المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

أحدهما بلا مرجح ، سواء كان الترخيص بلسان أصالة الطهارة أم بلسان أصالة الحل.

ولا يخفى أن ما ذكره من محذور اجتماع أصالة الحل في الأول مع أصالة الحل في الثاني وإن كان تاما ، إلا أن اجتماعهما لا وجه له ، لسقوط أصالة الحل في الثاني بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الأول ، المفروض جريانها في رتبة سابقة على أصالة الحل في الأول ، فلا يجري بعد ذلك إلا أصالة الحل في الأول ، ولا يلزم منها المخالفة القطعية ، ولا الترجيح من غير مرجح.

نعم ، لو غض النظر في هذا المقام عن الترتب بين الأصلين ـ كما جرى عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ اتجه ما ذكره.

لكن يلزمه موافقة بعض الأعاظم قدّس سرّه في الفرع السابق ، لوضوح أنه يعلم إجمالا فيه بامتناع الصلاة في الثوب أو امتناع الوضوء بالماء مع حرمة شربه ، وحينئذ كما يكون الجمع بين أصالة الطهارة في الماء والثوب منافيا للعلم الإجمالي ، كذلك يكون الجمع بين أصالة الطهارة في الثوب وأصالة الحل في الماء منافيا له ، فلو لا الترتب بين الأصلين في الماء وسقوط أصالة الطهارة في مرتبة سابقة لم يكن وجه لما التزم به من جواز شرب الماء عملا بأصالة الحل.

وقد أطال في المقام بما لا حاجة إلى الإطالة فيه بعد ما تقدم من الضابط على المبنيين ، وضعف المبنى الثاني ، فراجع وتأمل.

التنبيه الرابع : في أنه لا بد من فعلية التكليف على كل حال

لما كان ملاك منجزية العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف الذي هو صغرى لكبرى وجوب الإطاعة عقلا ، فلا بد من صحة الخطاب بالتكليف على كل حال من دون فرق بين طرف وأخر ، بنحو يستتبع وجوب العمل والإطاعة عقلا.

٢٤١

فلو كان بعض الأطراف مبتلى بالمانع من فعلية التكليف ـ كالاضطرار والتعذر والإكراه والحرج ونحوها ـ لم يصلح العلم الإجمالي لتنجيز التكليف بالاضافة إلى الأطراف الأخر ، لعدم العلم في الحقيقة بالتكليف الفعلي ، بل بمقتضى التكليف الذي هو لا يستتبع العمل ولا يكون منشأ للطاعة والمعصية ، وليس التكليف الفعلي في الطرف الخالي عن المانع إلا مشكوكا بالشك البدوي غير المنجز ، فيصح الرجوع فيه للأصل المرخص ، لو فرض تحقق موضوعه فيه.

إن قلت : لا مجال لذلك في مثل التعذر ، لأن الشك في التكليف راجع إلى الشك في القدرة على امتثاله مع إحراز موضوعه ولو إجمالا ، والمرجع مع الشك في القدرة هو الاحتياط ، وكذا الحال في الإكراه والحرج ونحوهما مما يلحق بالتعذر شرعا ، ويكون من سنخ العذر عرفا ، حيث لا يصح الاعتماد على احتمال العذر في إهمال التكليف ، بل لا بد من إحرازه ، وهو غير محرز في المقام ، لاحتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال على غير مورده.

قلت : المتيقن من وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة ونحوها من الأعذار هو وجوب السعي لتحصيل ما يحرز تحقق الامتثال به في ظرف الشك في القدرة عليه ، لا تحصيل ما يعلم بالقدرة عليه في ظرف الشك في تحقق الامتثال به ، كما في المقام ، فإن الطرف غير الواجد لعنوان العذر يعلم بالقدرة عليه ويشك في كونه محققا للامتثال.

وإن شئت قلت : وجوب الاحتياط إنما هو مع الشك في سعة القدرة ، ولا شك في ذلك في المقام ، بل في حال المقدور.

هذا كله لو كان الشك في امتثال التكليف الواحد ، كما لو وجب على المكلف عتق رقبة مؤمنة ، وعلم بأن إحدى الرقبتين اللتين يتعذر عليه عتق إحداهما ويتيسر له عتق الاخرى مؤمنة ، فإن التكليف وارد على العنوان المردد

٢٤٢

طريق امتثاله.

أما لو تردد الأمر بين تكليفين فالأمر أظهر ، كما لو علم بنجاسة أحد الطعامين المكره على استعمال أحدهما ، لوضوح أن حرمة استعمال النجس تكليف انحلالي إلى تكاليف متعددة متباينة تبعا لتباين أفراد النجس ، وليس تكليفا واحدا قائما بالعنوان ، فليس الشك في القدرة على امتثال التكليف ، بل في التكليف بالمقدور من الأطراف ، والمرجع فيه البراءة بلا إشكال.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر أن من جملة ما يمنع من فعلية التكليف عدم الابتلاء بمتعلقه ، بحيث يعدّ أجنبيا عن المكلف عرفا ويستهجن توجيه الخطاب إليه به.

ورتب على ذلك عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن الابتلاء لما سبق في الحرج ونحوه.

