المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

التنجيز بالكلية بنحو تجوز مخالفته القطعية بالمخالفة بين الجمعتين في العمل.

لكن لا يخفى أن ما ذكره وإن رجع إلى القدرة على المخالفة القطعية لأحد العالمين المتولدين ، إلا أن من الظاهر أن المخالفة القطعية المذكورة مستلزمة للموافقة القطعية للعلم الآخر منهما ، ففي المقام علمان إجماليان يتمكن من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية لكل منهما ، إلا أن موافقته أحدهما تستلزم مخالفة الآخر ، وحيث كان كل منهما مقتضيا للموافقة ومانعا من المخالفة ، كانا متزاحمين في تمام مقتضاهما وسقطا عن التأثير بالإضافة إلى كل من الأمرين ، وليس الجمع بينهما بالتنزل للموافقة الاحتمالية في كل منهما بأولى من موافقة أحدهما في تمام مقتضاه وإهمال الآخر في تمام مقتضاه.

وبعبارة اخرى : إن العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة لا يصلح للتنجيز ، لامتناع موافقته ومخالفته القطعيتين ، وكذا العلم الإجمالي المتولد منه ، لأنه وإن أمكنت موافقته ومخالفته القطعيتان إلا أنه من مزاحم بمثله.

والحاصل : أن التخيير الابتدائي سالم عن محذور المخالفة القطعية ، إلا أنه خال عن الموافقة القطعية أيضا ، والتخيير الاستمراري وإن استلزم المخالفة القطعية في بعض الوقائع ولبعض العلوم الإجمالية المتولدة في المقام ، إلا أنه يستلزم الموافقة القطعية في بعض الوقائع ولبعض العلوم الاجمالية المتولدة الأخر ، وليس الأول أولى من الثاني بنظر العقل ، بل هما من حيث موافقة الغرض الذي يقتضيه التكليف سواء.

نعم ، قد يقال : إنه بناء على اقتضاء العلم الإجمالي للموافقة القطعية ليس كاقتضائه لترك المخالفة القطعية ، وأن الأول بنحو يقبل الردع ، والثاني بنحو لا يقبله ، لأنه بنحو العلية التامة ، فاللازم ترجيح ترك الموافقة القطعية على المخالفة القطعية لأهميتها.

١٨١

وقد أجاب عن ذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه : بأن ذلك إنما يتم لو كان الترخيص ظاهريا بمناط عدم البيان. أما لو كان بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق فلا مجال لمنجزية العلم التفصيلي فضلا عن الإجمالي ، لقصور المعلوم عن مقام الفعلية المانع من صلوح العلم لتنجيزه ، لا بالإضافة إلى المخالفة القطعية ولا بالإضافة إلى الموافقة القطعية كي يقع التزاحم بينهما في المقام ، وينظر في الأولى منهما.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم في المقام الأول ، فإنه إن كان المراد بالترخيص لأجل الاضطرار سقوط التكليف الواقعي عن الفعلية بسبب عدم إمكان الجمع بين المحتملات ، على ما قد يدعى في الاضطرار إلى بعض غير معين من أطراف العلم الإجمالي ، فهو ـ مع عدم مناسبته لمختاره في تلك المسألة ـ غير تام في نفسه.

وإن كان المراد به الترخيص العقلي بسبب امتناع خلوّ المكلف عن الفعل والترك ، فهو إنما يقتضي امتناع منجزية العلم الإجمالي في كل واقعة بالإضافة إلى الموافقة القطعية ، ولا يمنع من منجزيته بالإضافة إلى المخالفة القطعية بنحو لا يجوز ارتكابها في البعض لأجل الموافقة القطعية في الآخر ، لفرض كونها أهم ، كما هو المدعى للخصم.

وبالجملة : كلامه قدّس سرّه لا يخلو عن غموض وإشكال ، وربما نوفق في مناسبة اخرى للتعرض لما ذكره.

ولعل الأولى الجواب عن الدعوى المذكورة : بأنه ليس الفرق بين العلية التامة والاقتضاء إلا بإمكان الردع الشرعي على الثاني دون الأول ، وذلك خارج عن محل الكلام ، لفرض عدم البيان الشرعي في المقام ، وبقاء العقل على ما يستقل به ، وهو لا يفرّق في المقام بين الأمرين لو خلي ونفسه ، كما ذكرنا.

إن قلت : إذا تم كون العلم الإجمالي علة تامة لمنع المخالفة القطعية دون

١٨٢

لزوم الموافقة القطعية فلا بد أن يكون لأهمية تجنب المخالفة القطعية من تحصيل الموافقة القطعية بنظر العقل ، وهو مستلزم لترجيحه عند المزاحمة.

قلت : ليس ملاك العلية التامة هو الأهمية ، بل إن المنع عن المخالفة القطعية بعد فرض فعلية التكليف يستلزم الردع عن تنجيز العلم الإجمالي وعدم ترتب العمل عليه ، أو عن وجوب إطاعة التكليف ، وكلاهما ممتنع مع كون منجزية العلم ذاتية ووجوب الإطاعة من المستقلات العقلية ، بخلاف الترخيص في ترك الموافقة القطعية ، وهذا لا يقتضي الترجيح بينهما في المقام ، لأن جواز المخالفة القطعية في بعض الوقائع ليس لعدم منجزية العلم الإجمالي في نفسه ، ولا لعدم وجوب إطاعة التكليف ، بل لمزاحمتها بالموافقة القطعية في الواقعة الاخرى.

