المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

ومثله في الضعف ما عن النراقي قدّس سرّه من الاستدلال بما دل على رجحان الإبكاء على أهل البيت عليهم السّلام وترتب الثواب عليه.

لاندفاعه : بأنه مختص بما إذا كان السبب مباحا في نفسه ، وإلا لم يصلح الرجحان لمزاحمة حرمة السبب.

والذي ينبغي أن يقال : ذكر الامور المذكورة ونحوها إن كان مبنيا على الإخبار بها والتعهد بوقوع مضمونها على كل حال فالظاهر أنه لا مجال له حتى مع قيام الطريق المعتبر عليها ، لعدم وضوح جواز الاعتماد على الحجة في الحكاية عن الواقع ، ودليل الحجية منصرف إلى مقام العمل بمؤداها ، لا الإخبار به ونحوه مما هو من شئون العلم به.

وإن كان مبنيا على الإخبار بها من حيث قيام الطريق عليها ، بأن يكون راجعا لبا إلى بيان مؤدى الطريق وإن لم يصرح به ، لانصراف مقام الاخبار إليه وقصده ضمنا ، فهو تابع لعموم الطريق المفروض وخصوصه ، فإن اختص بالطريق المعتبر لم يجز التعدي عنه ، كما هو الحال في اخبار المفتي بالأحكام الشرعية ، وإن عمّ مطلق النقل وإن لم يكن معتبرا جاز الإخبار اعتمادا عليه ، ولا يلزم الكذب المحرم ، كما لعله الظاهر من حال الخطباء والوعاظ والقصاصين.

هذا ، ولو كان المراد بالتسامح في الامور المذكورة نقلها مع التصريح بنسبتها إلى الرواية التي اطلع عليها الناقل فلا ينبغي الإشكال في جوازه حتى مع العلم بالاختلاق ، وحتى في صفات الله تعالى ، وأحكام الحلال والحرام ، ولا وجه لاستثنائهما في كلام الشهيد الثاني المتقدم.

كما أنه لو اريد بالتسامح فيها ترتيب الآثار الاعتقادية عليها ، كاعتقاد تقديم من وردت الرواية بثبوت بعض الفضائل له ، كما قد يظهر من بعض العامة ، فهو غير جائز حتى مع قيام الطريق المعتبر ، لما أشرنا إليه آنفا من انصراف دليل الحجية الى مقام العمل بالحجة ، دون مثل الاخبار والاعتقاد ،

١٦١

ولعله اليه يرجع ما اشتهر بينهم من عدم جواز الاعتماد على الظن في اصول الدين.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في النصوص المتقدمة التي استدل بها لقاعدة التسامح في أدلة السنن. وإن بقيت بعض الامور غير المهمة لا مجال لإطالة الكلام فيها ، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو أرحم الراحمين.

الأمر الرابع : لما كان الاحتياط هو متابعة التكليف المحتمل فلا بد فيه من تحصيل تمام ما يعتبر في الفعل المحتمل ورود التكليف عليه. وهو واضح في الامور التوصلية.

وأما في العبادات فقد يستشكل فيه بتوقفها على قصد امتثال الأمر المتوقف على إحراز الأمر ، فمع فرض عدم إحرازه يتعذر الاحتياط ، لتعذر الفعل الذي يحتمل التكليف به بتعذر شرطه.

بل لو فرض إحراز الأمر وتردده بين الوجوب والندب فقد يشكل الاحتياط بتعذر نية الوجه التي قيل باعتبارها في العبادات.

وإن كان الظاهر اندفاعه بعدم الدليل على اعتبارها ، بل قيام الدليل على عدمه ، كما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع. بل لعله مورد اتفاق بينهم في فرض تعذر قصد الوجه لتعذر الاطلاع على حال الأمر.

فالعمدة الإشكال من الجهة الاولى.

وقد يدفع : بأنه يمكن قصد الأمر الوارد عليها من قبل أوامر الشارع بالاحتياط ، ويتحقق بذلك الشرط المقوم لعبادية العبادة.

لكن قد يستشكل فيه بوجهين ..

الأول : أن أوامر الشارع بالاحتياط ليست عبادية ، بل توصلية ـ وإن كان الأمر المحتاط فيه قد يكون عباديا ـ فلا تجعل متعلقها عباديا ، بل لا بد في عباديته

١٦٢

من قصد أمر آخر وارد عليه.

ودعوى : أن الأمر بالاحتياط في العبادات تعبدي وفي غيرها توصلي ، كالأمر بالوفاء بالنذر.

مدفوعة : بأنه لا وجه للتفكيك المذكور مع وحدة الدليل لا في الاحتياط ، ولا في الوفاء بالنذر ونحوه ، بل الظاهر أن الأوامر المذكورة توصلية لا غير ، واعتبار التقرب فيما لو كان المنذور عبادة ليس من جهة أمر النذر ، بل من جهة الأمر الأولي وإن تأكد بالأمر النذري ، ولذا يكون التقرب بقصده. ولو فرض قصد الأمر النذري أيضا كان من باب داعي الداعي.