وكلامه قدّس سرّه في تحديد عدم الابتلاء لا يخلو عن غموض ، لاختلاف سنخ الأمثلة التي ذكرها له ، لرجوعها إلى أقسام أربعة :

الأول : ما لا يكون فيه للأمر المعلوم أثر تكليفي أصلا ولو تعليقيا ، كوقوع قطرة بول على ظهر حيوان ، فإنه لا أثر لذلك حتى بالإضافة إلى الملاقي ، لما هو المعلوم من عدم نجاسة الحيوان مطلقا أو بعد زوال عين النجاسة ، فالملاقي لا ينجس إلا مع بقاء عين النجاسة ، فيستند التنجيس لملاقاتها ، لا لملاقاة ظهر الحيوان.

الثاني : ما يكون له أثر تعليقي لا تنجيزي ، كنجاسة ظهر الإناء ، حيث لا توجب تكليفا فعليا إلا أن يلاقي ما لنجاسته أثر تكليفي ، كالثوب.

الثالث : ما لا يكون من شأن المكلف التعرض له ، لوجود صوارف خارجية عنه ، وإن لم يخرج بذلك عن القدرة عقلا ولا شرعا ، كنجاسة الأرض التي ليس من شأن المكلف بحسب وضعه المتعارف التعرض للسجود عليها.

٢٤٣

الرابع : ما يكون مورد التكليف فعلي مخرج له عن قدرة المكلف شرعا ، كتنجس إناء الغير ، حيث يحرم استعماله مع قطع النظر عن ارتكابه.

ومن الظاهر أن الأول خارج عن محل الكلام ، لأن عدم التكليف فيه لعدم الموضوع ، لا لعدم الابتلاء.

وكذا الثاني ، إذ التكليف التعليقي ليس موردا لانشغال الذمة ، وفعلية النجاسة ليست بنفسها موردا للتكليف.

نعم ، لو علم بتحقق ما يوجب فعلية التكليف لم يبعد دخوله في محل الكلام ، ويبتني الكلام في منجزية العلم الإجمالي معه على ما يأتي في التدريجيات إن شاء الله تعالى.

وأما الثالث فلا يبعد كونه المراد بعدم الابتلاء في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه وأنّ ذكر غيره بناء منه على رجوعه إليه ، وهو الظاهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه.

وقد وجه المحقق الخراساني قدّس سرّه عدم فعلية التكليف معه : بأن الغرض من النهي لما كان هو داعويته للمكلف نحو الترك فلا موقع له مع تحقق الترك من المكلف بسبب عدم الابتلاء بالفعل عادة ، لأنه يكون بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل.

ومن هنا فقد عم الحكم للامر ، فاعتبر في فعليته إمكان ترك المكلف للمأمور به عادة واستحكام الداعي إليه كان الأمر به عبثا كالنهي في الفرض السابق.

وبعبارة اخرى : لا بد في صحة التكليف من صلوحه لإحداث الداعي في نفس المكلف عادة نحو مقتضاه ، فعلا كان أو تركا ، فلو لم يصلح لذلك لتحقق مقتضاه بحسب طبع المكلف وظروفه المحيطة به ولم يصلح التكليف لأن يحدث فيه شيئا كان التكليف مستهجنا عرفا ، لعدم تحقق غرضه.

هذا ، وقد ذكر بعض مشايخنا أن الغرض من التكاليف الشرعية ليس

٢٤٤

مجرد حصول متعلقها في الخارج ، بل هو مع صلوح الأمر للداعوية ، ليكون مقربا للعبد ، فتكمل نفسه ، ولذا صح الزجر عما لا يوجد الداعي إلى فعله دائما أو غالبا ، كنكاح الامهات ، وأكل لحوم الإنسان والقاذورات ، ومن الظاهر أن عدم الابتلاء بالمعنى المتقدم لا يمنع من صلوح التكليف للداعوية ، بترويض النفس على التعبد بالنهي المولوي وجعله داعيا ولو في عرض الدواعي الاخرى.

نعم ، يتجه ذلك في التكاليف العرفية ، إذ ليس الغرض منها إلا حصول متعلقها في الخارج.

لكن لا يخفى أن ما ذكره من الغرض ليس مقوما للتكليف الذي يكون به موضوعا لحكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية ، ومن ثمّ كان التقرب المعتبر في العبادة قيدا في المأمور به مخالفا لإطلاقه ، لا مقوما للتكليف.

نعم ، هو أثر مناسب لمطلق المشروعية غير المختصة بالتكليف ، بل لا تختص بالتكاليف الشرعية ، فإن انفتاح باب التقرب يجري حتى في التكاليف العرفية ، وإن امتازت التكاليف الشرعية بحكم العقل بحسن التقرب والتعبد بالتكليف ، لمناسبته لمقام العبودية ، وكونه سببا لتطهير النفس ورقيها في درجات الكمال.

وكيف كان ، فهو لا ينفع في ما نحن فيه من منجزية العلم الإجمالي ولزوم الخروج عنه بالاحتياط في أطرافه دفعا لضرر العقاب.

وأما الزجر عن الامور المشار إليها فمن الظاهر أنه لم يرد الخطاب الشخصي بها من الشارع الأقدس في حق من استحكم الداعي في نفسه لتحقيق مقتضاها مع قطع النظر عنها ، بل ورود الخطاب بها بنحو القضية الحقيقية ، لبيان الضوابط الشرعية العامة في حق جميع الناس ، بمن فيهم من لم يستحكم في نفسه الداعي المذكور ، فلا تنافي عدم فعلية التكليف في مورد عدم الابتلاء ، كما لا تنافي عدم فعليته في حق العاجز.

