المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

ارتكاز استحقاق العقاب مع التجري لو فرض عدم اشتماله على القبح الفعلي. بل الارتكاز المذكور راجع إلى عدم عموم عدم استحقاق العقاب مع القبح الفاعلي لمثل مورد التجري واختصاصه بغيره. وسيأتي الكلام في القبح الفاعلي في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى.

نعم ، لا يبعد البناء على ثبوت القبح الفعلي في مورد التجري ، وأن الفعل بنفسه يتصف بالقبح ، لكونه بنفسه ظلما للمولى ، لما فيه من هتك حرمته والخروج عن مقتضى العبودية له ، فالعنوان القبيح وهو ظلم المولى وهتك حرمته منطبق على الفعل بنفسه ، كما صرح به بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه وأطال الكلام فيه.

إن قلت : على هذا يلزم مزاحمة القبح المذكور للملاك الواقعي المقتضي للحكم الواقعي في الفعل المتجرى به ، فإن لم يكن الملاك الواقعي اقتضائيا لم يزاحم قبح الفعل من حيث التجري ، كما في مورد التجري بالمباح. وإن كان اقتضائيا كانا متزاحمين ، فيلزم تأثير الأقوى منهما أو سقوطهما عن التأثير بسبب التزاحم ، كما في مورد التجري بالواجب ، بل المستحب ، وهو مستلزم للتصويب في الجملة.

بل يلزم تأكد القبح لو صادف التجري قبيحا واقعيا من غير الجهة المتجرى بها ، كما لو أقدم على محرم فصادف محرما آخر غيره ، كما يلزم تأكد القبح في المعصية الحقيقية أيضا.

بخلاف ما لو كان قبح التجري فاعليا فقط ، فإن تعدد موضوع الحسن والقبح مانع من التزاحم والتأكد ، بل يبقى الحسن أو القبح الواقعيان قائمين بموضوعهما وهو الفعل ، والقبح الناشئ من التجري قائما بموضوعه ، وهو الفاعل.

قلت : الحسن والقبح الواقعيان التابعان للملاكات الواقعية لا يصلحان

٤١

لمزاحمة القبح الناشئ من التجري أو تأكيده ، لأن التأكيد أو التزاحم بين الجهات المقتضية للحسن والقبح أو نحوهما إنما يكونان بلحاظ اتحاد الآثار ذاتا أو تضادها ، كما هو الحال في جهات الحسن والقبح الواقعية ، فإن آثارها لما كانت هي الأحكام الشرعية ، وكانت الأحكام متضادة بسبب اختلاف نحو العمل المترتب عليها كان لا بد من التأكيد فيما لو اجتمعت جهتان تقتضيان حكما واحدا ، والتزاحم فيما لو اجتمعت جهتان تقتضيان حكمين متضادين.

أما مع عدم الاتحاد أو التضاد بين الآثار فلا مجال للتأكد ولا التزاحم ، بل تؤثر كل جهة أثرها استقلالا ، كما هو الحال في الحسن والقبح الواقعيين مع القبح الحاصل بالتجري ، فإن أثر الأوّلين هو الحكم الشرعي الواقعي المطابق لأحدهما ، وأثر الأخير هو استحقاق الذم والعقاب ، ولا اتحاد بين الأثرين المذكورين ، كما لا تضاد بينهما ، فلا وجه للتأكد ولا للتزاحم ، بل يؤثر كل منهما استقلالا.

فالتجري بفعل ما هو مباح واقعي وبفعل ما هو واجب واقعي وبفعل ما هو حرام واقعي من غير الجهة المتجرى بها بمرتبة واحدة من حيث القبح المقتضي لاستحقاق الذم والعقاب. كما لا يفرق في مرتبة الحسن أو القبح الواقعيين المقتضيين للحكم الشرعي بين أنحاء وقوع الفعل ، من حيث كونه بقصد الطاعة أو بقصد المعصية أو غفلة من دون قصد إحداهما.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما عن الفصول من استحقاق العقاب والذم مع التجري بترك ما يعتقد وجوبه أو فعل ما يعتقد تحريمه ، إلا أن يصادف الأول ترك حرام واقعي والثاني فعل واجب واقعي ، لمزاحمة الحسن الواقعي لقبح التجري. ومن ثمّ كان التجري على الحرام في المكروهات الواقعية أشد منه في مباحاتها ، وهو فيها أشد منه في مندوباتها ... إلى آخر ما ذكره مما يتضح حاله بما ذكرنا من أن عدم السنخية بين الآثار مانع من التزاحم والتأكد.