وفيه : أن أوامر الاحتياط وإن كانت توصلية ، إلا أنها قابلة لأن يتقرب بها وتصير منشأ للعبادية ، لوضوح أن الأمر التوصلي ليس إلا ما لا يعتبر في امتثاله قصد التقرب به ، لا أنه غير قابل لأن يتقرب به ، بل ترتب الثواب على امتثاله موقوف على قصد التقرب به ، فلا مانع من صيرورته منشأ لعبادية الفعل التي فرض أن تحقق المأمور به المحتمل وتحصيل ملاكه موقوف عليها ، ولزوم التقرب بالأمر المذكور ليس لخصوصية فيه ، لينافي فرض كونه توصليا ، بل لخصوصية في متعلقه في المقام ، فالتقرب به لتحصيل المتعلق الذي لا بد منه في الأمر التوصلي.

الثاني : أن ما يحتمل الأمر به لما كان هو العبادة ، فلا بد في صدق الاحتياط عليه ودخوله في أوامره من فرض تحقق التقرب فيه في مرتبة سابقة ، إذ ما لم يكن كذلك لا يكون احتياطا ، كي تشمله أدلته ، فلا تكون أوامر الاحتياط هي الموجبة لعباديته وصدق الاحتياط عليه.

وما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن أوامر الاحتياط تتعلق بذات الفعل العبادي دون نية القربة ، فإذا تعلقت به كان للمكلف قصد امتثالها به ، وتكون عبادية الفعل مسببة عنها.

١٦٣

لا مجال له بعد وضوح أن الاحتياط لا يكون إلا بتحقيق المأمور به الواقعي وسقوط أمره بتحصيل تمام ما هو الدخيل في غرضه ، فإذا فرض أن متعلق الأمر المحتمل وموضوع الغرض هو العبادة المعتبر فيها التقرب ، فلا مجال لصدق الاحتياط على الذات المجردة عن القيد المذكور.

وفيه : أن عنوان الاحتياط المأمور به وإن كان لا ينطبق في المقام على الفعل بذاته ، بل على خصوص المقيد بقصد التقرب منه ، إلا أنه لا مانع من كون تحقق القيد المذكور خارجا مبنيا على ورود الأمر بالاحتياط على الفعل وناشئا منه ، لأن ما هو السابق رتبة على الأمر ليس إلا أخذ قيود المأمور به فيه ، لا تحقق القيود خارجا ، بل تحققها تابع للامتثال الخارجي المتأخر عن الأمر والمتفرع عليه.

وبعبارة اخرى : ما ينشأ من الأمر بالاحتياط ليس هو تقيد المأمور به بالعبادية ، بل تحقق القيد المذكور خارجا بعد أن كان متعذرا ، لعدم إحراز الأمر ، فغاية ما يلزم هو توقف القدرة على الاحتياط في المقام على الأمر به ، ولا محذور فيه.

فالعمدة في الإشكال في الوجه المذكور أمران ..

الأول : أن أوامر الشارع بالاحتياط ـ كما تقدم في الأمر الثاني ـ ليست مولوية ، لتكون صالحة للمقربية ، بل إرشادية بلحاظ حسن الاحتياط عقلا ، فلا تصلح للمقربية.

ودعوى : أن أوامر الاحتياط لما كانت شاملة للعبادات غير مختصة بالتوصليات ، وكان الاحتياط في العبادات موقوفا على إحراز الأمر ، كانت كاشفة عن تعلق الأمر العبادي بها ، ليكون الاحتياط فيها ممكنا.

مدفوعة : بأن عمومات الاحتياط إنما تقتضي الأمر به في ظرف القدرة عليه ، ولا تنهض ببيان القدرة عليه ، لتكون كاشفة عن الأمر بالوجه المذكور ، فلا

١٦٤

مانع من الالتزام بتعذر الاحتياط في العبادات المانع من فعلية الأمر به فيها ، وإن كان شاملا لها ذاتا ، كما هو الحال في سائر موارد تعذر المكلف به.

نعم ، لو فرض العلم بمشروعية الاحتياط في العبادات تعين البناء على القدرة عليه فيها ، إما باستكشاف الأمر بالوجه المذكور ، أو بوجه آخر ، كما سيأتي.

الثاني : أن الفراغ عن الأمر العبادي إنما يكون بقصده أو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف به ، ولا يكون بقصد امتثال أمر آخر ، فلا يفرغ المكلف عن أمر الزكاة إذا دفعها بداعي امتثال أمر إعانة المؤمن ، لا بداعي امتثال أمرها ، إلا أن يقصد إعانة المؤمن بنحو داعي الداعي ، كما تقدم في النذر.

فلو سلم أن الأمر بالاحتياط مولوي أو كاشف عن أمر مولوي ، إلا أن قصده لا يكفي في امتثال أمر العبادة الواقعي ، ولا يكون امتثاله إلا بقصده ، والمفروض أنه لا مجال لقصده مع عدم إحرازه.

نعم ، لو فرض تقييد العبادة المأمور بها بالأمر الواقعي المحتمل بقصد الأمر بنحو الطبيعة الصادقة على كل أمر فرض اتجه كون شمول الأمر بالاحتياط أو غيره لها موجبا للقدرة عليه ، وكفى قصده ، فلاحظ.

