المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

وأما قيامها مقام القطع الموضوعي فهو المهم في المقام الذي اختلفت فيه كلمات الأعلام ، وفي قيامها مقامه مطلقا ، أو عدمه مطلقا ، أو التفصيل بين ما كان مأخوذا بما هو طريق للواقع ، وما كان مأخوذا بما هو صفة خاصة ، فتقوم مقام الأول دون الثاني ، وجوه أو أقوال.

صرح بالأخير شيخنا الأعظم قدّس سرّه. وقد استدل عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بما عرفت منه في أدلة جعل الطرق والأصول من أن مفادها جعل الطرق علما من حيث كونه طريقا وكاشفا ، لا من حيث كونه صفة خاصة ، فتلحقها أحكامه الثابتة له من الحيثية الاولى دون الثانية.

وفيه .. أولا : ما عرفت من الإشكال في المبني المذكور ثبوتا وإثباتا.

وثانيا : أنه لا يتم في الأصول لاعترافه بعدم قيامها مقام العلم في جهة كاشفيته وطريقيته ، بل في البناء العملي لا غير.

وثالثا : أن جعل الطريق علما شرعا إنما يقتضي ثبوت أحكام مطلق العلم له ، دون أحكام خصوص العلم الوجداني ، فإذا فرض ظهور أدلة أحكام العلم الموضوعي في خصوص الوجداني ـ كما اعترف به قدّس سرّه ـ لم تنهض أدلة اعتبار الطريق وجعله علما في قيامه مقامه في الأحكام المذكورة.

ودعوى : أن ذلك مقتضى الحكومة ، وأن أدلة أحكام العلم الموضوعي وإن كانت ظاهرة بدوا في خصوص العلم الوجداني ، إلا أن دليل جعل الطرق علما يكشف عن سعة موضوع تلك الأحكام وعمومه لمطلق العلم والمحرز وإن كان تعبديا ، كما هو الحال في سائر موارد الحكومة الموسعة للموضوع.

مدفوعة : بعدم كون المقام من موارد الحكومة المصطلحة لهم ، لاختصاص الحكومة بموارد التنزيل الادعائي المتقوم باشتراك المنزّل مع المنزّل عليه في الأحكام ، الكاشف عن كون موضوع تلك الأحكام هو الأعم منها ، وإن كان ظاهر أدلتها الأولية هو الاختصاص بالمنزل عليه ، كما في مثل :

٨١

المطلقة رجعيا زوجة ، والطواف بالبيت صلاة.

وليس المفروض في كلامه قدّس سرّه ظهور الأدلة في تنزيل الطرق منزلة العلم الوجداني والحكم عليها به ادعاء ، بل جعلها علما تعبدا ، فهي من أفراد العلم حقيقية بسبب التعبد.

وحينئذ فإذا فرض كون موضوع الأحكام مطلق العلم والإحراز لم تكن الأدلة المذكورة حاكمة ، بل تكون واردة عليها ، كما هو الحال في أحكام القطع الطريقي العقلية ، كالمنجزية واستحقاق العقاب وغيرهما. وإن فرض ظهور أدلتها في اختصاص موضوعها بالإحراز الوجداني ـ كما اعترف به قدّس سرّه في أحكام القطع الموضوعي ـ لم ينهض دليل التعبد بتسرية تلك الأحكام ، لعدم انحصار فائدته بذلك حتى يخرج به عن ظهور الأدلة ـ الذي اعترف به ـ إذ يكفي في فائدته تسرية أحكام مطلق العلم ، كأحكام القطع الطريقي. كما نبه إلى بعض ذلك شيخنا الاستاذ (دامت بركاته).

وقد يوجه ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه بدعوى : ظهور أدلة اعتبار الطرق والأمارات في تنزيلها منزلة العلم وأنها من أفراده ادعاء المقتضي لاشتراكها معه في أحكامه وإن لم تكن منه حقيقة ولا تعبدا ، كما تقدم في الوجه الثاني ، وهو. المصرح به في كلام بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

ويشكل .. أولا : بما عرفت من قصور الأدلة عن إثبات التنزيل المذكور.

وثانيا : بما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ وأشرنا إليه آنفا ـ من أن التنزيل المذكور إن كان بلحاظ الأحكام الشرعية لنفس العلم لم ينهض بقيام الطرق مقام القطع الطريقي الذي يكون منجزا لأحكام الواقع ، وإن كان بلحاظ الأحكام الشرعية لمتعلّق القطع لم ينهض بقيامها مقام القطع الموضوعي. ولا جامع بين الأمرين ، لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، إذ التنزيل بلحاظ أحكام نفس القطع مستلزم للحاظ القطع والطريق استقلالا في مقام التنزيل ،

٨٢

والتنزيل بلحاظ أحكام المتعلق مستلزم للحاظها آلة وعبرة للمتعلق ، وهو ممتنع. وحيث كان قيام الطرق مقام القطع الطريقي متيقنا من أدلة الحجية تعين البناء على عدم قيامها مقام القطع الموضوعي.

