المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

حرمه التصرف في الامور المذكورة ليس من أحكام غصبية الأصل الفعلية التكليفية أو الوضعية ، بل هو حكم آخر وارد على موضوعه ، ولذا لا يكون فعليا إلا تبعا لفعلية موضوعه ، وهو تحقق الامور المذكورة كما اعترف به قدّس سرّه ، ولا موقع بعد ذلك لما ذكره من أن النهي عن التصرف في المغصوب بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في توابعه عند تحققها ، فإنه إن كان المراد به وحدة الحكم أو أن الثاني من شئون امتثال الأول ، فلا مجال له مع فرض تعدد الموضوع المستلزم لتعدد الحكم بحيث يختص كل حكم بإطاعته ومعصيته ، بل يمكن التفكيك بين الحكمين في الإطاعة والمعصية ، فقد يكون الغصب للشجرة دون الثمرة ، كما قد يكون العكس.

وإن كان المراد التلازم بين الحكمين فليس هو إلا لكون كل منهما فردا من أفراد الغصب ، كالسفينة والشجرة.

ومجرد الفرق بأن الثمرة من شئون الشجرة وتوابعها في الوجود أو الحكم ، بخلاف السفينة ، ليس فارقا بعد عدم التبعية بينهما في الامتثال ، كي يكون تنجز حكم الشجرة بالعلم الإجمالي كافيا في تنجز حكم الثمرة.

وعليه يلزم الرجوع في الثمرة والمنفعة إلى مقتضى القواعد ، فإن فرض كونها طرفا لعلم إجمالي آخر ـ كما لو كان لكلا الأصلين منفعة أو ثمرة ـ كان منجزا كالعلم الإجمالي بحرمة الأصل.

أما لو اختصت المنفعة أو الثمرة بأحد الطرفين ، فإن علم بالابتلاء بها حين العلم الإجمالي بغصبية الاصلين كانت طرفا للعلم الإجمالي ، ويكون العلم الإجمالي تدريجيا بالإضافة إليها ، فينجز تمام أطرافه ، كما سبق.

وإلا فإن كان الأصلان مسبوقين بالملكية ثم خرج أحدهما عنها واشتبه ، كان استصحاب ملكية الأصل المثمر محرزا لملكية الثمرة.

وعدم ترتب العمل على الاستصحاب المذكور بالإضافة إلى الأصل

٣٠١

لتنجزه بالعلم الإجمالي لا ينافي ترتب العمل عليه بالإضافة إلى الثمرة لعدم كونها طرفا له.

كما أنه لو كانا مسبوقين بملكية الغير كان مقتضى استصحاب ملكيته للمثمر ملكيته للثمرة وعدم جواز تصرف غيره فيها.

وأما مع عدم الوجهين فمقتضى استصحاب عدم ملكية الأصل أو الثمرة بنحو العدم الأزلي عدم ترتيب أحكام الملك من البيع ونحوه على الثمرة ، وأما التصرف الخارجي فهو مبني على الكلام في أن جوازه موقوف على إحراز ملك المتصرف ، أو أن حرمته موقوفة على إحراز ملك الغير ، وتقدم الكلام في ذلك عند الكلام في انقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال في التنبيه الأول من تنبيهات الفصل الأول في البراءة.

نعم ، لو فرض توقف التصرف في الثمرة أو المنفعة على التصرف في الأصل ـ كما هو الغالب أو اللازم في المنفعة ـ امتنع التصرف فيها ، لفرض تنجز وجوب الاجتناب عن الأصل بالعلم الإجمالي المفروض.

لكن ذلك لا يستلزم ضمانها ، بل هو موقوف على إحراز ملكية الغير للأصل بالوجه المتقدم.

الثالث : أن ما ذكره في تفريع حكم الملاقي لا ربط له بالمقدمة التي قدمها ، فإن السراية بالمعنى المذكور لا أثر لها في وحدة التكليف ، لما هو الظاهر من أن الحكم الوضعي لو فرض تنجزه بالعلم الإجمالي بنفسه إلا أن تنجزه باعتبار إضافته لموضوعه ، فتنجز النجاسة ليس إلا بمعنى تنجز نسبتها للنجس. لا تنجزها في نفسها مع قطع النظر عن معروضها ، لعدم الأثر لها حينئذ أصلا حتى بنحو التعليق ، ومن الظاهر أن العلم الإجمالي إنما يقتضي تنجز النجاسة في كل من الطرفين ، أما الملاقي فحيث كان موضوعا آخر فلا مجال لتنجز نجاسته حتى لو كانت من مراتب نجاسة الملاقي.

٣٠٢

نعم ، لو تم ما ذكره من تنجز حكم المنفعة والثمرة تبعا لحكم الأصل فقد يتجه تنجز حكم الملاقي حتى لو كانت نجاسته مباينة لنجاسة الملاقى مسببة عنها ، إذ كما تكون ملكية الثمرة والمنفعة تابعة لملكية الأصل ، كذلك تكون نجاسة الملاقي تابعة لنجاسة الملاقى ، والتفريق بينهما بلا فارق.

الرابع : أن ما ذكره في وجه إشعار رواية جابر بالسراية غير ظاهر ، إذ هي لم تتضمن تفسير الاستخفاف بالدين الحاصل من أكل الطعام بالاستخفاف بتحريم الميتة الراجع إلى عصيانه ، كيف! ولا ريب في عدم كونه معصية له مع تعدد الموضوع المستلزم لتعدد التكليف وتعدد الطاعة والمعصية ، بل تضمنت تعليل الاستخفاف بالدين بتحريم الميتة ، ويكفي في ذلك التلازم بين تحريم الميتة وتحريم الملاقي ، ولو لأجل الفراغ عن أن حرمة الميتة راجعة إلى نجاستها المستلزمة لنجاسة الملاقي وحرمته.