٤٢

ومثله في الإشكال ما ذكره قدّس سرّه من أن التجري لو صادف المعصية الواقعية تداخل عقابهما.

لظهوره في أن مصادفة المعصية الواقعية بنفسها موجبة للعقاب مع قطع النظر عن القصد ، وقد عرفت بطلانه. مع أنه لو تمّ فلا وجه للتداخل ، إلا الضرورة على أن المعصية الواقعية ليس لها إلا عقاب واحد ، وهي تكشف عن وحدة منشأ العقاب ، وهو التجري بقصد المعصية لا غير. فتأمل جيدا.

وينبغي التنبيه على أمور ..

التنبيه الأول : في القبح الفاعلي

تردد في كلام غير واحد أن القبح الفاعلي بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب. وقد أشرنا قريبا إلى أنّ الكلية المذكورة لا تشمل التجري لو فرض عدم اشتماله على القبح الفعلي ، وإن كان الظاهر اشتماله عليه.

وينبغي التعرض لصور القبح الفاعلي ، فنقول : المكلف الذي تضعف نفسه عن تجنب المعصية لو ابتلي بها له حالات مترتبة من حيثية الحسن والقبح ..

الاولى : أن يتخيل من نفسه أو يحتمل بسبب عدم ابتلائه بالمعصية أنه يرتدع عنها لو ابتلي بها. فيتحقق منه العزم على ذلك.

الثانية : ألا يكون له عزم على تجنب المعصية بسب غفلته عنها.

الثالثة : أن يكون ملتفتا إليها راغبا في تركها إلا أنه لا عزم له عليه قبل الوقت لاعتقاده ضعف نفسه عن الوقوف أمام المغريات.

الرابعة : أن يلتفت إليها ولا يعزم على فعلها ولا على تركها تسامحا فيها.

الخامسة : أن يكون ملتفتا إليها وراغبا فيها ، إلا أنه بسبب تعذرها عليه لا يتحقق منه العزم عليها ، وإن كان في نفسه أنه لو قدر لفعل.

٤٣

السادسة : أن يعزم على المعصية ، ولا يسعى نحوها لعدم حضور وقتها المناسب بنظره.

السابعة : أن يسعى لها بفعل بعض المقدمات وإن لم يصل إليها لمانع منها.

الثامنة : أن يباشر فعل ما يعتقد أنه معصية ، فيصيب المعصية الحقيقية ، أو يخطئ فيتحقق منه التجري فقط.

لا إشكال في عدم استحقاق العقاب ولا الذم في الصور الثلاث الاول ، ولذا لا ينبغي عدها موضوعا للقبح ، إذ القبح عبارة عما ينتزع من مقام الذم ويقتضي الردع ، ومجرد ضعف النفس واقعا عن الوقوف أمام المغريات لا يقتضي ذلك ، وإن كان هو منافيا لكمالها.

بل لما كان العزم على تجنب المعصية في الصورة الاولى مفروض التحقق يستحق به المدح عقلا كانت موضوعا للحسن.

بل لعلها موضوع التفضل بالثواب ، كما قد يشهد به حديث أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : «إن العبد المؤمن الفقير ليقول : يا رب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير ، فإذا علم الله عزّ وجل ذلك منه بصدق نية كتب له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله. إن الله واسع كريم» (١) ، فإن الظاهر من صدق النية ليس هو مطابقتها للواقع ، بل خلوصها وعدم كونها بدوية يقصد بها استجلاب الرزق لا غير. فلاحظ.

كما أنه لا ريب في كون الصور الخمس الباقية موضوعا للقبح ، وإن كان يختلف فيها شدة وضعفا حسب ترتبها ، لمنافاتها جميعا لما يحكم به العقل من لزوم الخضوع للمولى الأعظم والفناء فيه ، والانقياد لتكاليفه.

بل عرفت أن الصورة الثامنة موضوع لاستحقاق العقاب مطلقا ولو مع الخطأ.

__________________

(١) الوسائل ج ١ : ٣٥ باب ٦ : من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١.