وقد يدفع الإشكال من هذه الجهة بوجوه ..

الأول : ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الاشكال المذكور إنما يتجه لو كان التنزيل في مورد الطريقية المحضة متوجها إلى نفس الواقع المعلوم والمؤدى ، أما إذا كان متوجها إلى نفس العلم والطريق فيمكن عموم التنزيل بلحاظ كلا الأثرين ، حيث يكون التنزيل بين الطريق والعلم بلحاظ تمام الآثار العملية المترتبة على العلم إما بموافقة حكم نفسه أو بموافقة حكم متعلقه ، كما لو كان العلم حاصلا بالوجدان. وعدم كون الأثر شرعيا في العلم الطريقي غير ضائر بصحة إطلاق التنزيل ، لأن شرعيته في طرف المنزّل كافية في صحة التنزيل وإن لم يكن كذلك في طرف المنزّل عليه.

وفيه : أن عدم كون الأثر شرعيا في الطريقية المحضة كما يكون في طرف المنزّل عليه ـ وهو العلم ـ كذلك يكون في طرف المنزّل ـ وهو الطريق ـ لما هو المعلوم من أن المنجزية والمعذرية ولزوم الاطاعة وعدم المعصية المقتضية ، للعمل على الواقع في العلم الطريقي من مختصات العقل غير القابلة للجعل شرعا ، وإنما يكون للشارع جعل موضوعاتها ، وهي الأحكام التكليفية أو الحجية أو نحوهما. وقد سبق آنفا ـ عند الكلام في الوجه الثاني ـ أنه بناء على التنزيل المدعى لا بدّ في قيام الطرق مقام العلم الطريقي من أحد وجوه أربعة ترجع إلى جعل أحكام الواقع ظاهرا أو جعل أحكام طريقية لحفظ الواقع المحتمل ، أو جعل الحجية لإحرازه وتنجيزه ، وكل ذلك لا يناسب قيام الطرق مقام القطع الموضوعي في أحكامه الشرعية الواقعية ، كما يظهر بالتأمل في ما سبق.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل من أن دليل

٨٣

الاعتبار وإن تضمن تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المقطوع به في أحكامه ، دون تنزيل نفس الأمارة منزلة القطع ، لما تقدم ، إلا أنه يستفاد منه تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع في أحكامه ، للملازمة العرفية بين التنزيلين ، وإن لم تكن بينهما ملازمة عقلية.

وقد استشكل في ذلك في الكفاية بوجه لا يخلو عن إشكال ، ولا يسع المقام التعرض له ، لتشعبه وتعدد محتملاته.

ويكفي في الجواب عما ذكره في الحاشية ـ بعد ابتنائه على كون مفاد أدلة اعتبار الطرق تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وقد عرفت الإشكال فيه آنفا ـ أن ما ادعاه من الملازمة العرفية مما لم يتضح مأخذه ، بل هو ممنوع جدا بعد تعدد موضوع التنزيلين واختلاف الأحكام المترتبة عليهما.

إن قلت : يكفي في ترتب أحكام القطع بالواقع على القطع بالمؤدى إطلاق تنزيل المؤدى منزلة الواقع بلا حاجة إلى تنزيل آخر ، كي يحتاج إثباته إلى دعوى الملازمة العرفية ويتسنى منعها.

وتوضيح ذلك : أن إطلاق التنزيل يقتضي ترتب جميع الأحكام التي كان المنزّل عليه دخيلا في ترتبها ، سواء كان تمام الموضوع لها أم جزءه ، بأن أخذ المنزل عليه قيدا في عنوان موضوعها ، فكما يكون مقتضى تنزيل عمرو منزلة زيد مشاركته له في مثل الحرية والولاية مما يثبت لعنوان زيد بنفسه واستقلاله ، كذلك مقتضاه مشاركته في مثل وجوب إكرام ولده لو فرض ثبوت وجوب إكرام ولد زيد ، مع أن الوجوب لم يثبت لعنوان زيد بنفسه ، بل ثبت لعنوان إكرام ولد زيد ، وليس زيد إلا جزء لموضوع الحكم وقيدا في عنوانه ، لا تمام الموضوع.

