المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

رفع اضطراره.

ومثل ذلك يتصور في الحرج ، واختلال النظام ، والمزاحمة لتكليف آخر أهم أو مساو للتكليف المعلوم بالإجمال وغير ذلك ، مما قد لا يكون مانعا إلا من الموافقة القطعية.

وقد جعل شيخنا الأعظم قدّس سرّه خصوص الاضطرار ، وتبعه على ذلك من تأخر عنه ، ولا وجه لتخصيص الكلام به إلا محض التمثيل ، كما يظهر منه قدّس سرّه.

نعم ، قد يختص ببعض الجهات التي قد تظهر في ما يأتي من الكلام إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا ، فقد وقع الكلام بينهم في أن سقوط الموافقة القطعية هل يستتبع سقوط الموافقة الاحتمالية أيضا ، أو لا بل لا بد من التنزل إليها وتحريم المخالفة القطعية؟

صرح شيخنا الأعظم قدّس سرّه بالثاني بدعوى : أن المانع المذكور لما لم يقتض الترخيص في كلا الطرفين ، بل في أحدهما على البدل فهو لا ينافي إلا وجوب الموافقة القطعية ، ولا يصلح لرفع التكليف رأسا ، بل يقتضي التنزل إلى الموافقة الاحتمالية بامتثال التكليف المذكور من الطريق الذي رخص الشارع بامتثاله به ، وهو الأطراف الباقية بعد العمل بالترخيص البدلي.

وقد نظّر لذلك بجميع الطرق الشرعية المنصوبة لامتثال التكاليف الواقعية ، حيث يرجع جعلها إلى القناعة عن الواقع بمؤدياتها والاكتفاء في امتثاله بمتابعتها ، من دون أن يرجع جعلها إلى رفع اليد عن الواقع المعلوم إجمالا وإهماله رأسا ، وإن احتمل عدم إصابتها له.

ولا يخفى ما في التنظير ، لوضوح أن الطرق الشرعية إن كانت ناظرة للمعلوم بالإجمال وشارحة له فهي محرزة للفراغ عنه ، فتكون متابعتها موافقة قطعية له.

٢٨١

وإن لم تكن ناظرة له فحيث كانت منجزة لمؤدياتها كانت مانعة من منجزية العلم الإجمالي ، لما تقدم ويأتي في مباحث الانحلال من أنه يعتبر في منجزيته صلوحه للتأثير في جميع أطرافه ، فالشارع وإن لم يرفع اليد عن الواقع على تقدير المخالفة إلا أن الواقع لا منجز له حتى يجب امتثاله.

ولا مجال لذلك في المقام ، لوضوح أن دليل الترخيص في المقام لا نظر له للمعلوم بالإجمال ، ليصلح لشرحه وللتعبد بامتثاله.

كما أنه لا يقتضي المنع من بقية الأطراف ، ليكون هو المنجز لها لو فرض سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ، إذ المفروض أن مفاده الترخيص على البدل لا المنع على البدل ، فتنجيز بقية الأطراف موقوف على منجزية العلم الإجمالي ، فلا بد من توجيه صلوحه للمنجزية مع الترخيص المذكور.

وهو مورد الإشكال في المقام ، لما هو المعلوم من أن تنجيز العلم الإجمالي موقوف على فعلية المعلوم بالإجمال بحيث يثبت على كل حال ، ولا مجال لذلك مع الترخيص المذكور.

نعم ، لو رجع كلامه قدّس سرّه إلى تصرف الشارع في مقام الإطاعة بحيث يكتفي بالاطاعة الاحتمالية من دون تعبد بتحققها في مورد الاحتمال كفى في دفع الإشكال ، على ما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

إلا أنه قد سبق منه قدّس سرّه الإصرار على امتناع ذلك ، وأنه لا مجال للترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي إلا مع المنع عن بقيتها ، ليرجع إلى تعيين الامتثال به وإحرازها معه اللازم بحكم العقل ، كما هو الحال في جعل الطرق الشرعية ، الذي جعله نظيرا للمقام ، وعرفت ما فيه.

كما أن ظاهر غيره المفروغية عن ذلك ، لأن وجوب الموافقة القطعية من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص.

ومن ثمّ ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه أن الترخيص بالنحو المذكور مناف

٢٨٢

للتكليف المعلوم بالإجمال ، المقتضي لاجتناب متعلقه على كل حال ، فلا بد من ارتفاع التكليف المذكور حين الترخيص المذكور.

نعم ، بعد العمل بمقتضى الترخيص ، وارتكاب بعض الأطراف ، وسقوط دليل الترخيص بذلك ، يحتمل كون الطرف الباقي هو الحرام.

لكن لا منجز للاحتمال المذكور بعد ارتفاع العلم الإجمالي ، بل يتعين الرجوع فيه للأصل الترخيصي.

وقد تصدى غير واحد لدفع ذلك وتوجيه منجزية العلم الإجمالي في المقام ، والمتحصل من كلماتهم وجوه ..

الأول : ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الاضطرار ونحوه وإن كان مقتضيا للترخيص ، إلا أنه لا يقتضي ارتفاع التكليف الواقعي رأسا ، ليكون كلا الطرفين حلالا لا موضوع معه للاحتياط ، بل يقتضي الاقتصار في تقييد التكليف الواقعي الذي يقتضيه الاضطرار.