على أنه لو فرض تمامية ما ذكره من التفسير فهو لا يقتضي السراية بالمعنى المذكور ، لما عرفت من أن السراية لا تقتضي وحدة التكليف الموجب لتوقف إطاعة حكم الميتة على اجتناب ملاقيها ، فالرواية أجنبية عما ذكره على كل حال.

وبالجملة : ما ذكره من المقدمات غير تام في نفسه ، ولا صالح لأن يبتني عليه القول بالتنجيز في المقام.

الأمر الرابع : لا ريب في أن الملاقي يكون طرفا لعلم إجمالي كالملاقى ، فإذا علم إجمالا بنجاسة إحدى اليدين ، ولاقى الثوب اليمنى منهما ، فكما يعلم بنجاسة إحدى اليدين يعلم أيضا بنجاسة اليد اليسرى أو الثوب.

وحينئذ قد يدعى أن العلم الثاني منجز لأطرافه كالأول ، فيلزم اجتناب الملاقي لذلك.

وقد تصدى غير واحد للكلام في حال العلم الإجمالي المذكور وتوجيه

٣٠٣

عدم منجزيته مطلقا أو في بعض الصور.

وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه لا مجال للبناء على منجزية العلم الإجمالي بالإضافة إلى الملاقي ، لعدم المعارض لاستصحاب الطهارة فيه بعد سقوط الأصل في الملاقى وطرفه بالمعارضة في مرتبة سابقة على جريانه فيه ، إذ في مرتبة جريان الأصل في الملاقى لا يجري الأصل في الملاقي ، لأنه مسبب عنه ، فيتعارض الأصل الجاري في الملاقى والأصل الجاري في طرفه بسبب العلم الإجمالي بكذب أحدهما ولزوم المخالفة القطعية منهما ، وبعد سقوطهما يجري الأصل في الملاقي بلا معارض.

وأما ما أشار إليه بعض مشايخنا من أن الأصل الجاري في الملاقي وإن كان متأخرا رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى ، إلا أن كلا الاصلين في عرض الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بلا ترتب بينهما ، لأن ملاك الترتب بين الاصول الشرعية هو التسبب وكون مؤدى أحد الأصلين موضوعا لمؤدى الآخر ، ولا تسبب هنا بين الأصل الجاري في الطرف الآخر وكلا الأصلين الجاريين في الملاقى والملاقي ، وليس المراد باتحاد رتبة الأصلين إلا محض عدم المقتضي لتقدم أحدهما على الآخر ، لا وجود المقتضي للاتحاد ليمتنع اتحاد الشيء رتبة مع كلا الأمرين المترتبين.

فهو مندفع : بأن عدم الترتب بين الأصل الجاري في الطرف الآخر والأصل الجاري في الملاقي لا يقتضي التعارض بينهما ، لتوقف التعارض على جريانهما في عرض واحد ، والمفروض سقوط الأصل الجاري في الطرف الآخر بمعارضة الأصل الجاري في الملاقى المفروض كونه في عرضه أيضا ، وحيث كان الأصل في الملاقي متأخرا رتبة عن الأصل في الملاقى تعين عدم المعارض له في مرتبة جريانه ، لسقوط معارضه في المرتبة السابقة عليه وإن لم يكن متأخرا عنه رتبة.

٣٠٤

وأشكل من ذلك ما ذكره من أن السبق والتأخر الرتبي إنما يترتب عليهما الأثر في الأحكام العقلية المترتبة على الرتبة ، وأما الأحكام الشرعية فهي مترتبة على الموجودات الخارجية ، ولا أثر فيها للتقدم والتأخر الرتبي ، ولذا لو علم إما ببطلان صلاة الصبح لبطلان وضوئها ، أو ببطلان صلاة الظهر لخلل فيها ، وجب إعادة الصلاتين معا ، وإن كان بطلان الصبح متأخرا رتبة عن بطلان الوضوء الذي هو طرف العلم الإجمالي.

لاندفاعه : بأن ذلك إنما يتم في ما إذا كان الترتب في أحد الأطراف لا يوجب الترتب بين الاصول الجارية فيها ، كما لو علم إجمالا إما بترك الوضوء لصلاة الصبح أو بترك السلام من صلاة الظهر ، فإن الوضوء وإن كان سابقا رتبة على صلاة الصبح ، إلا أن الأصل الذي يرجع إليه في الشك فيه هو قاعدة الفراغ في الصبح ، وهي في مرتبة قاعدة الفراغ في الظهر ، فيتساقطان.

أما إذا كان الترتب في نفس الاصول الجارية في الأطراف فالمتجه البناء على سقوط الاصول المتقدمة رتبة بالمعارضة ، وانفراد الأصل المتأخر رتبة بالجريان في بعض الأطراف. كما هو الحال فى المقام.

ومثله مورد النقض ، لأن قاعدة الفراغ من الوضوء للصبح سابقة رتبة على قاعدة الفراغ من الصبح نفسها ، وبعد سقوط الاولى بالمعارضة لقاعدة الفراغ من الظهر تجري قاعدة الفراغ من الصبح بلا معارض.

ثم انه قد استثنى شيخنا الأعظم قدّس سرّه مما تقدم ما لو فرض حين العلم الإجمالي عدم جريان الأصل في الملاقى لتلف ونحوه مما يوجب خروجه عن الابتلاء ، فذكر أنه يتعين حينئذ سقوط الأصل الجاري في الملاقي بالمعارضة بالأصل الجاري في الطرف الآخر ، لعدم المسقط للأصل في الطرف المذكور في مرتبة سابقة على جريان الأصل في الملاقي ، بل يجريان معا ويسقطان بالمعارضة.