ولذا كان بناء الأصحاب ـ تبعا للمرتكزات العرفية في فهم الكلام ـ على أن مقتضى إطلاق تنزيل المطلقة رجعيا منزلة الزوجة حرمة اختها ، ومقتضى تنزيل الفقاع منزلة الخمر ـ لو فرض كون الدليل واردا مورد التنزيل ـ ثبوت الحد

٨٤

بشربه ، مع أن التحريم من أحكام اخت الزوجة ، والحد من أحكام شرب الخمر ، لا من أحكام الزوجة والخمر استقلالا بنحو يكونان تمام الموضوع لهما ، كالنجاسة والخمر.

نعم ، لو لم يكن المنزّل عليه دخيلا في موضوع الحكم ، وإنما اخذ في الدليل لمحض التعريف بالموضوع والإشارة إليه ، بأن لم يكن وجوب إكرام ولد زيد ـ مثلا ـ بما أنه ولد زيد ، بل لخصوصية فيه ولم يقصد بنسبته إليه في الدليل إلا محض الإشارة إليه ، كان تنزيل عمرو منزلة زيد قاصرا عن إثبات مثل ذلك ، لا بإطلاقه ولا بالملازمة العرفية ، فلا يجب إكرام ولد عمرو في المثال إلا بدليل آخر متضمن لتنزيله منزلة ولد زيد.

ومن الظاهر أن أخذ الواقع المعلوم بعنوانه في دليل الحكم الثابت للعلم الموضوعي ليس لمحض التعريف ، بل لكونه قيدا في موضوعه ، فإذا ورد : إن علمت المرأة بوفاة زوجها بدأت عدتها ، فوفاة الزوج قيد في موضوع الحكم لا محض معرف له. وحينئذ فإذا فرض ظهور اعتبار البينة في تنزيل مؤداها منزلة وفاة الزوج ـ الذي هو الواقع ـ كان مقتضى إطلاق التنزيل ثبوت الحكم المذكور ، فيحكم بأن العلم بمؤدّى البينة موجب لبدء عدتها. ولذا لا يظن من أحد التوقف في أن مقتضى إطلاق تنزيل الفقاع منزلة الخمر ثبوت أحكام العلم بالخمر للعلم بالفقاع كثبوت الحد ونحوه.

قلت : التنزيل المذكور لما كان ظاهريا لا واقعيا ، فمقتضاه ثبوت أحكام المنزل عليه للمنزل ظاهرا لا واقعا ، مع تبعية الحكم الواقعي للموضوع الواقعي ، وحيث كان ثبوت الأحكام ظاهرا مشروطا باحتمال تحقق موضوعاتها الواقعية ، فلا مجال له في المقام ، للعلم بعدم تحقق الموضوع الواقعي ، وهو القطع بالواقع. وأما ثبوت أحكام القطع بالواقع للقطع بالمؤدّى واقعا ، المستلزم لسعة موضوعها واقعا ، فلا ينهض به التنزيل الظاهري المذكور ، بل يتوقف على كون

٨٥

التنزيل واقعيا ، كما في تنزيل الفقاع منزلة الخمر.

وبالجملة : إطلاق تنزيل المؤدى منزلة الواقع لا ينهض بإثبات أحكام القطع الموضوعي للقطع بالمؤدى لا ظاهرا ولا واقعا. أما الأول فللعلم بعدم تحقق الموضوع الواقعي. وأما الثاني فلعدم السنخية ، بل لا بد فيه من تنزيل آخر واقعي ، إما بين المؤدّى والواقع ، أو بين القطع بالمؤدّى والقطع بالواقع ، ولا مجال لاستفادته من التنزيل الظاهري المذكور ، إلا بدعوى الملازمة العرفية ، وهي ممنوعة جدا ، لعدم المنشأ لها ارتكازا. فتأمل جيدا.

الثالث : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من أن الإشكال المذكور إنما يتوجه لو كان الملحوظ في مقام التنزيل مفهوم الطريق فقط ، حيث يمتنع الجمع بين لحاظه استقلالا في نفسه ولحاظه آلة وطريقا للمؤدّى. أما لو كان الملحوظ هو الطريق والمؤدّى معا وتنزيلهما معا منزلة القطع والواقع فلا يلزم المحذور ، لرجوعه إلى تنزيلين مختلفي الموضوع والآثار ، قد لحظ موضوع كل منهما استقلالا بلحاظ أحكامه الخاصة به. والمستفاد من أدلة الحجية هو الثاني ، كما يشهد به مثل قول العسكري عليه السّلام : «العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك فعني يؤديان ، وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان» (١) وغيره مما يتضمن الطريق والمؤدى كثير.

مع أن ما لا يكون بهذا المضمون لا بد أن يكون محمولا عليه ، جريا على الارتكاز العقلائي في باب الحجج من كونها بمنزلة العلم عندهم في ترتيب آثاره عليها. كما أن مؤداها بمنزلة الواقع في ترتيب آثاره.