وتوضيحه : أن الاضطرار حيث لا يقتضي الترخيص في كل طرف بخصوصه ، بل يقتضي الترخيص في بعضها لا غير بنحو البدلية ، فهو لا يقتضي رفع التكليف الواقعي القائم بأحد الأطراف رأسا ، بل يقتضي تقييده بما إذا لم يرتكب غيره من الأطراف ، فأي منها كان موردا للتكليف الواقعي فالتكليف به مشروط بذلك ، ولا يرتفع التكليف عنه إلا إذا لم يرتكب غيره ، أما إذا ارتكب غيره فحيث كان ذلك الغير كافيا في تحقق مقتضى الترخيص فلا ملزم برفع التكليف عن مورده. فاذا ارتكب جميع الأطراف فقد خالف التكليف الواقعي الفعلي قطعا ، حيث ارتكب الحرام الواقعي مع ارتكاب غيره الذي هو شرط في فعلية التكليف به.

وفيه : أن التكليف الإجمالي القائم ببعض الأطراف المعين في نفسه إنما يكون فعليا في ظرف ارتكاب غيره إذا كان ارتكاب الغير هو الرافع للاضطرار ،

٢٨٣

أما إذا كان الرافع للاضطرار هو الطرف الذي هو مورد للتكليف الإجمالي ، فالتكليف فيه لا يكون فعليا سواء ارتكب غيره بعد ذلك أم لا ، فمن اضطر لشرب أحد الإنائين المعلوم بنجاسة أحدهما ، فشرب النجس الواقعي أولا ، ورفع اضطراره به كان حلالا له وإن شرب غيره بعد ذلك ، وحينئذ فالعلم بفعلية التكليف موقوف على العلم برفع الاضطرار بغير الحرام ، والمفروض عدم حصول العلم المذكور.

نعم ، ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه أن ذلك إنما يقتضي جواز ارتكاب جميع الأطراف تدريجا ، أما ارتكابها دفعة فلا مجال له ، للعلم معه برفع الاضطرار بغير مورد التكليف ، الملازم لفعلية التكليف في مورده المانعة من مخالفته.

ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية ، كالدوران بين القصر والتمام ، لأن مخالفة احتمال التكليف في جميع أطرافها دفعية ، إلا أن يكون العلم الإجمالي تدريجيا ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد يوم الجمعة أو عمرو يوم السبت واضطر لترك أحدهما.

لكن يشكل ما ذكره قدّس سرّه : بأن التكليف قبل رفع الاضطرار إن كان فعليا وقد انشغلت به الذمة وجب إحراز الفراغ عنه وامتنع رفع الاضطرار ، وإن لم يكن فعليا لم يجب الفراغ عنه.

فالتحقيق : أنه بعد فرض أن الاضطرار ونحوه في المقام من قيود نفس التكليف لمنافاته له يتعين البناء على ارتفاع التكليف ما دام الاضطرار موجودا ، لوضوح التنافي بين التكليف بأحد الطرفين المعين في نفسه مع الترخيص في مخالفته ورفع الاضطرار به ، ومن الظاهر أن الترخيص المذكور مستمر إلى آخر أزمنة ارتفاع الاضطرار حتى مع المخالفة في جميع الأطراف دفعة واحدة.

نعم ، بعد سقوط الترخيص المذكور والعمل بمقتضاه في رفع الاضطرار ونحوه يتعين رجوع التكليف لو فرض بقاء موضوعه ، إلا أنه غير معلوم في

٢٨٤

المقام مع الارتكاب التدريجي ، ومعلوم العدم مع الارتكاب الدفعي ، فلا منجز للتكليف حتى يجب الفراغ عنه بالاحتياط.

الثاني : ما في كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه ونسب إليه الجزم به من أن العنوان الموجب للترخيص ـ كالاضطرار ـ لما لم ينطبق على مورد التكليف الإجمالي بخصوصه لم يكن صالحا لرفعه ، فالحرام غير مضطر إليه في المقام حتى ترتفع حرمته ، ومجرد الاضطرار للجامع بينه وبين الحلال لا يوجب رفع التكليف عنه ، ولذا لا يكون الاضطرار بالنحو المذكور للتكليف عنه مع العلم به تفصيلا ، فالاضطرار في المقام لا يرفع التكليف الواقعي ، كما لا يمنع من منجزية العلم الإجمالي ، وغاية ما يقتضيه جواز رفعه بأحد الأطراف وإن صادف الحرام الواقعي ، ولا وجه لجواز ارتكاب غيره بعد كونه طرفا للعلم الإجمالي المنجز.

وفيه .. أولا : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من أنه لو تم عدم صلوح الاضطرار المذكور لرفع التكليف الواقعي لم يجز رفعه في المقام بأحد الأطراف ، لامتناع الترخيص في مخالفة التكليف الواقعي الفعلي.

بل عليه يمتنع ارتفاع التكليف لو كان لكل من الخصوصيتين دخل في التكليف ، كما لو اضطر إلى أكل الميتة أو الدم لعدم الاضطرار إلى كل منهما بخصوصيته ليرتفع التكليف به ، وليس الجامع بينهما موضوعا للتكليف ، ليرتفع بالاضطرار إليه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن ما يختاره المكلف يكون مصداقا للمضطر إليه فيرتفع التكليف به حين اختياره ، لا حين حدوث الاضطرار للجامع.

فهو كما ترى! لوضوح أنه لا دخل لاختيار المكلف في تغيير نحو الاضطرار ، فالاضطرار للجامع لا ينقلب اضطرارا للفرد بخصوصيته بمجرد اختياره.

