المعلوم بالإجمال وإن لم يحرز أنه تمامه.

وهناك صورة ثالثة ينبغي التعرض لها هنا إلحاقا بهذا التنبيه ، وهي ما إذا تردد المعلوم بالتفصيل بين الأمرين ، بأن يكون للمعلوم بالإجمال حدّ واقعي ، وعنوان ذهني ، لا يعلم انطباقه على المعلوم بالتفصيل ، كما لو علم إجمالا بنجاسة ثوبين من عشرة ثياب ، وأنهما ثوبا زيد مثلا ، وبعد الفحص علم تفصيلا بنجاسة ثوبين لا يعلم أنهما ثوبا زيد أو غيرهما قد تنجسا بنجاسة اخرى غير النجاسة المعلومة بالإجمال.

والظاهر أنه لا مجال لما تقدم هنا ، لبقاء العلم الإجمالي بالمعلوم الخاص على ما هو عليه من حدود واقعية وذهنية لا يعلم انطباقها على المعلوم بالتفصيل ، فتصدق بالإضافة إليه القضية المنفصلة المشار إليها ، فثوبا زيد في المثال مرددان بين المعلوم بالتفصيل وغيره.

إن قلت : مثل عنوان ثوب زيد لا أثر له في التكليف ، بل هو معرّف محض ، فلا أثر للعلم الإجمالي المتعلق به ، وليس موضوع التكليف والتنجيز إلا المصاديق الخارجية على ما هي عليه من الحدود الواقعية ، لأنها التي يتعلق بها العمل ، وتكون موردا للإطاعة والمعصية ، ومن الظاهر أنه لا مجال لفرض العلم

٣٢٣

الإجمالي في المصاديق المذكورة بما هي بعد فرض العلم التفصيلي المذكور ، بل الحال كما تقدم في الصورة السابقة.

قلت : لما كان العنوان المذكور معرّفا كان دخيلا في التنجيز ، إذ ليس المنجز إلا المحكي به ، وهو المصداق الخاص المحدود بحدوده الواقعية ، المردد بين المعلوم بالتفصيل وغيره ، ولا وجه لارتفاع العلم الإجمالي به مع بقاء تردده ، وهذا بخلاف ما إذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين الأقل والأكثر ، فإن الأقل مبهم في الأكثر ، وليس له حدّ واقعي يميزه فيه ، ليمكن فرض الترديد فيه ، كما تقدم.

فالظاهر أن المقام مبني على ما تقدم في التنبيه الرابع من الكلام في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية مع ابتلاء بعض أطرافه بتكليف تفصيلي ، حيث يتعين حينئذ التفصيل بين تأخر المعلوم التفصيلي وعدمه ، فلا يمنع من منجزية العلم الإجمالي في الصورة الاولى ، على التفصيل والكلام المتقدمين هناك.

ومجرد الفرق بينه وبين ما سبق بالعلم هناك بالتباين بين المعلومين الإجمالي والتفصيلي ، والشك فيه هنا ، ليس فارقا بعد بقاء العلم الإجمالي والشك في الفراغ عنه بامتثال المعلوم بالتفصيل.

نعم ، لا يبعد البناء على إلحاق صورة الشك في التأخر بصورة العلم بعدمه في سقوط العلم الإجمالي معه عن المنجزية ، لعدم اليقين معه بكون المعلوم بالإجمال حين حدوثه تكليفا فعليا صالحا لترتب العمل عليه ، كما لعله يظهر بالتأمل في ما ذكرناه في التنبيه الرابع ، والتنبيه السابع في وجه كون المعيار في التقدم والتأخر على حال المعلوم ، لا العلم.

ولا يسع المقام تفصيل ذلك. فراجع وتأمل.

٣٢٤

التنبيه التاسع : في الشبهة غير المحصورة

وقد وقع الكلام بينهم في ضابطها.

ومن الظاهر أن ما يناسب المعنى اللغوي لغير المحصور هو الذي لا يعلم عدده (١) ولو لتردده بين عددين ، ولا يبعد أن يختص عرفا بما إذا كانت أطراف الترديد بحد لا يسهل تشخيصها دقة ، بحيث لا تشخّص في طرف القلة إلا بما يعلم بوجود ما زاد عليه ، ولا في طرف الكثرة إلا بما يعلم بنقص الموجود عنه ، فلو تردد أهل البلد بين الألف والتسعمائة يكون من المحصور عرفا ، وإن كان من غيره لغة ، ولا يكون من غير المحصور عرفا إلا إذا لم يسهل تشخيص الحد بين الشك واليقين. بل لا يبعد مع ذلك اعتبار البعد بين الحدين.

