المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

نعم ، لو فرض كون العلم رافعا للحكم الأولي بحيث يختص الحكم بحال الجهل به أو بموضوعه جرى فيه ما تقدم قريبا من الكلام في إمكان اختصاص العلم بحال الجهل.

وأما الأول فالظاهر أنه لا محذور فيه ، غايته أنه لا يجتمع الحكمان بحديهما في المتعلق الواحد ، بل يتعين البناء على ثبوت حكم واحد بمرتبة مؤكدة فيه ، لأن التكليف نحو إضافة ونسبة بين المكلّف والمكلّف والمكلّف به لا تقبل عرفا التعدد إلا مع تعدد بعض أطرافها.

ولو فرض اجتماع أكثر من جهة واحدة له كان المرتكز عرفا ثبوت تكليف واحد بمرتبة شديدة. وإن كان لا أثر ظاهرا للفرق بين التأكد والتعدد في المقام.

هذا ، وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن القطع الموضوعي ..

تارة : يكون مأخوذا بما هو صفة خاصة قائمة بالشخص.

واخرى : يكون مأخوذا بما هو طريق إلى الواقع المقطوع به.

وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه في بيان ضابط التقسيم المذكور أن القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، وجهة الحقيقية فيه قائمة بنفس القاطع من حيث قيام الصورة بذهنه ، وجهة الاضافة قائمة بذي الصورة ، وهي المتعلق ، فان اخذ موضوعا في الحكم بلحاظ الجهة الاولى كان من القسم الأول ، وإن اخذ بلحاظ الجهة الثانية كان من القسم الثاني.

وفيه : أن أخذه بلحاظ الجهة الاولى لا ينافي خصوصيته ، بأن يكون المأخوذ هو الكشف الخاص الحاصل في القطع ، لا مطلق الكشف ، فملاحظة كاشفيته لا تنافي كونه مأخوذا بما هو صفة خاصة ، كما صرح به المحقق الخراساني قدّس سرّه. قال : «يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه ، وأخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به».

٦١

وبعبارة اخرى : الغرض من التقسيم المذكور هو ما سيأتي من قيام الأمارات وبعض الأصول مقام القطع الموضوعي وعدمه ، وليس المعيار في الفرض المذكور ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من الضابط في التقسيم ، بل القطع إن اعتبر بنفسه وخصوصيته كان من القسم الأول ، من دون فرق بين أن يلحظ ما هو صفة خاصة قائمة بالقاطع ، وأن يلحظ بما هو كاشف خاص متعلق بالمقطوع به. وإن اعتبر بما أنه إحراز للمقطوع مستتبع للعمل عليه ومصحح للبناء عليه كان من القسم الثاني.

وقد يترتب على ذلك قيام غيره من الامارات والأصول المحرزة مقامه. لكن لا من جهة تنزيلها منزلته ، بل لأنها أفراد حقيقية للموضوع مثله ، لأن الموضوع في الحقيقة مطلق الإحراز لا خصوص الإحراز بالقطع ، وذكر القطع في الأدلة بما أنه أحد الأفراد لا لخصوصيته.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه في ضابط التقسيم ، ولعله يأتي زيادة توضيح لذلك في الأمر الثالث.

ثم إن المحقق الخراساني قدّس سرّه ذكر أن القطع بقسميه السابقين ..

تارة : يؤخذ تمام الموضوع للحكم ، فيترتب الحكم معه وإن كان خطأ.

واخرى : يكون جزء الموضوع وجزؤه الآخر هو الواقع الذي تعلق به ، فلا يترتب الحكم إلا مع إصابة القطع للواقع. فتكون الأقسام أربعة.

وقد استشكل بعض الأعاظم قدّس سرّه في إمكان أخذه تمام الموضوع مع أخذه على نحو الطريقية من جهة أن أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع بوجه ، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظه ، كما هو الشأن في كل طريق ، حيث يكون لحاظه طريقا لحاظا لذي الطريق في الحقيقة.

وفيه : أن أخذ الطريق في موضوع الحكم بما هو طريق إنما يقتضي لحاظ طريقيته للواقع وأخذها في الموضوع وهو يستلزم النظر للواقع تبعا لا على أن

٦٢

يكون دخيلا في موضوع الحكم ، بل كما يمكن أن يكون دخيلا فيه يمكن أن يكون أجنبيا عنه.

ولو فرض كون الواقع هو الملحوظ الاستقلالي ـ والقطع آلة له فان فيه ـ خرج عن القطع الموضوعي وكان طريقيا محضا خارجا عن محل الكلام.

وبالجملة : أخذ القطع في الموضوع بما هو طريق وإن اقتضى ملاحظة الواقع لكونه طرف الإضافة إلا أنه لا يقتضي أخذه في الموضوع معه ، بل يمكن أن يكون تمام الموضوع هو الانكشاف الحاصل به ، كما ذكر ذلك شيخنا الاستاذ دامت بركاته ، فما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من الأقسام الأربعة ممكنة بأجمعها.

الأمر الثالث : حيث عرفت أن القطع ..

تارة : يكون طريقيا.

وأخرى : يكون موضوعيا.

فيقع الكلام هنا في قيام الطرق والأصول مقامه بقسميه.

وحيث كان الكلام في ذلك مبنيا على الكلام في مفاد أدلة الطرق والأصول كان المناسب التعرض هنا لذلك مقدمة لمحل الكلام ، وإن كان محله مباحث الحجج والأصول.