٤٤

كما أن الظاهر أن الصورة السابعة مشاركة في الملاك الموجب للاستحقاق ، من حيثية إبراز ما في النفس بالفعل الخارجي المبني على التمرد على المولى وانتهاك حرمته.

وأما الصور الرابعة والخامسة والسادسة ، فلا يبعد كونها موردا لاستحقاق العقاب ، كما هو مقتضى المرتكزات العقلائية ، لأنها نحو من الظلم المولى الأعظم والتقصير في حقه ، إذ ليس حقه الطاعة خارجا ، بل تمام الخضوع والفناء غير الحاصل في الصور المذكورة.

نعم ، ورد في كثير من النصوص عدم العقاب على نية السيئة ، وأنها لا تكتب على العبد ، بخلاف نية الحسنة ، فإنها تكتب له. (١) وهي صريحة في عدم العقاب في الصورة السادسة ، وتقتضي عدمه في الرابعة والخامسة بالأولوية.

بل ظاهرها عدم ترتب العقاب حتى في الصورة السابعة.

بل قد يدعى ظهورها في عدمه مع التجري أيضا ، إذ ليس فيه إلا النية والعزم على السيئة دون فعلها.

لكن الظاهر أن المراد من النية فيها العزم السابق على الفعل وعلى اختياره ، لا ما يساوق الاختيار المقارن للفعل الحاصل مع التجري ، كما قد يشهد به ما في خبر حمزة بن حمران عن أبي عبد الله عليه السّلام : «ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها ، فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها ..» (٢) ، فانه كالصريح في ان المراد من النية العزم الذي يمكن العدول عنه قبل اختيار الفعل ، ويكون العدول عنه حسنة تكتب للعبد ، لا ما يعم الاختيار المقارن للفعل.

اللهم إلا أن يقال : الأخبار المذكورة ظاهرة في أن المدار في العقاب على فعل السيئة نفسها ، وهو غير متحقق مع التجري.

__________________

(١) راجع النصوص المذكورة في الوسائل ج ١ : ٣٥ ، باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) الوسائل ج ١ : ٣٩ ، باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٢٠.

٤٥

وفيه : أن الاعتماد على مثل هذا الظهور في مثل هذه الأمور غير ظاهر الوجه ، لانصراف ادلة الحجية في الظهورات وغيرها إلى الحجية في مقام العمل ، وترتب العقاب لا دخل له بعمل المكلف.

هذا ، مع ظهور غير واحد من النصوص في ثبوت العقاب بفعل مقدمات الحرام ، فتدل على ثبوته في التجري بالأولوية ، مثل ما ورد من أنه إذا تلاقى المسلمان بالسيف فالقاتل والمقتول في النار ، معللا دخول المقتول النار بأنه أراد قتل صاحبه ، وما ورد في عقاب غارس الخمر وعاصرها ومعتصرها (١) ، فإنه شامل لمن يعصرها لشرب نفسه ، مع وضوح كون العقاب حينئذ بملاك القصد إلى المعصية ، وكذا ما ورد في الماشي بالنميمة (٢) وغير ذلك ، فحمل نصوص عدم العقاب على خصوص العزم غير المستتبع للعمل الحاصل في الصورة السادسة ، وعدم شمولها للصورة السابعة والثامنة قريب جدا.

ثم إن عدم العقاب الذي تضمنته النصوص المتقدمة لا ينافي استحقاقه ، الذي هو محل الكلام ، لإمكان كونه من باب العفو والتفضل منه تعالى.

نعم ، قد ينافيه خبر مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السّلام : «لو كانت النيات من أهل الفسق يؤخذ بها أهلها إذا لاخذ كل من نوى الزناء بالزناء ، وكل من نوى السرقة بالسرقة ، وكل من نوى القتل بالقتل. ولكن الله عدل كريم ليس الجور من شأنه ، ولكنه يثيب على نيات الخير أهلها وإضمارهم عليها ، ولا يؤاخذ أهل الفسق حتى يفعلوا» (٣) ، لظهوره في أن مؤاخذة أهل الفسق بنياتهم جور ينافي عدله تعالى ، وجزاء أهل الخير على نياتهم تفضل يناسب كرمه عزّ اسمه.

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١٧ : ٣٠١ باب : ٣٤ من أبواب الاشربة المحرمة.