هذا ، ولكن لا أثر لتشخيص المعنى اللغوي أو العرفي لغير المحصور ، لعدم وروده في النصوص ـ كما ذكره في الجواهر ـ ولا غيرها من الأدلة الشرعية اللفظية ، وإنما ورد في كلمات بعض الأصحاب ، ومن القريب جدا ألا يكون مرادهم دخله في موضوع الحكم تعبدا ، بل سيق في كلامهم لمحض الإشارة لمصاديقه ، بلحاظ ما اشتملت عليه من خصوصيات دخيلة في الحكم ، كالحرج ونحوه ، كما قد يناسبه تعليلهم بها ، فالعنوان المذكور منتزع من الأفراد التي ثبت لها الحكم بحسب الأدلة ، فيكون تحديده متفرعا على تحديد تلك الأفراد ، وهو متفرع على تعيين دليل الحكم ، لينظر في سعته وضيقه.

نعم ، المتيقن من أفرادها التكاليف الإجمالية في الامور العامة المنتشرة الأفراد ، كالعلم بوجود متنجس في الماء أو الخبز أو الجبن ، ووجود المغصوب في الأسواق والبيوت.

__________________

(١) هذا بناء على ان عدم الحصر بلحاظ العدد ، أما لو كان بحسب المكان فالمعيار فيه تردد المكان بالوجه المذكور في العدد. (منه. عفي عنه).

٣٢٥

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه قد استدل على عدم وجوب اجتناب أطراف الشبهة المحصورة بامور ..

الأول : الإجماع ، ففي جامع المقاصد : «الظاهر أنه اتفاقي» وعن الروض التصريح به ، وعن الوحيد في فوائده : «عدم وجوب الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين الكل ، ولا ريب فيه ، ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار كان على ذلك». وفي الجواهر : «للإجماع بقسميه ، وللسيرة المستقيمة» ، بل عن بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.

وكأن ذلك بلحاظ السيرة التي اشير اليها في كلام الوحيد والجواهر ، حيث لا مجال لإنكارها ، لوضوحها ، كما لا مجال لتخطئتها لعمومها للمتدينين ، بل ينسب مخالفها للوسواس ، بل لو لا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد.

ولعل دعوى الإجماع مبنية على السيرة المذكورة أيضا ، لقلة المتعرضين للعنوان المذكور وتأخر عصورهم ، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة. فكأن الإجماع المدعى ارتكازي مستند للسيرة المشار إليها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للإشكال في الاستدلال المذكور بعدم كون الإجماع تعبديا ، لقرب استناده لأحد الوجوه الآتية أو غيرها ، فيلزم النظر في دليله.

لاندفاعه : بأن استناد الإجماع والسيرة والضرورة لأحد الوجوه المذكورة وإن كان قريبا ، إلّا أنه لا مجال لاحتمال خطئها لو فرض عدم تمامية الوجوه المذكورة عندنا ، لوضوحها وارتكازيتها ، لاتصالها بعصر المعصومين عليهم السّلام ، لما هو المعلوم لكل أحد في العصور المذكورة من كثرة ابتلاء الناس بالمحرمات الواقعية ووجودها في ما يتعرضون له من حوائجهم وأعمالهم ، بنحو يستلزم العلم الإجمالي لكل أحد غالبا ، فلو كان الاحتياط واجبا لحصل التنبه له ، أو التنبيه عليه ، بنحو يمنع من وقوع السيرة وجري النظام عليها.

٣٢٦

ومثله الإشكال : بأن وجوب الاحتياط مع العلم الإجمالي لما كان عقليا فلا مجال لرفع اليد عنه بالأدلة الشرعية التعبدية ، كالإجماع ونحوه ، بل لا بد من النظر في الوجوه العقلية الموجبة لذلك.

لاندفاعه أيضا بما ذكرناه في أول الكلام في العلم الإجمالي من إمكان رفع الشارع لموضوع حكم العقل المذكور بالتصرف في بعض الجهات التي يبتني عليها ، فلو فرض عدم تمامية الأدلة المستدل بها كان الإجماع والسيرة والضرورة وافية باثبات مقتضاها ، لكشفها عن التصرف الشرعي المذكور.

نعم ، لما كانت هي أدلة لبية لم تنهض بتحديد موضوعها ، فيلزم الاقتصار على المتيقن من موردها ، وضبطه في غاية الإشكال ، فيلزم النظر في بقية الوجوه ، ليعول عليها في التحديد ، بل قد يظهر بها مورد السيرة ، لقرب استنادها إليها ، كما ذكرنا.