وكلماتهم في ذلك مختلفة جدا ، وما يمكن تحصيله منها على اختلافها وجوه ..

الأول : أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأصول تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع عند تحقق موضوعاتها ، فكما يكون الواقع موردا للعمل تكون هي موردا له ، كما هو الحال في سائر موارد التنزيل.

وفيه .. أولا : أنه لا ظهور للأدلة في ذلك بوجه ، فإن ظهورها في كون التعبد

٦٣

بلحاظ العمل يقتضي كونها موردا للعمل كالواقع ، من دون دلالة على كونه بعناية التنزيل المذكور.

بل لسان التعبد بمضامين الطرق والأصول مباين للسان التنزيل ، لوضوح أن مفاد الطرق بيان الواقع ، فمفاد أدلة اعتبارها لزوم البناء على كون مضمونها هو الواقع ، لا تنزيل أمر آخر منزلته. ومفاد الأصول لزوم التعبد بالعناوين الموضوعية ـ كالتذكية ـ والحكمية ـ كالحلية والطهارة ـ ولزوم البناء عليها في مقام العمل ، لا تنزيل العناوين المتعبد بها منزلة العناوين الواقعية ، بل هو أمر آخر متأخر رتبة عن التعبد ، لكونه نحو نسبة بين الأمر المتعبد به والواقع ، فيحتاج إلى دليل آخر لا ينهض به دليل التعبد.

اللهم إلا أن يدعى أن التنزيل إنما هو بين موضوع الأصول والمحكوم بالحكم الواقعي ، لا بين مفاد الأصول والواقع ، فمرجع قوله عليه السّلام : «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر» ، إلى تنزيل مجهول الحال منزلة الطاهر في ثبوت أحكامه له ، والحكم عليه بالطهارة ادعاء بلحاظ الأحكام الثابتة للطاهر ، لا الحكم عليه بها حقيقة في مقام الظاهر ، ثم تنزيلها منزلة الطهارة الواقعية ، ليتجه الإشكال المتقدم.

نعم ، هو خلاف الظاهر ، لأن ظاهر الحكم بشيء هو الحكم به حقيقة لا ادعاء وتنزيلا.

ودعوى : تعذر الحمل على الحكم الحقيقي ، لتبعيته للواقع ، لا للجهل به ، فيتعين الحمل على الحكم الادعائي.

مدفوعة : بأن الحمل على الادعاء والتنزيل لا يرفع المحذور المذكور ، إذ التنزيل إنما يصح بلحاظ أحكام المنزل عليه ، وهي ـ كالعنوان المحكوم به ـ تابعة لموضوعاتها الواقعية أيضا ، فكما يصح الحكم بالعنوان ادعاء وتنزيلا بلحاظ أحكامه مع عدم ثبوتها واقعا ، كذلك يصح الحكم الحقيقي بالعنوان نفسه

٦٤

مع عدم ثبوته واقعا.

ومنه يظهر أن الحمل المذكور لا يصلح لرفع محذور الاختلاف بين الحكم الواقعي والظاهري وإنما هو يبتني على ظهور الأدلة في ذلك ، وقد عرفت عدمه.

وثانيا : أن التنزيل المذكور ـ لو تم ـ إنما يتعقل في التعبد بموضوعات الأحكام التكليفية ـ كالطهارة والتذكية والرطوبة ـ فيدعى أن الحكم بها ليس حقيقيا ، بل هو ادّعائي بلحاظ أحكامها الشرعية ، بخلاف التعبد بنفس الأحكام التكليفية ـ كالحل والحرمة ـ لعدم كونها موضوعا لأحكام شرعية يصح بلحاظها التنزيل. وأحكامها العقلية ـ كوجوب الإطاعة ـ مختصة بها ، ولا تنالها يد الجعل الشرعي ، حتى يمكن التنزيل بلحاظها.

إلا أن يلتزم في ذلك بجعل المؤدى حقيقة ، وأن معنى تنزيله منزلة الواقع جعله كالواقع ، فيكون مؤدى دليل الاعتبار في الطرق والأصول الموضوعية جعل أحكام تلك الموضوعات ، وفي الطرق والأصول الحكمية جعل نفس تلك الأحكام.

وهو ـ كما ترى ـ لا يناسب اتحاد لسان دليل الاعتبار في المقامين ، بل رجوعهما إلى خطاب واحد جامع لهما في كثير من الطرق والأصول. مضافا إلى استلزامه جعل الحكم الظاهري في قبال الحكم الواقعي ، وهو لا يخلو عن إشكال يأتي الكلام فيه في محله.

ومن ثمّ يتعين حمل التنزيل المذكور ـ لو ورد ـ على الكناية عن حجية الطرق في إحراز الواقع وترتيب آثاره ، فيرجع إلى الوجه الرابع ، الذي يأتي الكلام فيه.

الثاني : أن مفاد أدلة الطرق هو تنزيلها منزلة العلم وإلغاء احتمال الخلاف معها ادعاء لأجل التنزيل المذكور ، فكما يلزم العمل مع العلم يلزم بقيامها.

٦٥

وكذا الاستصحاب بدعوى : أن مفاد دليله تنزيل الشك في مورده منزلة اليقين ، فيترتب عليه آثار اليقين من لزوم العمل وغيره. وأما بقية الأصول فلا بد من توجيهها بوجه آخر ، ويأتي الكلام فيها بعد الفراغ من الوجه الرابع.