وثانيا : أن ما ذكره وإن كان هو مقتضى الجمود على لسان دليل الاضطرار ،

٢٨٥

لأن مقتضى قوله صلّى الله عليه وآله : «رفع عن امتي ... ما اضطروا إليه» (١) ، وقوله عليه السّلام : «ليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحله الله لمن اضطر إليه» (٢) ، هو ارتفاع حكم المضطر إليه ، والمفروض في المقام عدم الاضطرار لمورد التكليف ، إلا أنه لا مجال له في مثل دليل العسر والحرج ، لأن ظاهره رفع الحكم الموجب لهما ، ومن الظاهر أن التكليف في المقام بسبب اشتباه مورده المستلزم للاحتياط عقلا موجب للعسر وإن كان لا يوجبه لو فرض العلم التفصيلي ، حيث لا يقتضي إلا موافقته في مورده والمفروض عدم لزوم العسر منها.

وكذا الحال في مثل المزاحمة للتكليف الأهم ، لأن التكليف المهم بسبب تردد متعلقه المقتضي للاحتياط يكون بنفسه مزاحما للأهم ، فيسقط وإن كان لا يزاحمه لو علم به تفصيلا. بل لما كان المستفاد من دليل الاضطرار اهتمام الشارع بسد ضرورة المكلف ورفع اضطراره كان الاضطرار في المقام منافيا للتكليف وإن لم ينطبق عنوان الاضطرار على مورده.

كيف! ومن الظاهر أن العسر ليس أهم من الاضطرار.

ومما ذكرنا يظهر الفرق بين المقام وما إذا كان مورد التكليف معلوما بالتفصيل ، لأن الاضطرار في المقامين وان كان إلى الجامع بين الحلال والحرام ، لا إلى الحرام بخصوصه ، إلا أن التكليف لما كان يقتضي الموافقة القطعية عقلا ، فالاضطرار إن كان منافيا لها كان منافيا للتكليف عملا ، فيقتضي رفعه ، وإلا فلا وجه لرفعه له ، لعدم التنافي بينهما ، ومن الواضح الفرق في ذلك بين صورتي العلم التفصيلي والإجمالي.

ومنه يظهر الوجه في إعماله بالإضافة إلى أحد التكليفين لو كان لكل من

__________________

(١) تقدم في أدلة البراءة ص : ٣٥.

(٢) الوسائل ، ج : ١٦ باب : ١٢ من كتاب الايمان ، ح : ١٨.

٢٨٦

الخصوصيتين دخل في التكليف بها ، كما لو اضطر إلى الميتة أو الدم ، فإنه لما كان الاضطرار منافيا للعمل بأحد التكليفين لا غير تعين رفع اليد عن أحدهما فقط تخييرا ، ورجع ذلك إلى تقييد كل منهما بما إذا لم يعمل على طبق الآخر ، كما في تزاحم التكليفين. فتأمل جيدا.

الثالث : ما في كلامه أيضا ونسب إليه أيضا الجزم به ، واختاره غير واحد من تلامذته ، وهو يبتني على ما تقدم في الوجه السابق من عدم صلوح الاضطرار لرفع التكليف ، إلا أنه يفترق عنه بأن ما يختاره المكلف لرفع الاضطرار لا يكون مرخصا فيه واقعا ـ كما في الوجه المذكور ـ بل حيث يشك في انطباق التكليف عليه يكون مرخصا فيه ظاهرا مع بقاء التكليف الواقعي على ما هو عليه ، لفرض عدم صلوح الاضطرار لرفعه.

وفيه : ـ مع ما تقدم من الإشكال في المبنى المذكور ـ أنه لا مجال للبناء على الترخيص الظاهري في المقام بعد كون الاضطرار معلوما وكونه موجبا للترخيص الواقعي ، وليس كالشك موجبا للترخيص الظاهري.

وحينئذ إن فرض صلوحه لرفع التكليف في المقام لزم البناء على الرفع والترخيص الواقعي ، وإلا لزم البناء على بقاء التكليف الواقعي على كل تقدير المستلزم لعدم جواز رفع الاضطرار ، لما تقدم.

وأما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن العلة الموجبة للترخيص لما كانت هي الجهل بمورد التكليف لا الاضطرار ، ولذا لو علم بمورد التكليف تفصيلا تعين رفع الاضطرار بغيره ، كان الترخيص في المقام ظاهريا لا واقعيا.

ففيه : ـ مع ما تقدم في الوجه السابق ـ أن الجهل إنما يوجب الترخيص الظاهري إذا رجع إلى الجهل موضوع التكليف الواقعي أو ببعض حدوده وقيوده ، المستلزم للجهل بالتكليف نفسه ، كما لو جهل بأصل الاضطرار لمورد التكليف وكان مقتضى الأصل تحققه مثلا ، أو جهل مورده مع العلم بوجوده ، كما

٢٨٧

لو اشتبه ماء الرمان بماء العنب واضطر المكلف لشرب ماء الرمان وقامت البينة ـ مثلا ـ على تعيينه بينهما ، أما في المقام فحيث فرض العلم بالتكليف بأحد الأطراف بخصوصه ، وفرض العلم بعدم صلوح الاضطرار الى الجامع لرفعه ، فلا معنى للترخيص الظاهري.

غاية الأمر أن المكلف يحتمل كون ما يختاره هو الحلال الواقعي مع قطع النظر عن الاضطرار.