٢٤٥

ولا سيما مع أن استحكام الداعي في النفس قد يكون مسببا عن استهجان العرف العام للفعل المسبب عن التكليف ، ولولاه لم يستهجن الفعل حتى يستحكم الداعي في نفس ذوي الشرف والمروءة إلى تركه ، فإن مثل هذا مما يوجب حسن الخطاب بالتحريم بوجه العموم ، وإن امتنع فعليته في حق من استحكم في نفسه الداعي.

على أن كثيرا من هذه الامور لم يرد خطاب لفظي بها بالخصوص ، بل هي بين ما ورد الخطاب به في ضمن غيره مما لا يستحكم الداعي لتركه ، وما دلت الأدلة اللبية من الاجماع ونحوه على تحريمه ، وهي لا تقتضي فعليته في حق من استحكم الداعي في نفسه.

أما بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه فقد استشكل في ما سبق من المحقق الخراساني قدّس سرّه : بأن لازمه لغوية النهي في كل مورد يكون حصول الترك من جهة تنفر الطبع على الإقدام على الفعل ، ككشف العورة بمنظر من الناس ، خصوصا بالنسبة إلى أرباب المروءة ، والكذب بالنسبة إلى أهل الشرف ، وشرب الخمر بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ، مع عدم إمكان الالتزام بذلك.

لكن لم يتضح الوجه في امتناع الالتزام بذلك ، خصوصا مع عدم الأثر العملي له إلا في مورد العلم الإجمالي ، حيث يظهر الأثر بالإضافة إلى الأطراف الواقعة تحت الابتلاء ، ولم يتضح من المرتكزات العقلائية لزوم الاحتياط.

إلا أن يريد استهجان الخطابات العامة بالأحكام المذكورة ، نظير ما تقدم من بعض مشايخنا ، وتقدم الجواب عنه.

فالأولى الإشكال في ما تقدم من المحقق الخراساني قدّس سرّه : بأن الغرض من التكليف ليس هو إحداث الداعي في نفس المكلف ، ولا تحصيل المتعلق في الخارج ، ولذا يحسن مع العلم بعدمهما بسبب المزاحمة بالقوى الشهوية والغضبية المستحكمة في نفس المكلف المانعة من تأثير التكليف. فما ذكره

٢٤٦

قدّس سرّه في توجيه مدّعاه غير تام.

والعمدة في وجهه : أن الغرض من التكليف هو جعل السبيل على المكلف من قبل المكلّف ، بحيث يكون طرفا لمسئوليته وتحميله كما ذكرناه في حقيقة الإرادة التشريعية ، وفي مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، ولا يتضح بعد ملاحظة المرتكزات العقلائية صلوح الخطاب لإحداث المسئولية المذكورة مع استحكام الداعي في نفس المكلف ، بحيث يكون مخالفته لمقتضى التكليف على خلاف طبيعته الثانوية ، وإن كانت ناشئة من بعض الأسباب الخارجية ، كصعوبة الفعل واستهجانه ونحوهما من الصوارف في النهي ، وشدة عادته له أو استحكام الداعي له في الأمر ، بل الظاهر مع ذلك عدم انتزاع المسئولية المقومة للتكليف ، وبها يكون موضوعا لحكم العقل بالطاعة والمعصية.

نعم ، لا يكفي في ذلك مجرد تعلق الإرادة الفعلية على مقتضى التكليف ، لأسباب موقته طارئة ، فإن مجرد تعلق الإرادة لا ينافي السعة بالإضافة إليه ، فيصلح التكليف لرفع السعة المذكورة وإحداث المسئولية. فتأمل جيدا.

ثم إن بعض الأعاظم قدّس سرّه جعل المعيار في عدم الابتلاء هو كون الفعل غير مقدور عادة لبعد مقدماته وصعوبتها الموجبة لصعوبته ، لدعوى اعتبار القدرة العادية في المنهي عنه زائدا على القدرة العقلية ، لأن الغرض من النهي لما كان هو ترك الفعل المنهي عنه لم يحسن الخطاب بترك ما يكون متروكا عادة ، بل كان مستهجنا للغويته.

ومن هنا خص اعتبار القدرة العادية بالمنهي عنه دون المأمور به ، حيث يصح التكليف بتحصيل ما لا يكون مقدورا عادة مع القدرة عليه عقلا لأهميّة ملاكه ، بنحو يلزم تحصيله ولو مع صعوبته ، نعم ، يمكن التفضل شرعا برفعه ، كما في موارد الحرج ونحوه.

٢٤٧

وفيه : ـ مع الغض عما عرفت من أن الغرض من التكليف ليس هو حصول متعلقه في الخارج ، بل جعل السبيل على المكلف ـ أن ذلك يقتضي اعتبار عدم حصول الترك عادة لوجود الصارف النفسي ولو مع القدرة العادية وسهولة تحصيل الفعل (١).

بل لو فرض عدم القدرة العادية على الفعل إلا أنه لم يوجب انصراف المكلف عنه ، بل تعلق له الغرض بتحصيل الفعل وتحصيل مشقته فلا إشكال في حسن النهي عنه ، لعدم تحقق الترك عادة لو لا النهي.

على أن نظير ما ذكره في النهي ليس هو اعتبار القدرة العادية في فعل المأمور به ، ليصح الفرق بينهما بما تقدم ، بل هو اعتبار القدرة العادية على ترك المأمور به ، فلو لم يكن تركه مقدورا عادة كان الفعل حاصلا مع قطع النظر عن الأمر به ، فيكون الأمر به عبثا مستهجنا كالنهي مع عدم القدرة العادية على الفعل.