(٢) راجع الوسائل ج ٨ : ٦١٦ ، باب : ١٦٤ من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج. لكن لا يبعد ظهور النصوص المذكورة في حرمة نفس النميمة ، لا في ترتب العقاب على المشي إليها مع قطع النظر عن ترتبها ، إذ لا يبعد كون المراد بالماشي بالنميمة هو النمام لا غير. (منه)

(٣) الوسائل ج ١ : ٤٠ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٢١.

٤٦

لكن لا مجال للخروج بذلك عما عرفت من حكم العقل ، فلا بد أن تحمل على منافاة العقاب لمرتبة خاصة من الكرم وإطلاق الجور على ذلك توسع بلحاظ سعة رحمته المناسبة لرفعة مقامه التي ليس من شأنه الخروج عنها فلا تنافي حكم العقل بالاستحقاق.

ولا سيما مع ما ورد من أن نية الكافر شر من عمله (١) ، معللا في بعض النصوص بأن الكافر ينوي ويأمل من الشر ما لا يدركه. وما ورد من تعليل خلود أهل النار فيها بأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا (٢). وما ورد من أنه يكتب للكافر في سقمه من العمل السيئ ما كان يكتب في صحته (٣) ، فإنه صريح في أن عدم فعل السيئة لتعذرها بسبب السقم ـ كما في الصورة الخامسة المتقدمة ـ لا يرفع عقابها في حق الكافر ، ولو كان ذلك جورا لم يفرق فيه بين المؤمن والكافر.

والإنصاف : أن نصوص المقام لا تخلو عن التنافي بظواهرها ، مع ضعف سند كثير منها ، فلا مجال للتعويل عليها ولا للجمع العرفي بينها في مثل المقام من الأمور العقلية غير المتعلقة بمقام العمل. فلا مجال للخروج بها عما ذكرنا ، والمتيقن منها عدم العقاب في الصورة الخامسة بنحو لا ينافي الاستحقاق ، ويثبت في ما قبلها بالأولوية ، كما ذكرنا.

هذا كله لو كانت نية المعصية مسببة عن الشهوة أو الغضب المزاحمين للحكم الشرعي في مقام تأثير الداعوية في نفس المكلف ، أما لو كانت مسببة عن الاستهوان بتكاليفه تعالى ، أو الرغبة في محاربته والخروج عن أمره فهي أهم من جريمة المعصية ، بل قد توجب الخروج عن الدين والخلود في العذاب

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١ : ٣٨ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٧.

(٢) الوسائل ج ١ : ٣٦ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج ١ : ٤٢ باب ٧ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٥.

٤٧

المهين.

ولعله إليه يرجع ما تضمن أن نية الكافر شر من عمله. نسأله تعالى العصمة والسداد والتوفيق لما يحب ويرضى إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين.

التنبيه الثاني : في عدم اختصاص التجري بالقطع

لا يختص التجري بالقطع ، بل يجري في غيره من موارد تنجز التكليف المستند لقيام الطريق الشرعي عليه أو جريان الأصل المحرز أو غيره فيه.

ولا يخفى أنه بناء على جعلها من باب السببية لا تكون مخالفتها مع خطئها تجريا ، بل معصية حقيقية ، لا بالإضافة إلى الواقع ، بل بالإضافة إليها نفسها ، وإنما يتحقق التجري بناء على ما هو التحقيق من أنها مجعولة من باب الطريقية ، إذ الأحكام الطريقية لا تكون موضوعا للإطاعة والمعصية عقلا بأنفسها ، بل بلحاظ الواقع الذي قامت عليه ، فمع فرض خطئها وعدم كون مخالفتها موجبة لمخالفة الواقع لا يلزم إلا التجري بالإضافة إلى الواقع.

هذا ، وظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه تحقق التجري بمخالفة الطريق في صورة الخطأ سواء كان الإقدام برجاء تحقق المعصية ، أم لعدم المبالاة بذلك ، أم برجاء عدم تحققها. وظاهره كون التجري في الجميع بالإضافة إلى الواقع.

لكن ادعى بعض الأعاظم قدّس سرّه أن التجري في الصورة الثالثة بالاضافة إلى الطريق نفسه.