مع أنه لو فرض أن ملاك ذلك هو الأهمية فهو أجنبي عما نحن فيه ، لوضوح أن مخالفة العلم الإجمالي القطعية مستلزمة لفوت موافقته أيضا ، فالموافقة القطعية فائتة على كل حال ، وليس الممنوع منه إلا المخالفة القطعية زائدا عليها. أما في المقام فالمخالفة القطعية في بعض الوقائع مستلزمة لحصول الموافقة القطعية في الاخرى وليست الموافقة القطعية فائتة على كل حال. ولعله يأتي في الفصل الآتي ما ينفع في المقام.

ثم إنه كما يكون التخيير استمراريا إذا كان تعدد الواقعة لتعدد أفراد الموضوع الطولية بحسب أجزاء الزمان ، كذلك يكون التخيير انحلاليا إذا كان تعدد الواقعة لتعدد أفراد الموضوع العرضية ، كما لو تردد الأمر في يوم بين وجوب إكرام العلماء وحرمة إكرامهم ، فإنه كما يتخير المكلف بين إكرام الكل وترك إكرامهم فلا يلزم إلا المخالفة الاحتمالية في الكل ، كذلك له التفريق بينهم ، المستلزم للمخالفة القطعية في بعضهم والموافقة القطعية في بعض ، لعين ما تقدم.

١٨٣

الخامس : ما تقدم من تعذر الموافقة والمخالفة القطعيتين في المقام إنما هو فيما إذا كان الوجوب والحرمة المحتملان واردين على موضوع واحد ، لا اختلاف في قيوده ، لتكون موافقة أحدهما مخالفة للآخر ، سواء كان توصليا ، كدخول المسجد ، أم تعبديا ، كصوم يوم الشك لو قيل بحرمة صوم يوم العيد ولو برجاء ألا يكون عيدا ، بخلاف ما لو اختلف الموضوع ولو بلحاظ القيود المعتبرة فيه ، كما لو كان أحدهما المعين أو كلاهما تعبديا لا يمكن امتثاله إلا بقصد التقرب به ، كما لو دار الأمر بين كون الماء مملوكا يجب التقرب بالوضوء به ، ومغصوبا يحرم التصرف فيه مطلقا ، أو بين وجوب فعل شيء بقصد القربة وتركه كذلك ، فإن الموافقة القطعية في مثل ذلك وإن كانت متعذرة ، إلا أن المخالفة القطعية ممكنة ، حيث يمكن في المثال الأول استعمال الماء في غير الوضوء القربي. وفي الثاني الترك أو الفعل لا بقصد القربة ، ونظير ذلك جميع موارد دوران الوجوب بين الضدين اللذين لهما ثالث.

وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره في مثل ذلك حرمة المخالفة القطعية ، لمنجزية العلم الإجمالي بالإضافة إليها ، وإن لم يكن منجزا بالإضافة إلى الموافقة القطعية ، لفرض تعذرها ، بناء منهم على أن تعذر الموافقة القطعية لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بالإضافة إلى المخالفة القطعية.

وقد لا يتم ذلك على مذهب المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن الاضطرار إلى بعض الأطراف يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بالكلية.

ومن ثم استشكل عليه غير واحد حيث وافق شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام. وتمام الكلام في ذلك في مسألة الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي من الفصل الآتي.

السادس : لو دار الأمر بين جزئية شيء للمركب ومانعيته فهو وإن رجع إلى الدوران بين محذورين بالإضافة إلى المركب الخارجي من حيث صحته

١٨٤

وفساده ، إلا أنه خارج عن محل الكلام ، لعدم كون إبطال المركب بالإتيان بالمانع منه محرما ، فمرجع الشك في المقام إلى الدوران بين وجوب المركب الواجد للأمر المذكور والفاقد له ، واللازم فيه الاحتياط بالجمع بينهما ، كما يأتي في الفصل الآتي.

ولو فرض تعذره كان من تعذر بعض أطراف العلم الإجمالي الذي يأتي الكلام فيه هناك أيضا.

نعم ، لو فرض حرمة إبطال المركب ـ كما هو المعروف في الصلاة ـ كان من هذه الجهة من الدوران بين محذورين ، وإن كان من حيثية الأمر بالمركب داخلا في الدوران بين المتباينين المقتضي للاحتياط فيهما بالتكرار.

على أنه يلزم تجنب ذلك بالدخول في كلتا الصورتين برجاء مشروعيتها ، فلا يحرم إبطالها من هذه الجهة ، لعدم قصد الامتثال بها مطلقا ، بل معلقا على مشروعيتها ، ولا تبطل في ظرف مشروعيتها.