وفيه .. أولا : أنه لا مجال لاستفادة التنزيل المذكور ، لعدم تضمّن أدلة الاعتبار له صريحا كما أنها لم تتضمن توصيف الطرق بأنها علم حتى يحمل بقرينة مباينتها للعلم على التنزيل والادعاء. وغاية ما تدل عليه لزوم متابعتها عملا ، من دون دلالة على كون ذلك متفرعا على لزوم متابعة العلم وفي طوله وبعناية تنزيلها منزلته.

كيف وقد سيقت في بعض الأدلة في مقابل العلم دون إشعار بالتنزيل المذكور ، ففي رواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة».

ودعوى : أن مقتضى الجمع بينه وبين قوله عليه السّلام في صدرها : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» كون البينة أحد فردي العلم شرعا.

مدفوعة : بأن الجمع بينهما يقتضى حمل العلم في الصدر على مطلق الحجة والكاشف الذي يترتب عليه العمل ، لا تنزيل البينة منزلة العلم الوجداني الذي هو محل الكلام.

ودعوى : أن غالب الطرق حجة ببناء العقلاء الممضى شرعا ، وحيث كان مقتضى المرتكزات العقلائية تنزيلها منزلة العلم وإلغاء احتمال الخلاف معها تعين حمل أدلة الإمضاء الشرعية على ذلك.

مدفوعة : بأن المتيقن من بنائهم العمل بالطرق المذكورة والبناء على ترتب مضمونها وعدم الاعتناء عملا باحتمال خطئها ، وذلك وإن أوجب اشتراكها عندهم مع العلم في مقام العمل ، إلا أنه لا يقتضي كون العمل بها بعناية تنزيلها منزلته بإلغاء احتمال الخلاف ادعاء.

٦٦

بل لا معنى لابتناء الارتكاز والسيرة المذكورين على التنزيل المذكور ، إذ التنزيل إنما يتجه في الأحكام المستفادة من الأدلة اللفظية ، حيث يكون الفرض منه تسرية الحكم الثابت بحسب ظاهر الدليل للعنوان إلى الفاقد له ، كما في : الطواف بالبيت صلاة.

أما الأدلة اللبية فيغني قيامها على ثبوت الحكم لفاقد العنوان عن عناية التنزيل منزلته. وأما الاستصحاب فلا ظهور لدليله في التنزيل المذكور أيضا ، بل لا يستفاد منه إلا وجوب البناء على مقتضى اليقين في حال الشك على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ومما ذكرنا هنا وفي الوجه الأول يظهر حال ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من ظهور أدلة الاعتبار في التنزيلين معا ، أعني تنزيل الطريق منزلة العلم وتنزيل المؤدى منزلة الواقع المعلوم.

ويأتي تمام الكلام في ما ذكره قدّس سرّه عند الكلام في قيام الطرق مقام القطع الموضوعي.

وثانيا : أن التنزيل منزلة العلم إنما يصح بلحاظ الآثار العملية الشرعية للعلم لو فرض أخذ العلم موضوعا في بعض الآثار ، لا بلحاظ الآثار التكوينية أو العقلية له ، لوضوح أن الاولى تابعة لأسبابها ، والثانية تابعة لموضوعاتها الواقعية ولا تقبل التصرف الشرعي بجعلها على موضوع آخر ، ولازم ذلك عدم قيامها مقام القطع الطريقي ، مع أن قيامها مقامه هو المتيقن من أدلة جعلها ، وهو كاشف عن عدم ابتناء جعل الطرق على تنزيلها منزلة العلم بعناية اشتراكها معه في الأحكام الشرعية الثابتة له ، بل لو فرض ظهور الأدلة في تنزيل الطرق منزلة القطع فلا بدّ ، إما من ..

دعوى : أنه راجع إلى تنزيل المؤدى منزلة الواقع بأن يلحظ القطع والطريق في مقام التنزيل بما هما آلة لمتعلقيهما وطريق لملاحظته من دون

٦٧

لحاظ لهما باستقلالهما ـ كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ فيرجع هذا الوجه إلى الوجه الأول ، ويجري فيه ما سبق.

أو دعوى : أن التنزيل المذكور إنما هو بلحاظ آثار القطع العقلية والتكوينية من ترتب العمل ووجوب الإطاعة ونحوها ، لكن لا بجعلها ابتداء ، بل بتوسط جعل موضوعاتها وهي الأحكام الشرعية المطابقة للمؤديات ، فإن كان المؤدى حكما كان مرجع التنزيل إلى جعله ، وإن كان موضوعا كان مرجعه إلى جعل حكمه ، ويكون الحكم المجعول ظاهريا ، بناء على إمكان جعل الحكم الظاهري.

أو دعوى : أن التنزيل المذكور كناية عن التكليف شرعا بالعمل على طبقها على أن يكون التكليف المذكور طريقيا لحفظ الواقع المحتمل الذي قامت عليه ، نظير التكليف بالاحتياط في بعض الموارد.

أو دعوى : أنه كناية عن حجية الطرق على مؤدياتها ومحرزيته بها كالقطع ، وهو الظاهر كما أشرنا إليه في الوجه الأول ، ويأتي توضيحه في الوجه الرابع.