الثاني : النصوص الظاهرة في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة فضلا عن غيرها من موارد العلم الإجمالي ، كصحيح عبد الله بن سنان وغيره مما تقدم التعرض له في أدلة البراءة ، وعند الكلام في حرمة المخالفة القطعية الإجمالية ، حيث ذكرنا هناك لزوم حمله على الشبهة غير المحصورة ، خروجا عن محذور مخالفة العلم الإجمالي المنجز.

لكن لا يخفى أن تخصيص النصوص المذكورة بغير المحصور لما لم يكن مستفادا من دليل لفظي ، بل من حكم العقل بامتناع مخالفة العلم الإجمالي مع فرض فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، فهو متفرع على تشخيص موارد عدم حكم العقل بالاحتياط مع العلم الإجمالي.

فالنصوص المذكورة لا تكون دليلا على جواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة ، بل شمولها لها متفرع على قيام دليل غيرها فيها.

الثالث : ما أشار إليه في الشرائع ، ونسبه في مفتاح الكرامة إليهم من

٣٢٧

التعليل بدفع المشقة.

وفيه : ـ كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ أن المراد بذلك إن كان هو المشقة الشخصية ، ليكون مرجعه إلى الاستدلال بقاعدة نفي الحرج ـ بناء على ما هو الظاهر من جريانها في المقام بلحاظ لزوم الحرج من امتثال التكليف بسبب الاشتباه المستلزم للاحتياط الحرجي وإن لم يكن التكليف بنفسه حرجيا ـ فمن الظاهر أن بينه وبين المدعى عموما من وجه.

وإن كان هو المشقة النوعية بمعنى لزوم الحرج من الاحتياط في الشبهة غير المحصورة نوعا على نوع المكلفين ، بأن يكون الحرج حكمة لا علة ، فهو ـ مع عدم الضابط له ـ لا ينهض بالاستدلال ، لأن ظاهر أدلة رفع الحرج هو الحرج الشخصي ، لا النوعي.

وأما ما دل من النصوص على أن التشريع لا يتضمن حكما يستلزم الحرج نوعا ، مثل ما ورد في تعليل عدم وجوب الغسل من البول وغيره.

فالمراد به ـ لو تم عمومه ـ عدم تشريع كبرى شرعية مستلزمة للحرج نوعا ـ كالمثال المذكور ـ ولا يمنع من فرض كبرى انتزاعية يلزم منها الحرج نوعا ، متفرعة على كبرى ، أو كبريات ، شرعية لا يلزم الحرج نوعا من كل منها ، كلزوم القيام بالواجبات البدنية الأولية على المريض ، المنتزع من إطلاق أدلة الأحكام الأولية الشاملة للمريض وغيره ، المتضمنة للكبريات الشرعية التي لا يلزم الحرج نوعا من كل منها ، كوجوب الصلاة ، والصوم ، والحج ، وتطهير المسجد ، وتغسيل الميت وغيرها ، بل غاية ما يلتزم به هو ارتفاع الأحكام المذكورة في مورد الحرج الشخصي ، تحكيما لقاعدة نفي الحرج على الكبريات المشار إليها ، لا على الكبرى الانتزاعية المذكورة.

ومن الظاهر أن وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ليس مفاد كبرى شرعية ، بل هو منتزع من الكبريات الشرعية التي لا يلزم منها الحرج نوعا ،

٣٢٨

كحرمة أكل النجس وشربه ، واعتبار الطهارة في الوضوء والصلاة ، وحرمة الغصب ونحوها من الأحكام التي تعم موارد الشبهة غير المحصورة وغيرها ، فإن عموم تلك الأحكام لموارد الشبهة غير المحصورة مقتض لحكم العقل بوجوب الاحتياط فيها ، الذي ينتزع منه كبرى وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، من دون أن يكون ذلك كبرى شرعية ، ليلزم محذور تشريع حكم يلزم منه الحرج نوعا.

هذا ، ولعل من ذكر المشقة في المقام لا يريد الاستدلال بأحد الوجهين المذكورين ، بل التنبيه على أن الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لما كان يستلزم الحرج نوعا فلو كان لازما لحصل الحرج المذكور ، ولاضطراب أمر الناس ، وحيث لم يحصل ذلك كشف عن وضوح عدم لزومه ، فهو مشير إلى السيرة والارتكاز المشار إليهما آنفا. فلاحظ.

الرابع : ما قد يستفاد من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال التكليف في كل منها بنحو لا يعتني به العقلاء في مقام العمل ، ولا يصلح للتنجيز بملاك دفع الضرر المحتمل. قال : «ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السم في أحد الإنائين أو واحد من ألفي إناء».