نعم ، لو حدث له التردد في الاثناء بعد الجزم بالامتثال حين الدخول في العمل تعذر عليه تجنب احتمال حرمة الإبطال بكل من الفعل والترك.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ابتناء المقام على مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإن قلنا فيها بالبراءة كان المكلف مخيرا بين الوجهين ، وإن قلنا فيها بالاحتياط كان اللازم الجمع بالتكرار.

فلا يكاد يتضح وجهه ، ضرورة أنه إن كان المقام من دوران الأمر بين المتباينين ـ كما ذكرنا ـ كان العلم الإجمالي مقتضيا للاحتياط خروجا عن مقتضى البراءة ، حتى لو فرض أنها الأصل الأولي في تلك المسألة ، وإن كان من دوران الأمر بين المحذورين الذي يتعذر معه الاحتياط لزم التخيير حتى بناء على لزوم الاحتياط في تلك المسألة ، إذ لا مجال له في فرض التعذر.

١٨٥

وقد أطال قدّس سرّه الكلام بما لا مجال لتعقيبه ، فراجع ما ذكره في التنبيه الرابع من تنبيهات مسائل الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٨٦

الفصل الثالث

في الشك في تعيين التكليف

مع اختلاف المتعلق

وهو المعروف بينهم بدوران الأمر بين المتباينين.

وقد تقدم أنه يعم صورة اتحاد سنخ التكليف ، كما في الدوران بين وجوب القصر ووجوب التمام ، واختلافه ، كما في الدوران بين وجوب شيء وحرمة آخر.

والكلام في المقام إنما هو في أنه هل يلزم في ذلك الجمع في مقام الامتثال بين أطراف الترديد تحصيلا للموافقة القطعية ، أو يكفي الاقتصار على بعضها بنحو يخرج به عن المخالفة القطعية ، أو يجوز ترك تمام الأطراف وإن حصلت المخالفة القطعية ، كل ذلك من جهة العلم الإجمالي المفروض في المقام وتحديد مقتضاه.

وينبغي التعرض لمنشا حرمة المخالفة ولزوم الموافقة القطعيتين في سائر موارد تنجيز التكليف تمهيدا لمحل الكلام ، فنقول :

اندفاع المكلف للعمل يبتني على امور مترتبة في أنفسها ..

الأول : جعل التكليف.

الثاني : تنجزه.

الثالث : حدوث الداعي لامتثاله.

أما الأول فهو مما يستقل به المولى ، ولا يشركه فيه غيره ، حتى في

١٨٧

المستقلات العقلية بناء على التحسين والتقبيح ، لظهور أن وظيفة العقل ليست إلا إدراك الحسن والقبح الملزمين بنظر العقل للمولى بجعل الحكم على طبقهما ، وليس عمل المكلف مترتبا على استقلال العقل بالحسن والقبح إلا بضميمة استكشاف الحكم الشرعي المقتضي لحفظ الملاك من قبل الشارع بما يستتبعه من الثواب والعقاب الصالحين للداعوية بملاك دفع الضرر ، الذي هو أمر فطري ، وإلا فالحكم العقلي بمجرده لا يكفي في الداعوية وحفظ الملاك.

وأما الثاني فهو قد يستند لجعل المولى للحجج والاصول المنجزة لمؤداها بحكم العقل ، كما قد يستقل به العقل ، كما في موارد الظن الانسدادي بناء على الحكومة. وقد يستند إلى السبب التكويني ، وهو العلم ، بناء على ما سبق منا في مباحث القطع من كون ترتب العمل عليه ذاتيا لا يستند لحكم عقلي أو شرعي.

وأما الثالث فهو مما يستقل به العقل الحاكم بوجوب إطاعة المولى بملاك شكر المنعم ، أو ثبوت الحق له ، بالنحو المقتضي لاستحقاق العقاب ، الصالح للداعوية ، وليس الحكم المذكور مما يمكن الردع عنه شرعا ، إلا أن يرجع إلى رفع موضوعه ، وهو التكليف الشرعي ، أو رفع منشأ تنجيزه لو كان مستندا له.

هذا كله في فرض كون عمل المكلف إطاعة للتكليف ثبوتا ، فلو فرض الشك في ذلك لم ينهض ما سبق باحداث الداعي للمكلف نحو العمل ، لأن ما سبق إنما يقتضي لزوم الإطاعة الواقعية ثبوتا في رتبة سابقة على الشك.

بل لا بد في فرض الشك من أمر آخر مترتب على ما سبق ، وهو حكم العقل بلزوم إحراز الفراغ عن التكليف المنجز ، وعدم الأمان من مسئولية التكليف بدونه ، وهو مفاد قاعدة الاشتغال المسلمة عند الكل ، ومن الظاهر أن حكم العقل المذكور طريقي في طول حكمه بوجوب الاطاعة الواقعية ، وليس عينه.

١٨٨

ولا ريب عندهم في اختصاص العقل بالحكم المذكور ، والاستغناء به عن الرجوع للشارع ، كما لا ريب في سلطان الشارع على تحقيق مقتضاه بأن يتعبد بتحقق الامتثال بجعل الطريق إليه ، أو الأصل العملي المحرز له ، إذ لا يراد بإحراز الامتثال اللازم عقلا إحرازه وجدانا ، بالقطع ، بل ما يعم الإحراز التعبدي.