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو صدق بلوغ الثواب في بعض العبادات ، لورود خبر غير معتبر باستحبابها ، فإنه لا مجال لتصحيح الاحتياط فيها لأجل النصوص المتقدمة ، بناء على ما تقدم من سوقها مساق أوامر الاحتياط للإرشاد إلى حسن الانقياد.

وكذا بناء على تضمنها استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، لمباينة الأمر المذكور للأمر الواقعي العبادي الذي لا بد من قصد امتثاله في صحة الفعل العبادي الذي يراد الاحتياط فيه ، فلا يكفي قصد الأمر الذي تضمنته النصوص المذكورة ، ولا يكون فعلا للأمر الذي بلغ عليه الثواب.

١٦٥

نعم ، بناء على تضمنها حجية الخبر المذكور أمكن قصد امتثال الأمر الواقعي الذي تضمنه للجزم به حينئذ من جهة الخبر ، وخرج عن باب الاحتياط الذي نحن بصدده.

فالأولى في دفع شبهة تعذر الاحتياط في العبادات البناء على الاكتفاء في امتثال الأمر العبادي بالاندفاع عن الأمر المحتمل ، ولا يتوقف امتثاله على قصده بنحو يستلزم العلم به ، كما تقدم توضيحه في الفصل الخامس من مباحث القطع ، فقد ذكرنا هناك الاجتزاء بالوجه المذكور مع إمكان العلم بالحال فضلا عما لو كان متعذرا ، فراجع.

الأمر الخامس : إذا تعددت جهات الاحتياط ، فإن اختار المكلف المحافظة على تمامها فهو ، وإلا فالظاهر الترجيح بين الاحتياطين ارتكازا بأحد أمرين :

الأول : أهمية التكليف المحتمل ، فكلما كان التكليف أهم كان الاحتياط فيه أولى.

الثاني : قوة احتمال التكليف ، فكلما كان احتمال التكليف أقوى كان أولى بالمراعاة.

ومنه يظهر الحال لو لزم من الاحتياط التام محذور مانع منه ، كاختلال النظام ، فإن المتعين حينئذ الاكتفاء بالتبعيض ، والأولى ملاحظة المرجحين المذكورين.

وأما اختيار المكلف للاحتياط التام حتى إذا لزم المحذور ترك الاحتياط بالمرة ، فإن لزم منه مخالفة المرجحين المذكورين كان مرجوحا ، وإن لم يلزم منه مخالفتهما ـ بأن فرض تساوي جهات الاحتياط من حيث الأهمية ، وقوة الاحتمال ـ فلا موجب لمرجوحيته.

وأما ما يظهر من بعض مشايخنا من أن الأولى اختيار التبعيض من أول

١٦٦

الأمر والاستمرار عليه حينئذ ، لما ورد عنهم عليهم السّلام من أن القليل المدوم عليه خير من الكثير الذي لا يدوم (١).

ففيه : ـ مع أنه يبتني على كون الاحتياط مستحبا مولويا ـ أنه لا يبعد ظهور النصوص المذكورة في أولوية القليل من الكثير الذي ينقطع ضجرا ويهمل مللا ، لا لأجل تعذره أو لزوم المحذور منه.

بل لعل استحباب التعجيل بالخير يقتضي أولوية الكثير حينئذ. فتأمل جيدا.

التنبيه الخامس : في حكم الشك في القدرة

تقدم أن الرجوع للبراءة كما يتجه في الشبهات الحكمية يتجه في الشبهات الموضوعية.

ويخرج عن ذلك ما لو كان الشك في التكليف للشك في قيده العقلي ، وهو القدرة ، فيجب الاحتياط حتى يعلم بالتعذر المسقط للتكليف ، والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم.

وربما يستدل عليه : ـ كما في بعض كلمات سيدنا الأعظم قدّس سرّه (٢) ـ بعموم دليل التكليف ، بناء على أن العام حجة في الشبهة المصداقية من طرف الخاص إذا كان التخصيص لبيا ، كالتخصيص مع التعذر في المقام.

وفيه : ـ مع عدم تمامية المبنى المذكور ، واختصاصه بما إذا كان الخاص خفيا محتاجا للبحث ، لا في مثل المقام مما كان التخصيص من الوضوح بحد يكون من سنخ القرائن المتصلة المانعة من ظهور العام في العموم ، فتكون

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب : ٢١ من أبواب مقدمة العبادات ، وحديث ١٠ باب ٢٩ من أبواب المذكورة.

(٢) راجع مستمسك العروة الوثقى في شرح المسألة السابعة والعشرين من فصل مسوغات التيمم.

١٦٧

الشبهة فيه من طرف العام التي لا يكون العام فيها حجة بلا كلام ـ أن التخصيص بالقدرة وإن كان عقليا ، إلا أنه قد تظافرت به الأدلة اللفظية ، كحديث الرفع المتضمن لرفع ما اضطروا إليه وما لا يطيقون وغيره. فتأمل.

فلا يبعد أن يكون الوجه فيه بناء العقلاء على لزوم الاحتياط فيه ، نظير بنائهم على لزومه مع الشك في الفراغ ، لأنه بعد فرض ثبوت الملاك فليس التعذر إلا من سنخ الأعذار والموانع التي لا يصح الاتكال عليها إلا بعد إحرازها ، ولا يكتفى باحتمالها عندهم في قبح العقاب ورفع مسئولية الخطاب.