لكن المفروض أن هذا الاحتمال لا أثر له مع العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، ولا يكون مصححا لجريان الأصل الترخيصي في الطرف المذكور.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما من أنه بناء على عدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لا يكون الترخيص الناشئ من الاضطرار منافيا للتكليف المعلوم بالإجمال ، يكون ترخيصا ظاهريا ، كسائر الأحكام الظاهرية غير المنافية للأحكام الواقعية.

وغاية ما يلزم رفع اليد به عن وجوب الموافقة القطعية لا غير ، كما هو الحال فيما لو اختص بعض الأطراف بأصل ترخيصي.

وجه الإشكال : أن الاضطرار لا يقتضي الترخيص الظاهري ، بل الواقعي ، فلا وجه لقياس المقام بمسألة اختلاف الأحكام الواقعية والظاهرية.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أنه بناء على ما يظهر منهم من المفروغية عن عدم جواز الترخيص الشرعي في ترك الموافقة القطعية لوجوبها عقلا فلا ينهض شيء مما تقدم بدفع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من منافاة الترخيص الناشئ ، من الاضطرار ، للتكليف المعلوم بالإجمال ، المستلزم لارتفاعه قبل رفع الاضطرار وجواز رفع الاضطرار بجميع الأطراف دفعة فضلا عن ارتكابها تدريجا.

غايته أنه مع الارتكاب التدريجي يحتمل حدوث التكليف بعد ارتكاب

٢٨٨

الطرف الأول وفعليته بعد رفع الاضطرار به ، وهو مدفوع بالأصل.

نعم ، لازم ذلك أنه لو دار الأمر بين رفع الاضطرار بأطراف المعلوم بالإجمال ورفعه بما يعلم التكليف به تفصيلا كان المكلف مخيرا بينهما ، فلو علم المكلف بنجاسة أحد إناءين إجمالا ، وبنجاسة ثالث تفصيلا ، واضطر لشرب أحدها ، فكما يجوز له رفع اضطراره بأحد المشتبهين يجوز رفعه بالثالث ، لعدم الفرق بين التكليفين في المنافاة للترخيص الناشئ من قبل الاضطرار ، المستلزم لرفع أحدهما تخييرا ، كما لو اضطر لأحد الإنائين النجسين ، وهو مما تأباه المرتكزات العقلائية جدا ، ولا يظن من أحد الالتزام به.

بل يلزم في كثير من الفروع ما يصعب الالتزام به جدا ، مثلا لو دار الأمر بين القصر والتمام ، وضاق الوقت عن الجمع بينهما يجوز ترك المبادرة إلى كل منهما وانتظار خروج الوقت ، لتعذر الموافقة القطعية بالإضافة إلى الأمر الأدائي ، إلى غير ذلك.

ومن ثمّ كان الأمر في غاية الإشكال.

لكن الإشكال مختص بما إذا قيل بامتناع ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية والتنزل للموافقة الاحتمالية.

أما بناء على ما تقدم منا في صدر الكلام في هذا الفصل من إمكان ذلك فلا مورد للإشكال المذكور ، إذ الترخيص حينئذ في ارتكاب بعض الأطراف بنحو البدل لا ينافي التكليف ، كي يمنع من بقائه وتنجزه بالعلم ، وإنما ينافي وجوب موافقته القطعية لا غير ، فلا يقتضي إلا رفعها شرعا مع بقاء التكليف بحاله ، وإن لم يعاقب عليه على تقدير رفع الاضطرار به عملا بمقتضى الترخيص.

فالترخيص الناشئ من قبل الاضطرار واقعي لا ظاهري ، إلا أنه ليس ترخيصا في مورد التكليف بخصوصه ، ليكون منافيا له مستلزما لرفعه ، بل في

٢٨٩

ترك موافقته القطعية مع بقائه بنحو يقتضي الموافقة الاحتمالية في الطرف الآخر.

نعم ، بعد رفع الاضطرار يحتمل سقوط التكليف لارتفاع موضوعه بعد ثبوته وتنجيزه ، وهو يقتضي الاحتياط.

إن قلت : مقتضى أدلة الرفع سقوط التكليف الواقعي وحلية الفعل واقعا ، لا بقاؤه على الحرمة مع جواز مخالفته الاحتمالية وعدم العقاب عليها لا غير.

قلت : لا ملزم بذلك ، بل ظاهر الأدلة عدم جعل الأحكام الشرعية بنحو تستلزم الضرر والحرج وتنافي الاضطرار ونحوه ، فهي لا تقتضي إلا اهتمام الشارع الأقدس برفع الامور المذكورة وترخيصه في التخلص منها ، وهو كما يكون برفع التكليف رأسا ـ كما في الاضطرار إلى المعين ـ يكون برفع وجوب موافقته القطعية والاكتفاء بموافقته الاحتمالية في مثل المقام ، لأنه نحو من التصرف الشرعي المحقق للغرض.

نعم ، الجمود على لسان دليل الاضطرار ونحوه قد يقتضي ذلك ، لتضمنه تحليل الفعل المضطر إليه واقعا المنافي لحرمته.

إلا أنه لا ينفع في المقام الذي فرض فيه الاضطرار للجامع لا لمورد التكليف بخصوصه ، ولا مجال لتعميمه له إلا بضميمة أن المستفاد منه اهتمام الشارع برفع الاضطرار على كل حال ، كما تقدم في مناقشة الوجه الثاني ، ويكفي في ذلك رفع وجوب الموافقة القطعية في المقام.