وإنما الإشكال في سلطان الشارع على الردع عن الحكم المذكور بالاكتفاء بالامتثال الاحتمالي من دون إحراز له.

وقد تقدم منا في التنبيه الثاني من تنبيهات أصل البراءة تقريب ذلك وإن كان على خلاف ظاهرهم ، كما تقدم بقية الكلام في القاعدة المذكورة.

إذا عرفت هذا ، فمن الظاهر أن منع العقل عن المخالفة القطعية في مورد تنجز التكليف بعلم أو علمي أو غيرهما يرجع إلى حكمه بوجوب الطاعة.

كما أن الزامه بالموافقة القطعية راجع إلى حكمه بلزوم إحراز الفراغ الذي هو مفاد قاعدة الاشتغال.

وقد عرفت امتناع ردع الشارع عن الأول ، إلا برفع موضوعه ، وهو التكليف ، أو رفع منشأ تنجيزه لو كان مستندا له.

كما عرفت إمكان ردعه عن الثاني ، كما أنه مسلط على رفع موضوعه برفع التكليف أو منشأ التنجيز ، وعلى تحقيق مقتضاه بجعل ما يوجب إحراز الامتثال تعبدا بنصب الطريق إليه ، أو جعل الأصل العملي فيه.

وحيث كان المعيار في المخالفة والموافقة القطعيتين ذلك في سائر موارد التنجيز ، فلندخل في ما هو المقصود بالمقام. ويقع الكلام فيه في مقامين ..

١٨٩

المقام الأول : في المخالفة القطعية

والمعروف المشهور عدم جواز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المفروض في المقام. وربما قيل بجوازها إما لقصور العلم الإجمالي عن اقتضاء المنع عنها ، أو لوجود المانع بعد فرض تمامية المقتضي.

أما الأول فيدفعه ما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع من عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في التنجيز المقتضي ـ كما عرفت هنا ـ للمنع من المخالفة القطعية ، لاشتراكهما في الجهة المقتضية للعمل. ومجرد ابتلاء العلم الإجمالي بالجهل بالموضوع وتردده بين الأطراف لا أثر له في الجهة المذكورة.

ولا مجال للاستدلال على منجزية العلم الإجمالي المانعة من الترخيص في المخالفة بلزوم التناقض بين الترخيص والحكم المعلوم بالإجمال ، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

لما سبق من عدم صحة الاستدلال بلزوم التناقض بالوجه المذكور حتى في العلم التفصيلي.

كما لا مجال للاستدلال على امتناع الترخيص في المخالفة القطعية بعموم دليل التكليف الواقعي للمعلوم بالإجمال ـ كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ.

إذ ليس الإشكال في فعلية التكليف الواقعي في مورد العلم الإجمالي ، كيف ولا إشكال في فعليته مع الشك البدوي ، لما هو المعلوم من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وإنما الإشكال في تنجز التكليف المذكور بالعلم الإجمالي ، والمتعين فيه ما ذكرنا.

وأما الثاني فلا منشأ له إلا توهم أن مقتضى عموم أدلة الاصول الترخيصية من البراءة وغيرها جواز إهمال احتمال التكليف في جميع الأطراف وإن استلزم المخالفة القطعية.

١٩٠

وحيث كان الكلام في ذلك مهما جدا ، لما يترتب عليه من الفوائد في المقام وغيره فاللازم النظر ..

أولا : في عموم أدلة الاصول ذاتا لأطراف العلم الإجمالي.

وثانيا : في إمكان جريانها في المقام بنحو تسوغ المخالفة القطعية وتمنع من حرمتها ، فيقع الكلام في أمرين :

الأمر الأول : في عموم أدلة الاصول ذاتا لأطراف العلم الإجمالي.

وقد وقع الكلام في ذلك بينهم ..

ولا يخفى أن الكلام هنا مختص بالاصول أما الطرق والأمارات فلا ريب في قصور أدلتها عن شمول أطراف العلم الإجمالي المستلزم للعلم بكذب أحدها ، من دون فرق بين ترتب الأثر عليها في جميع الأطراف وترتبه في بعضها ، كما لا فرق بين العلم الإجمالي بثبوت الترخيص والعلم بثبوت التكليف المنجز وغيره ، لأنها لما كانت حجة في لوازم مؤدياتها كانت متكاذبة في ما بينها بلحاظ مداليلها الالتزامية ، فيمتنع حجيتها في تمام الأطراف ، لاستحالة التعبد بالمتعارضين المستلزم للتعبد بالنقيضين ، ولا في خصوص بعضها معينا ، لعدم المرجح ، ولا مخيرا ، لعدم الدليل عليه.

ومن ثمّ كان الأصل في المتعارضين التساقط ، على ما يأتي مفصلا في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.