٣٠٥

هذا حاصل ما اعتمده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام ، وتابعة فيه بعض الأعاظم قدّس سرّه.

لكنه لا يناسب ما تقدم منه عند الكلام في وجوب الموافقة القطعية وجريان الاصول في الأطراف ، من أنه لا أثر للترتب بين الاصول وحكومة بعضها على بعض في رفع التعارض ، بل تسقط الاصول المترتبة جميعها بالمعارضة.

وكيف كان ، فهو مبني على أن منشأ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي تعارض الاصول فيها بنحو لو اختص بعضها بالأصل لجاز ارتكابه.

أما بناء على ما تقدم من منجزيته ذاتا بنحو يقتضي الموافقة القطعية فلا ينفع عدم المعارض للأصل في الملاقي في مرتبة جريانه في جواز ارتكابه.

على ان لازم ذلك جواز ارتكاب الملاقي حتى مع فرض خروج الملاقى عن الابتلاء حين العلم الإجمالي ، ولا وجه لاستثنائه ، لأن الأصل في الملاقى وإن لم يترتب عليه الأثر بالإضافة إليه ، إلا أنه يترتب عليه الأثر بالإضافة إلى الملاقي ، فيجري بلحاظه ويعارض الأصل في الطرف الآخر ، وبعد تساقطهما يجري الأصل في الملاقي بلا معارض ، ويتعين اجتناب الطرف الآخر وحده لسقوط الأصل فيه بالمعارضة في الرتبة السابقة.

بل يلزم من ذلك عدم جواز ترتيب الطهارة على الملاقي في الفرض الأول ، إذ في مرتبة جريان أصالة الطهارة فيه تجري أصالة الحل في الملاقى وطرفه ، وبعد تساقط الاصول الثلاثة تجري أصالة الحل في الملاقي لا غير من دون أن يترتب عليه آثار الطهارة ، إلى غير ذلك مما يظهر بالتأمل في الموارد على اختلاف سنخ الاصول الجارية فيها.

ولا يظن منهم الالتزام بذلك. وقد تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في وجوب الموافقة القطعية. فراجع.

٣٠٦

وعليه يلزم الرجوع في المقام إلى القواعد المرعية في العلوم الإجمالية المتداخلة من لزوم تقديم الأسبق منها وتعينه للمنجزية.

وتوضيح ذلك : أن في المقام علوما إجمالية ثلاثة ..

الأول : العلم بنجاسة الملاقى والملاقي أو نجاسة صاحب الملاقي.

الثاني : العلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه.

الثالث : العلم بنجاسة الملاقي أو صاحب الملاقى.

والأخيران أخص أطرافا من الأول ، فمع عدم المرجح لأحدهما على الآخر يتعين منجزيتهما معا ، الراجعة إلى وجوب موافقة الأول ، ومع ترجح أحدهما في المنجزية يتعين منجزيته وعدم الأثر للآخر ، ولا للأول ، لما تقدم في التنبيه الرابع من أن تنجز بعض أطراف العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر مانع من منجزيته في الأطراف الأخر.

إذا عرفت هذا ، فاعلم : أن المعلومات في هذه العلوم الثلاثة إما أن تتقارن ، بأن تكون الملاقاة مقارنة لحدوث النجاسة المعلومة بالإجمال بين الملاقي وصاحبه. وإما أن يكون المعلوم بالعلم الثاني أسبق ، بأن تتأخر الملاقاة عن حدوث النجاسة المعلومة ، ولا يعقل العكس ، لاستحالة تنجس الملاقي قبل الملاقى.

فالكلام في مقامين :

الأول : في ما لو كانت الملاقاة مقارنة لحدوث النجاسة ، وله صور ..

إذ .. تارة : تكون العلوم الثلاثة متقارنة حدوثا أيضا ، بأن يعلم بالنجاسة والملاقاة في وقت واحد ، أو يسبق العلم بالملاقاة.

واخرى : يكون العلم الثاني أسبق ، بأن يعلم بنجاسة أحد الطرفين ، ثم يعلم بسبق ملاقاة ثالث لأحدهما.

وثالثة : يكون العلم الثالث أسبق ، بأن يعلم بنجاسة الملاقي أو صاحب

٣٠٧

الملاقى ، ثم يعلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه ، وأنه لا منشأ لنجاسة الملاقي المحتملة التي هي طرف العلم الإجمالي السابق الا الملاقاة.

أما الاولى : فالظاهر فيها عدم ترجح أحد العالمين الأخيرين في المنجزية ، بل يكون كل منهما منجزا ، لاتحادهما زمانا علما ومعلوما ، فهو كما لو علم إجمالا بوقوع النجاسة في الإناء النحاس أو الإناءين الخزف ، حيث يجب اجتناب الجميع بلا إشكال.

لكن ذكر بعض الأعاظم أن التنجيز يختص بالثاني ، لأنه أسبق رتبة بلحاظ سبق معلومه ، لفرض أن نجاسة الملاقي متأخرة رتبة عن نجاسة الملاقى.

ومن ثمّ بنى على عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي مطلقا.

ويشكل : بأن التنجز ليس للنجاستين المترتبتين ، بل لأحكامهما التكليفية العملية ، كوجوب الاجتناب ، وترتب موضوعي التكليفين لا يوجب الترتب بينهما ، بعد عدم كون أحدهما موضوعا للآخر ، لما تقدم من أن المترتب على أمر مقارن لشيء لا يكون مترتبا على ذلك الشيء.