وفيه : أن ما ساقه من الأدلة على التنزيل بالوجه المذكور مما لم يتضح دلالته عليه ، فإن الحديث المتقدم وإن تضمّن الحكم على العمري وابنه (رضوان الله عليهما) بالوثاقة ، ثم الحكم بأن ما أدياه فعنه عليه السّلام يؤديان ، إلا أن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ٩٩ ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٤ ،

٨٦

الأول قضية خبرية واقعية لا ترجع إلى تنزيل خبرهما منزلة العلم شرعا في قبال تنزيل ما يؤديانه منزلة الواقع ، بحيث يكون في المقام تنزيلان تعبديان مستقلان أولهما واقعي يرجع إلى سعة موضوع الحكم الوارد على العلم وشمولاه للطريق ، والثاني ظاهري في طول الواقع لبيان الوظيفة العملية حال الجهل به ـ بل سيقت للتمهيد للثاني ببيان موضوعه ، ولذا فرع الثاني على الأول بالفاء ثم علله بما يرجع إلى الأول. فليس في المقام إلا الحكم بأن ما أدياه فعنه يؤديان.

وهو حينئذ إما أن يحمل على الحقيقة ـ كما هو الظاهر ـ فيقتضى الملازمة الواقعية بين خبر العمريين (رضوان الله عليهما) والواقع ، نظير قوله صلى الله عليه وآله : «علي مع الحق والحق مع علي» ويدل على عصمتهما (رضوان الله عليهما) في الأداء عنه عليه السّلام. أو على الادّعاء الراجع إلى الحكم على ما يؤديانه بأنه أداء عنه عليه السّلام تنزيلا ، فلا يقتضي إلا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، كما تقدم في الوجه الأول. وحينئذ يتعين حمله على الكناية عن حجية خبرهما ، فيرجع إلى ما ذكرناه في الوجه الرابع ، وهو أجنبي عن تنزيل الطريق منزلة العلم في أحكامه الشرعية الخاصة به ، بنحو يقتضي ثبوتها له واقعا.

ومنه يظهر الحال في بقية أدلة الحجية النقلية ، فإنه ـ مضافا إلى عدم الإشعار فيها بالتنزيل بوجه ، كما أشرنا إليه آنفا ـ لا بد من حملها على حجية الطرق ، لأنه المرتكز عرفا ، كما تقدم في الوجه الرابع ، دون ما ذكره قدّس سرّه.

وأوضح من ذلك الأدلة اللبية ، لما أشرنا إليه في الوجه الثاني من أنه لا معنى للتنزيل فيها. فراجع وتأمل جيدا.

هذا حاصل ما تسنى لنا التعرض له من كلماتهم في المقام ، وقد جرينا فيه على ما يظهر منهم من أن جريان أحكام القطع الموضوعي مع قيام الطرق والأصول في طول جريانها مع القطع ، لكون الأحكام مختصة بالقطع ، فالتعدي منه إليها موقوف على كونها من أفراده التعبدية الجعلية ، أو الادعائية التنزيلية ،

٨٧

وحيث عرفت عدم تمامية الأمرين معا يتعين البناء على عدم قيامها مقام القطع الموضوعي مطلقا ، كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في الكفاية ، خلافا لشيخنا الأعظم قدّس سرّه.

لكن التحقيق : أن ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من التفصيل في محله ، لأن فرض كون المأخوذ في الموضوع هو القطع بما هو طريق إلى الواقع راجع إلى أن الموضوع ليس هو القطع بنفسه ـ حتى يتوقف جريان أحكامه مع الطرق على تنزيلها منزلته أو جعلها من أفراده تعبدا ـ بل بما أنه أحد أفراد الطريق ، والموضوع الحقيقي هو مطلق الطريق كما تقدمت الاشارة إليه في تقسيم القطع الموضوعي ، وحينئذ فتكون الطرق الشرعية بمقتضى جعلها من أفراد الموضوع حقيقة بلا حاجة إلى عناية جعلها علما تعبدا أو ادعاء ، كي يتسنى إنكار ذلك.

ومنه يظهر توجه الإشكال على المحقق الخراساني قدّس سرّه ، فإنه مع تفسيره القطع المأخوذ على وجه الطريقية بما ذكرنا منع من قيام الطرق مقامه ، مع أنه لا إشكال في كونها طرقا للمتعلق فتكون من أفراد الموضوع حقيقة بلا حاجة إلى عناية التنزيل أو التعبد بكونها علما كما ذكرنا.

نعم ، قد تتوجه الحاجة إلى ذلك بناء على ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه في تفسير القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية. فراجع.