هذا ، في الروافع الشرعية كالحرج والضرر ، وأما العقلية كالتعذر ، والمزاحمة لتكليف أهم فهي كذلك ، لما أشرنا إليه في صدر الكلام في هذا الفصل من أن وجوب الموافقة القطعية عقلا حكم طريقي في طول وجوب الإطاعة الواقعية ، فتعذرها لا يقتضي بحكم العقل إلا سقوطها واكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية ، لا سقوط أصل وجوب الإطاعة المساوق لسقوط التكليف

٢٩٠

رأسا ، بل مقتضى إطلاق دليل التكليف ثبوته.

وكأن هذا هو مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، وهو الذي ارتكز في ذهن غيره ممن تقدم ، إلا أنه لما لم يلائم مبانيهم اضطربت كلماتهم في المقام ، ولم تنهض بتوجيه مرادهم.

بقي في المقام أمران :

الأول : أنه لا فرق في وجوب الاحتياط مع الاضطرار إلى غير المعين بين سبق الاضطرار على التكليف المعلوم بالاجمال أو على العلم الإجمالي نفسه ولحوقه لهما ، لأن الترخيص الناشئ من الاضطرار لما لم يناف التكليف فهو لا يمنع من تنجزه بالعلم وإن كان الاضطرار سابقا ، فيجب لأجله الاحتياط في بقية الأطراف.

كما أنه بناء على عدم وجوب الاحتياط لا يفرق أيضا بين الصور المذكورة ، لابتنائه على منافاة الترخيص المذكور للتكليف ورفعه له ، ولا فرق بين سبق الاضطرار ولحوقه في كونه موجبا للترخيص المذكور.

غايته أن سبقه مانع من حدوث التكليف ولحوقه رافع له بعد ثبوته وتنجيزه ، ولا أثر لذلك في وجوب الاحتياط ، إذ ليس المحتمل بعد رفع الاضطرار إلا رجوع التكليف بعد ارتفاعه ، ولا إشكال في كونه مجرى البراءة.

الثاني : تقدم في صدر هذا الفصل أن للتكليف مراحل ثلاثا مترتبة في نفسها : جعله ، وتنجزه ، ووجوب إطاعته.

ومرجع القول بعدم وجوب الاحتياط إلى كون الاضطرار مانعا من جعل التكليف ، فلا يبقى موضوع لتنجزه وإطاعته.

أما القول بوجوب الاحتياط فهو يرجع إلى نحو من التصرف في بعض هذه المراحل حسب اختلاف الوجوه المتقدمة.

فمقتضى الوجهين الأولين كون الاضطرار موجبا لثبوت التكليف في

٢٩١

حال دون حال ، لا في جميع الأحوال ، وهو المعبر عنه بالتوسط في التكليف ، غايته أنه على الوجه الأول يكون التوسط في التكليف من حين حدوث الاضطرار المقتضي للترخيص ، أما على الوجه الثاني فالتوسط إنما يكون حين رفع الاضطرار والعمل بمقتضى الترخيص ، مع كون التكليف قبله ثابتا مطلقا وفي جميع الأحوال.

أما على الوجه الثالث فلا توسط في التكليف ، بل هو ثابت على كل حال ، والتوسط إنما هو في تنجيزه ، حيث يكون الترخيص عليه ظاهريا مانعا من تنجز التكليف الواقعي في ظرف رفع الاضطرار به ، لا من ثبوته واقعا.

وأما على ما ذكرنا فلا توسط لا في التكليف ولا في التنجيز ، بل في وجوب الإطاعة ، حيث تجب الإطاعة الاحتمالية دون القطعية. والله سبحانه وتعالى العالم وهو ولي التوفيق والتسديد.

التنبيه السابع في ملاقي بعض الأطراف

لزوم مراعاة احتمال التكليف ..

تارة : يكون راجعا إلى إحرازه تبعا للتعبد بموضوعه.

واخرى : يكون لمحض وجوب الاحتياط شرعا أو عقلا لتنجز التكليف معه.

ففي الأول تترتب جميع آثار الموضوع مع إطلاق دليل التعبد به ، كما قد يقال في البلل المشتبه قبل الاستبراء ، لأن المستفاد من أدلة الاستبراء أن وجوب التطهر بدونه مبني على التعبد شرعا بكون الخارج منيا أو بولا ، فتترتب جميع آثارهما ، لا خصوص التطهر الذي تضمنته النصوص.

نعم ، لو فرض عدم إطلاق دليل التعبد واختصاصه ببعض الآثار تعين عدم التعدي لغيرها ، إذا لا مانع من التفكيك بين الآثار في التعبد بالموضوع ،

٢٩٢

نظير ما في بعض النصوص من أن المقر بالسرقة مرة واحدة لا يقطع (١) ، مع أنه يضمن المال إلزاما له بإقراره.

أما في الثاني فلا مجال لترتيب الآثار الأخر ، لعدم إحراز موضوعها.

وعليه يبتني ما لعله المشهور بينهم من عدم نجاسة ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة وعدم وجوب الاجتناب عنه ، لأن نجاسة الملاقي من آثار نجاسة ملاقيه ، وهو غير ثابت بالعلم الإجمالي ، وإن وجب اجتنابه احتياطا بحكم العقل ، بل مقتضى استصحاب طهارة الملاقى الحكم بطهارة الملاقي.

ومما ذكرنا يظهر حال ما عن الحدائق ، حيث تعجب من حكمهم بعدم النجاسة في ما نحن فيه وحكمهم بها في البلل ، مع كون كل منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.

هذا ، وقد أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره ممن تأخر عنه في بيان مباني الكلام في ذلك ، وينبغي التعرض لذلك في ضمن امور ..