وفيه : ـ مع أن الظاهر عدم اختصاص جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة عندهم بما إذا ضعف احتمال الحرام ، بل يعم ما إذا قوي لكون التكليف المشتبه من الكثير في الكثير ، أو لقرائن خارجية تقتضي انطباق المعلوم بالإجمال على خصوص بعض الأطراف ـ أنه لا ريب في أن ضعف الاحتمال في خصوص بعض أطراف العلم الإجمالي المنجز لا يصحح ارتكابه والخروج عن احتمال التكليف ، ولذا يجب الاحتياط مع حصر الشبهة مطلقا.

وذلك لأن قاعدة دفع الضرر المحتمل تجري مع ضعف الاحتمال إذا كان مهما ، كضرر العقاب وعدم الاحتياط في المثال المتقدم ـ لو تم ـ إنما هو

٣٢٩

لمزاحمة محذور الاحتياط للضرر المعلوم بالإجمال ، حيث يكون الاحتياط مع كثرة الأطراف مستلزما لنحو من المشقة والمشاكل التي هي محذور يزاحم بها الضرر المعلوم بالإجمال ، ولا مجال لذلك في ضرر العقاب ، لأهميته.

على أن فرض تجويز العقل الإقدام على الضرر لا يقتضي الأمان منه بنحو لا يقع في العقاب لو صادف التكليف الواقعي في المقام ، نظير الحال في الأضرار التكوينية في مثل المثال المتقدم ، ومثله التزاحم بين المحذورين بسوء اختيار المكلف ، حيث يلزم العقل باختيار المحذور الأقل والوقوع في ضرر عقابه من دون أن يحكم بالأمان منه.

وليس في الوجه المذكور ما يقتضي حكم العقل بقبح العقاب المستلزم للأمان منه.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن ضعف احتمال التكليف في كل طرف بنفسه مستلزم لقوة احتماله في بقية الأطراف بنحو البدلية ، بحيث يظن بوجوده فيها ، ومرجع بناء العقلاء المدعى على عدم الاعتناء بالاحتمال الضعيف إلى أخذهم بالظن المذكور ، فيرتفع به الإجمال تعبدا ، كما في سائر موارد قيام الطريق على تعيين المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف ، فلا موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل ، للأمان من العقاب بسبب الطريق المذكور لأنه يوجب حكم العقل بقبحه.

ففيه : ـ مع أن لازمه تبعيض الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، بالاقتصار في مخالفته على المقدار الذي يكون احتمال التكليف فيه ضعيفا جدا لا يعتني به العقلاء ، لأن العمل بظن التكليف في الباقي يجعله حجة تعيينا ، فينجز جميع أطرافه ، ولا يظن من أحد الالتزام به ، إذ غاية ما قيل في المقام هو لزوم ترك ما عدا مقدار الحرام وحرمة المخالفة القطعية ـ أن الحجية التخييرية بعيدة عن بناء العقلاء ، بل المرتكز عندهم تساقط الحجج المتعارضة مع ثبوت

٣٣٠

مقتضي الحجية فيها ، كخبر الواحد ، فضلا عن مثل هذا الظن الذي لم يتضح ثبوت مقتضي الحجية فيه.

فالظاهر أن عدم التزام العقلاء بالاحتياط مع الكثرة ناشئ من إهمال احتمال التكليف في الطرف من دون بناء على حجية شيء ينحل به العلم الإجمالي ، وليكون مؤمنا من الضرر المفروض في المقام ، لما أشرنا إليه من المزاحمة التي لا مجال لها في ضرر العقاب.

الخامس : ما ربما يحمل عليه كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه بدلا عن الوجه السابق ، من أن كثرة الأطراف مانعة من منجزية العلم الإجمالي بنحو يكون بيانا على التكليف ليرتفع به موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وفيه : أنه لا يفرق في منجزية العلم الذاتية بين كثرة الأطراف وقلتها ، كما يتضح مما تقدم في وجهها ، وعدم المحركية في بعض الموارد ناشئ من المزاحمة ، كما تقدم.

السادس : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه ويبتني على كون الضابط في الشبهة غير المحصورة أن تكون كثرة الأطراف بنحو لا يمكن عادة جمعها في الارتكاب ، كالعلم بتنجس بعض خبز البلد أو غصبيته ، أما لو أمكن جمعها في الارتكاب ـ كما لو علم بتنجس حبة حنطة بين الف حبة ـ فهي من الشبهة المحصورة.