نعم ، لو لم تكن الأمارة حجة في لازم مؤداها لم يلزم المحذور المذكور ، بل تكون نظير الأصل الإحرازي الذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه اختلف المتأخرون في أن الاصول هل تجري ذاتا في أطراف العلم الإجمالي ، وينحصر المانع من جريانها بالمحذور المتقدم ، أو لا تجري ذاتا لقصور أدلتها عن شمولها؟

وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه الثاني ، حيث قال في مبحث الشبهة

١٩١

المحصورة ، في دفع توهم اقتضاء أدلة قاعدة الحل لجواز المخالفة القطعية : «ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع ، لأنها كما تدل على حلية كل واحد من الشبهتين كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ، لأنه أيضا شيء علم حرمته».

وقال في مسألة تعارض الاستصحابين إذا لم يكن أحدهما سببيا : «فالحق التساقط ... لأن قوله : «لا تنقض اليقين بالشك ، ولكن تنقضه بيقين مثله» ، يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ... وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، وأن قوله عليه السّلام : «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام» ، لا يشمل شيئا من المشتبهين».

وما ذكره قدّس سرّه لا يخلو عن غموض ، وقد يحمل على وجوه ينبغي التعرض لها حتى لو فرض عدم ظهور كلامه فيها لتوقف الكلام في المقام على النظر فيها ..

الأول : أن المعلوم بالإجمال لما كان هو الخصوصية المبهمة الصالحة للانطباق على كل من الطرفين بنفسه ، فهو متحد مع أحد الأطراف واقعا ، فيكون أحد الأطراف بواقعه موضوعا لليقين الرافع للأصل ، ولا مجال لجريان الأصل في كليهما للزوم التناقض.

وفيه : أن انطباق المعلوم بالإجمال على أحد الطرفين بخصوصه واقعا لا ينافي صدق موضوع الأصل ـ وهو الشك ـ فيه بعنوانه التفصيلي ، لأن طروء العلم والشك على الموضوع إنما يكون بلحاظ عنوانه لا بنحو يكون دخل العنوان فيهما لمحض الحكاية ـ كما في قولنا : جاء العالم ـ ولا لكونه محض علة فيه ـ كما في قولنا : أكرم العالم ـ بل لكونه جهة تقييدية بنحو تكون صفتا العلم

١٩٢

والجهل طارئتين على المعنون من حيثية العنوان ، لا مطلقا ، فلا مانع من اجتماعهما في الموضوع الواحد بلحاظ العناوين المختلفة المنطبقة عليه ، وعليه لا مانع من كون أحد الطرفين موضوعا للعلم بعنوان كونه أحد الأمرين اللذين يقوم العلم الإجمالي بهما ، وموضوعا للشك بعنوانه الخاص به ، ولا يكون العلم الإجمالي موجبا لخروجه عن موضوع الأصل واقعا.

فالأصل يجري في كل منهما بخصوصه ذاتا تبعا لتحقق موضوعه ، وإن كان لا يجري في الأمر المبهم على إبهامه ، لارتفاع موضوعه فيه بسبب العلم الإجمالي المفروض ، ولازم ذلك ترتيب أثر كل من الخصوصيتين تبعا لجريان الأصل فيهما ، دون أثر المعلوم بالإجمال المنطبق على أحدهما على ما هو عليه من الإبهام ، لارتفاع موضوع الأصل فيه.

نعم ، هذا الوجه يبعد عن كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه المتقدم ، لأن مقتضاه قصور دليل الأصل واقعا عن أحد الطرفين على إجماله ، لا عن كليهما ، مع ظهور كلامه قدّس سرّه في خروج كلا الطرفين بسبب الغاية في أدلة قاعدة الحل ، والذيل في أخبار الاستصحاب عن عموم الأصل.

بل هو الذي صرح به في بقية كلامه ، حيث قال : «فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معينا في الواقع غير معين عندنا. ليكون الفرد الآخر الغير المعين باقيا تحت العام ... إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ...».

الثاني : أن إطلاق العلم المجعول غاية في أخبار قاعدة الحل ، واليقين في ذيل أخبار الاستصحاب شامل للعلم واليقين الإجمالي ، فيرتفع تبعا له الحكم بالحل وبالاستصحاب في كل من الطرفين ، وإن لم يعلم الحال فيهما تفصيلا.

وهذا الوجه وإن كان بعيدا عن ظاهر كلاميه المتقدمين ، خصوصا الأول ، إلا أنه قد يتعين حملهما عليه بملاحظة تتمة كلامه في الاستصحاب ، حيث قال

١٩٣

في رد احتمال التخيير : «وقد عرفت أن عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنه نقض اليقين ، فلم يخرج من عموم : «لا تنقض» عنوان ينطبق على الواحد التخييري» ، فإنه صريح في أن عدم جريان الاستصحاب فيهما لتحقق اليقين الرافع له ، لا لقصور عموم دليل الاستصحاب عن شمول الشك المفروض فيهما.

وكيف كان ، فيندفع الوجه بأن المستفاد من أخبار قاعدة الحل كون الرافع للحل الظاهري هو العلم بالتكليف المنافي للشك فيه ، فالعلم الإجمالي وإن نهض برفع الحل بالإضافة إلى الواحد المردد على ما هو عليه من الابهام والترديد بين الأطراف ، لعدم الشك فيه ، إلا أنه لا ينهض برفعه بالإضافة إلى كل طرف بخصوصيته بعد فرض الشك فيه.