ومنه يظهر الوجه في قصور عمومات البراءة الشرعية ، لارتكاز ورودها جريا على ما عند العقلاء من قبح العقاب بلا بيان وتأكيدا لذلك ، فتنصرف عن المورد المذكور الذي ليس بناؤهم على السعة فيه.

هذا ، ولا يبعد جريان ذلك مع الشك في الأعذار الشرعية ، كالحرج والضرر ونحوهما مما يظهر من أدلة عدم ارتفاع الملاك الأولي معه ، وأن ارتفاع التكليف معه تخفيف من الشارع الأقدس ، توسيعا للقدرة المعتبرة ، فيكون عذرا شرعيا كالتعذر الذي هو عذر عقلي ، فلا يسوغ الاكتفاء باحتماله بحسب مرتكزات المتشرعة. فلاحظ.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في الشك في أصل التكليف. وهناك بعض الجهات التي قد يتضح حالها مما يأتي في بعض الفصول الآتية إن شاء الله تعالى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٦٨

الفصل الثاني

في الشك في تعيين التكليف

مع وحدة المتعلق

وهو مختص بالدوران بين وجوب شيء وحرمته الذي اشتهر في كلماتهم بالدوران بين المحذورين.

ويقع الكلام فيه في مقامين ..

المقام الأول : في مقتضى الأصل العقلي الأولي مع قطع النظر عن الجعل الشرعي.

والظاهر حكم العقل في المقام بالسعة وعدم الحرج في كل من الفعل والترك ، الراجع إلى عدم منجزية احتمال كل منهما وإن علم إجمالا بثبوت أحدهما ، لعدم الأثر للعلم المذكور بعد فرض تعذر موافقته ومخالفته القطعيتين ، ولزوم مخالفته وموافقته الاحتماليتين ، فلا يصلح للمنجزية.

والظاهر أنه إليه يرجع ما قيل من جريان البراءة العقلية من كل من الحكمين ، بمعنى قبح العقاب على كل من الأمرين ، لأنه من غير بيان ، بعد فرض المانع من منجزية العلم الإجمالي.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من منع جريان البراءة العقلية ، لأن مدركها قبح العقاب بلا بيان الذي لا مجال له في المقام ، للقطع بعدم العقاب بعد فرض امتناع منجزية العلم الإجمالي ، فلا يحتاج إلى حكم العقل بالقبح المذكور.

فهو مندفع : بأن عدم منجزية العلم الإجمالي إنما يقتضي القطع بعدم

١٦٩

العقاب من جهته ، أما عدم العقاب بلحاظ كل من الاحتمالين في نفسه ، فهو كعدم العقاب في مورد الشك في التكليف لا مجال للقطع به لو لا قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومثله ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن امتناع خلو المكلف عن الفعل والترك واضطراره لأحدهما موجب لحصول الترخيص في رتبة سابقة على الترخيص الظاهري الناشئ من عدم البيان الذي هو مفاد البراءة العقلية.

لاندفاعه : بأن الاضطرار المذكور إنما يمنع من منجزية العلم الإجمالي المقتضي للاحتياط في الاحتمالين معا ، ولا يلزم بالترخيص في كل من الأمرين ، بل لا منشأ للترخيص في كل منهما إلا عدم البيان المفروض ، لعدم صلوح كل من الاحتمالين له.

ودعوى : أن كلا من الاحتمالين وإن كان من صغريات عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية ، إلا أن عدم منجزيته في المقام ليس بالملاك المذكور ، بل لتعارضهما الموجب لاستحالة منجزيتهما معا تعيينا لتعذر الاحتياط فيهما معا ، ولا تخييرا للزوم اللغوية لامتناع خلو المكلف عن أحدهما ، كما سيأتي ، كما لا يمكن منجزية أحدهما بخصوصه ، لعدم المرجح.

مدفوعة : بأن استلزام التعارض للمحذور المذكور موقوف على كون كل منهما مما يقتضي في نفسه التنجيز والاحتياط وإذا كان كل من الاحتمالين في نفسه من صغريات عدم البيان لم يكن صالحا لذلك بمقتضى البراءة العقلية مع قطع النظر عن التعارض وفي رتبة سابقة عليه ، فالوجه المذكور لا ينافي جريان البراءة العقلية بالإضافة إلى كل من الاحتمالين ، وإنما ينهض ببيان عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام. فلاحظ.

اللهم إلا أن يكون مراده قدّس سرّه الإشارة إلى ما يأتي في مسألة الاضطرار إلى

١٧٠

بعض غير معين من أطراف العلم الإجمالي من احتمال كونه موجبا لسقوط التكليف المعلوم بالإجمال ثبوتا ، لا لسقوط العلم الإجمالي عن تنجيزه مع فعليته واقعا ، إذ بناء على ذلك لا مجال للرجوع للبراءة بملاك عدم البيان ، لأنه فرع احتمال التكليف الفعلي ، كما لا يخفى.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك ، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى ، فلا رافع لموضوع البراءة ، على أن حمل كلامه على ذلك بعيد ، لظهوره في إرادة الترخيص العقلي بملاك الاضطرار ، لا الترخيص الشرعي الراجع إلى عدم فعلية التكليف. فراجع وتأمل.