الثالث : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن مفاد أدلة الطرق والأصول جعلها علما تعبدا لكن من حيث كونه طريقا وكاشفا. وقد ذكر في توضيح ذلك : أن في القطع ثلاث جهات مترتبة ..

الأولى : أنه صفة حقيقية قائمة بالقاطع.

الثانية : جهة إضافة الصورة لذي الصورة ، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيته له وإراءته للواقع المنكشف به.

الثالثة : جهة البناء والجري العملي على وفقه ، ولعله لذا سمي اعتقادا ، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد.

ولا يشاركه في الجهة الاولى شيء ، بل تشاركه الطرق المجعولة في

٦٨

الجهتين الاخريين ، حيث كان مفاد أدلة اعتبارها جعلها علما شرعا بتتميم كشفها وطريقيتها للواقع. ومن ثمّ اعتبر في الطرق أن تكون لها في حدّ ذاتها جهة كشف ، وليس من الشارع إلا تتميمه بإلغاء احتمال الخلاف شرعا ، ويترتب على ذلك الجري العملي عليها.

أما الأصول التنزيلية فهي تشاركه في الجهة الثالثة فقط ، فالمجعول فيها الجري والبناء العملي على الواقع ، الذي كان في العلم قهريا وفي الأصول تعبديا ، دون الكشف والطريقية ، إذ ليس للشك الذي هو الموضوع فيها جهة كشف أصلا.

وفيه .. أولا : أن التعبد والاعتبار إنما يتناول الحقائق الجعلية ، دون الحقائق المتأصلة ، كالعلم والانكشاف ونحوهما من الصفات الحقيقية التي لها ما بإزاء في الخارج ، فلا معنى لاعتبار الطرق علما وخلع صفته لها تشريعا. وكما لا يمكن اعتباره في غير مورده بما هو صفة خاصة لا يمكن اعتباره بما هو كاشف ، لأن الانكشاف من الأمور الحقيقية المقومة لذات العلم ، فكما لا يمكن سلخ العلم عنه تشريعا لا يمكن جعله لغيره كذلك.

وأشكل من ذلك ما رتبه قدّس سرّه عليه من لزوم كون الطرق لها في حدّ ذاتها جهة كشف تممها الشارع.

اذ مع فرض أن العلم والكشف مما يقبل الجعل والتشريع لا فرق في جعله بين ما فيه كشف ذاتي ناقص وغيره ، فكما يمكن تتميم الكشف في الأول يمكن إحداثه بتمامه في الثاني.

وثانيا : أنه لو سلم إمكان الجعل المذكور ، إلا أنه لا مجال لاستفادته من الأدلة ، لما ذكرناه في الوجه الثاني. بل الجعل المذكور محتاج إلى عناية خاصة لا إشعار في الأدلة بها.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم حملها على ذلك ، بقرينة ورودها

٦٩

مورد الإمضاء لبناء العقلاء في العمل بالطرق المذكورة ، لابتناء عملهم بها على معاملتها معاملة القطع الوجداني.

ففيه : أن بناء العقلاء إنما هو على العمل بالطرق المذكورة وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف ، لا على البناء تشريعا على كونها علما والتعبد بذلك ، فإن ذلك كسائر الأحكام محتاج إلى عناية خاصة لا طريق لاستفادته من سيرة العقلاء ومرتكزاتهم.

وثالثا : أن الجهة الثالثة التي ذكرها للقطع من البناء والجري العملي وعقد القلب على الواقع المقطوع ليس من مقومات القطع ، بل مما يترتب عليه في الجملة ، فإن القاطع قد يعقد قلبه على ما يقطع به ، وقد يعقد قلبه على خلافه جحودا.

ولو سلم ملازمة القطع للاعتقاد فالأصول لا تقوم مقامه فيه ، لوضوح عدم كون المطلوب فيها الاعتقاد بثبوت مؤداها ، ولا جعله تشريعا ، بل مجرد البناء العملي ، وهو مباين للاعتقاد الحاصل بالقطع.

إلا أن يكون مراده من ذلك محض البناء العملي الذي لا إشكال في ثبوته في الطرق والأصول ، كما سيأتي.

الرابع : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في خصوص الطرق والأمارات من أن مفاد أدلة اعتبارها جعل حجيتها. قال قدّس سرّه : «والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ ، ولكون مخالفته وموافقته تجريا وانقيادا مع عدم إصابته ، كما هو شأن الحجة غير المجعولة».

ويظهر من بعض مشايخنا أنه فهم منه كون الحجية عبارة عن المنجزية والمعذرية ، فأورد عليه بأن المعذرية والمنجزية من الأحكام العقلية التابعة لموضوعها ، وهو البيان ، فلا مجال لجعلها في غير موضوعها ، لامتناع تخصيص

٧٠

الحكم العقلي.

وفيه : أن ظاهر كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه المتقدم أن الحجة المجعولة عبارة عن معنى اعتباري مستلزم للمعذرية والمنجزية ، وليست عينهما ، فلا يلزمه تخصيص الحكم العقلي ، بل عموم موضوعه لصورة قيام الحجة وعدم اختصاصه بالعلم ، ولا محذور في ذلك.