كما أن ظاهر أخبار الاستصحاب وجوب نقض اليقين باليقين المنافي له ، ولا يتنافي اليقينان إلا مع اتحاد متعلقهما ، لا مع اختلافه ولو بالإجمال والتفصيل ، كما اعترف قدّس سرّه بذلك في الجملة في رد القول العاشر من أقوال الاستصحاب.

الثالث : أنه لما كان العلم واليقين في أدلة الاصول يعم العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي وإن لم يناف الشك ـ الذي هو موضوع الأصل ـ في كل طرف بخصوصه ، وإنما ينافيه في الأمر المردد على إجماله ، إلا أن عموم موضوع الأصل لأطراف العلم الإجمالي مستلزم للتناقض بين التعبدين ، وهما التعبد بمؤدّى الأصل في كل من الطرفين بلحاظ حصول الشك فيه ، والتعبد بمقتضى العلم الرافع للأصل في المعلوم بالإجمال على إجماله ، للتناقض بين مفادي الموجبة الكلية والسالبة الجزئية ، فيمتنع التعبد بهما معا ، ويتعين البناء على قصور الاصول عن شمول الأطراف دفعا لذلك ، ولا طريق مع ذلك لاحراز تحقق موضوع الاصول ذاتا في الأطراف.

ولعل هذا الوجه هو الظاهر من كلامه قدّس سرّه المتقدم في الاستصحاب.

١٩٤

إن قلت : التناقض المذكور كما يندفع بتقييد الشك في الأدلة بغير صورة العلم الإجمالي ، كذلك يندفع بتقييد العلم الذي يجب العمل به بغير العلم الإجمالي ، وليس الأول أولى من الثاني.

قلت : لما كان مفاد الأصل أمرا تعبديا كان التقييد فيه أهون من التقييد لقضية لزوم العمل بالعلم الارتكازية ، بل هي آبية عن ذلك جدا.

ولا سيما مع كون عموم الأصل للأطراف لا يقتضي فعلية العمل بها ، من أجل المحذور الآتي ، فتحمل على الحكم الاقتضائي الذي هو خلاف الظاهر في نفسه.

ويندفع الوجه المذكور : بأن وجوب العمل بالعلم وارتفاع موضوع الأصل معه وإن ذكر في أدلة الاصول ، إلا أنه ليس أمرا تعبديا شرعيا ، لما هو المعلوم من أن حجية العلم ذاتية لا تقبل الإمضاء والردع الشرعي ، فليس في المقام إلا تعبد شرعي واحد ، وهو مفاد الأصل ، وليس موضوعه إلا الشك المفروض تحققه في الأطراف ، ولا يلزم من جريان الأصل فيها التناقض ، لتعدد الموضوع ، بل غاية ما في المقام هو العلم بكذب أحد الأصلين ، وليس هو محذورا ما لم يستلزم المخالفة العملية ، على ما يأتي توضيحه.

نعم ، قد يقال : وجوب العمل بالعلم وإن لم يكن تعبدا شرعيا ، بل أمر تكويني أو عقلي ، إلا أن التنبيه في أدلة الاصول له على أنه أمر مفروغ عنه مانع من عمومها لأطراف العلم الإجمالي ، لأن العلم الإجمالي لما كان منافيا عملا للاصول الجارية في أطرافه كان عموم أدلة الاصول لها مع التنبيه فيها للعمل بالعلم مستلزما للتناقض في دليل التعبد الواحد ، وإن لم يلزم التناقض بين التعبدين ، فيتعين البناء على قصور الأدلة المذكورة عن أطراف العلم الإجمالي دفعا لذلك.

وفيه .. أولا : أن القرينة المذكورة لو تمت فهي مختصة بما إذا كان العلم

١٩٥

الإجمالي مقتضيا للعمل بنحو ينافي مقتضى الأصل في الأطراف ، كما لو علم إجمالا بحرمة أحد الإنائين ولم يعلم حرمتهما سابقا. أما لو لم يترتب عليه العمل فلا وجه لمنعه من جعل الأصل ، ليكون التعرض له في الأدلة المذكورة مانعا من عمومها للأطراف ، كما لو علم إجمالا بتطهير أحد الإنائين المعلومي النجاسة سابقا ، لوضوح أن العلم المذكور وإن اقتضى السعة بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال ، إلا أن اشتباه المعلوم بالإجمال بالنجس مانع من ترتب العمل على العلم المذكور ، فلا يصلح للمنع من جعل الأصل الذي يترتب عليه العمل ، مع أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه صرح بعموم مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصل.