الأول : قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وهل يحكم بتنجس ملاقيه؟ وجهان ، بل قولان مبنيان على أن تنجس الملاقي إنما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ، بناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ، ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(٢) ويدل عليه أيضا ما في بعض الأخبار من استدلاله على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة بأن الله حرم الميتة (٣) ، فإذا حكم الشارع بوجوب

__________________

(١) راجع الوسائل ، ج : ١٨ باب : ٣ من أبواب حد السرقة.

(٢) سورة المدثر : ٥.

(٣) وهو خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام : «أتاه رجل فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ قال : فقال أبو جعفر عليه السّلام : لا تأكله ، فقال له الرجل : الفارة أهون عليّ من أن أترك.

٢٩٣

هجر كل واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر ما لاقاه ، وهذا معنى ما استدل به العلامة قدّس سرّه في المنتهى على ذلك بأن الشارع أعطاهما حكم النجس ، وإلا فلم يقل أحد إن كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.

أو أن الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين وتنجس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات ، نظير وجوب الحد للخمر ، فإذا شك في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة وأصل الاباحة. والاقوى هو الثاني ...».

هذا ، ولا يخفى أن البناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه إن رجع إلى ظهور دليل الاجتناب في كونه كناية عن الانفعال ، نظير ظهور بعض النصوص الناهية عن إدخال اليد النجسة في الإناء في تنجسه بها ـ كما لعله المناسب لما نقله عن الغنية من الاستدلال ـ فهو لا ينفع في المقام ، ضرورة أن وجوب الاجتناب عن الأطراف ـ مع عدم كونه مستفادا من خطاب شرعي لفظي ، بل هو ثابت بحكم العقل ـ ليس كناية عن نجاسة الملاقى فضلا عن الملاقي ، بل للاحتياط ، ولذا يختص بما يصلح للتكليف ، كالماء الذي يحرم شربه إذا كان نجسا ، والثوب الذي تمتنع الصلاة به إذا كان كذلك ، دون مثل القلنسوة والخاتم.

وإن رجع إلى دعوى : أن تحريم الشيء يستلزم تحريم ملاقيه عقلا أو عرفا أو شرعا ، كما لعله المناسب لوجه الاستدلال بالحديث المشار إليه.

فهو ـ مع عدم صلوحه لإثبات النجاسة ، بل لوجوب الاجتناب لا غير ـ لا ينفع أيضا ، لأن الملزوم هو وجوب الاجتناب الشرعي الواقعي ـ كما في الميتة ـ

__________________

طعامي من أجلها. فقال له أبو جعفر عليه السّلام : إنك لم تستخف بالفارة ، وإنما استخففت بدينك ، إن الله حرم الميتة من كل شيء» الوسائل ج : ١ باب : ٥ من أبواب الماء المضاف ح : ٢.

٢٩٤

لا العقلي الظاهري ، كما في المقام.

وكذا الحال لو رجع إلى دعوى : ملازمة وجوب الاجتناب عن الشيء أو نجاسته لنجاسة ملاقيه ، لعين ما ذكر.

وكأن ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في فوائده وحاشيته على الرسائل راجع إلى بعض ما ذكرنا. فراجع.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في قوله قدّس سرّه : «فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين» وفي ما حكاه عن المنتهى من أن الشارع أعطاهما حكم النجس.

بل ما يظهر منه قدّس سرّه في صدر كلامه من وجود القول بتنجس الملاقي بعيد جدا ، فإن العلم الإجمالي لا يقتضي نجاسة الملاقى فضلا عن الملاقي ، بل غاية ما يدعى في المقام هو وجوب الاحتياط باجتناب الملاقي كالملاقى من دون تعبد بنجاسته ، وإن كان لا يبعد عموم ذلك لملاقي الملاقي وإن تعدد الوسائط ، لعين ما يذكر فيه مما تقدم ويأتي إن شاء الله تعالى.

نعم ، لو أمكن دعوى : أن امتثال الاجتناب عن الملاقى لا يكون إلا باجتناب ملاقيه ، نظير إكرام زيد الذي لا يكون إلا باكرام ولده ، فيكون اجتناب الملاقي محققا لامتثال التكليف بالملاقى ، اتجه البناء على وجوبه في المقام ، فإنه وإن لم يعلم بنجاسته ولا بملاقاته للنجس ، إلا أن احتمال ذلك كاف في لزومه بمقتضى الإطاعة اليقينية للمعلوم بالإجمال ، الذي يحتمل انطباقه على الملاقى الذي لا يتحقق الفراغ عنه إلا باجتناب الملاقي.

إلا أن ذلك ـ مع كونه بعيدا عن كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه جدا ـ مما لا يظن من أحد الالتزام به ، لوضوح أن لملاقي النجس تكليفا مباينا لتكليف الملاقى ، له إطاعته ومعصيته ، فلا بد من تنجزه بنفسه بعلم ونحوه ، ولا يكفى تنجز الملاقى في تنجيزه. على أنه لا يبعد كون مقتضى أصالة عدم ملاقاة النجس الواقعي

٢٩٥

للملاقي عدم توقف اطاعته على اجتنابه ، لو لا ذلك لزم البناء على اجتناب ما يحتمل ملاقاته للنجس.

ومجرد الفرق بين ما نحن فيه وبينه بعدم العلم بتحقق الملاقاة فيه بخلاف ما نحن فيه حيث يعلم بتحققها ـ ليس فارقا بعد كون المعلوم في ما نحن فيه مطلق الملاقاة لا ملاقاة النجس. فتأمل.