نعم ، أورد عليه بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه بعدم مساعدة الاعتبار عليه ، إذ هو متفرع على اعتبار الواسطة في القطع بين كاشفيته ومعذريته ومنجزيته ، وأن ترتبهما عليه ليس بمجرد كاشفيته ، بل بتوسط الحجية المتفرعة عليها المجعولة في الطرق ، ولا يساعد على ذلك التدبر في المرتكزات العقلية ، إذ ليس المصحح للمعذرية والمنجزية في القطع بنظر العقل إلا كاشفيته.

ومن ثم يظهر منه قدّس سرّه أن مرجع جعل الحجية إلى تكاليف شرعية طريقية بالعمل على مقتضى الحجة لحفظ الواقع المحتمل ، نظير أوامر الاحتياط ، فتكون التكاليف المذكورة بسبب العلم بها موضوعا لوجوب الإطاعة عقلا كالتكاليف الواقعية.

ولعله إليه يرجع ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مسألة البقاء على تقليد الميت من أن الحجّية منتزعة من الحكم الظاهري الراجع إلى الأمر بالعمل على الواقع على تقدير المصادفة ـ نظير أوامر الاحتياط ـ وإلى الترخيص على تقدير المخالفة فإن ذلك هو منشأ صحة الاعتذار والاحتجاج.

لكن ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من عدم توسط الحجية في القطع بين كاشفيته ومنجزيّته ومعذّريّته وإن كان متينا جدا ، إلا أنه لا ينافي كون الحجية أمرا اعتباريا مجعولا في غير القطع من الطرق والأمارات ، وذلك لأن الانكشاف التام في القطع بنفسه مقتض للعمل على الواقع بلا حاجة للحجية ، إذ يكفي في العمل بالواقع وصوله ، كما سبق في الفصل الأول ، بخلاف الطرق

٧١

والأمارات ، فإن عدم وصول الواقع معها موجب لقصوره عن تأثير فعلية العمل ، فيحتاج فيه إلى جعل الحجية لها لتصلح للتعبد بالواقع وإحرازه شرعا.

ومن ثمّ سبق أنه لا مجال لوصف القطع بالحجية في مقام العمل ، لعدم الاعتماد عليه فيه ، بل النظر للواقع وحده ، بخلاف الطرق ، فإن ترتيب الأثر على الواقع يبتني عليها ، فهي في مقام العمل ملتفت إليها في طول الالتفات للواقع.

كما سبق أيضا أن عدم ترتب العمل عليها يرجع تارة إلى إهمالها ، واخرى إلى اهمال الواقع الذي قامت عليه ، بخلاف عدم العمل مع القطع ، فإنه مستلزم لاهمال الواقع المقطوع به لا غير.

وبالجملة : عدم توسط الحجية في القطع بين كاشفيته ومنجزيته ومعذريته لا ينافي كون الحجية من الأمور الاعتبارية المجعولة في الطرق التي لا كشف لها في نفسها ، فملاك العمل فيها مباين لملاك العمل بالقطع ، لا متحد معه راجع إليه ـ إما لكونها موضوعا لأحكام طريقية مقطوعا بها ، كما ذكره قدّس سرّه ، أو لكونها علما شرعا بالإضافة إلى الواقع ، كما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ فإنه تكلف لا تناسبه المرتكزات العقلائية.

وكأنه ناشئ من تخيل اختصاص المعذرية والمنجزية بالعلم ، لعموم قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، بحمل البيان في الاولى على ظاهره ، وهو العلم الذي هو صريح اليقين في الثانية ، مع الغافلة عن أن القاعدتين المذكورتين ليستا مأخوذتين من أدلة لفظية ، حتى يتجه الجمود على ظواهرها ، بل هما قاعدتان لبيتان ارتكازيتان وقع التعبير عنهما في كلماتهم بما تقدم تسامحا لوضوح المقصود ، فلا ينبغي الجمود على مفاد الألفاظ المذكورة ، بل يلزم النظر إلى مفاد القاعدتين ارتكازا ، وهو يقتضي ما ذكرنا من أن الموضوع فيها ما يعم قيام الحجة ، من دون حاجة إلى ارجاعه للعلم.

٧٢

ومما ذكرنا يظهر أنه لا موجب للبناء على كون الحجية منتزعة من الحكم الطريقي ، وهو وجوب العمل بالحجة شرعا.

كيف ولازمه كون الحجية في الأحكام الإلزامية مباينة للحجية في الأحكام الترخيصية؟! لاختلاف منشأ انتزاعهما ، لان الاولى منتزعة من وجوب العمل بالحجة ، والثانية منتزعة من جوازه لا وجوبه.

مضافا الى أن المرتكز وجوب العمل بالحجة من الأحكام العقلية المتفرعة على الحجية ، والحجية من الأمور الاعتبارية القابلة للجعل ، كما يشهد به التوقيع الشريف : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (١) ، فانه ظاهر في تأصل الحجية بالجعل وترتب العمل عليها ، لا أنها منتزعة من وجوب العمل ، على ما هو التحقيق في سائر الأحكام الوضعية ، وإن فارقتها في أن ترتب العمل عليها عقلي ، وعلى سائر الأحكام الوضعية شرعي.