وأضعف منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من اعتبار القدرة العادية على الفعل في كل من الأمر والنهي ، لا لأجل لزوم العبث واللغوية ، بل لأجل استهجان العرف للخطاب بالأمر بالشيء أو النهي عنه مع كون المكلف أجنبيا عنه عرفا ، لعدم قدرته عليه بحسب العادة ، ولذا يستهجن تكليف الفقير المعدم تنجيزا بوجوب تزوج بنات الملوك وأكل طعامهم ، كما يستهجن تحريمهما عليه ، بل لا يحسن التكليف بهما تحريما أو إيجابا إلا معلقا على الابتلاء.

إذ فيه : ـ مع ما عرفت من عموم ملاك الاستهجان وعدم إناطته بالتعذر العادي ـ أنه لا مجال لتوهم امتناع الأمر بما لا يقدر عليه عادة مع القدرة عليه عقلا بتهيئة مقدماته وإن كانت بعيدة شاقة ، وليس الحج في حق النائي إلا من

__________________

(١) يظهر مما حكاه عنه مقرر درسه عنه في آخر كلامه عدوله عما ذكره أولا من الضابط الذي أشرنا إليه ، وتعميمه الحكم لما إذا كان الفعل أجنبيا عن المكلف ولو مع القدرة العادية. فراجع. (منه ، عفي عنه).

٢٤٨

ذلك ، خصوصا في العصور السابقة التي كانت وسائط النقل فيها غير مريحة.

إلا أن يريد من عدم القدرة العادية ما يساوق عدم القدرة الفعلية لانسداد طرق التحصيل وإن كان الفعل ممكنا ذاتا.

لكن عدم التكليف حينئذ ليس هو للاستهجان العرفي ، بل للامتناع العقلي ، لاعتبار القدرة الفعلية بحكم العقل ، ولا دخل لذلك بعدم الابتلاء الذي هو محل الكلام.

ومنه يظهر أن تكليف الفقير المعدم بتزويج بنات الملوك وأكل طعامهم إن كان مع قدرته عليهما فعلا ولو مع صعوبة المقدمات وكثرتها فهو غير مستهجن ، غاية ما في الأمر أنه قد يكون حرجيا ، وإن كان مع تعذرهما عليه فعلا لانسداد المقدمات فهو ممتنع عقلا ، كتكليفه بالجمع بين الضدين ، والطيران في الجوّ ، وقلع الجبال الرواسي.

وقد تحصل : أن المعيار في عدم الابتلاء هو ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ، والوجه في عدم فعلية التكليف معه هو ما أشرنا إليه من عدم قابلية الخطاب معه ، لانتزاع المسئولية عقلا بالنحو المقوم للتكليف ، الذي هو موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصية.

وعليه يترتب عدم منجزية العلم الإجمالي في ظرف عدم الابتلاء ببعض الأطراف ، لأن ملاك التكليف وموضوعه وإن احرز إجمالا ، إلا أنه لا يحرز فعليته بالنحو الذي ينتزع منه المسئولية وانشغال الذمة عقلا الذي هو الموضوع لوجوب الطاعة وقبح المعصية ، لعدم فعلية التكليف بالنحو المذكور على تقدير مصادفته لمورد عدم الابتلاء ، فلا مانع من الرجوع في الطرف المبتلى به للأصل الترخيصي ، وهذا قريب جدا للمرتكزات العقلائية في التنجيز والتعذير.

ولعل سيرة المتشرعة شاهدة به ، لعدم اعتنائهم ارتكازا بالتكليف الإجمالي في المورد المذكور ، ومن القريب جدا استنادهم في ذلك للمرتكزات

٢٤٩

العقلائية المشار إليها.

هذا ، ولو فرض الشك في ذلك فمن الظاهر أن الأمر المذكور لما كان من الامور الوجدانية ، فالشك فيه لا يكون إلا لاضطراب الوجدان ، نظير شك المصلي في أن العارض له شك أو ظن ، وحينئذ لا يبعد البناء على عدم تنجز التكليف ، لأن الشك في المقام ليس في تقييد موضوع التكليف والخطاب بالبعث والزجر بالابتلاء ، ليرجع في نفيه للإطلاق ، بل في انتزاع التكليف من الخطاب مع عدم الابتلاء ، بنحو يدخل في كبرى حكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية ، وصلوحه لاحداث الداعي العقلي للعمل على طبقه ، أو لا ، بل لا بد في تنجز الداعي العقلي نحو العمل من الابتلاء.

ومن الظاهر أن ذلك أجنبي عن الشارع ، ولا دخل له بالإطلاق ، إذ ليس مفاد الإطلاق إلا البعث أو الزجر التشريعيين على تقدير تحقق الموضوع ، وهو لا ينافي عدم انتزاع التكليف منه بالنحو المتقدم على تقدير عدم الابتلاء.

نعم ، لما كان الغرض من الخطاب الفعلي هو تحقيق موضوع الداعي العقلي كان مستهجنا في مورد لا يصلح لحكم العقل المذكور ، فلو ورد في خصوص مورد كشف عن صلوحه لإحداث الداعي العقلي دفعا له عن اللغوية لو فرض عدم إمكان حمله على الخطاب التعليقي.