وأما ما يقال من أن المرجع في المقام هو التخيير ، فإن اريد به إلزام العقل بأحدهما تخييرا ، نظير إلزام الشارع بأحد طرفي الواجب التخييري ، والتخيير بين المتزاحمين ، فضعفه ظاهر ، لعدم الأثر للإلزام المذكور بعد فرض امتناع خلو المكلف عن أحد طرفي التخيير ، كما لا يخفى.

ومن ثمّ لا مجال للتخيير في مثل ذلك حتى مع فرض تزاحم التكليفين ـ الذي لا ريب أن مقتضى الأصل فيه التخيير ـ كما لو فرض انطباق عنوان واجب وأخر محرم على كل من الفعل والترك.

وإن اريد به مجرد عدم الحرج في كل من الفعل والترك المستلزم لاختيار المكلف لأحدهما بعد فرض امتناع خلوه منهما لعدم الداعي العقلي لأحد الطرفين ، نظير تخييره مع الاباحة الواقعية ، فهو راجع إلى ما ذكرناه وعرفت وجهه. ولا يبعد كون ذلك هو مراد القائلين بالتخيير.

هذا ، وربما يدعى أن مقتضى الأصل العقلي الأولي ، هو مراعاة احتمال الحرمة دون الوجوب ، لأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، لما قيل من أن الوجوب ناشئ عن المصلحة ، والحرمة ناشئة عن المفسدة.

وفيه .. أولا : أن الوجوب لما كان ناشئا عن المصلحة الملزمة كان فوتها

١٧١

ملازما للمفسدة أو من سنخها ، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «إذ مجرد فوات المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله في ما قبل الفوت عليه لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ...».

وعليه لا بد من توجيه ما اشتهر من تبعية الأوامر للمصالح والنواهي للمفاسد بعد اشتراكها في الحفاظ على المقدار اللازم ، بأن الواجب ما يكون له دخل في تحقق المرتبة اللازمة من الكمال ، أو في حفظها ، والحرام ما يكون له دخل في منع تحقق المرتبة المذكورة ، أو رفعها ، فمثلا لو فرض أن مرتبة من نشاط المزاج لازمة الحفظ ، فالواجب ما كان محققا لها من دواء أو مبقيا لها من غذاء ، والحرام ما كان مانعا منها أو رافعا لها. وما لا دخل له في المرتبة المذكورة ، بل هو دخيل بأحد النحوين في المرتبة الزائدة عليها يكون مستحبا أو مكروها.

ولا يبعد أن يكون ذلك هو المراد بالمصلحة في القاعدة المشار إليها ، حيث لا ريب في عدم نهوضه مهما كان مهمّا بمزاحمة المرتبة اللازمة المذكورة.

وعليه ترجع القاعدة إلى ترجيح التكاليف الإلزامية على غيرها ، لا ترجيح التحريم على الوجوب.

وثانيا : أن القاعدة المذكورة لو تمّت فهي من القواعد الواقعية الراجعة إلى ترجيح دفع المفسدة على تحصيل المصلحة في فرض التزاحم بينهما ، وليست من القواعد الظاهرية الراجعة إلى تقديم احتمال المفسدة على احتمال المصلحة عند الدوران بينهما ، لتنفع في ما نحن فيه ، لما هو المرتكز من أن منشأ الأولوية أهمية المفسدة من المصلحة ، ومن الظاهر أن أهمية أحد التكليفين إنما تقتضي ترجيح الأهم عند التزاحم ، لا تقديم احتماله على احتمال المهم في ظرف الدوران بينهما.

بل لما كان في احتماله زيادة كلفة لم يبعد جريان الأصل لنفيها ، كما هو المناسب لجريان الأصل في نفيه من رأس لو لم يعارض باحتمال تكليف آخر ،

١٧٢

كما في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، كما نبه له بعض مشايخنا.

نعم ، لو كان ملاك الترجيح راجعا للمكلف من حيث أن دفعه للضرر عن نفسه أولى من جلب النفع له فهو ينفع في المقام ، لوضوح أن أهمية دفع الضرر من جلب النفع كما تقتضي ترجيح الأول عند التراحم تقتضي الاحتياط فيه عند الدوران بينه وبين النفع ، بملاك لزوم دفع الضرر المحتمل.

لكنه موقوف على كون احتمال الحرمة مستلزما لاحتمال الضرر بنحو يقتضي تنجيزه ، وهو لو تم يقتضي الاحتياط في الشبهة البدوية ، ولا مجال له ، كما يتضح بمراجعة ما تقدم منا في الفصل السادس من مباحث التعبد بغير العلم.

المقام الثاني : في مقتضى الأصل الثانوي الشرعي

ربما يدعى أن مقتضى الأصل الشرعي الإباحة ، لعموم أدلتها.

والذي ينبغي أن يقال : إن كان المراد بالإباحة ما هو أحد الأحكام الخمسة ، أو ما يعم الأحكام الثلاثة غير التكليفية كما يظهر من المحقق الخراساني ، فلا مجال للبناء عليه ، لامتناع التعبد ظاهرا بما يعلم بعدم ثبوته واقعا ، بل لا بد من احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي.