على أنه لو فرض الترتب بين الحكمين فلا يتضح مرجحيته في التنجيز بعد عدم الترتب بينهما زمانا لا بنفسيهما ولا بلحاظ العلم الإجمالي بهما.

نعم ، لو كان الترتب موجبا للترتب في الاصول الجارية في الأطراف كان له الدخل في التنجيز ، بناء على أن المعيار فيه تعارض الاصول وتساقطها ، كما تقدم.

لكنه خارج عن محل الكلام.

وأما الثانية : فظاهر المحقق الخراساني قدّس سرّه فيها اختصاص المنجزية بالعلم الثاني ، لأنه أسبق حدوثا ، فينجز أطرافه ، ويمنع من منجزية العلم الثالث والأول المتأخرين عنه حدوثا ، وتابعة على ذلك غير واحد.

٣٠٨

وربما يقال (١) : إن العبرة في مرجحية أحد العالمين المتداخلين في المنجزية ، والمانعية من منجزية الآخر هو سبق معلومه زمانا ، والمفروض عدم ذلك في المقام ، ولا أثر لسبق حدوث العلم بنفسه ، لأن العلم اللاحق بالمعلوم السابق يوجب انقلاب العلم السابق وتبدله بالعلم الكبير ، وهو العلم الأول ، فيتعين منجزيته ولزوم إحراز الفراغ عنه باجتناب تمام الأطراف.

لكن لا يخفى أن انقلاب العلم السابق إنما يوجب ارتفاع منجزيته إذا رجع إلى ارتفاعه ، كما لو قطع المكلّف بنجاسة أحد إناءين ، ثم تردد في النجاسة بينهما وبين إناء ثالث ، أما إذا رجع إلى زيادة المعلوم ، كما لو علم بنجاسة أحد اناءين ثم علم بنجاسة إناء ثالث معه فلا وجه لارتفاع منجزيته ، ومن الظاهر أن انقلاب العلم المدعى في المقام من الثاني ، فهو لا يوجب سقوط العلم الثاني عن المنجزية.

وإنما الإشكال في أن تنجيزه لطرفيه هل يمنع من منجزية العلم الثالث الحاصل حين العلم بالملاقاة ، لاشتراكه معه في بعض الأطراف ، أو لا؟

ومن الظاهر أن الكلام لا يختص بالمقام ، بل يجري في كل علمين إجماليين بينهما عموم من وجه ، تأخر أحدهما عن الآخر حدوثا ، وقارنه معلوما ، فهل يكون تأخر العلم المذكور مستلزما لعدم تنجيزه ، لتنجز بعض أطرافه بالعلم السابق ، الموجب لعدم العلم بالتكليف الذي يترتب عليه العمل على كل حال ، أو لا؟ بل يكون سبق معلومه وصلوحه لأن يترتب عليه العمل حينئذ كافيا في منجزية العلم به وإن كان حدوث العلم متأخرا؟

لا يبعد الثاني ، لأن المنجز وإن كان هو العلم ، إلا أن منجزيته باعتبار

__________________

(١) ذكر ذلك بعض مشايخنا. ثم بعد ذلك ظهر عدوله عنه وجوابه عنه بما ذكرناه في الجواب عنه.

(منه. عفي عنه).

٣٠٩

معلومه ، فاذا كان المعلوم من شأنه التنجز تنجز مطلقا ، وإن كان العلم به متأخرا.

وحيث فرض أن كلّا من المعلومين يتنجز على ما هو عليه ولا يصلح كل منهما لأن يتقدم على الآخر تعين تنجزهما معا ، وتأخر العلم بأحدهما لا أثر له

وبعبارة اخرى : حدوث العلم الإجمالي لا يقتضي تنجز المعلوم مطلقا ، بل في خصوص ان حدوثه ، وليس المنجز في كل ان لاحق إلّا بقاء العلم فيه ، ففي ان حدوث العلم اللاحق واجتماع العالمين لا وجه لاختصاص التنجيز بالعلم الأسبق حدوثا بعد عدم المرجح لأحد المعلومين ، إذ ليس العلم السابق باستمراره إلا كالعلم اللاحق بحدوثه فيشتركان في التنجيز في زمان اجتماعهما ، وسبق الأول إنما يقتضي انفراده بالتنجيز في زمان انفراده لا غير.

ومنه يظهر اندفاع ما في بعض كلماتهم من أن التكليف إنما يتنجز بوجوده العلمي المفروض تأخره في المقام ، لا بوجوده الواقعي المفروض مقارنته لوجود التكليف الآخر.

وجه الاندفاع : أن التأخر إنما يوجب قصور العلم عن التنجيز في الزمان السابق ، أما الزمان اللاحق فلا مرجح للعلم السابق فيه بعد كون تنجيز العلم فيه باستمراره المقارن لحدوث العلم المتأخر لا بحدوثه المتقدم عليه. فتأمل جيدا.

إن قلت : تقدم في التنبيه الرابع أنه لو حصل المانع من منجزية العلم الإجمالي في بعض الأطراف ، ثم علم إجمالا بحدوث التكليف بينها قبل حدوث المانع اتجه عدم منجزية العلم الإجمالي ، فلو خرج أحد الإنائين عن ابتلاء المكلف يوم الجمعة ، وعلم يوم السبت بسبق النجاسة من يوم الخميس فيه أو في صاحبه الذي هو محل الابتلاء ، لم يكن العلم المذكور منجزا للطرف المبتلى به ، لأن المتيقن من منجزية العلم الإجمالي العلم بترتب الأثر على العلم حين حدوثه ، لا حين حدوث الأمر المعلوم ، ولازمه عدم منجزية العلم اللاحق ، لعدم العلم بترتب الأثر عليه حين حدوثه ، لاحتمال انطباق المعلوم على الطرف

٣١٠

المتنجز بالعلم السابق ، وإن كان يترتب الأثر عليه لو فرض سبقه أو مقارنته للعلم الآخر ، لعدم المرجح لأحدهما حينئذ.