أما لو كان مطلقا شاملا لبعض الموارد الصالحة لحدوث الداعي العقلي بنحو يكفي في رفع لغويته لم ينهض بالكشف عن صلوح بقية الموارد المشمولة للإطلاق لحدوث الداعي العقلي مع الشك فيها ـ لعدم الابتلاء مثلا ـ لعدم توقف رفع اللغوية على ذلك.

إن قلت : إطلاق الخطاب يقتضي فعلية التكليف تبعا لتحقق موضوعه في موارد الشك في حدوث الداعي العقلي ، وحيث كانت فعليته مستلزمة لصلوحه لإحداث الداعي العقلي وإلا كان لغوا ، كان الإطلاق حجة في اللازم المذكور.

٢٥٠

قلت : الإطلاق إنما يكون حجة في نفي ما يحتمل دخله في موضوع الحكم المجعول مما يكون من شأن الجاعل بيانه ، وصلوح المورد لحدوث الداعي العقلي ليس دخيلا في موضوع التكليف ، ولا من شأن الشارع بيانه ، وإنما هو شرط في رفع لغويته ، ولا ظهور للإطلاق في رفع اللغوية ، وإنما هو من لوازم الخطاب القطعية بضميمة حكمة المخاطب التي يكفي فيها ترتب الأثر عليه في الجملة ولو بلحاظ بعض موارده ، ولذا لا يكون الخطاب ظاهرا في صلوح المورد لحدوث الداعي العقلي لو فرض عدم كون المخاطب حكيما ، مع كون الإطلاق ظاهرا في عموم موضوع الحكم وحجة له وعليه في ذلك.

وبعبارة اخرى : الشك في فعلية الحكم إن كان للشك في سعة موضوعه أو نحوه مما يكون من شأن الشارع بيانه ، كان المرجع فيه الإطلاق ، وإن كان لجهات أخر راجعة للعقل فلا دخل للإطلاق فيه ، بل الإطلاق إنما يقتضي الفعلية من حيثية الموضوع ، لا من جميع الجهات ولو كانت خارجة عن وظيفة الشارع.

إلا أن يفرض تصدي المتكلم لبيان الفعلية من جميع الجهات حتى الخارجة عن وظيفته ، فيكون الاطلاق ظاهرا حينئذ في ما يعم محل الكلام ، لكنه محتاج إلى قرينة خاصة ومئونة زائدة لا يقتضيها طبع الكلام.

ولعل نظير ذلك ما ذكروه في مبحث الاصول المثبتة من أنه لو ورد التعبد في مورد خاص بالأصل في أمر لا أثر له عملي إلا بواسطة عقلية ، كشف عن التعبد بالأثر المذكور دفعا للغوية ، للغوية التعبد الظاهري مع عدم الأثر العملي.

ولا مجال لاستكشاف ذلك من إطلاق دليل الأصل لو فرض تحقق موضوعه ـ كاليقين والشك في الاستصحاب ـ في ما لا أثر له إلا بواسطة عقلية ، إذ يكفي في رفع لغوية الاطلاق شمولاه لموارد كثيرة يكون فيها مجرى الأصل موردا للأثر العملي بلا واسطة ، أو بواسطة شرعية.

٢٥١

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو فرض العلم بشرطية الابتلاء في تنجز التكليف لكن شك في تحديد المرتبة المعتبرة منه.

فإنه لا مجال للرجوع في مورد الشك إلى إطلاق التكليف ، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، لعين ما ذكرناه في فرض الشك في أصل شرطية الابتلاء.

ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل في وجه امتناع التمسك بالإطلاق مع الشك في تحديد الابتلاء المعتبر.

قال قدّس سرّه : «إنما يجوز الرجوع إلى الإطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه ومرتبته ، بأن يكون من أحوال ما اطلق وأطواره ، لا في دفع ما لا يكون كذلك ، وقيد الابتلاء من هذا القبيل ، فإنه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر عن مرتبة أصل إنشائه ، فكيف يرجع إلى الإطلاقات الواردة في مقام أصل إنشائه في دفع ما شك في اعتباره في تنجزه؟!».

فلا مجال للإيراد عليه ..

تارة : بمنع كون الابتلاء بمتعلق التكليف ـ كالطعام والأرض ونحوهما ـ من الانقسامات الثانوية اللاحقة له ، بل هو من الانقسامات السابقة عليه التي يمكن تقييده بها في الخطاب.

واخرى : بعدم كونه من شروط تنجيز التكليف ، لانحصار المنجز بما يوصل التكليف علما أو تعبدا كالطريق والاصول ، فراجع ما ذكره بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما في المقام.

لاندفاع الأول : بأنه لا يريد كون الابتلاء من الانقسامات الثانوية وعدمه ، إذ لا إشكال في عدم ترتبه مفهوما على التكليف كالعلم به ، بل هو كالقدرة مما يمكن لحاظه في رتبة سابقة على التكليف.

بل يريد أن الشك ليس في تقييد موضوع التكليف الذي هو من وظيفة الشارع ، بل في توقف التنجيز على الابتلاء ، ولما كان ذلك خارجا عن وظيفة

٢٥٢

الشارع ، بل هو من شئون التكليف المتأخرة رتبة عن الخطاب ، والثابتة له بحكم العقل والعرف ، فلا يكون الإطلاق حجة في نفيه ، بل يمتنع الإطلاق والتقييد معا بالإضافة إليه ، لعدم كونه من شئون الحكم الشرعية ، بل من لواحقه العقلية ، كوجوب إطاعته.