وثانيا : أن هذا المقدار من التنافي لا يوجب قصور موضوع الاصول عن شمول الأطراف تخصيصا بحيث تخرج عنه ذاتا ، بل يكفي في رفعه البناء على عدم فعليتها في مورد المنافاة لوجوب العمل بالعلم مع تحقق موضوعها ذاتا ، لما هو المرتكز عرفا من أن موضوع الاصول ليس إلا الشك الذي تضمنته الأدلة ، وهو حاصل في الأطراف ، وليس منافاة مفاد الأصل عملا لمقتضى العلم إلا من سنخ المانع عن فعليتها ، فإن ذلك كاف في القرينة الارتكازية على حمل الأدلة على ذلك في مقام الجمع بين الغاية والمغيى في أخبار قاعدة الحل ، والصدر والذيل في أخبار الاستصحاب ، لأنه أقرب ارتكازا من التزام التخصيص بالوجه المذكور.

ولا سيما خلو كثير من أدلة الاصول ـ كبعض نصوص الاستصحاب والبراءة وقاعدة الفراغ وغيرها ـ عن التنبيه لحجية العلم ، فلا مخرج عن ظهورها في كون موضوع الاصول محض الشك ، لعدم ابتلائها بالقرينة المذكورة ، غاية الأمر أن العموم المذكور مما لا مجال للعمل به في مورد المنافاة للعلم الإجمالي ، إلا أن هذا من سنخ المانع ارتكازا وليس من سنخ المخصص.

وتوضيح ذلك : أن المرتكز في رفع المنافاة بين عموم أدلة الاصول

١٩٦

وحجية العلم الإجمالي هو الالتزام ـ بتعدد الحيثيّة والجهة ، بنحو تؤثر كل جهة لمقتضاها في نفسها مع إعمال القواعد الارتكازية عند اجتماع الجهتين المختلفتين في مقام العمل ، فدليل الأصل لا يقتضي ترتيب مضمونه مطلقا ومن جميع الجهات ، بل من حيثية الشك المأخوذ في موضوعه ، كما أن العمل بالعلم إنما يقتضي متابعته في مورده لا غير ، فمع اجتماع الجهتين واختلاف مقتضاهما عملا ـ كما في مورد العلم الإجمالي ـ يرجع لقواعد التزاحم بين الجهتين ، فتختص فعلية التأثير في مقام العمل باحدى الجهتين دون الاخرى ، وإن تم المقتضي في كلتيهما.

مثلا : لو علم اجمالا بحرمة أحد الإناءين ، فمقتضى الأصل في كل من الطرفين إهمال احتمال التكليف فيه من حيثية الشك ، وهو لا ينافي تنجز المعلوم بالإجمال الملزم بالاحتياط في كل منهما ، لأن الاحتياط المذكور ليس لمحض الشك ، لينافي الأصل الجاري فيهما ، بل لأجل العلم الذي هو أمر زائد على الشك كاف في التنجيز.

كما أنه لو علم إجمالا بتطهير أحد الإنائين المعلومي النجاسة سابقا فالعلم الإجمالي وإن اقتضى السعة بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال ، إلا أنه لا ينافي تنجز احتمال التكليف في كل من الخصوصيتين بلحاظ سبق اليقين بنجاسته والشك في طهارته المقتضي لاستصحاب النجاسة.

وقد أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث الشبهة الوجوبية المحصورة ، فإنه بعد أن أشار لنظير ما تقدم منه في الشبهة التحريمية في وجه امتناع الرجوع للاصول قال : «فلا بد إما من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في مثل المقام مما علم وجوب الشيء إجمالا وإما من الحكم بأن شمولها للواحد المعين وجوبه ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد وكونه محمولا عليهم ومأخوذين به وملزمين عليه دليل علمي ـ بضميمة حكم العقل

١٩٧

بوجوب المقدمة العلمية ـ على وجوب الإتيان بكل من الخصوصيتين. فالعلم بوجوب كل منهما لنفسه وإن كان محجوبا عنا ، إلا أن العلم بوجوبه من باب المقدمة ليس محجوبا عنا ، ولا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدمة ، كما لا تنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك».

وقد أشار إلى ذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه أيضا في أول الكلام في الدوران بين المتباينين من حقائقه.

هذا ، ويشهد لما ذكرنا من تحقق موضوع الأصل ذاتا في أطراف العلم الإجمالي ما هو المفروغ عنه بينهم من إمكان التفكيك في الاصول بين الامور المتلازمة ، فمن توضأ أو اغتسل بمائع مردد بين البول والماء ، يستصحب الحدث وطهارة الأعضاء من الخبث مع العلم إجمالا بانتقاض إحدى الحالتين ، وهو مستلزم لعدم مانعية العلم المذكور من شمول الأصل للأطراف ذاتا ، وليس عدم جريان الأصل إلا لمحذور المخالفة العملية غير اللازم في المقام. فلاحظ.

ثم إن بعض الأعاظم قدّس سرّه مع اعترافه بتحقق موضوع الأصل في أطراف العلم الإجمالي ادعى امتناع جريان الاصول التنزيلية الإحرازية فيها ، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ وغيرهما ، لخصوصية في مفادها.