الأمر الثاني : المتصور بدوا في تنجس الملاقي وجهان :

الأول : أن يكون من باب السراية والانبساط في نجاسة الملاقى ، بمعنى أن نجاسة الملاقى بنفسها تتسع بنحو تشمل الملاقي وتعرض عليه ، نظير الحرارة الشديدة في الماء التي تسري إلى ما يختلط به.

الثاني : أن يكون من باب التسبيب بحيث تكون للملاقي نجاسة اخرى غير نجاسة الملاقي ناشئة منها ومسببة عنها شرعا.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من فرض وجه ثالث ، وهو محض التعبد من دون تسبيب ولا سراية ، بأن يكون الملاقي موضوعا مستقلا في عرض الملاقى قد حكم الشارع عليه بالنجاسة بشرط الملاقاة.

فالظاهر رجوعه إلى الثاني ، إذ لا يراد بالتسبيب إلا السببية الشرعية الراجعة إلى موضوعية الملاقاة للنجاسة.

إلا أن يفرق بينهما بابتناء الثاني على مقايسة الانفعال الشرعي في المقام بالانفعال العرفي في القذارات العرفية ، فكما أن العرف يستقذر الملاقي ويرى حمله القذارة من الملاقى كذلك الشارع ، وابتناء الثالث على إهمال ذلك ومحض التعبد نظير الحكم بنجاسة الكافر.

وكيف كان ، فلا إشكال على الوجهين الاخيرين ، وأما على الأول فقد يدعى أن اللازم اجتناب الملاقي ، لأن نجاسته تكون عين نجاسة الملاقى التي هي طرف العلم الإجمالي ومن مراتبها ، فيكون العلم الإجمالي منجزا لهما معا.

٢٩٦

نظير : ما إذا علم إجمالا بتكليف في طرف أو تكليفين في طرف آخر ، حيث لا ريب في لزوم الاحتياط بلحاظ كلا التكليفين ، لا خصوص أحدهما ، لعدم المرجح.

ومثله ما لو قسم أحد الإنائين قسمين ، حيث لا ريب في وجوب الاجتناب عنهما معا ، لتنجزهما بالعلم الإجمالي السابق على القسمة.

وفيه : أن النجاسة بنفسها ليست موضوعا للتنجيز ، لعدم كونها حكما تكليفيا عمليا ، وإنما يكون التنجيز للحكم التكليفي المترتب عليها ، ومن الظاهر أن سعة النجاسة الواحدة وسريانها من الملاقى للملاقي يوجب تجدد التكليف تبعا لتجدد موضوعه ، وهو المتنجس ، وإن اتحدت النجاسة ، والمفروض أن المنجز بالعلم الإجمالي هو التكليف المحتمل في الملاقى ، دون التكليف المحتمل في الملاقي.

ومنه يظهر الفرق بين ذلك وبين مورد التنظير ، لأن المتنجز بالعلم سابقا هو كلا التكليفين رأسا في الأول ، ومتحدا مع كلا القسمين في الثاني ، من دون أن توجب القسمة احتمال حدوث تكليف جديد.

وقد أشار لذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه على اضطراب في كلامه ، حيث يظهر من صدره إقرار الوجه المذكور ، ومن آخر الجواب عنه بذلك. فراجع.

أما بعض الأعاظم قدّس سرّه فقد بنى الكلام على الفرق بين الوجهين بنحو آخر يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث : ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن كل ما للمعلوم بالإجمال من الآثار والأحكام يجب ترتيبه على كل طرف ، سواء كان حكما تكليفيا كحرمة الأكل والشرب للنجس أم وصفيا ، كمانعية الغصب من البيع ، فإن العلم الإجمالي بغصبية أحد المالين ، كما يقتضي تنجز احتمال حرمة التصرف تكليفا في كل

٢٩٧

منهما ، كذلك يقتضي تنجز احتمال الحرمة الوضعية الراجعة إلى مانعية الغصب من البيع ، ولا يعتبر في ذلك فعلية الابتلاء بالحكم في كل من الطرفين ، فلو فرض تلف أحد المالين بعد العلم إجمالا بغصبية أحدهما وقبل بيع كل منهما لم يجز بيع الثاني ، لتنجز احتمال مانعية الغصب من البيع فيه بالعلم الإجمالي السابق ، وإن لم يكن موردا للابتلاء حينه.

وقد رتب على ذلك وجوب الاجتناب عما للأطراف من المنافع والتوابع المنفصلة والمتصلة كالنماءات ، فلو علم بمغصوبيته إحدى الشجرتين أو إحدى الدارين ، فإنه كما يجب الاجتناب عن نفس الشجرتين والدارين يجب الاجتناب عن ثمرة كلتا الشجرتين ومنافع كلتا الدارين المتجددة بعد ذلك ، وإن فرض تجدد الثمرة والمنفعة لإحدى الشجرتين والدارين بعد تلف الاخرى منهما ، لأن النهي عن التصرف في الشجرة أو الدار بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في الثمرة أو المنفعة.

إذا عرفت هذا ، فإن قلنا بأن نجاسة الملاقي مباينة لنجاسة الملاقى ، والملاقي فرد آخر للنجس في عرض الملاقى فلا مجال لتنجّزه بالعلم الإجمالي المفروض في المقام ، لقيام العلم الإجمالي بالملاقي وصاحبه لا غير.