قلت : ذلك يختص بما إذا كان المانع موجبا للخلل في المعلوم وعدم صلوحه للداعوية ، كعدم الابتلاء الخارجي والاضطرار ، إذ لا يعلم معه بصلوح التكليف لأن يترتب عليه العمل.

وأما في المقام فليس المانع إلا تنجز بعض الأطراف الناشئ من العلم بالتكليف ، وحيث كانت منجزية العلم في طول منجزية التكليف ، والمفروض عدم المرجح للتكليف المذكور على التكليف المعلوم بالعلم اللاحق لتقارنهما فمجرد سبق العلم به لا يوجب تعينه للمرجحية ، لما سبق.

وبعبارة اخرى : سبق العلم في أحد المعلومين لا يوجد تبدل المعلوم الآخر وعدم صلوحه لأن يترتب عليه العمل ، بل الجهة المقتضية للعمل به حين حدوثه باقية على ما هي عليه ، فيتعين تنجزهما معا في ظرف حصول العلم بكل منهما وإن تأخر أحد العالمين.

كيف! ولازم اختصاص التنجيز بالمتقدم في المقام أنه لو ارتفع العلمان بنسيان أو غفلة أو نوم ، ثم رجعا معا ، لكانا معا منجزين ، إذ لا أثر للعلم السابق بعد ارتفاعه ، بل لو فرض سبق رجوع اللاحق لاختص التنجيز به وهكذا ، ولا مجال للبناء على ذلك ارتكازا ، بل لا يظن من أحد البناء عليه.

وأما الثالثة : فيظهر الكلام فيها مما تقدم ، إذ لو كان تقدم أحد العالمين رتبة موجبا لاختصاص التنجز به ـ كما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ اختصت المنجزية بالعلم الثاني وإن كان متأخرا حدوثا ، وإن كان تقدمه حدوثا هو الموجب لذلك اختصت بالعلم الثالث ، كما هو ظاهر المحقق الخراساني قدّس سرّه وغيره ، وأما بناء على ما عرفت منا فالمتعين البناء على منجزية العالمين معا ، لفرض تقارن المعلومين.

٣١١

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن اللازم في الصور الثلاث البناء على منجزية العالمين معا واجتناب جميع الأطراف.

هذا ، ولو فرض طروء بعض موانع فعلية التكليف في بعض الأطراف ـ كالاضطرار والخروج عن الابتلاء ـ فلا ريب في جواز ارتكابه ، بل يجوز ارتكاب بقية الأطراف لو كان طروء المانع رافعا للعلم الإجمالي ـ كما لو طرأ على صاحب الملاقى أو على المتلاقيين معا ـ وكان قبل حصول العلم ، بناء على ما تقدم الكلام فيه في التنبيه الرابع.

أما لو لم يرفع العلم الإجمالي ـ كما لو اختص بأحد المتلاقيين ـ أو كان بعد حصول العلم ، فلا مجال لارتكاب بقية الأطراف ، لتنجزها بالعلم الفعلي أو السابق ، كما تقدم في التنبيه المذكور.

ولو ارتفع المانع منه بعد ذلك ـ كما لو لم يرفع المكلف اضطراره حتى فات الوقت ـ فله صور ، وملخص الكلام فيها : أن المانع إن كان مانعا من منجزية العالمين معا ـ كما لو كان في صاحب الملاقى ـ لزم تنجزهما معا بارتفاعه ، وإن كان مانعا من منجزية أحدهما فليس المنجز إلا العلم الأسبق تنجزا ، إما لعدم حصول المانع في أطرافه ، أو لسبق ارتفاعه عنها ، أو لطروء المانع بعد تنجيزه ، ولا يكون اللاحق منجزا وإن ارتفع المانع من أطرافه بعد ذلك. ولعل ذلك يتضح مما يأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

المقام الثاني : فيما لو كانت الملاقاة متأخرة عن النجاسة ، وصوره أيضا ثلاثة على النحو المتقدم في المقام الأول.

أما الأولى : فمقتضى إطلاق من تقدم منه أن المدار في اختصاص التنجيز بأحد العالمين الإجماليين سبق حدوثه هو منجزية كلا العالمين فيها ، لعدم ترجح أحدهما.

لكن الظاهر هنا منجزية العلم الثاني ، لسبق المعلوم فيه ، الموجب لتنجزه

٣١٢

بالعلم به ، لرجوعه إلى العلم بحدوث تكليف صالح للتنجيز ، وأما العلم الثالث فهو وإن كان علما بالنجاسة إجمالا ، إلا أنه لا يرجع إلى العلم بحدوث تكليف زائد على المعلوم بالعلم الثاني المفروض تنجزه ، لإمكان انطباق المعلوم بالعلم المذكور على المعلوم بالعلم الثاني ، فليس في المقام إلا العلم بحدوث التكليف الأول الموجب لانشغال الذمة به ، والشك في حدوث تكليف جديد مدفوع بالأصل.