وفيه .. أولا : ما عرفت من أن الأحكام الطريقية لا تكون بأنفسها موضوعا للاطاعة والمعصية ، فكيف تكون موضوعا للتجري؟. نعم لو كان الإقدام للبناء على عدم الحجية تشريعا كان التشريع المذكور محرما قطعا.

وثانيا : ان مقتضى جعلها متابعتها ، فعدمها مخالفة حقيقية للدليل

٤٨

المذكور ، فتكون معصية حقيقية لا تجريا. وأما رجاء عدم الإصابة فلا ينافي جعلها بوجه ، كما لا يخفى.

هذا ، وقد يدعى عدم تحقق التجري في الصورة المذكورة ـ كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ لا بالإضافة إلى الحكم بجعل الطريق ، لما عرفت ، ولا بالإضافة إلى الواقع ، لعدم ابتناء الإقدام على مخالفته وهتك حرمة المولى بالإضافة إليه ، بل ليس فيه إلا الخروج عن مقتضى قاعدة دفع الضرر المحتمل ، فلا يقتضي ترتب العقاب إلا في صورة الوقوع في الحرام لا غير.

لكن الإنصاف : أن مجرد رجاء عدم تحقق المعصية مع عدم المؤمّن لا ينافي تحقق ملاك التجري من تجاهل المولى وهتك حرمته ، فإن مقتضى لزوم احترامه والفناء فيه الاهتمام بطاعته مع الاحتمال المنجز. نعم الملاك المذكور بمرتبة ضعيفة تتفاوت شدة وضعفا تبعا لضعف الاحتمال وقوته.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه قد اعتبر في صدق التجري مع عدم العلم عدم كون الجهل عذرا شرعا عقلا. قال قدّس سرّه : «وإلا لم يتحقق احتمال المعصية وإن تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعي ، كما في موارد أصالة البراءة ، واستصحابها».

ولا إشكال في تمامية ما ذكره إذا كان الإقدام استنادا إلى العذر المذكور ، سواء كان برجاء عدم مخالفة التكليف الواقعي ، أم لعدم الاهتمام بذلك ، أم برجاء مخالفته ، كما لو شرب محتمل الخمرية برجاء أن يكون خمرا قد رخص الشارع ظاهرا في شربه ، إذ لا محذور في الرغبة في مخالفة الواقع بالنحو المرخص به شرعا ، وليس فيه تمرد على المولى ولا هتك لحرمته ، بل هو مبني على الاهتمام به والتقيد بما رسمه.

أما إذا لم يكن الإقدام مستندا إلى العذر ، إما للجهل بكونه عذرا ، أو لعدم الاهتمام بالتكليف الشرعي الواقعي وعدم المبالاة بمخالفته لا عن عذر ، فلا

٤٩

يبعد عدم المعذرية حينئذ ، وتحقق المعصية الحقيقية أو التجري ، لأن معذرية العذر عرفا لا تكون بمجرد وجوده واقعا ، بل بالاعتماد عليه والاستناد إليه ، بل الصورة الثانية راجعة إلى الاستهوان بالدين التي عرفت أنها أشد من المعصية الحقيقية.

وكأن ما ذكرنا هو مراد بعض الأعاظم قدّس سرّه ، وإن كان قد يظهر من تقرير درسه للمرحوم الكاظمي لزوم كون الإقدام برجاء عدم إصابة الواقع ، الذي عرفت أنه لا ملزم به. فراجع.

التنبيه الثالث : في الانقياد

وهو عبارة عن الإقدام على الموافقة في مورد اعتقاد التكليف أو احتماله مع عدم ثبوت التكليف واقعا ، عكس التجري ، وهو قسمان ..

الأول : ما يكون مع المنجز للتكليف من قطع أو دليل أو أصل.

الثاني : ما يكون مع المؤمن المعذّر منه من دليل أو أصل يحتمل خطؤه.

أما الأول : فملاكه ملاك الطاعة الحقيقية ، فهو لازم إما بحكم العقل المبتني على التحسين والتقبيح ، كما في الانقياد للمولى الأعظم الذي يستحق الاطاعة ذاتا ، وإما بملاك دفع الضرر المقطوع أو المحتمل ، كما في الانقياد للأوامر المبنية على الوعيد بالعقاب ممن يقدر عليه ، شرعية كانت أو عرفية.