وأما لو قلنا بأن نجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقى ، لاتساع نجاسة الملاقى وسريانها للملاقي وانبساطها فيه ـ على ما تقدم الكلام فيه في الأمر الثاني ـ تعين تنجز الملاقي بالعلم الإجمالي المذكور ، لأن نجاسة الملاقى تكون تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الملاقي ، وقد ذكرنا أنه يجب ترتيب جميع أحكام المعلوم بالإجمال على تمام الأطراف ، لتنجزها بالعلم الإجمالي ، فكما يتنجز بالعلم الإجمالي حرمة شرب الملاقى يتنجز حرمة أكل الطعام الملاقي له ، لأنهما معا من أحكامه التي هي طرف للعلم الإجمالي ، ويكون هو تمام الموضوع لها.

٢٩٨

ثم إنه بعد أن قرّب الوجه الأول ذكر أن رواية جابر المشار إليها في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه السابق مشعرة بالوجه الثاني بدعوى : أنه عليه السّلام جعل أكل الطعام الذي وقعت فيه فأرة استخفافا بالدين ، وفسره بتحريم الميتة ، ولو لا كون نجاسة الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي وجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي لها ، لم يكن موقع للجواب بذلك ، إذ لو كان فردا آخر من النجاسة لكان أكله استخفافا بحرمته ، لا بحرمة الميتة. هذا حاصل ما ذكره.

ويشكل بوجوه ..

الأول : أن ما ذكره أولا من تنجز الحكم الوضعي بالعلم الإجمالي مما لم يتضح وجهه بعد عدم كون الحكم الوضعي بنفسه عمليا ، ولا موضوعا لحكم العقل بالطاعة والمعصية ، فلا معنى لتنجزه إلا تنجز التكليف المترتب عليه ، كحرمة شرب النجس وحرمة التصرف في المغصوب ونحو ذلك.

فمع فرض عدم فعلية الحكم التكليفي المترتب عليه ، لعدم كونه تمام الموضوع له ، بل جزءه لا وجه لمنجزية العلم الإجمالي ، بل لا بد في منجزيته من تمامية الموضوع الموجب للابتلاء بالتكليف بالإجمال ، وما ذكره قدّس سرّه من عدم اعتبار فعلية الابتلاء في غير محله جدا.

نعم ، تقدم في التدريجيات الاكتفاء بالابتلاء الاستقبالي في تنجز العلم الإجمالي ، لكن بشرط العلم به ، ولا يكفي احتماله.

وأما عدم نفوذ البيع ظاهرا في الفرض الذي ذكره فلأنه لا مجال لبقاء قاعدة السلطنة بالإضافة إلى كل من المالين ، لاستلزامها المخالفة القطعية ، لأنها تقتضي مشروعية بيع كل من المالين وأكل ثمنهما ، مع أنه يعلم بعدم جواز أكل ثمن أحد المالين تكليفا ، وسقوط قاعدة السلطنة فيهما راجع الى تنجز احتمال المانعية ، إذ ليست المانعية إلا منتزعة من قصور قاعدة السلطنة.

ودعوى : أنه لا موضوع لذلك قبل البيع ، إذ لا ثمن قبله.

٢٩٩

مدفوعة : بأن عنوان الثمن وإن كان متفرعا على البيع إلا أن ذات الثمن غير موقوف عليه ، فهو نظير العلم بنجاسة أحد الثوبين المستلزم لمشروعية الصلاة بكل منهما والاجتزاء بها في امتثال الأمر.

وهذا بخلاف مثل مسببية الإتلاف للضمان ، فإن الضمان وإن كان راجعا إلى وجوب أداء الثمن تكليفا ، وهو مشروط بكون المال التالف غير مملوك للمتلف ، إلا أن العلم بخروج أحد المالين عن ملكه لا يستلزم فعلية التكليف قبل حصول الاتلاف ، فاستصحاب الملكية في كل منهما لا يستلزم مخالفة عملية بالإضافة إلى الضمان قبل حصول الإتلاف ، كي يتنجز احتمال سببية إتلاف كل منهما لضمانه.

نعم ، بعد حصول الإتلاف لأحدهما يحتمل سببيته لضمانه ، إلا أنه ليس طرفا لعلم إجمالي ، بل الأصل البراءة منه نظير ملاقاة أحد أطراف العلم الإجمالي ، الذي هو محل الكلام ، حيث لا مجال قبلها لتنجز احتمال التكليف ، لعدم تحقق موضوعه ، كي يلزم من جريان الأصل على خلافه مخالفة عملية ، فلا موضوع للأصل بالإضافة إلى الأثر المذكور.

مضافا إلى أن العلم بعدم ملكية أحد المالين موجب لتنجز احتمال حرمة تسليمه بنحو يمنع من بيعه ، لعدم القدرة معه على التسليم. فتأمل.

هذا كله مع سبق ملكية كلا المالين أما مع عدمهما فاستصحاب عدم الملكية في كل منهما ولو بنحو العدم الأزلي كاف في امتناع بيعه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي المذكور ، فهو نظير ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي مع سبق نجاسة كل منهما ، حيث يتعين معه البناء على نجاسته. بل لا أقل حينئذ من أصالة فساد البيع وعدم ترتب أثره. فلاحظ.

الثاني : أن تنجز الأحكام الوضعية لو تم لا دخل له بما فرّعه عليه من وجوب الاجتناب عن المنافع والنماءات المتصلة والمنفصلة ، لوضوح أن

٣٠٠