وبعبارة اخرى : إن اريد بتنجيز العلم الثالث منجزيته لمؤداه سواء كان هو التكليف المعلوم بالعلم الثاني المنجز به أم غيره ، فلا مجال لذلك ، لاستحالة انشغال الذمة بما انشغلت به سابقا ، وإن اريد به تنجيزه لتكليف آخر غير المتنجز بالعلم الثاني ، فلا علم بحدوث التكليف المذكور ، ليكون منجزا له.

ومنه يظهر الفرق بينه وبين المقام الأول الذي فرضت فيه الملاقاة مقارنة للنجاسة الحادثة المعلومة إجمالا ، لأنه لا مجال هناك لدعوى اليقين بشيء معين والشك في ما عداه ، بل المتيقن بالإجمال مردد رأسا بين تكليف واحد في طرف واحد وتكليفين في طرفين من دون مرجح لأحد الطرفين يقتضي تميزه في طرفية العلم الإجمالي وانشغال الذمة المفروض.

وأما الثانية : فلا يتنجز فيها إلا العلم الثاني قطعا ، لأنه الأسبق حدوثا ومعلوما ورتبة ، فيتعين للتنجيز على جميع مباني المسألة المتقدمة.

ولا يبعد كون ذلك هو مورد ما نسب للمشهور من عدم وجوب اجتناب الملاقي لأحد المشتبهين.

بل المتيقن من محل كلامهم ما إذا وردت الملاقاة على المشتبه بما هو مشتبه بنحو تكون متأخرة عن العلم الإجمالي بالنجاسة الموجب لصدق عنوان المشتبه على الملاقى ، ولا يكفي تأخرها عن النجاسة ثبوتا فقط.

وأما الثالثة : فلا يتنجز فيها إلا العلم الثاني أيضا ، بناء على ما تقدم في

٣١٣

الصورة الثانية من المقام الأول ، والاولى من الثاني ، من أنه لا أثر لسبق حدوث العلم في التنجز ، بل لسبق المعلوم ، فإن العلم الثالث وإن كان أسبق حدوثا ، إلا أنه بحدوث العلم الثاني قد تبدل إلى الشك البدوي بحدوث تكليف زائد على التكليف المعلوم بالعلم الثاني المنجز به.

وإن شئت قلت : قبل حصول العلم الثاني كان المعلوم بالعم الثالث هو التكليف المردد بين الملاقي وصاحب الملاقى ، أما بعده فقد انكشف سبق حدوث التكليف بالملاقى أو صاحبه وانشغال الذمة به ، وانقلب العلم الثالث بسببه إلى الشك في حدوث تكليف زائد على ذلك بالملاقاة ، فإن العلم بوجود التكليف بين الملاقي وصاحب الملاقى وإن لم يرتفع ، إلا أنه خرج عن كونه علما بتكليف مستقل صالح للتنجز ، بل هو تكليف مردد بين ما انشغلت به الذمة سابقا وتنجز بالعلم الثاني ، غير الصالح لأن تنشغل به الذمة بعد ذلك ، وتكليف آخر مشكوك الحدوث ، ومع ذلك لا مجال لمنجزية العلم المذكور.

وقد تقدم في الصورة الثانية من المقام الأول ما له نفع في المقام. فراجع.

وقد تحصل أن اللازم في الصور الثلاث منجزية العلم الثاني لا غير ، وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

والعمدة فيه : ما هو المرتكز من مرجحية تقدم المعلوم في تنجيز العلم ، وأن التنجيز وإن كان مستندا للعلم إلا أن منجزيته بلحاظ كشفه عن الواقع المعلوم وفي تنجزه. فلاحظ.

هذا ، ولو فرض طروء بعض موانع التنجز في الملاقى أو صاحبه ـ كالاضطرار والخروج عن الابتلاء ـ

فتارة : يكون بعد حصول العلم الثاني وتنجزه.

واخرى : يكون قبله.

أما في الصورة الاولى فلا أثر له في ما تقدم ، بل يبقى الطرف الآخر منجزا

٣١٤

بمقتضى العلم المذكور ، ويبقى الملاقي مجرى للأصل ، لعدم المنجز له بعد فرض كون العلم الثالث لا يصلح لتنجيز طرفه الآخر ، إما لتنجزه بالعلم الثاني أو لطروء المانع من تنجزه.

ولو فرض ارتفاع المانع بعد ذلك رجع مورده طرفا للعمل الإجمالي ، إذ ينكشف بذلك أن طروء المانع لم يوجب خروجه عن حيز التكليف المعلوم بالإجمال مطلقا ، بل في خصوص وقت وجود المانع ، فيعلم بالتكليف في أحد الطرفين مطلقا ، وفي الآخر بعد ارتفاع المانع ، نظير العلم الإجمالي التدريجي ، الذي يجب معه الاحتياط.

ولو فرض الالتفات لارتفاع المانع حين وجوده فالأمر أظهر.

وأما في الثانية فالمتصور وجهان :

الأول : أن يكون المانع في صاحب الملاقى.

والظاهر مانعيته من منجزية العلم الثاني بالإضافة إلى الملاقى ، والثالث بالإضافة إلى الملاقي ، لعدم العلم معه بالتكليف الفعلي ، فلا مانع من الرجوع فيهما للأصل. وكذا الحال لو لم تكن نجاسة صاحب الملاقى موردا لأثر تكليفي ، كما لو كان خاتما أو كتابا أو نحوهما.

هذا ، ولو ارتفع المانع المذكور بعد ذلك كان كلا العالمين منجزا ، نظير ما تقدم في المقام الأول ، لتقارنهما معلوما ، لأن المعلوم المنجز هو التكليف الفعلي المفروض توقف العلم بحصوله على ارتفاع المانع ، لا النجاسة ، ليكون العلم الثاني هو الأسبق معلوما ، كما سيأتي نظيره.