على أن مجرد الأمر بالعمل على طبق الطريق لا يستلزم حجيته ، بل إن كان تعبديا لمحض احتمال إصابة الواقع نظير الأمر بالاحتياط لم يستلزم الحجية ، وإن كان متفرعا على صلوح الطريق شرعا لإثبات مؤداه ، بحيث يعتمد عليه في البناء عليه ويكون العمل بالمؤدى بعد ثبوته به ، كما يعمل عليه مع انكشافه بالعلم الوجداني ، كان مستلزما للحجية. ومرجع ذلك إلى أن الحجية أمر اعتباري قابل للجعل يترتب عليه العمل عقلا ، كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه وليست منتزعة من وجوب العمل على طبق الطريق ، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

نعم ، وجوب العمل عقلا بالحجة طريقي في طول وجوب إطاعة التكاليف الشرعية ، لرجوعه إلى إحراز الصغرى بعد الفراغ عن الكبرى. كما أن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ١٠١ باب ١١ من أبواب صفات القاضي حديث ٩.

٧٣

جعل الحجية شرعا طريقي لإحراز الأحكام الواقعية الشرعية ، فإن الشارع الأقدس ـ كسائر الحكّام ـ كما يكون له جعل الحكم ثبوتا يكون له أن يعبد به إثباتا في ظرف الجهل به بجعل الحجة الحاكية عنه ، بحيث يكون مفاد أدلة جعلها محرزيتها شرعا به ، فيجب العمل على مقتضى ذلك ، كما هو الحال مع العلم ، من دون أن يكون وراءها شيء إلا الواقع ، فان أصابته فهو ، وإن أخطأته فليس هناك إلا تخيل ثبوته ، كما في خطأ القطع.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل ، حيث ذكر أن مؤديات الحجج في صورة الخطأ أحكام صورية ، ناشئة من إطلاق حجيتها من دون إناطة بصورة الاصابة ، لامتناع التمييز معها.

وأما لو أريد ظاهره من استتباع الحجية لحكم صوري في صورة الخطأ ، فيشكل ..

أولا : بما عرفت من عدم استتباع الحجية لجعل حكم ظاهري حتى في صورة الاصابة ، بل هي لا تتضمن إلا التعبد بالواقع وإحرازه.

وثانيا : بأنه لو فرض استلزام جعل الحجية لجعل حكم على طبق الحجة ، فلا معنى لكون الحكم المذكور صوريا في صورة الخطأ مع كون الحجية حينئذ حقيقية ، والالتزام بأن الحجية حينئذ صورية مستلزم لعدم ترتب الأثر عليها مع احتمال الخطأ.

والحاصل : أن الحجية معنى اعتباري قابل للجعل يتضمن كون الشيء بنحو صالح لأن يعتمد عليه في إحراز الواقع والبناء عليه في مقام العمل ، ولازم ذلك عقلا منجزيته ومعذريته. ولعل هذا هو مراد بعض الأعاظم قدّس سرّه من المحرزية والوسطية في الإثبات ، وإن كان لا ينبغي التعبير بتتميم الكشف وبأن الحجة من أفراد العلم شرعا ، كما تقدم.

وكأنه قد التبس عليه عدم الاعتناء باحتمال الخلاف عملا اللازم من جعل

٧٤

الحجة بالغائه ورفعه تعبدا وشرعا اللازم من تتميم الكشف.

ثم إنه حيث كان ما ذكرنا في معنى الحجية هو المرتكز عرفا في الطرق والأمارات لزم حمل أدلة اعتبارها على اختلاف ألسنتها على ذلك ، كما أشرنا إليه في الوجهين الأولين. فتأمل جيدا.

هذا كله في مفاد أدلة جعل الطرق ، وأما أدلة الأصول فهي قسمان :

الأول : ما يتضمن التعبد بالعنوان الحكمي كالحل والطهارة ، أو الموضوعي كعدم التذكية.

الثاني : ما لا يتضمن ذلك ، بل يقتضي العمل في ظرف الشك من دون توسط التعبد المذكور.

أما الأول فكالاستصحاب وأصالتي الحل والطهارة وغيرها.

وقد ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل أن مفاد أدلته أحكام حقيقية ، قال : «وأما الأصول التعبدية ـ كأصالة الإباحة ، والطهارة ، والاستصحاب في وجه ـ فهي أحكام شرعية فعليه حقيقية ، بداهة أن : كل شيء حلال إباحة فعلية وترخيص حقيقي في الاقتحام في الشبهة من الشارع ، كالترخيص في المباحات الواقعية ، والتفاوت بين الترخيصين بكون موضوع أحدهما الشيء بعنوانه الواقعي ، وموضوع الآخر بعنوان كونه مجهول الحكم لا يوجب التفاوت بينهما بالحقيقة والصورة ، كما لا يخفى».

وهذا هو الظاهر من كثير منهم ، ومن ثمّ توجه الإشكال في جمع الحكم المذكور مع الحكم الواقعي.

هذا ، ولكن ارتكاز التنافي بين جعل الحكم في ظرف الشك مع إطلاق موضوع الحكم الواقعي ـ المستفاد من الغاية التي تضمنتها الأدلة المذكورة ، لظهورها في أن العلم بالواقع طريق محض لا دخل له في الحكم الواقعي أصلا ـ مانع من ظهور الأدلة المذكورة في جعل الحكم في ظرف الشك ، بل هي ظاهرة

٧٥

في التعبد بالحكم أو الموضوع عند الشك فيها ، الذي هو بمعنى البناء على تحققهما إثباتا ، فلا ينافي ثبوت الحكم الواقعي بوجه.

وبعبارة اخرى : ليس في المقام نوعان من الحكم : واقعي وظاهري ، بل الحاكم ..