وعليه لا يكون العلم منجزا ، لا بالإضافة إلى المخالفة القطعية ، لفرض تعذرها ، ولا بالإضافة إلى الموافقة القطعية ، لتفرع وجوبها على حرمة المخالفة ، لأنها الأصل في منجزية العلم الإجمالي ، لتفرع وجوب الموافقة ـ كما سبق منه قدّس سرّه ـ على تعارض الاصول وتساقطها في الأطراف ، وهو يتوقف على حرمة المخالفة القطعية ، اللازمة من جريان الاصول في تمام الأطراف بعد فرض عدم المرجح لبعضها في جريان الأصل ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم يقع

٣٣١

التعارض بين الاصول ، فلا تجب الموافقة القطعية المتفرعة عليه.

وفيه : أن جريان الاصول في جميع الأطراف وتعارضها الملزم بالموافقة القطعية غير مشروط بالقدرة على الجمع بينها ، بل يكفي فيه القدرة على كل منها ولو بدلا ، لكفاية ذلك في فعلية التكليف المعلوم بالإجمال على تقدير انطباقه على كل منها ، فيصلح العلم الإجمالي لتنجيزه بنحو يمنع من جريان الاصول في كل طرف بنفسه.

ولذا لا ريب في منجزية العلم الإجمالي مع ذلك في الشبهة المحصورة ، كما لو علم المكلف بحرمة السفر عليه عصر الجمعة إما إلى الموصل أو إلى البصرة ، أو نذر ألا يصلي الظهر في دار زيد واشتبهت بين دارين أو نحوهما.

نعم ، لو كان تعذر الجمع بين الأطراف راجعا إلى تعذر بعضها معينا كان مانعا من منجزية العلم الإجمالي ، لعدم العلم معه بفعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، لاحتمال انطباقه على المتعذر ، كما لا يجري الأصل حينئذ في المعتذر ، لعدم الأثر ، فلا معارض للأصل الجاري في غير المتعذر.

وليس هذا نظرا لمحل الكلام ، لأن منع كثرة الأطراف من تعذر الجمع في الشبهة غير المحصورة إنما يكون بالوجه الأول.

وكأن ما ذكره قدّس سرّه مبني على اختلاط ذلك بما نحن فيه ، حيث مثل به. مضافا إلى أن المراد من تعذر الجمع بين الأطراف في الارتكاب إن كان هو تعذر الجمع ولو تدريجا بمدة طويلة خرجت عن ذلك كثير من الشبهات غير المحصورة عندهم.

وإن كان هو تعذره في زمان قصير فهو ـ مع عدم الضابط له ـ يستلزم عدم المنجزية في كثير من الشبهات المحصورة ـ خصوصا التدريجية منها ـ التي لا مجال للبناء على عدم التنجيز فيها.

وقد أشار إلى بعض ذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه. فراجع.

٣٣٢

السابع : ما ذكره الفقيه الهمداني من أن المعيار في عدم الانحصار ليس كثرة أطراف الشبهة ، بل عدم الإحاطة بتمام أطرافها ، بحيث كل ما يفرض طرفا لها يحتمل وجود غيره ، سواء قلّت الأطراف أم كثرت ، كما لو علم بوقوع قطرة بول وإصابتها لبعض الأواني الموضوعة في الدار ، لكن كل ما يحيط به المكلف من أواني الدار يحتمل وجود غيره وإصابته بالنجاسة دونه.

وحينئذ يكون الوجه في عدم وجوب الاحتياط في الأطراف المعلومة عدم معارضة الاصول الجارية فيها باصول أخر ، لعدم جريان الاصول في الأطراف المحتملة الوجود التي لا يحيط بها المكلف ، لعدم الأثر للأصل ما لم يحرز كون موضوعه مما يعلمه المكلف ويبتلي به.

وفيه : أن الشك في وجود فرد آخر لا يحيط به المكلف لا ينافي الشك في التكليف الذي هو موضوع الأصل ، لعدم أخذ العلم بوجود المتعلق بشخصه في موضوع التكليف زائدا على الشك في التكليف ، فدليل أصل الطهارة مثلا يشمل بدوا جميع ما في الدار على ما هو عليه من العدد.

نعم ، عدم الإحاطة بالطرف إن رجع إلى عدم الابتلاء به على تقدير وجوده أو الشك فيه ، أو نحوهما مما يمنع من منجزية العلم وترتب الأثر على الأصل ، اتجه عدم منجزية العلم الإجمالي وعدم جريان الأصل في الطرف المذكور ، لذلك ، لا لعدم الانحصار.