الثاني : أن يكون المانع في الملاقى.

ولا ينبغي الإشكال في أنه يمنع من منجزية العلم الثاني ، والظاهر منجزية العلم الثالث حينئذ ، لعدم المانع من تنجيزه. فإن ارتفع بعد ذلك من الملاقى لم يجب اجتنابه ، كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ، لأن منجزية العلم الثالث قبله

٣١٥

مانعة من منجزية العلم الثاني به ، نظير ما تقدم في الصورة الثانية ، إذ يكون العلم الثالث هو الأسبق معلوما ، إذ ليس المعلوم المنجز هو حدوث النجاسة ، ليكون العلم الثاني هو الأسبق معلوما ، بل التكليف الفعلي المسبب عنهما ، وفي ظرف وجود المانع لا يرجع العلم الثاني الى العلم بالتكليف الفعلي ، بل العلم الثالث راجع إلى ذلك ، فيكون هو الأسبق معلوما ، وبعد ارتفاع المانع لا يعلم بحدوث التكليف الفعلي ، بل هو محتمل لا غير ، فلا مجال لتنجيزه.

وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من إباء الذوق عن اجتناب الملاقي دون الملاقى ، غير ظاهر بنحو يمكن الخروج به عما تقدم.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن عدم الابتلاء لا يمنع من جريان الأصل في الملاقى ، لترتب الأثر عليه في الملاقي ، حيث يقتضي طهارته ، فيعارض الأصل الجاري في صاحب الملاقى ، وبعد تساقطهما لا مجال للرجوع إلى الأصل في الملاقى بعد رجوع الابتلاء به.

لاندفاعه : بأن منشأ التعارض بين الأصلين لما كان هو العلم الإجمالي الثالث القائم بالملاقي وصاحب الملاقى فهو لا يقتضي سقوط الأصل الجاري في الملاقى رأسا ، بل سقوطه بالإضافة إلى خصوص ما يترتب عليه من العمل في الملاقي فلا مانع من الرجوع إليه في الملاقى بلحاظ العمل المتعلق به لو رجع الابتلاء به.

وأشكل منه ما ذكره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لو فرض تأخر العلم بالملاقاة عن العلم الإجمالي بالنجاسة ، كما لو لم يكن الملاقى خارجا عن الابتلاء.

لاندفاعه : بأن الملاقي طرف لعلم إجمالي لا قصور فيه ، ولا مانع من تنجيزه ، وإنما يلتزم بعدم منجزيته مع الابتلاء بالملاقى لوجود المانع منه ، وهو منجزية العلم الإجمالي الثاني ، القائم بالملاقي وبصاحبه ، فمع فرض ارتفاع

٣١٦

المانع المذكور بسبب خروج الملاقى عن الابتلاء يتعين البناء على منجزية العلم المذكور.

هذا تمام الكلام في حال العلم الإجمالي بالإضافة إلى الملاقي ، حسب ما تيسر لنا بعد النظر في كلمات مشايخنا. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.

بقى امور :

الأول : أن اشتباه حال الملاقي يكون ..

تارة : لاشتباه النجس مع العلم بالملاقى تفصيلا.

واخرى : لاشتباه الملاقى مع العلم بالنجس تفصيلا.

وثالثة : لاشتباههما معا.

وكلامهم مختص بالصورة الاولى.

وأما الصورتان الأخيرتان فلا مجال لتوهم وجوب الاجتناب عن الملاقي فيهما ، إذ لا مجال لتصوير علم إجمالي قائم بأحد الطرفين بعينه مع الملاقي ليكون بينه وبين العلم الإجمالي الآخر عموم من وجه ، وينظر في المرجحات السابقة.

وغاية ما يمكن تصويره في الصورة الثالثة هو العلم الإجمالي القائم بالملاقي وغير الملاقي من الطرفين على إجماله ، المقتضي لاجتنابهما معا مع الملاقي ، وحيث كان العلم الإجمالي الأصلي القائم بهما أخص مطلقا كان مانعا من منجزية العلم الإجمالي المذكور بلا إشكال.

نعم ، لو كان الوجه في اجتناب الملاقي في ما تقدم هو البناء على السراية بالتقريب المتقدم ، فقد يتجه وجوب الاجتناب عن الملاقي في الصورتين المذكورتين أيضا ، بل قد يتجه حينئذ الاجتناب عما يحتمل ملاقاته للنجس مطلقا ، كما أشرنا إليه هناك. فراجع وتأمل.

الثاني : لما كان منشأ اجتناب الملاقي العلم الإجمالي بالوجه المتقدم

٣١٧

فلا بد من كونه منجزا في نفسه ، لكون كلا طرفيه ـ وهما الملاقي وصاحب الملاقى ـ مما يترتب الأثر التكليفي على نجاسته ، كالثوب والماء ، فلو كانت نجاسة أحدهما غير مستتبعة للتكليف ـ كما لو كان خاتما أو كتابا ـ فلا مجال لمنجزية العلم الإجمالي المذكور بل هو نظير الخروج عن الابتلاء.

نعم ، بناء على أن منشأ اجتناب الملاقي هو البناء على السراية بالوجه المتقدم اتجه وجوب اجتناب الملاقي بمقتضى العلم الإجمالي القائم بالطرفين وإن لم يترتب الأثر التكليفي عليهما معا ، لأن عدم ترتبه عليهما لا ينافي التكليف بهما بلحاظ حكم الملاقي الذي قد يترتب عليه التكليف.