مع أنه لا دليل على الأصل المذكور في غير المقام من موارد الشك في أصل التكليف ، لأن حديث الرفع والسعة والإطلاق ونحوها ظاهرة في رفع الحرج وجعل السعة من حيث احتمال التكليف ، من دون أن تقتضي التعبد بالحل بأحد المعنيين المذكورين.

وأما مثل قوله عليه السّلام : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» فهو وإن كان ظاهرا في التعبد بالحل ، إلا أنه ـ مع اختصاصه بالشبهة الموضوعية ، كما تقدم ـ ظاهر في إرادة الحل بالمعنى المقابل للحرمة المتقوم بالترخيص والإذن ، فيعم الوجوب ولا يضاده ، كما يناسبه المقابلة بين الحل والحرمة

١٧٣

وظهور كون القضية ارتكازية ، لبيان عدم صلوح احتمال الحرمة للتنجيز ، والبناء على المعنى المذكور في المقام لا بأس به ، كما يصح البناء عليه أيضا في الترك الملازم لعدم الوجوب ، فيبنى على جواز كل من الفعل والترك ، وهو يطابق الإباحة بالمعنى الثاني عملا.

هذا ، وأما الإشكال في الاباحة ظاهرا من جهة المخالفة الالتزامية. فلا يهم في المقام ، لأن الالتزام بالأحكام ، إنما يجب تبعا لوجوب الالتزام بالشريعة والانقياد لها ، وهو إنما يقتضي الالتزام بها على حسب وصولها ، فإذا فرض وصولها إجمالا كفى الالتزام بها كذلك ، وهو لا ينافي التعبد بالإباحة ظاهرا في مقام العمل لو فرض إمكان جعلها.

نعم ، لو اريد الالتزام بها على أنها الحكم الواقعي اتجه المنع عنه ، كما يتجه المنع عنه مع دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، لأن أصالة الحل وإن كانت جارية حينئذ بلا كلام إلا أنها إنما تقتضي الالتزام بالحل على أنه الحكم الظاهري العملي ، لا الحكم الواقعي المجعول على الموضوع بعنوانه الأولي. بل لا يجوز ذلك حتى في مؤديات الحجج ، لأنه قول بغير علم وتشريع محرم ، كما أشرنا إليه عند الكلام في أصالة عدم الحجية.

وإن كان المراد بالإباحة مجرد البراءة الشرعية من التكليفين المعلومين بالإجمال ، الراجع إلى جعل السعة ورفع الحرج شرعا فهو في محله ، لتحقق موضوعها ـ وهو الشك ـ بالإضافة إلى كل منهما ، والعلم الإجمالي بثبوت أحدهما لا يكون مانعا من جريانها بعد عدم صلوحه للتنجيز.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في منع جريان البراءة الشرعية من أن إمكان رفع الحكم شرعا فرع إمكان وضعه ، وحيث امتنع جعل الحكمين تعيينا أو تخييرا ـ لما تقدم ـ امتنع رفعهما بمقتضى البراءة.

ففيه : أنه يكفي في تصحيح رفعهما معا إمكان وضع أحدهما ، حيث لا

١٧٤

إشكال في سلطان الشارع عليه ، ولا يعتبر إمكان وضعهما معا ، لأن نقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية.

ومن هنا أمكن للشارع رفع الحكمين واقعا بجعل الإباحة الواقعية ، مع تعذر جعلهما معا واقعا تعيينا أو تخييرا.

مع أنه لو تم مختص بما إذا ادعي رفع كلا الحكمين بتطبيق واحد ، أما لو ادعي رفع كل منهما بتطبيق خاص ، لتمامية موضوع البراءة وهو الشك من حيثيته ، فلا إشكال ، لأن ما يرفع بكل من التطبيقين حكم واحد قابل للوضع بإيجاب الاحتياط فيه ، كما لعله ظاهر.

ومثله في الإشكال ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من اختصاص جريان البراءة بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان ، لرجوعه إلى ما تقدم منه في منع جريان البراءة العقلية ، وتقدم دفعه.

هذا ، وقد أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلى القول بوجوب مراعاة احتمال الحرمة شرعا ، لبعض الوجوه الظاهرة الوهن كما يظهر بملاحظة كلامه قدّس سرّه.

نعم ، قد يقال : الوجوه المذكورة ونحوها وإن لم تنهض بإثبات ترجيح احتمال الحرمة شرعا ، إلا أنها تكفي في احتمال ذلك ، وهو مانع من الرجوع فيه للبراءة. لكون المقام من موارد الدوران بين التعيين والتخيير.

وفيه : ـ بعد تسليم الرجوع لأصالة التعيين في الشك المذكور ـ أنه مختص بما إذا كان هناك تكليف شرعي مردد بين الوجهين ، ولا يجري في مثل المقام مما كان التخيير فيه راجعا إلى مجرد رفع الحرج في كل من الطرفين من دون أن يستتبع خطابا تخييريا بهما ، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في جعل الشارع لوجوب الاحتياط بالإضافة إلى احتمال الحرمة ، والمرجع فيه البراءة العقلية وعموم أدلة البراءة الشرعية ، ومن ثمّ كان الاحتياط الذي ادعاه الأخباريون

١٧٥

محتاجا إلى دليل.