واندفاع الثاني بأنه لا يريد بالتنجز ما يساوق الوصول وقيام الحجة ، بل ما يساوق صلوح الخطاب لإحداث الداعي العقلي وانتزاع التكليف المستتبع لحكم العقل منجزا بوجوب إطاعته وقبح معصيته.

وكذا الحال في ما ذكره في الكفاية من أن التمسك بالإطلاق إنما هو فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه ، لا في ما شك في اعتباره في صحة الاطلاق.

فإن من القريب جدا رجوعه إلى ما ذكرنا من أن الشك في المقام في لغوية الخطاب في مورد عدم الابتلاء ، لعدم صلوحه لإحداث التكليف ، لا في تقييد التكليف مع صلوح المورد للإطلاق.

وحينئذ لا مجال لما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الإطلاق بنفسه يكشف عن إمكان عموم الحكم لمورد الشك ، وإلّا لانسدّ باب التمسك بالإطلاقات في جميع موارد الشك ، لاحتمال عدم ثبوت الملاك فيها المستلزم لامتناع عموم الحكم لها.

فإنه إنما يتم لو كان مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه من امتناع الإطلاق امتناعه بالغرض بسبب قصور الملاك المستلزم لوجوب التقييد عقلا.

أما لو كان مراده امتناعه لقصور المورد عن جعل الحكم المستلزم للغوية الخطاب به من دون أن يحتمل التقييد ـ كما ذكرنا ـ فلا يرد عليه ذلك ، لما تقدم من أن الإطلاق إنما يكون حجة في نفي التقييد الذي هو من شئون الشارع ، لا في تحديد اللغوية الذي يكون المرجع فيه العقل في مرتبة متأخرة عن

٢٥٣

الخطاب.

هذا ، وقد أطال بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في توجيه مراده ودفعه بما لا مجال لاطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا.

وكيف كان ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق لا مع الشك في أصل اعتبار الابتلاء في التنجيز ولا مع الشك في تحديد الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره في الجملة.

بل اللازم الرجوع للبراءة في الطرف الذي هو محل الابتلاء ، لعدم ثبوت المانع عنه ، بعد توقف العقل عن الحكم بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال ، بنحو يقتضي إيجاب الطاعة والمنع عن المعصية منجزا.

هذا ، ولكن ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه لزوم الاحتياط في المقام ، لرجوع الشك في المقام إلى الشك في القدرة التي يجب فيها الاحتياط عقلا ، لعدم دخل الابتلاء في ملاك التكليف ، بعد فرض تمامية الملاك وعدم دخل القدرة العقلية والعادية فيه يستقل العقل بلزوم رعاية الملاك بالاحتياط وعدم الاعتناء باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال حتى يتحقق العجز ، ولا مجال في مثله لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لاختصاصها بما إذا احتمل قصور المورد عن ملاك التكليف رأسا ، وقد ذكر ذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه أيضا.

إلا أن مقرر درسه حكى عنه العدول عنه ، لاستلزامه وجوب الاحتياط حتى فيما لو علم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء ، لأن ذلك لا يوجب العلم بتحقق المسقط في مورد الملاك ، لاحتمال تحقق الملاك في الطرف المبتلى به.

فلا بد من الالتزام بأن الشك في الخروج عن الابتلاء لا يكفي في وجوب الاحتياط ، لأن مجرد وجود الملاك لا يكفي في حكم العقل لزوم رعايته ما لم يكن تام الملاكية.

٢٥٤

وهذا راجع إلى ما أشرنا إليه في صدر هذا التنبيه من توهم أن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مورد الاضطرار أو التعذر يوجب دخوله في الشك في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط ، وقد تقدم دفعه بما لا مزيد عليه وأن القياس في غير محله. فراجع.

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور وجهان :

الأول : أن وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة إنما هو مع الشك في تحقق القدرة بنحو الشبهة الموضوعية والعلم بسقوط التكليف معها ، لا في مثل المقام مما فرض فيه العلم بتحقق الابتلاء في الجملة والشك في مسقطيته ، فإن الشك المذكور نظير الشك في مانعية الموجود ، لا نظير الشك في وجود المانع ، فإن أمكن الرجوع فيه لإطلاق التكليف ـ كما لو شك في مقدار الحرج المسقط ـ فهو ، وإلا كأن المرجع البراءة.

الثاني : أن القدرة المعتبرة في التكليف ..

تارة : تكون بمعنى القدرة على موافقته ، في مقابل العجز عنها المستلزم لفوت ملاكه.

واخرى : تكون بمعنى القدرة على مخالفته في مقابل العجز عنها ، المستلزم لعدم الأثر العملي للتكليف من دون أن يفوت ملاكه.

ووجوب الاحتياط إنما يسلّم مع الشك في القدرة بالمعنى الأول ، حذرا من تفويت الملاك المفروض التمامية مع عدم إحراز العذر المسوغ له.

اما الشك في القدرة بالمعنى الثاني فلا وجه لوجوب الاحتياط فيه ، إذ لا يحرز قابلية المورد للتكليف بسبب اللغوية المحتملة ، كما لا يحرز فوت الواقع حينئذ ، أما مع العلم التفصيلي بالتكليف فواضح ، وأما مع العلم الإجمالي فلاحتمال كون مورد التكليف غير المقدور فلا يفوت ، واحتمال كون مورده المقدور ليلزم من عدم الاحتياط فيه فوته مدفوع بالأصل.