الثالث : ما ذكرناه في حكم الملاقي يجري في كل تكليف مترتب على الأمر المعلوم بالإجمال ، كالضمان المترتب على الغصب المعلوم بالإجمال ، فيتنجز إذا كان حكما تكليفيا بالوجه الذي يتنجز به الملاقي.

كما أنه يجري في الملاقي لما يتنجز حكم نجاسته إذا لم يكن المعلوم بالإجمال هو النجاسة ، بل مرددا بينها وبين غيرها ، فلو علم إجمالا بغصبية الإناء أو نجاسة الثوب جرى في ملاقي الثوب ما تقدم من الكلام.

وربما تكون هناك فروع أخرى قد يظهر حكمها مما تقدم ، لا مجال لإطالة الكلام فيها.

التنبيه الثامن : في الانحلال

ومرادنا به سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه في خصوص بعض الأطراف.

وبه يفترق عما تقدم في التنبيه الرابع من سقوط العلم الإجمالي بتنجز التكليف في بعض أطرافه ، إذ المراد هناك تنجز تكليف آخر مباين للتكليف المعلوم بالإجمال لا نفسه.

٣١٨

ثم إن تنجز التكليف المعلوم بالإجمال في خصوص بعض الأطراف ..

تارة : يكون بنحو يقتضي تعيين المعلوم بالإجمال فيه ، وخلو الأطراف الأخر عنه.

واخرى : لا يقتضي ذلك ، لتردد التكليف المعلوم بالإجمال بين الأقل والأكثر ، على ما يأتي الكلام فيه.

أما الأول فكما لو علم تنجيس الدم لثوبين من بين عشرة أثواب ، ثم عثر على الثوبين بالفحص. فإنه لا إشكال هنا في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الأطراف الأخر ، وإن احتمل ابتلاؤها بتكليف آخر غير التكليف الذي كان معلوما بالإجمال ، لارتفاعه حقيقة وتبدله بالعلم التفصيلي والشك البدوي ، لأن مرجع العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم التفصيلي المذكور.

نعم ، لو كان التنجز في بعض الأطراف بطريق تعبدي غير العلم اتجه عدم ارتفاع العلم الإجمالي حقيقة ، بل حكما ، كما لو قامت البينة في الفرض على تعيين الثوبين الملاقيين للدم ، فإن احتمال خطأ البينة مستلزم لبقاء العلم الإجمالي ، إلا أن مقتضى حجيتها الاكتفاء بمتابعتها في الفراغ عن التكليف المعلوم بالإجمال ، كما لا يخفى.

لكن هذا مختص بالامارات والطرق التعبدية ، حيث قد يكون لسانها تعيين المعلوم بالإجمال ، ولا مجال فيه في الاصول التعبدية ، لعدم النظر فيها للمعلوم بالإجمال ، لتكون صالحة لتعيينه تعبدا.

وأما الثاني فكما لو علم بنجاسة بعض من عشرة أثواب ، ثم علم بالفحص بثوبين منها ، ولم يعلم بأنها تمام المعلوم بالاجمال أو بعضه ، لتردد المتنجس بين الأقل والأكثر.

إن قلت : لا معنى لتردد المعلوم بالإجمال بين الأقل والأكثر ، لوضوح أن

٣١٩

المعلوم حينئذ خصوص الأقل ، والزائد مشكوك لا غير مدفوع بالأصل ، فيرجع إلى الوجه الأول.

قلت : هذا مسلم ، إلا أن الأقل لما لم يكن محدودا بحدود ذهنية خاصة منطبقة على المعلوم بالتفصيل ، بل مبهما مرددا بين الأطراف ، لم يصلح العلم التفصيلي لتعيين المعلوم بالإجمال ، ولذا لو فرض كون النجس في الواقع أربعة كان نسبة كل منها إلى العلم الإجمالي واحدة ، لعدم المرجح ، ولا مجال مع ذلك لتعيين المعلوم بالإجمال بالمعلوم بالتفصيل ، وهذا بخلاف الوجه الأول ، لأن المفروض فيه كون المعلوم بالإجمال محدودا بحدود ذهنية منطبقة على المعلوم بالتفصيل ، كالمتنجس بالدم مثلا.

والظاهر هنا عدم وجوب مراعاة احتمال التكليف في بقية الأطراف ، لارتفاع العلم الإجمالي حقيقة ، كما في الوجه الأول ، لما تقدم من أن مرجعه إلى قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم التفصيلي المفروض.

إن قلت : لما كان العلم الإجمالي منجزا للمعلوم بالإجمال على ما هو عليه من الابهام والترديد فلا بد من إحراز الفراغ عنه ، وهو لا يحرز بمراعاة العلم التفصيلي بعد فرض عدم إحراز التطابق بينهما ، وأن نسبة العلم الإجمالي لتمام الأفراد الواقعية واحدة لو فرض زيادتها على المعلوم بالتفصيل.

قلت : وجوب إحراز الفراغ فرع انشغال الذمة بالمعلوم بالإجمال الموقوف على بقاء العلم الإجمالي ، فمع فرض ارتفاعه لا مجال لانشغال الذمة ليجب إحراز الفراغ ، لوضوح أن بقاء انشغال الذمة مشروط ببقاء العلم ، ولا يكفي فيه حدوثه مع ارتفاعه.

وقد تقدم نظير هذا في التنبيه الرابع ، عند الكلام في طروء بعض موانع التنجيز في خصوص بعض الأطراف ، كالاضطرار ونحوه ، وذكرنا هناك أن وجه البناء على منجزية العلم الإجمالي في بقية الأطراف منحصر بالمرتكزات

٣٢٠