إن قلت : أدلة الحجية إنما تقتضي التعبد بالمؤدى وإحرازه بلحاظ أثره ، للغوية التعبد بالشيء من دون لحاظ أثر عملي مترتب عليه ، والمفروض أن الأثر في المقام ليس مترتبا على المؤدى ، بل على نفس التعبد والإحراز ، فمع ترتب الأثر على المؤدى لا يصح التعبد به ، حتى يترتب أثر التعبد المذكور ويقوم مقام القطع الموضوعي.

قلت : يكفي في تصحيح اعتبار الحجية ورفع لغوية التعبد ترتب الأثر على نفس التعبد ، ولا يعتبر ترتب الأثر على نفس المؤدّى ، لأن الحجية ليست

٨٨

عبارة عن وجوب المتابعة ، حتى تتوقف على فرض أثر للمؤدى تتحقق المتابعة بلحاظه ، بل هي ـ كما تقدم ـ معنى اعتباري يقتضي الاعتماد على الطريق في إثبات المؤدى والبناء عليه ، وهذا المعنى لا يتقوم بفرض الأثر للمؤدى.

نعم ، لا بد في تصحيح التعبد من فرض أثر يخرجه عن اللغوية ، ويكفي فيه الأثر المفروض في المقام المترتب على نفس التعبد والإحراز.

مع أن هذا ـ لو تم ـ إنما يمنع من قيام الطرق مقام القطع الموضوعي لو فرض عدم الأثر للمؤدى ، أما لو فرض ثبوت الأثر له أيضا فلا وجه للمنع. فلاحظ.

ثم إن مما ذكرنا يظهر أن أدلة اعتبار الطرق وحجيتها تكون واردة على دليل حكم القطع الموضوعي ورودا واقعيا ، نظير أدلة مملكية الحيازة مع أدلة أحكام الملك ، لا حاكمة عليه حكومة واقعية ، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه وغيره ، إذ الحكومة عندهم مختصة بباب التنزيل ، وقد عرفت أنه لا تنزيل في المقام ، وأن الطرق من أفراد الموضوع الحقيقية بسبب التعبد الشرعي.

ومن الغريب ما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الحكومة في المقام ظاهرية. فإن الحكومة الظاهرية إنما تجري في ما يقتضي إحراز الموضوع إثباتا مع تبعيته للواقع ثبوتا ، والإحراز بالطرق في المقام محقق للموضوع واقعا ، لا لاحرازه إثباتا ، فإن المحرز ظاهرا بالطرق هو المؤدّى ، والمفروض عدم كونه موضوع الحكم ، وإنما الموضوع هو الاحراز المحقق بها واقعا بضميمة دليل التعبد.

نعم ، قيامها مقام القطع الطريقي بملاك الحكومة الظاهرية ، لأن المحرز بها ظاهرا هو الواقع الذي هو موضوع الأحكام الشرعية أو العقلية من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ، مع تبعية الأحكام ثبوتا للموضوعات الواقعية ، لا

٨٩

للإحراز ، فترتب الأحكام عليها لإحراز موضوعاتها ظاهرا ، لا لتحققها واقعا.

هذا كله في الطرق ، وأما الأصول فحيث عرفت أن التعبد فيها بالمؤدى مع الشك ابتداء ، لا بتوسط قيام الطريق والحجة عليه فقيامها مقام القطع الموضوعي موقوف على أن أخذ القطع في الموضوع من حيث كاشفيته وطريقيته التي لا يشاركه فيها إلا الطرق دون الأصول ، أو من حيث كونه سببا في البناء على متعلقه وإحرازه الذي يشاركه فيه الأصول أيضا ، وذلك موكول إلى ما يستفيده الفقيه من الأدلة.

وإن كان لا يبعد الثاني بل لعله الظاهر ـ مع عدم قرينة على التقييد ـ بناء على ما عرفت في الفصل الأول من أن العلم ليس طريقا للواقع ، بل هو عبارة عن نفس الوصول إليه وإحرازه الذي هو نتيجة الطريق ، فإن الأصول بسبب التعبد بها تشاركه في النتيجة المذكورة ، كالطرق والأمارات.

نعم ، هذا مختص بالأصول التعبدية ، كالاستصحاب وأصالة الحل والطهارة ، دون البراءة والاحتياط.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الوجه في عدم قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي المأخوذ بما هو صفة خاصة ، فإن دليل التعبد بها لا يقتضي مشاركتها له في الخصوصية المذكورة ، ولا تنزيلها منزلته في الأحكام.

نعم ، هو محتاج إلى دليل خاص يقتضي التنزيل المذكور ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه. وهو ـ لو تم ـ كان حاكما على دليل القطع الموضوعي المذكور ، بناء على ما عرفت في ضابط الحكومة عندهم.