وإن لم يرجع إلى ذلك ، بل علم بالابتلاء بتمام الأطراف على ما هي عليه من التردد بين الأقل والأكثر ، كان العلم الإجمالي منجزا ، للعلم بتحقق التكليف الصالح لترتب العمل عليه ، كما لو فرض العلم في المثال السابق بأن الإناء المشكوك يعثر عليه لو كان موجودا عند ارتفاع ضوء النهار ويكون فعلا موردا للابتلاء المصحح للتكليف ، وحينئذ يمتنع جريان الاصول في تمام الأطراف ، لاستلزامه المخالفة القطعية للتكليف المنجز بالعلم ، كما لا تجري في بعضها

٣٣٣

لعدم المرجح ، وهو معنى تعارض الاصول في المقام.

وكأن نظره قدّس سرّه إلى الصورة الاولى ، مع تخيل أن المانع من جريان الأصل فيها عدم الانحصار ، لا ما ذكرنا.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وقد عرفت عدم نهوضها بتحديد غير المحصور بنحو يتجه جواز الارتكاب فيه. فالظاهر أنه لا أثر لعدم الانحصار بنفسه في رفع منجزية العلم الإجمالي.

نعم ، كثرة الأطراف وعدم الإحاطة بها مستلزم غالبا لابتلاء العلم الإجمالي بما يسقطه عن المنجزية ، كتعذر بعض الأطراف أو خروجه عن الابتلاء أو نحوهما ، فيتجه البناء على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المذكورة لأجل ذلك ، لا لخصوصية في عدم الانحصار.

ولعل هذا هو مرجع الإجماع والنصوص المتقدمة إليها الإشارة ، لما عرفت من عدم أخذ عدم الانحصار في النصوص ، وأن أخذه في بعض كلماتهم لا يستلزم دخل عنوانه في الحكم ، ولا سيما بعد اختصاص الأمثلة التي يذكرونها والتي هي مورد السيرة الارتكازية الشاهدة للإجماع بما ذكرنا.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، وأن محل الكلام فيها ما إذا لم يبتل العلم الإجمالي بمانع آخر من المنجزية غير عدم الانحصار.

إذ فيه : أن تخصيص محل كلامه هو بذلك تابع له ، ولا ضير فيه ، إلا أنه لا مجال لجعل ذلك محل كلامهم ، فضلا عن حمل الإجماع عليه.

بقي في المقام امور ..

الأول : الظاهر جواز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة ، لو فرض الابتلاء التدريجي بالأطراف ، لعدم منجزية العلم الإجمالي عند ارتكاب

٣٣٤

كل طرف بعد فرض عدم الابتلاء ببقية الأطراف ولو لارتكابها سابقا ، فالمخالفة في أي طرف فرض مورد للعذر الظاهري.

والعلم بحصول الحرام بعد ارتكاب تمام الأطراف ليس محذورا بعد فرض عدم المنجز حينه.

وهو لا يستلزم طرح دليل التكليف الواقعي ، لأن مخالفة التكليف مع وجود المؤمن ظاهرا لا تكون طرحا له ، كما تقدم في وجه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية.

ولا يفرق في ذلك بين العزم عليه من أول الأمر وعدمه.

وما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من صدق المعصية عند مصادفة الحرام الواقعي مع العزم المذكور.

غير ظاهر ، لتوقف المعصية على تنجز التكليف والمفروض عدمه ، وأن العزم إنما هو على الأطراف لو فرض تحقق الابتلاء بها تدريجا بنحو لا يوجب التنجز.

بل لا ضير في الارتكاب برجاء تحصيل الحرام ، كما هو الحال في سائر موارد احتمال الحرام عند المؤمن منه ، إذ لا محذور في الرغبة في مخالفة الواقع بالنحو المرخص به شرعا أو عقلا.

واختصاص الترخيص الشرعي أو العقلي بصورة عدم العزم ، لا دليل عليه ، بل الدليل على عدمه.

فما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من صدق التجري حينئذ في ارتكاب أول الأطراف وإن لم يصادف الحرام الواقعي ، غير ظاهر.

نعم ، لو لم يستند الإقدام للعذر للجهل بكونه عذرا ، أو لعدم الاهتمام بالتكليف وتحصيل العذر فيه لم يبعد صدق التجري ، كما تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث التجري من مباحث القطع.

٣٣٥

ولا فرق في ما ذكرنا بين جميع الوجوه المتقدمة حتى الإجماع ، لظهور كلامهم تبعا للارتكاز المشار إليه في عدم منجزية العلم الإجمالي مع عدم الانحصار.

نعم ، تقدم أن مقتضى الوجه الخامس بناء على ما ذكره بعض الأعيان المحققين من ابتنائه على جعل البدل عدم جواز ارتكاب ما يعتد معه باحتمال الحرام ، فضلا عن المخالفة القطعية.

ثم إن الكلام هنا في ارتكاب تمام الأطراف من حيثية التكليف المعلوم بالإجمال.