وحاصل ما ذكره : أن الاصول المذكورة وإن لم تكن من سنخ الأمارات متضمنة للحكاية عن الواقع ، إلا أنها تتضمن التعبد بمؤداها على أنه الواقع فهي متضمنة لإحراز الواقع لا بتوسط جعل الطريق إليه ، وحينئذ يمتنع جريانها في أطراف العلم الإجمالي ، لمناقضتها معه ، إذ كيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا في كل واحد من الإنائين مع العلم بتطهير أحدهما؟ وهو مستلزم للتناقض بين مفاد الأصل والواقع المعلوم.

وهذا بخلاف الاصول غير الإحرازية ـ كأصالة البراءة والحل والطهارة ـ

١٩٨

فإنها لا تتضمن إلا بيان الوظيفة العملية وتطبيق العمل على مقتضى الأصل من دون تعبد بالواقع ، فلا ينافي العلم الإجمالي بمخالفة الواقع في أحد الطرفين ، لأن الأصل يجري في كل طرف بخصوصه ، ولا يعلم بكذبه ومخالفته للعلم الإجمالي المذكور.

وفيه : أن الأصل الاحرازي لما كان يجري في كل من الطرفين بخصوصه مع قطع النظر عن الطرف الآخر فلا يناقض العلم الإجمالي ، لعدم العلم بانطباق المعلوم بالإجمال عليه ، والجمع بين التعبدين لا يستلزم المناقضة للعلم الإجمالي وإن رجعا إلى دليل واحد ، لوضوح أن الدليل المذكور يتضمن أحكاما انحلالية بحسب الموضوعات المتكثرة ، ولا يتضمن تعبدا واحدا بمجموع الأمرين ليكون مناقضا للعلم المذكور ، فلا فرق بين الأصل الاحرازي وغيره في ذلك.

على أن ما ذكره قدّس سرّه لو تم لامتنع جريان الاستصحاب في من توضأ بمائع مردد بين البول والماء ونحوه من موارد التفكيك بين الامور المتلازمة بسبب الأصل الاحرازي ، مع عدم الإشكال عندهم في جواز الرجوع له ، كما تقدم.

وقد حاول قدّس سرّه بيان الفرق بين ذلك وما نحن فيه ، وحاصل ما ذكره : أن جريان الاصول في ذلك لا يوجب إلا العلم الإجمالي بكذب الأصلين ، لاختلافهما في المؤدى ، وعدم رجوعهما إلى أمر واحد يعلم بكذبه تفصيلا ، أما في ما نحن فيه فيلزم العلم التفصيلي بكذب ما يؤدي إليه الأصلان ، لرجوعهما إلى أمر واحد يعلم بعدم ثبوته ، ففي استصحاب نجاسة الإنائين المعلوم طهارة أحدهما يعلم تفصيلا بكذب ما يؤدي إليه الأصلان ، لأنهما ينفيان طهارة أحدهما المعلوم ثبوتها تفصيلا.

وقد أطال في تقريب ذلك بما لا يرجع إلى محصل ظاهر ، لوضوح أن ما ذكره من الوجه في المنع ـ لو تم ـ لا يختص بالعلم التفصيلي بكذب الأصل ، بل

١٩٩

يجري في العلم الإجمالي أيضا ، إذ ليس ملاكه إلا امتناع إحراز ما يعلم خلافه ، ولا يفرق فيه بين العلم الإجمالي والتفصيلي.

مع أنه إن اريد بالمعلوم بالتفصيل المتميز في الذهن بخصوصيته ـ كما هو الظاهر منه ـ فالمفروض أنه لا معلوم بالتفصيل في المقام.

وإن اريد به ما يشار إليه بعنوان واحد وإن كان مبنيا على الإبهام والترديد ـ كعنوان أحد الأمرين ـ فهو متحقق في مورد النقض أيضا ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في أحد الأمرين من الحدث وطهارة الأعضاء في الفرض السابق.

ومجرد اتفاق مؤدى الأصلين في ما نحن فيه في السنخ والعنوان ـ كالطهارة والنجاسة ـ بخلاف مورد النقض ، لا يصلح فارقا بعد كون مجرى الأصل هو الأمر الخاص المباين للأمر الآخر وإن اتحد معه سنخا.

على أن الظاهر أن المنع عنده لا يختص بما إذا اتحد مجرى الأصلين سنخا ، بل يجري في مثل ما لو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة آخر ، أو بين نجاسة شيء وغصبية آخر ، وكان مقتضى الاستصحاب فيهما مخالفا لمقتضى العلم الإجمالي.

نعم ، لو كانت نجاسة كلا الطرفين في ما نحن فيه مقتضى أصل واحد ، بنحو يكون الاستصحاب مثلا مقتضيا لنجاستهما بنحو الارتباطية ، لقيام الأثر بهما معا ، مع العلم بطهارة أحدهما لزم العلم التفصيلي بكذب الأصل.

لكنه خلاف الفرض ، مع أنه جار في الأصل غير الاحرازي أيضا.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن العلم الإجمالي لا يوجب خروج أطرافه عن الاصول ذاتا ، وغاية ما يدعى أنه من سنخ المانع عنها بعد تمامية مقتضيها.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

الأمر الثاني : أنه بعد الفراغ عن شمول أدلة الاصول ذاتا لأطراف العلم

٢٠٠