ولا إشكال في كونه منشأ للمدح ، من حيثية القيام بما ينبغي من الحق اللازم أو دفع الضرر ، وإن كان لا يبعد اختلاف سنخ المدح فيها ، وأما الثواب فالكلام فيه هنا هو الكلام فيه في الإطاعة الحقيقية.

والظاهر أن الإطاعة لا تكون منشأ لاستحقاق الثواب ولزومه للمطيع ، لأن فرض لزوم الفعل مانع عرفا من استحقاق الجزاء عليه ، لاختصاص استحقاق الجزاء بما إذا كان القيام بالعمل في مقابله ، لا للزومه في نفسه. من دون فرق بين

٥٠

أن تكون الإطاعة واجبة ذاتا ، كما في إطاعة المولى الأعظم ، وغيرها ، كما في غيره ممن لا يطاع إلا لدفع الضرر.

وعدم استحقاق الامر للإطاعة في الصورة الثانية يمنعه من الإلزام والوعيد ، لا أنه يوجب عليه الثواب على العمل للمطيع بعد فرض جعل التكليف منه عليه. إلا أن يكون من باب التعويض والتدارك ، لفرض ظلمه له بتكليفه إياه من غير حق. وهو خارج عن محل الكلام.

نعم ، لا إشكال في أن الإطاعة والانقياد يكونان منشأ لأهلية القائم بهما للتفضل بالثواب المبني على الشكر والجزاء ، وليس ثوابه ابتداء تفضل ، كالابتداء به على من لم يعمل شيئا أو كان عاصيا ، فإن المحسن الكريم أهل للإحسان على غير المطيع ، بل على العاصي ، إلا أنهما لا يكونان أهلا لذلك بخلاف المطيع والمنقاد فإنهما أهل للجزاء بالإحسان بسبب عملهما.

هذا كله لو فرض عدم الوعد من المولى بالثواب على الإطاعة ، وإلا كان له نحو من الاستحقاق عليه بملاك الوفاء بالوعد ، لا بملاك الاستحقاق على العمل.

والظاهر أنه يختص بموضوعه فلو فرض أنه الاطاعة الحقيقية لم يشمل الانقياد ، لخروجه عن موضوع الوعد وان اعتقد المكلف دخوله فيه. نظير ما تقدم من عدم عقاب المتجري بمقتضى الوعيد.

وأما القسم الثاني : فلا إشكال في حسنه بملاك الاحتياط للواقع وإن لم يكن منجزا ، كما تشهد به المرتكزات العرفية ، والعقلية والشرعية.

ومن ثمّ جرت سيرة الفقهاء على الندب إليه والحث عليه في موارد الفتوى على خلافه.

والكلام في الثواب هنا هو الكلام فيه في القسم الأول ، فهو لا يكون منشأ لاستحقاق الثواب ، لا ذاتا ولا بملاك الوعد على الطاعة ، بل يكون منشأ لاهلية التفضل بالثواب والجزاء. وعليه تحمل نصوص التسامح في أدلة السنن ، كما انها

٥١

حيث كانت ظاهرة في الوعد عليه يكون هو منشأ للاستحقاق بملاك الوعد المذكور.

هذا ، والظاهر أنه ليس علة تامة للحسن ، بل هو مقتض له قابل للردع الشرعي بسبب انطباق بعض العناوين المرجوحة عليه.

وربما يظهر من الأدلة الشرعية الردع عنه في الجملة ، ولا يسع المقام تفصيل ذلك ، بل هو محتاج إلى فضل تتبع للأدلة ومزيد تأمل فيها. ويأتي الكلام فيه في مباحث البراءة إن شاء الله تعالى.

٥٢

الفصل الثالث

في تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي

لا يخفى أن القطع بالإضافة إلى الحكم ..

تارة : لا يكون له دخل فيه إلا من حيث كونه طريقا له كاشفا عنه ، من دون أن يؤخذ في موضوعه ، بل يكون موضوع الحكم أمرا آخر تابعا لواقعه.

واخرى : يؤخذ في موضوع الحكم ، بحيث لا يترتب الحكم إلا تبعا للقطع وفي رتبة متأخرة عنه.

وقد اطلق على الأول القطع الطريقي ، وعلى الثاني القطع الموضوعي.