تارة : يجعل الحكم على موضوعه ثبوتا ويعتبره في عالمه.

واخرى : يعبد به أو يعبد بموضوعه المستلزم للتعبد به عرفا ، بنحو يقتضي البناء على أحدهما إثباتا في مقام ترتيب الأثر عملا بعد الفراغ عن مقام الثبوت وفي رتبة متأخرة عنه ..

والأول هو مفاد الأدلة الاجتهادية على الأحكام الشرعية التي اطلق عليها في كلماتهم الأحكام الواقعية.

والثاني هو مفاد أدلة الأصول ، وليس مفادها الأول ، لما ذكرناه من القرينة. بل هو مقتضى مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية العرفية ، إذ الجهل لما كان يقتضي التحير في الحكم المجهول في مقام العمل احتيج معه إلى ما يرفع التحير المذكور ، فكان المناسب ورود أدلة الأصول لذلك بالتعبد بما هو المجهول بنحو يستتبع العمل به ، لا لجعل حكم آخر ، إذ الجهل بنفسه لا يقتضي الحاجة لذلك حتى تنصرف الأدلة له.

ومنه يظهر الفرق بين القضايا المذكورة التي موضوعها الجهل وسائر القضايا الحملية التي يكون موضوعها الذات ، فإن فرض الذات بنفسها لا يقتضي فرض التحير المحوج للتعبد في مقام الإحراز والبناء العملي ، بل لا معنى للتعبد في المقام المذكور إلا بعد الفراغ عن ثبوت شيء يحتاج إلى ذلك ، فيتعين حمل القضايا الحملية على جعل الحكم في مقام الثبوت.

وهذا بخلاف فرض الجهل في أدلة الأصول ، فإنه ملازم لفرض واقع مجهول يمكن التعبد به ، في مقام الإحراز العملي بل يحتاج إليه لرفع التحير

٧٦

الحاصل من الجهل.

بل ما ذكرنا كالصريح من دليل الاستصحاب ، لعدم التعرض فيه لما يوهم جعل المستصحب أو أحكامه بوجه ، كيف ولازمه التفكيك بين الاستصحاب الموضوعي والحكمي ، بحمل الثاني على جعل المستصحب نفسه ، والأول على جعل أحكامه ولا مجال لذلك مع اتحاد دليلهما. بل ليس التعرض فيه إلا للزوم العمل على مقتضى اليقين بعد ارتفاعه ، وحيث أن اليقين لا يقتضي جعل المتيقن ، بل البناء والعمل على ثبوته كان مفاد الاستصحاب ذلك لا غير.

بل ما تضمن التعبد بالعنوان لما ورد بعضه في الحكم الشرعي القابل للجعل ـ كقاعدتي الطهارة والحل ـ وبعضه في الموضوع الخارجي غير القابل للجعل ـ كقاعدة الفراش ، كان حمله على الجعل مستلزما لتنزيل الأول فيه على جعل نفس العنوان الذي تضمنته القاعدة ، والثاني على جعل أحكامه ، وهو تفكيك لا يناسب تقارب لسان الدليلين بخلاف حمله على التعبد الذي ذكرناه ، حيث لا مانع من البناء عليه في القسمين بنحو واحد بلا محذور.

وبالجملة : التأمل في لسان أدلة الأصول بعد الرجوع للمرتكزات شاهد صدق بأن مفادها ليس هو جعل العناوين المحمولة ، بل التعبد بها في ظرف الشك فيها الراجع إلى لزوم البناء عليها في مقام العمل ، خصوصا في العناوين الموضوعية الصرفة التي لا تنالها يد الجعل الشرعي ، فإنه أولى من حمل الحكم بها على جعل أحكامها ، لأنه خروج عن الظاهر بلا وجه.

ومن القريب جدا أن يكون هذا هو مراد بعض الأعاظم قدّس سرّه مما تقدم منه في الأصول ، كما أشرنا إليه آنفا.

ومن جميع ذلك ظهر عدم الفرق بين مفاد أدلة الطرق والأمارات وأدلة الأصول ، بل هي تشترك في التعبد بالمشكوك.

غاية الأمر أن التعبد به في الثانية ابتداء ، وفي الاولى بتوسط قيام الحجة

٧٧

عليه التي يتضمن لسان دليل جعلها الكشف عنه وبيانه بها.

ومن هنا كان اللازم العمل على الأدلة المذكورة ، لعدم منافاتها لأدلة الأحكام الواقعية بوجه حتى في مورد الخطأ ، لعدم اقتضائها جعل حكم في قبال الحكم المجعول فيها. بل التعبد بها في مقام العمل وإحرازها إثباتا ، مع الفراغ عن مقام الثبوت والجعل وفي رتبة متأخرة عنه ، فالخطأ فيها كالخطأ مع القطع لا ينافي الحكم الواقعي بوجه ، كما لا ينافي دليله.

وكأن هذا هو مراد بعض الأعاظم قدّس سرّه من الحكومة الظاهرية ، وإلا فالحكومة عندهم من حالات الدليلين المتعارضين ، ولا تعارض بين الأدلة في المقام لا واقعا ولا ظاهرا ، كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يظهر ارتفاع إشكال اجتماع الحكم الواقعي والظاهري من أصله. ويأتي تمام الكلام في ذلك في مبحث التعبد بغير العلم إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني فهو منحصر ظاهرا بأصالتي البراءة والاحتياط الشرعيين ، فإنهما وإن تضمنتا العمل ، إلا أن العمل المذكور ليس بتوسط البناء على ما يقتضيه ، لعدم تضمنهما التعبد بثبوت الحكم الترخيصي أو التكليفي ، بل لجعل العمل في حال الشك من حيث هو.