هذا كله لو اريد احتمال ترجيحه شرعا ، وأما لو اريد احتمال ترجيحه عقلا ، فهو مندفع باستحالة تردد الحاكم في حكمه. ومن ثمّ لم نتعرض لذلك في المقام الأول.

ثم إنه قد يدعى لزوم ترجيح احتمال الحرمة لاحتمال أهمية الحرمة من الوجوب ثبوتا بلحاظ ما سبق من أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ونحوه مما لو لم يوجب اليقين بأهمية الحرمة فلا أقل من كونه موجبا لاحتمالها. وهو مبني على مرجحية احتمال أهمية أحد التكليفين في المقام ، ويأتي الكلام فيه في التنبيه الثاني إن شاء الله تعالى.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن كلّا من الاحتمالين في نفسه مورد للبراءة العقلية والشرعية بعد عدم صلوح العلم الإجمالي للمنع عن الرجوع إليهما.

هذا ، وأما الرجوع لاستصحاب عدم كل من التكليفين بالتقريب الذي تقدم في آخر أدلة البراءة فالكلام فيه مبني على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مع عدم لزوم المخالفة القطعية ، الذي يأتي الكلام فيه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وينبغي التنبيه على امور

الأول : أن الكلام المتقدم مبني على جريان البراءة في كل من الاحتمالين في نفسه ، فلو فرض عدم جريانها في خصوص أحدهما ، لوجود المنجز المانع من جريانها فلا ريب في لزوم متابعة المنجز المذكور عملا بدليله. والرجوع في الاحتمال الثاني للبراءة لعموم دليلها ، سواء كان المنجز دليلا اجتهاديا أم أصلا إحرازيا ـ كالاستصحاب ـ أو غيره ، كالاحتياط الواجب عقلا بمقتضى العلم الإجمالي أو غيره ، أو شرعا في موارد انقلاب الأصل التي سبقت الاشارة إليها أو

١٧٦

غيرها.

ولعله لذا حكى شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن ظاهر كلام السيد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط في المقام ، إذ لا يبعد ابتناؤه على ما عليه الاخباريون من دلالتها على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية دون الوجوبية المقتضي للاحتياط في احتمال الحرمة وترجيحه في المقام. أما لو كان المراد به الاحتياط من جميع الجهات فلا مجال له مع فرض الدوران بين محذورين.

هذا ، وقد استشكل شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الاستدلال لترجيح احتمال الحرمة بأخبار التوقف عن الشبهة بأنها ظاهرة في ما لا يحتمل الضرر بتركه ، فلا يشمل ما لو احتمل الوجوب ، كما في المقام.

وهو ـ لو تم ـ لا ينافي ما ذكرنا لرجوعه إلى قصور أدلة الاحتياط التي استند إليها الاخباريون عن شمول المقام ، والكلام إنما هو بعد فرض لزومه في نفسه.

على أنه غير تام ، على مسلك الاخباريين ، لأن احتمال الوجوب مورد لأدلة السعة المؤمّنة اتفاقا ، فلا يحتمل من جهته الضرر ، لتنصرف عنه أخبار الاحتياط المنجزة لاحتمال الحرمة عند الاخباريين.

إلا أن يدعى قصورها عن شمول صورة احتمال الوجوب مع احتمال الحرمة ، لا من جهة ملازمته للضرر.

لكنه غير ظاهر بعد فرض كونها واردة لتنجيز احتمال الحرمة لخصوصيته تعبّدا.

وأما على مسلكنا من ورود الأخبار المذكورة للإرشاد إلى اجتناب الشبهات المنجزة في أنفسها دفعا للضرر المحتمل فالأولى الجواب بقصورها عن شمول المقام لعدم منجزية كل من الاحتمالين في نفسه.

نعم ، لو فرض منجزيتهما كما في مورد التقصير في الفحص تم ما ذكره

١٧٧

شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم شمولها للمقام ، للوجه الذي ذكره. فتأمل جيدا.

الثاني : لو فرض احتمال أهمية أحد التكليفين اللذين يتردد الأمر بينهما ، فظاهر المحقق الخراساني قدّس سرّه لزوم ترجيحه ، وربما يحمل كلامه على قياسه بدوران الأمر بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم بين التكليفين.

وعن بعض الأعظم قدّس سرّه عدم صحة القياس المذكور ، وهو الذي صرح به غير واحد من مشايخنا.

والوجه فيه : أن احتمال أهمية التكليف في باب التزاحم ، مستلزم للعلم بثبوته ملاكا والشك في سقوطه خطابا بالمزاحمة ، والمرجع فيه الاحتياط ، ولا يرفع اليد عنه بالتكليف الآخر ، للعلم بسقوطه خطابا بالمزاحمة بالمساوي أو الأهم.

أما في المقام فالشك في أصل وجود الأهم ملاكا وخطابا ، والمرجع فيه البراءة ، كما يرجع إليها لو شك فيه بدوا من دون علم بثبوت أحد التكليفين.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا ملزم بالترجيح مع العلم بأهمية أحد التكليفين المحتملين في نفسه ثبوتا ، إذ العلم بأهميته لا ينفع مع الشك في أصل وجوده ، كما أشرنا إليه عند الكلام في ترجيح احتمال الحرمة عقلا.