وأما ما قد يترتب على ذلك من حدوث تكليف تفصيلي أو إجمالي ، كالضمان المترتب على استعمال المغصوب.

فهو خارج عن محل الكلام. والمرجع فيه القواعد المقررة لمثله.

الثاني : لا يفرق في حكم الشبهة غير المحصورة بين ضعف احتمال الحرام في الطرف وقوته ، إما لاشتباه الكثير في الكثير ـ لفرض كثرة التكاليف المعلومة بالإجمال ـ أو لقرائن خاصة توجب قوة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف ، وهو ظاهر على الوجه الذي ذكرناه وما عدا الوجه الرابع والخامس من الوجوه المتقدمة حتى الإجماع ، فإنه وإن كان دليلا لبيا ، إلا أنه لا مجال لإخراج هذه الصورة عنه مع كثرة الابتلاء بها الكاشف عن عموم السيرة الارتكازية لها.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من إلحاق صورة اشتباه الكثير في الكثير بالمحصور ، لمشابهته له في نسبة مجموع التكاليف المعلومة بالإجمال لمجموع الأطراف ، فإذا علم بوجود خمسمائة شاة موطوءة في ضمن ألف وخمسمائة كانت نسبة المعلوم بالإجمال الى الأطراف نسبة الواحد إلى الثلاثة ، لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة ، ومحتملاته ثلاثة ، وما

٣٣٦

عداها لا ينفك عن الاشتمال على الحرام.

فهو إنما يتم مع الارتباطية بين مجموعات الأطراف في احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، كما لو كان كل خمسمائة منها بلون وعلم أن الخمسمائة الحرام بلون واحد ، حيث يكون أطراف الترديد ثلاثة لا غير ، أما مع عدم الارتباطية بينها فاطراف الترديد تمام الألف والخمسمائة.

نعم ، بناء على الوجه الرابع يتجه البناء على وجوب الاحتياط ، كما تقدم التعرض له هناك.

كما لا يبعد ذلك أيضا بناء على الوجه الخامس ، وإن كان لا يخلو عن كلام.

الثالث : ضابط الشبهة غير المحصورة يبتني على الوجوه المتقدمة ، ويختلف باختلافها ، بنحو يظهر بالتأمل فيها.

نعم ، لا يصلح بعضها لتحديده ، لابتنائه على الإجمال ، فيلزم الاقتصار فيه على المتيقن ، كما تقدم في الإجماع ، والأخبار ، ودليل العسر ولو اريد به النوعي.

الرابع : لو شك في منجزية الشبهة للشك في تحقق الضابط المتقدم لغير المحصورة فيها بنحو الشبهة الموضوعية ابتنى الكلام فيها على الكلام في حكم الشك في تحقق موانع التنجيز ، وقد تقدم أن الشك في الابتلاء كالعلم بعدمه في عدم التنجيز ، كما أن الشك في تعذر الامتثال أو لزوم العسر منه ونحوهما كالعلم بعدمها في التنجيز.

ومنه يظهر أنه بناء على الوجه الثالث في الاستدلال على جواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة يتعين البناء على وجوب الاحتياط لو شك في تحقق ضابطها.

وأما على الوجه الأول والثاني فحيث كان الاستدلال بهما موقوفا على كشفهما عن جعل البدل أو رفع التكليف الواقعي ، فعلى الأول يجب الاحتياط

٣٣٧

مع الشك ، وعلى الثاني لا يجب ، ولا يبعد ترجح الأول. فتأمل.

كما أنه لا يبعد البناء على جواز الارتكاب على الوجه السابع لعدم إحراز سقوط الأصل بالمعارضة.

وكذا على السادس ، لكونه حينئذ نظير الشك في الابتلاء الذي عرفت عدم وجوب الاحتياط معه.

وأما الشك في القدرة على المخالفة ، الذي يجب الاحتياط معه فهو الشك في القدرة على الامتثال ، لا الشك في القدرة على المخالفة ، الذي هو مبنى الوجه السادس المذكور ، كما ذكرناه في التنبيه الرابع عند الكلام في عدم الابتلاء.

وأما على الوجه الرابع والخامس فيشكل تحقق الشك المذكور ، لأن أطراف الشك ومرتبته من الامور الوجدانية غير القابلة للشك.

وإن كان صريح بعض الأعيان المحققين إمكان الشك على الوجهين المذكورين ، وأنه على الرابع يتعين الحاقه بالمحصور ، لرجوعه إلى الشك في جعل البدل ، كما تقدم منه ، وعلى الخامس يلحق بغير المحصور للشك في بيانية العلم ، ومع عدم إحراز البيان فالمرجع البراءة. فتأمل جيدا.