فالإنصاف : أن ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في غاية المتانة ويسهل الاستدلال عليه بما تقدم ، من دون حاجة إلى ما ارتكبه من بعده من التكلفات والتعسفات التي عرفت الكلام فيها. وقد أطلنا الكلام في ذلك مجاراة لهم ، ولو لاها لكنّا في غنىّ عن هذا التطويل بما ذكرنا. فتأمل جيدا. والله سبحانه ولي

٩٠

العصمة والسداد.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه تعرض بتبع ذلك لأقسام الظن ، فذكر أنه وإن لم يكن كالعلم الطريقي في حجيته الذاتية ، بل يفتقر إلى الجعل ، إلا أنه قد يؤخذ طريقا صرفا لمتعلّقه وحجة شرعا عليه ، وقد يؤخذ موضوعا في الحكم ، إما بما هو طريق لمتعلّقه ، أو بما هو صفة خاصة ، فيقوم مقامه سائر الطرق في الأولين دون الأخير.

وقد أطال بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في الاقسام المذكورة وأحكامها. ويتضح حال كثير مما ذكر بملاحظة ما ذكرنا في القطع وأقسامه. ولا مجال مع ذلك لتفصيل الكلام فيها ، ولا سيما مع عدم وضوح الأثر العملي لذلك ، فلاحظ. ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق.

٩١
٩٢

الفصل الرابع

في عموم أحكام القطع لجميع أفراده وعدمه

الكلام هنا .. تارة : في القطع الموضوعي.

واخرى : في القطع الطريقي.

أما الأول فحيث كان أخذه في موضوع الحكم تابعا للحاكم فعمومه وخصوصه من حيثية الأشخاص والأسباب والحالات وغيرها تابع له كسائر الموضوعات المأخوذة في أحكامه.

ومن ثمّ قيل بإمكان تقييده بغير قطع القطاع. بل قيل : إن الإطلاق منصرف عنه لو فرض عدم المقيد له خارجا. وربما حمل عليه كلام كاشف الغطاء الآتي.

والذي ينبغي أن يقال ..

تارة : يراد من قطع القطاع من يكثر منه القطع على خلاف ما يتعارف لغيره ، لتهيؤ أسبابه المتعارفة له دون غيره ، لعلمه بالمقدمات الحسية أو الحدسية الموجبة له. ولا إشكال في إمكان تقييد إطلاق القطع بالإضافة إليه بدليل خاص.

أما انصراف الإطلاق عنه بنفسه بلا حاجة للتقييد فلا وجه له. ومجرد الخروج عن المتعارف في الكثرة لا يوجبه ، كالخروج عن المتعارف في القلة في حق بعض الأشخاص بسبب قلة تهيؤ المقدمات الموجبة له في حقهم.

نعم ، قد ينصرف الإطلاق عن خصوص بعض الأسباب لقرائن عامة أو خاصة ، كاختصاص حجية الخبر في الأمور الحسية بما إذا استند إلى الحس ، وما قيل من اختصاص حجية فتوى المجتهد بما إذا حصل له العلم من الطرق

٩٣

الشرعية المتعارفة ، دون مثل الجفر والرمل ونحوهما مما يوجب العلم لممارسه.

وأخرى : يراد منه من يحصل له القطع من أسباب غير متعارفة لا ينبغي حصوله منها ، بحيث لو فرض حصولها لغيره لم توجب القطع له.

ولا يبعد انصراف إطلاق دليل أخذ القطع في الموضوع عن مثله بالإضافة إلى الأحكام المتعلقة بغير القاطع ، كحجية شهادته وفتواه ونفوذ حكمه ونحوها مما يتعلق بغيره ، لأن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي كون أخذ القطع من حيثية غلبة الوصول به للواقع المقطوع وكشفه نوعا عنه ، وذلك لا يحصل في القطع الحاصل من الأسباب المذكورة ، فهو نظير اعتبار الضبط في الشاهد والراوي.

وأما بالإضافة إلى الأحكام المتعلقة بالقاطع نفسه فلا مجال للانصراف المذكور ، لعدم كون ذلك مما يدركه القاطع في قطعه ، لأنه يرى أن قطعه من سبب ينبغي حصوله منه ، وأن عدم حصوله لغيره لقصور فيهم لا في السبب نفسه.

ومنه يظهر امتناع التقييد بذلك في دليل خارج ، لأن عنوان المقيّد إذا لم يتيسر تشخيصه يلغو التقييد به ، لعدم صلوحه لأن يترتب عليه العمل.

نعم ، للحاكم أن يحصل غرضه بالتقييد بوجه آخر راجع إليه ملازم له قابل لأن يدركه القاطع ، مثل التقييد بخصوص السبب الذي يحصل القاطع به لمتعارف الناس ، دون غيره من الأسباب ، وإن كان مما ينبغي حصول القطع به بنظر القاطع ، فإن العنوان المذكور مما يمكن للقاطع تشخيصه ، فلا يلغو التقييد به. فلاحظ.