نعم ، لو كانت الأهمية بنحو يعلم معه بجعل الاحتياط وانقلاب الأصل اتجه الترجيح بها ، لما تقدم في التنبيه الأول.

كما أنه لا مجال لتوهم ترجيح الأهم أو محتمل الأهمية ، لأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه وبين التخيير ، لما تقدم عند الكلام في ترجيح احتمال الحرمة شرعا من خروج المقام عن ذلك.

الثالث : هل يكون الظن في المقام مرجحا يلزم اتباعه ، أو لا بل يبقى التخيير بحاله؟.

مقتضى ما ذكروه في دليل الانسداد هو ترجيح الظن لو تمت مقدماته في

١٧٨

المقام ، وحيث كان من أهمها امتناع الإهمال بعد فرض تعذر معرفة الحكم تفصيلا فاللازم النظر في منشأ امتناع الاهمال.

فإن كان هو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف ، لعدم سقوطه عن التنجيز بتعذر الاحتياط التام كان لازمه عدم جواز الإهمال في المقام ، والتنزل للظن بعد تعذر العلم بالامتثال لأقربيته.

وإن كان هو العلم باهتمام الشارع بالأحكام لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بتعذر الاحتياط التام ، لما في الاهمال حينئذ من الخروج عن الدين بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به ، فلا مجال له في المقام ، لقلة الأحكام المجهولة بالنحو المذكور ، فلا يلزم من إهمالها محذور الخروج عن الدين ، ولا سيما مع تعذر المخالفة القطعية في المقام.

هذا ، وحيث تقدم عدم نهوض مقدمات الانسداد بتعيين الظن إلا في مورد تعلق غرض المكلف بحفظ التكليف الواقعي ، لتنجزه على كل حال ، بحيث يكون فوته موجبا لاستحقاق العقاب ولو مع تعذر تحصيله ، اختص الرجوع إليه في المقام بذلك ، كما لو كان اشتباه الحال بسبب تقصيره في الفحص اللازم عليه. أما في غير ذلك فلا دليل على لزوم مراعاة الظن ، بل مقتضى ما عرفت من عموم أدلة البراءة العقلية والشرعية عدمه.

ثم إنه لو فرض لزوم مراعاة الظن بالتكليف فالمراد به الظن بتعيين المعلوم بالإجمال بأحد الطرفين. لتكون متابعته امتثالا ظنيا للمعلوم بالإجمال ، لا الظن بثبوت التكليف في أحد الطرفين من غير جهة العلم الإجمالي ، كما لو تردد متعلق اليمين بين دخول المسجد وعدمه من دون ظن بأحد الأمرين ، وظن بوجوب الدخول لازالة النجاسة المظنونة الوجود فيه ، فإن متابعة الظن في المقام حيث لا تستلزم الظن بالخروج عن التكليف المنجز بالعلم الإجمالي لم ينهض العلم الإجمالي بالالزام بها ، وكان الظن المذكور كسائر موارد الظن

١٧٩

البدوي بالتكليف غير منجز لمورده.

الرابع : لو تعددت الوقائع مع الدوران في كل واقعة بين المحذورين فهل يكون التخيير استمراريا وفي كل واقعة ، بحيث يجوز المخالفة بين الوقائع في العمل وإن استلزم المخالفة القطعية الإجمالية فيها ، أو ابتدائيا وفي خصوص الواقعة الاولى مع لزوم العمل في بقية الوقائع على طبقها حذرا من لزوم المخالفة القطعية؟.

صرح شيخنا الأعظم قدّس سرّه هنا بالأول ، لعدم الدليل على حرمة المخالفة القطعية في المقام ، ووافقه على ذلك غير واحد من أعيان من تأخر عنه ، على اختلاف مسالكهم في الاستدلال عليه.

فقد ذكر بعض الأعاظم في وجه ذلك أن المخالفة القطعية ليست محرمة شرعا ، بل قبيحة عقلا ، وحكم العقل بقبحها فرع تنجز التكليف ، والمفروض أنه لا منجز له في المقام ، لعدم صلوح العلم الإجمالي في كل واقعة للمنجزية ، لا بلحاظ الموافقة القطعية ، لتعذرها ، ولا بلحاظ الموافقة الاحتمالية ، للزومها ، ولا وجه لضم بعض الوقائع إلى بعض ، كي يدعى تنجز العلم الإجمالي فيها بلحاظ المخالفة القطعية في بعضها إجمالا.

وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا : بأن العلم الإجمالي في كل من الواقعتين وإن لم يكن منجزا إلا أنه يتولد منهما علم إجمالي آخر لا مانع من تنجيزه بنحو يمنع من المخالفة القطعية ، مثلا لو دار الأمر بين وجوب الدخول للمسجد وحرمته في كل جمعة من الشهر فالعلم الإجمالي المذكور الحاصل في كل جمعة يتولد منه علوم إجمالية أخر ، حيث يعلم إجمالا مثلا بحرمة الدخول في الجمعة الاولى أو وجوبه في الثانية ، وبوجوبه في الاولى أو حرمته في الثانية.

والعلم المذكور وإن امتنعت موافقته القطعية ، إلا أنه يمكن موافقته الاحتمالية بالفعل في الجمعتين معا أو الترك فيهما معا ، فلا وجه لسقوطه عن

١٨٠