٢٥٥

وبعبارة اخرى : الشك في المقام ليس في المسقط مع تمامية المقتضي للتكليف ، بل في صلوح المقتضي للتأثير ، للشك في تحقق شرط اقتضائه ، فالفرق بينهما يشبه الفرق بين الشك في تحقق المانع مع العلم بالمقتضي ، والشك في تحقق شرط تأثير المقتضي ، ووجوب الاحتياط في الأول لا يستلزم وجوبه في الثاني.

ومن الظاهر أن الشك في الابتلاء نظير الشك في القدرة بالمعنى الثاني ، لا بالمعنى الأول الذي لا إشكال في وجوب الاحتياط معه.

ومنه يظهر الحال في الشك في الابتلاء بنحو الشبهة الموضوعية لو فرض ، فإنه لا وجه لما يظهر من غير واحد من وجوب الاحتياط فيه ، كما لا وجه لما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من قياسه على الشك في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط.

بل اللازم الرجوع معه للبراءة في الطرف الذي يعلم بالابتلاء به ، لعدم حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي فيه بعد عدم إحراز الابتلاء بالمعلوم بالإجمال.

كما لا مجال لتوهم التمسك بإطلاق التكليف حينئذ ، لما سبق. مضافا إلى أنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. إلا أن يدعى جوازه مع كون المخصص لبيا ، كما في المقام.

لكنه في غير محله ، كما حقق في مباحث العموم والخصوص.

وأما القسم الرابع من الأمثلة التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه لعدم الابتلاء ، وهو ما يكون موردا لتكليف فعلي مخرج له عن قدرة المكلف شرعا ، كتنجس طعام الغير ، حيث يحرم ارتكابه مع قطع النظر عن نجاسته ، فقد وقع الكلام فيه بين الأعلام.

وقد فصل فيه بعض الأعاظم قدّس سرّه بين ما إذا كان المانع الشرعي في معرض

٢٥٦

الزوال ، كما لو كان المالك في مقام بيع العين وكان المكلف بصدد شرائها ، وما إذا لم يكن كذلك ، فقرّب منجزية العلم الإجمالي في الأول ، لعدم قبح توجيه التكليف بحرمة النجس ـ مثلا ـ في مثل ذلك ، بخلاف الثاني ، لقبح توجيه التكليف مع عدم القدرة الشرعية وإن فرض تحقق القدرة العادية ، لإمكان مثل السرقة ، كما لا يجري الأصل الترخيصي فيه بعد عدم إمكان تطبيق العمل عليه بسبب التكليف المعلوم بالتفصيل ، فلا يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بل يكون العمل عليه.

لكن لا يخفى أنه لو فرض كون القدرة الشرعية كالقدرة العادية شرطا في فعلية التكليف لا يكون التكليف فعليا ، بل تعليقيا ، وقد تقدم في القسم الثاني أنه لا يوجب انشغال الذمة فعلا ، فلا مجال معه لمنجزية العلم الإجمالي ، بل يمكن الرجوع للاصل الترخيصي في الطرف الآخر.

ولعله لذا أطلق بعض مشايخنا مانعية التكليف في بعض الأطراف من منجزية العلم الإجمالي.

نعم ، لو علم بزوال المانع الشرعي اتجه البناء على منجزية العلم الإجمالي ، كما أشرنا إليه آنفا ، ولا يكفي مجرد التوقع.

هذا ، وقد أنكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه مانعية التكليف في بعض الأطراف من منجزية العلم الإجمالي مطلقا.

وتوضيح ما أفاده : أن التكليف بشيء بعنوان لا يمنع من التكليف به بعنوان آخر ، بل يتعين تأكد التكليف الموجب لتأكد الداعي العقلي الذي هو الملاك في منجزية العلم الإجمالي.

وما اشتهر من اعتبار القدرة الشرعية في متعلق التكليف كالقدرة العادية لا دخل له بما ذكرنا ، فإن ذلك إنما هو بمعنى لزوم القدرة الشرعية على موافقة التكليف ، فيمتنع تحريم ما هو واجب مثلا ، لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق ، أما

٢٥٧

بمعنى لزوم القدرة الشرعية على مخالفة التكليف ، بأن يمتنع تحريم ما هو حرام من جهة اخرى ، فلا وجه له.

ولا مجال لقياسه على القدرة العادية ، لأن الوجه في اعتبار القدرة العادية إنما هو لغوية التكليف بدونها ، لعدم الأثر له في الداعوية العقلية ، وذلك لا يجري في القدرة الشرعية ، إذ مع عدمها بسبب تكليف سابق لا يلغو جعل التكليف الآخر ، لصلوحه لتأكيد الداعوية بسبب تأكد ملاكها العقلي. وهو ضرر العقاب المترتب على المخالفة.

كما أنه يمكن أن تجري الاصول الترخيصية والإلزامية بالإضافة إلى الجهة المشكوكة ، ويترتب على ذلك استحقاق العقاب زائدا على عقاب الجهة المعلومة وعدمه بالإضافة إليها.

وعليه لا مانع من جريان الاصول الترخيصية في تمام أطراف العلم الإجمالي في المقام ، ووقوع المعارضة بينها ، خلافا لما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه إذ ليس مفاد الأصل الترخيصي الترخيص من جميع الجهات ، لينافي فرض العلم التفصيلي بالتكليف في بعض الأطراف ، بل الترخيص من حيثية التكليف المشكوك لا غير ، ومن الظاهر أن الأصل المذكور يترتب عليه الأثر في الطرف المذكور ، لاقتضائه المعذرية بالإضافة إلى التكليف الزائد وعدم استحقاق العقاب من جهته ، وهو كاف في رفع لغويته وصلوحه للمعارضة.