وأما الثاني ـ وهو القطع الطريقي ـ فحيث كان العمل عليه تابعا لذاته لم يفرق فيه بين أفراده ، لعدم الفرق بينها في الخصوصية المقتضية للعمل عليه ، كما

٩٤

يظهر بالتأمل في الوجه المتقدم في الفصل الأول. ولم ينقل الخلاف في ذلك إلا في موردين ..

الأول : ما عن كاشف الغطاء قدّس سرّه من عدم الاعتبار بقطع من خرج عن العادة في قطعه ، كما لا اعتبار بشك كثير الشك وظن كثير الظن.

قال في محكي كلامه في مباحث الصلاة : «وكثير الشك عرفا ـ يعرف بعرض الحال على عادة الناس ـ لا اعتبار بشكه. وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو ظنه ، فإنه يلغو اعتبارهما في حقه».

وظاهر كلامه إرادة القطع الطريقي ، لما هو المعلوم من أن القطع في باب الصلاة كالظن والشك لا يكون مأخوذا في موضوع الحكم الواقعي ، وإن افترق عنهما بأخذهما في موضوع الحكم الظاهري دونه ، إذ لا مجال للحكم الظاهري معه.

ولا مجال مع ذلك لاحتمال حمله على القطع الموضوعي ، وإن جعله شيخنا الأعظم قدّس سرّه وجها في تعقيب كلامه قدّس سرّه ، بل هو الذي قربه شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) ، لأن رفعة مقام كاشف الغطاء قدّس سرّه تمنع من حمل كلامه على القطع الطريقي. لكنه ـ كما عرفت ـ خروج عن ظاهر كلامه. والعصمة لاهلها.

وأما ما ذكره في الفصول في توجيه المنع عن العمل بقطع القطاع ولو كان طريقيا ، من إمكان منع الشارع عن التعويل على القطع ، وأن العقل قد يستقل في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعي ، لمنافاته لحكمة فعلية قطعية ، وقد لا يستقل بذلك ، لكن يستقل حينئذ بحجية القطع في الظاهر ما لم يثبت المنع الشرعي.

فهو مبني على ما ذكره في الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي من أن استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي واقعيا كان أو ظاهريا مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي عنده من تعويله عليه ، بتخيل أن حجية القطع من

٩٥

الأحكام العقلية.

وضعفه يظهر مما سبق في الفصل الأول من أن ترتب العمل على القطع ليس بملاك حكم العقل بحجيته ، بل لخصوصيته الذاتية غير القابلة للتصرف الشرعي.

مع أن ما بنى عليه في الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي قد تقدم ضعفه في ذيل الفصل الأول من مباحث الملازمات العقلية. فراجع.

الثاني : ما حكي عن الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية النظرية على تفصيل في كلماتهم. وقد تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره لبعضها.

وقد ادعى المحقق الخراساني قدّس سرّه أن مرادهم بها إما المنع من حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية ، أو المنع من الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي.

لكن حمل بعض كلماتهم على ذلك وإن كان ممكنا إلا أنه قد يصعب حمل جميعها عليه ، بل قد يتعذر ، لظهورها أو صراحتها في ما تقدم من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية. وذلك بظاهره ممتنع ، لما سبق في وجه لزوم متابعة القطع.

نعم ، قد يستدل عليه بالأخبار الكثيرة التي أشار إلى بعضها شيخنا الأعظم قدّس سرّه مثل قولهم عليهم السّلام : «حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا» (١) وما ورد من النهي عن أن يدان لله تعالى بغير السماع منهم (٢) ، وما تضمن النهي عن النظر في الدين بالرأي (٣) ، وقولهم عليهم السّلام : «أما لو أن رجلا صام نهاره وقام ليله وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه فتكون

__________________

(١) تراجع هذه المضامين في الوسائل ج ١٨ : ٤١ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي.

(٢) تراجع هذه المضامين في الوسائل ج ١٨ : ٤١ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي.

(٣) راجع الوسائل ج ١٨ : ٢١ ، باب : ٦ من أبواب صفات القاضي.

٩٦

أعماله بدلالته اليه ما كان له على الله ثواب ، ولا كان من أهل الإيمان» (١).

لكن التأمل في النصوص المذكورة قاض بأنها أجنبية عما نحن فيه ، بل هي واردة لبيان عدم حجية الرأي والقياس ووجوب التعبد بأقوالهم عليهم السّلام ، وعدم الاستغناء عنهم بذلك.

أو لبيان عدم إيصال الرأي والنظر للحكم الشرعي ، بل هو يزيد في التيه والضلال ، نظير ما تضمن أن السنة إذا قيست محق الدين ، فيكون التسليم به مانعا عن حصول القطع منه غالبا.