الخامس : عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة إنما يقتضي عدم وجوب الاحتياط في الأطراف من حيثية العلم المفروض.

ولا ينافي وجوب الاحتياط في الأطراف لأجل الشك لو فرض كونه مجرى للاحتياط في نفسه ، لانقلاب الأصل أو نحوه ، لأن الوجه المصحح لترك الاحتياط لا يقتضي إلغاء الشك.

فما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من التشكيك في ذلك ، أو الميل إلى إلغاء الشك ، غير ظاهر.

نعم ، بناء على الوجه الرابع قد يدعى أن عدم اعتداد العقلاء بالاحتمال الضعيف في كل طرف لا يختص بحيثية العلم الإجمالي ، خصوصا بناء على

٣٣٨

رجوعه إلى جعل البدل.

إلا أن الالتزام بلوازم ذلك صعب جدا.

إلا أن يلحق الشك بالوسواس الذي لا ريب في عدم اعتداد العقلاء به ، وخروجه عن عموم الشك الذي هو موضوع الاصول.

هذا تمام الكلام في الشبهة غير المحصورة.

والحمد لله على ما سهّل ويسّر ، ونسأله العون والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

التنبيه العاشر : في الشبهة الوجوبية

لا فرق في ما تقدم في العلم الإجمالي بالتكليف بين الشبهة الوجوبية والتحريمية ، كما يظهر بالتأمل فيه.

إلا أنه ينبغي الكلام تبعا لهم في امور ذكروها في خصوص الشبهة الوجوبية ..

الأول : قد يدعى التمسك لوجوب الموافقة القطعية في الشبهة الوجوبية بالاستصحاب ، فإنه بعد الإتيان ببعض الأطراف يكون مقتضى الاستصحاب الموضوعي ـ وهو استصحاب عدم الإتيان بالواجب ـ أو الحكمي ـ وهو استصحاب بقاء وجوب الواجب ـ لزوم الخروج عن عهدة التكليف بالإتيان ببقية الأطراف.

وقد يورد عليه بوجوه ..

أولها : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الغرض من الاستصحاب المذكور إن كان هو إثبات وجوب الباقي شرعا فهو من الأصل المثبت ، وإن كان هو إثبات وجوبه عقلا تحصيلا للفراغ اليقيني عن التكليف الإجمالي المستصحب ، فهو مبني على حكم العقل بوجوب تحصيل الفراغ اليقيني ، وهو

٣٣٩

لو تمّ يغني عن الاستصحاب ، لفرض اليقين بالاشتغال وجدانا قبل الإتيان بشيء من المحتملين.

ولا مجال لتوهم ورود الاستصحاب على قاعدة الاشتغال في المقام.

لأن المعتبر في ورود الاستصحاب على القاعدة أن يتضمن التعبد بالتكليف في موردها ، كاستصحاب نجاسة الثوب الوارد على قاعدة الاشتغال بالصلاة لمن صلى به ، والاستصحاب لا ينهض بالتعبد بالتكليف بالباقي ، لابتنائه على الأصل المثبت ، كما ذكرنا ، وإنما يتضمن التعبد بالتكليف الإجمالي ، وهو لا يصلح للعمل إلا بلحاظ الطرف الباقي ، لاحتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال عليه ، وهو متفرع على قاعدة الاشتغال ، والمفروض تحقق موضوعها مع قطع النظر عن الاستصحاب ، فلا يبقى له أثر معها.

وفيه : أن أثر الاستصحاب المذكور هو جعل مخالفة الطرف الباقي مخالفة قطعية بعد أن كانت بدونه مخالفة احتمالية ، فإن مقتضى الاستصحاب التعبد بالتكليف ووجوب العمل على طبقه بموافقة الطرف الباقي ، أو بوجه آخر يقطع أو يحتمل معه بالموافقة ، فعدم العلم بمقتضى ذلك مخالفة قطعية لمؤدى الاستصحاب ، وإن كانت مخالفة احتمالية للواقع ، ولا إشكال في عدم جواز المخالفة القطعية لدليل التعبد ، كما لا تجوز لدليل الواقع ، وإن فرض جواز المخالفة الاحتمالية لهما.

نعم ، الموافقة الاحتمالية للتكليف المستصحب في باقي الأطراف قد تستلزم الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، كما لو فرض بقاء طرف واحد.

وهو أجنبي عما ذكره من ابتناء العمل بالاستصحاب في المقام على وجوب الموافقة القطعية.

فهو نظير ما لو علم المكلف إجمالا بإضافة أحد الماءين وإطلاق الآخر ،

٣٤٠