وبالجملة : مجرد كون أحد الأطراف موردا لتكليف تفصيلي لا يمنع من كونه طرفا لعلم إجمالي صالح للداعوية العقلية مانع من جريان الاصول في الأطراف.

نعم ، لو لم يكن التكليف قابلا للتأكيد ـ كما قد يدعى في باب التنجس ـ كان ابتلاء أحد الأطراف بالتكليف تفصيلا مانعا من منجزية العلم الإجمالي ، بل كان مانعا في الحقيقة من تحقق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ـ نظير ما تقدم

٢٥٨

في القسم الأول ـ وأما المعلوم بالإجمال فليس هو إلا تحقق مقتضي التكليف زائدا على التكليف المعلوم بالتفصيل في أحدهما.

لكن لا يبعد خروجه عن محل كلامهم. ولا أقل من عموم كلامهم لغيره ، كما يشهد به تمثيلهم بالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين المغصوب أحدهما.

هذا ، والذي ينبغي أن يقال : التكليف بأحد الأطراف بخصوصه إن كان مؤثرا في داعوية المكلف نحو امتثاله ، لقيام الحجة عليه وخضوع المكلف للتشريع المقدس اتجهت مانعيته من منجزية العلم الإجمالي ، لعين ما تقدم في القسم السابق ، من عدم الأثر للتكليف الآخر بنحو يصحح انتزاع الكلفة ، وجعل السبيل الذي هو الملاك في تنجز التكليف المتقومة بداعوية العقل لامتثاله.

ومجرد تحقق مقتضيه وملاكه لا يكفي مع فرض عدم إحداثه الكلفة بسبب تأثير التكليف الأول في فعليّة الداعي في نفس المكلف وصرفه إلى موافقته ، كما يظهر بالتأمل في ما سبق.

أما لو فرض قصور التكليف التفصيلي عن التأثير في صرف المكلف لتمرده وعصيانه فاللازم منجزية العلم الإجمالي.

وما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه قد عرفت عدم نهوضه بالمنع.

ومثله ما لو كان قصوره عن الداعوية لعدم قيام الحجة عليه. وإن لم يبعد خروجه عن محل كلامهم.

ومن هنا لا ريب بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في أن المقدم على تمام أطراف العلم الإجمالي التي يكون بعضها موردا لعلم تفصيلي مستحق للعقاب من الجهتين ، لا من خصوص جهة التكليف التفصيلي ، وليس كالمقدم على مخالفة التكليف التفصيلي وحده في غير مورد العلم الإجمالي. وما ذلك إلا لتنجيز التكليف الإجمالي بالعلم المفروض. فلاحظ.

اللهم إلا أن يقال : هذا إنما يقتضي تنجز التكليف الإجمالي في ظرف عدم

٢٥٩

داعوية التكليف التفصيلي بنحو يمنع من المخالفة القطعية بارتكاب كلا الطرفين ، ولا يقتضي منجزيته بنحو يقتضي الموافقة القطعية باجتناب تمام أطرافه بما فيها الطرف الذي لا يكون موردا للتكليف التفصيلي.

كيف! ولازم ذلك أنه لو فرض عدم كون المكلف ممن يهتم بموافقة التكليف التفصيلي لخصوصية فيه ، إلا أنه وافقه من دون استحكام الداعي لموافقته ، لم يكفه ذلك في الخروج عن عهدة التكليف الإجمالي ، بل يلزمه مراعاة احتمال التكليف في الطرف الآخر ، خروجا عن العلم الإجمالي ، وهو مما لا تناسبه المرتكزات العقلائية والمتشرعية جدا ، بل هي حاكمة بكفاية موافقة التكليف التفصيلي وإهمال العلم الإجمالي معه ، بل هو مما يغافل عنه حينئذ.

فمن لم يكن في مقام الإطاعة ولم يعتن بكل من التكليفين التفصيلي والإجمالي لو وعظه الواعظ حتى أقنعه بالإقلاع عما هو فيه يكتفى منه بموافقة المعلوم بالتفصيل ، كغيره ممن استحكم تدينه من أول الأمر ، ولا يفرق بينهما بتنجز العلم الإجمالي في حق الأول بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، بخلاف الثاني.

ولعله لأن التكليف الجديد وإن أوجب تأكد التكليف السابق ، وشدة العقاب لو صادف مورده ، إلا أن الأثر المذكور لما كان راجعا للمولى ، ولا دخل له في عمل المكلف لم يصلح لتنجيز العلم الإجمالي في مقام العمل بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، بل غاية ما يقتضيه هو تنجزه في مقام المسئولية بالنحو الذي لا يستتبع العمل زائدا على ما يقتضي التكليف التفصيلي.

ومرجع ذلك إلى تنجز مورد التكليف التفصيلي من جهتين ، جهة التكليف التفصيلي المعلوم ، وجهة التكليف الإجمالي المحتمل تحققه فيه ، فيتنجز على ما هو عليه من الملاك ، ولا يتنجز الطرف الآخر ، لعدم صلوح العلم الإجمالي للتنجيز العلمي بعد عدم العلم بترتب العمل على المعلوم زائدا على ما

٢٦٠