أو لبيان عدم جواز النظر في الدين ، لما قد يستتبعه من الضلال والخطأ ، فيكون الناظر مقصرا غير معذور حتى لو فرض حصول القطع له ، وهذا لا ينافي لزوم العمل على طبق القطع ، لما سبق من عدم التلازم بين لزوم العمل بالقطع ومعذريته في فرض الخطأ.

أو لبيان شرطية الولاية في قبول الأعمال ، وغير ذلك مما يظهر بالتأمل في النصوص المذكورة على اختلاف ألسنتها.

هذا ، وقد قرّب شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) حمل النصوص المذكورة على كون أخذ الحكم من الكتاب والسنة شرطا في صحة العمل عبادة كان أو معاملة ، لا شرطية الولاية له فقط ، فالحكم وإن كان ثابتا مع وصوله بالطرق العقلية ، إلا أنه يتعذر امتثاله إلا بعد النظر في أدلته من الكتاب والسنة ، نظير تعذر امتثال أمر الصلاة للجنب والكافر إلا بعد الغسل والإيمان.

نعم ، لا بد من كون الاشتراط المذكور بنتيجة التقييد لا بالتقييد اللحاظي ، فرارا عن محذور أخذ ما يتأتى من قبل الحكم في متعلقه ، نظير ما يذكر في مبحث التعبدي والتوصلي.

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١٨ : ٢٥ ، باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٣ وقريب منه في ج ١٨ : ٤٤ ، باب : ٧ حديث ١١.

٩٧

وكأنه استند إلى مثل الخبر الأخير الظاهر في كون اعتبار الولاية لأجل اعتبار كون العمل بدلالة الولي عليه السّلام ، فالشرط في الحقيقة هو الدلالة المذكورة.

وفيه : أنه لا يبعد كون ذكر دلالة الولي عليه السّلام لبيان لزوم الخضوع له والتسليم لقوله ، بحيث لو دلّ على شيء لقبل منه ، كما هو لازم الولاية ، لا لبيان اعتبار كون كل عمل صادرا عن دلالته ، لما هو المعلوم من سيرة الأصحاب من الاكتفاء في العمل بما حصلوه من الكتاب والسنة ولو لم يكن بدلالة ولي العصر عليه السّلام ، وعدم توقف العمل في كل حكم على وصوله منه واستناده له.

كيف ولازم ذلك تعذر الاحتياط مع الشك في الحكم؟! لعدم كون العمل بدلالة ولي الله ، بل برجاء مشروعيته لا غير ، وهو ـ كما ترى ـ مخالف لسيرة العلماء والمتشرعة في الفتوى والعمل.

وكيف كان ، فلا إشعار في النصوص المتقدمة في عدم جواز العمل على طبق الحكم المقطوع به بعد فرض حصول القطع به الذي هو محل الكلام في المقام. كيف وهو من المستحيلات التي يمتنع الحكم بها من الشارع الأقدس.

نعم ، لو فرض تمامية دلالة النصوص المذكورة عليه كان لا بد من حملها على ما سبق في الأمر الأول من الفصل السابق من توجيه تقييد الحكم بالعلم به ببعض الوجوه ، إما بأن يكون العلم المأخوذ في الحكم هو العلم بالحكم الكلي ، الذي هو مؤدى الكبريات الشرعية ، أو يكون العلم شرطا في فعلية الحكم ، أو يكون الجهل مانعا منها ، فان الوجوه المذكورة يمكن فرضها هنا بأن تكون الكبريات الشرعية مشروطة بعدم انحصار طريق الوصول إليها بالطرق العقلية. أو يكون إمكان الوصول للأحكام بالطرق النقلية شرطا في فعليتها ، أو يكون تعذر الوصول إليها بها مانعا من فعليتها ورافعا لها.

ولا مجال لتوهم اشتراط فعلية الأحكام بفعلية العلم بها من الكتاب والسنة ـ لا بمجرد إمكانه ـ فإن لازم ذلك عدم وجوب الفحص عن الأحكام

٩٨

في الكتاب والسنة ، لعدم فعليتها قبله ، فلا مجال للتكليف الطريقي بالفحص عنها ، كما لا مجال لحمل وجوب الفحص على أنه تكليف نفسي ، لأنه خلاف ظاهر أدلته ، كما حقق في محله.

وأما توجيه ذلك بما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه عند الكلام في تقييد الحكم بالعلم به من إمكان التقييد بمثل ذلك بمتمم الجعل ، فيدعي في المقام تقييد الحكم بعدم وصوله بالطرق العقلية ، فقد عرفت الإشكال فيه هناك. فراجع ، وتأمل.

٩٩
١٠٠