ولا إشكال في البراءة ، لأنها على مقتضى حكم العقل فمفاد أدلتها إما إمضاء لحكمه بقاعدة قبح العقاب من غير بيان ، أو بيان عدم جعل وجوب الاحتياط.

وإنما وقع الإشكال في الاحتياط ، لأن المرتكز عرفا كون العقاب معه في ظرف المخالفة على الواقع المفروض عدم بيانه ، فيكون العقاب منافيا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقد أطال الأعاظم (قدس الله أسرارهم) في توجيه ذلك.

ولعل الأولى أن يقال : التأمل في المرتكزات العقلية قاض بأنه كما يكون للحاكم جعل الحكم ثبوتا ، ويكون له التعبد به في ظرف الشك فيه ..

٧٨

تارة : بتوسط نصب الحجة عليه.

واخرى : بدونه ، كما في الأصول التعبدية ، كذلك له التصدي لحفظ التكليف ببيان اهتمامه بحفظه بنحو يقتضي الاحتياط في ظرف الشك فيه أو الفحص عنه وتعلمه ، فوجوب الاحتياط كوجوب التعلم حكم عقلي طريقي راجع لتنجز التكليف عقلا بسبب بيان الشارع اهتمامه بحفظه ، الذي يكفي بنظر العقل في صحة العقاب عليه مع الجهل به.

ولا مجال مع ذلك لدعوى منافاته لعموم قاعدة قبح للعقاب بلا بيان ، لأن القاعدة المذكورة لما كانت عقلية ارتكازية ، ولم تؤخذ من أدلة لفظية ، فلا مجال للتمسك بعمومها في غير مورد الارتكاز ، وهي مختصة ارتكازا بما إذا لم يتصدّ الحاكم لحفظ حكمه وأوكل الأمر لحكم العقل ، أما إذا تصدى لحفظه وبيّن اهتمامه به فلا حكم للعقل بذلك ، بل يحسن العقاب عليه بنظر العقل عند المخالفة ، فبيان الشارع اهتمامه بالتكليف الواقعي بالنحو المذكور رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب وإن لم يكن رافعا للجهل.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا موجب لما تكلفه بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن وجوب الاحتياط نفسي وعلّته حفظ التكليف الواقعي في ظرف الجهل به ، وأنه إن خولف فإن كان التكليف الواقعي ثابتا استحق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي المعلوم ، لا على مخالفة الواقع المجهول ، وإن لم يكن التكليف الواقعي ثابتا فلا عقاب. لأن وجوب الاحتياط لما كانت علته حفظ الواقع ، فمع عدمه لا وجوب له واقعا ، لتبعية الحكم لعلته وجودا وعدما.

مضافا إلى الإشكال فيه ..

أولا : بظهور أدلة الاحتياط ـ لو تمت ـ في أن العقاب على الواقع في ظرف مخالفته ، كما يشهد به مثل قولهم عليهم السّلام : «من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

٧٩

وثانيا : بأنه إذا فرض كون علة وجوب الاحتياط حفظ الواقع ، بحيث يكون تابعا له وجودا وعدما كان جعله لاغيا ، للشك في ثبوته تبعا للشك في تحقق علته ، فلا يصلح لأن يترتب عليه العمل.

وأشكل منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن التكليف بالاحتياط يصلح لبيان التكليف الواقعي المجهول في ظرف وجوده.

لما هو المعلوم من عدم كون لسان وجوب الاحتياط لسان بيان للواقع لا في ظرف وجوده ولا في ظرف عدمه.

وقد أطال قدّس سرّه في ذلك ، كما أطال غيره فيه. وما جرّهم إلى ذلك إلا دفع محذور العقاب من غير بيان. والظاهر أن ما ذكرنا في دفعه هو الأقرب للمرتكزات العقلية والأنسب بالأدلة الشرعية في المقام. فلاحظ.

هذا تمام الكلام في مفاد أدلة الطرق والأصول ، وقد استقصينا الكلام فيه زائدا على محل الحاجة هنا لينتظم البحث حتى يتسنى الارجاع إليه في ما يأتي عند الكلام في إمكان التعبد بغير العلم. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

وإذ عرفت هذا ، يقع الكلام في قيام الطرق والأصول مقام القطع ، فنقول :

أما قيامها مقام القطع الطريقي من حيثية استتباعه للعمل على مقتضى الواقع فليس هو موردا للإشكال بينهم ، لاقتضاء جميع الوجوه المتقدمة لذلك ، بل هو المتيقن من أدلة الجهل والتعبد ، كما لا يخفى.

نعم ، الوجوه المتقدمة مختلفة ، فإن مفاد الوجه الأول والثالث أن ترتب العمل على الطرق والأصول في طول ترتبه على القطع ، ومفاد الوجه الرابع أن ترتبه عليها في قبال ترتبه على القطع ، لعدم اختصاص ملاك العمل به. أما الثاني فهو يختلف باختلاف المحامل الأربعة المتقدمة عند الكلام فيه. فراجع. إلا أن هذا لا أثر له في المطلوب.

٨٠