ولا إشكال في ذلك بين كل من تعرض له ، فاللازم صرف الكلام إلى ما يتفرع على هذا التقسيم مما وقع الكلام فيه بينهم.

ومن هنا ينبغي الكلام في أمور ثلاثة ..

الأمر الأول : أنه عرفت أن القطع عبارة عن وصول متعلقه للمكلف ، ورؤيته له ، فهو نحو من الإضافة القائمة بين القاطع والمقطوع به متأخر عنهما رتبة ، كسائر الإضافات القائمة بموضوعاتها المتفرعة عليها ، فيمتنع أن يكون دخيلا في تحقق متعلقه من حكم أو موضوع.

ومن هنا يتعين كون القطع بالإضافة إلى متعلقه طريقيا صرفا ، ولا يكون موضوعيا إلا بالإضافة إلى حكم آخر متأخر رتبة عنه وعن متعلقه ، على ما يأتي التعرض له ولأقسامه في الأمر الثاني.

٥٣

وحيث امتنع تقييد الحكم بالقطع به ـ لما عرفت من امتناع أخذ القطع موضوعا لمتعلقه ـ لزم إطلاق الحكم في مرتبة جعله بالإضافة إلى حالتي حصول القطع به وعدمه ، فيعم كلا الحالين ، ولا يختص بأحدهما ، كما لا يختص ببعض أفراد أحدهما. ومن ثمّ كان التصويب المنسوب للأشاعرة محالا في نفسه.

بل يمتنع اختصاص الحكم بحال القطع به أو ببعض أفراد القطع به ولو بنتيجة التقييد ، بأن يكون المأخوذ في موضوع الحكم عنوانا آخر ملازما للقطع بالحكم أو لبعض أفراده ، لان لازم ذلك امتناع حصول القطع بالحكم ، ومرجعه إلى امتناع حصول موضوع الحكم ، الموجب للغوية جعله.

إذ القطع بالحكم ..

تارة : يكون مسببا عن بيانه للمكلّف بنحو القضية الخارجية.

واخرى : يكون مسببا عن بيانه له بنحو القضية الحقيقية.

والأول يتوقف على علم الحاكم بتحقق موضوع حكمه قبل بيانه للمكلف ، وهو ممتنع مع فرض ملازمة الموضوع لقطع المكلف بالحكم المتأخر عن بيانه له. وحصول القطع للمكلف من الثاني موقوف على سبق تحقق القطع له بحصول موضوع الحكم في الخارج ، وهو ممتنع مع فرض ملازمة الموضوع للعلم بالحكم.

أما ما ذكره شيخنا الاستاذ دامت بركاته (١) ـ تبعا لما حكاه عن استاذه العراقي قدّس سرّه ـ في تقريب نتيجة التقييد بالعلم : بأن الحاكم الملتفت للذات المقارنة للعلم بالحكم والذات المقارنة للجهل به له أن يجعل الحكم على خصوص الاولى ، لا على ما يعمها والثانية.

ففيه : أن العلم بالحكم موقوف على العلم بموضوعه ، فمع فرض أخذ

__________________

(١) الشيخ حسين الحلي. (منه).

٥٤

خصوصية الذات في موضوعه لا مجال لتحصيل العلم به إلا مع فرض تحديد الذات المأخوذة في الموضوع ، وتحديدها من طريق العلم دوري ، ومن طريق العنوان الملازم له قد عرفت إشكاله ، إذ لا بد من سبق العلم بالموضوع زمانا على العلم بالحكم ، والمفروض ملازمة العنوان للعلم وعدم سبقه عليه.

وفرض التفات الامر للذات العالمة بالحكم في كلامه مبني على فرض جعل تمام موضوع الحكم هو العنوان الواقعي المجرد عن خصوصية الذات ـ كالاستطاعة ـ فيمكن للمكلف تحصيل العلم به ، أما مع فرض العدول عن الفرض المذكور وأخذ خصوصية الذات زائدا على العنوان الواقعي فيتعذر تحصيل العلم به للمكلف.

نعم ، لو كان مرجع ذلك إلى أن الحاكم لما كان يعلم بالذات التي من شأنها أن تعلم بالحكم على تقدير جعله على العنوان الواقعي فهو يجعل الحكم مختصا بالذات المذكورة بعنوان آخر يخصها يكون متمما للموضوع ـ كعنوان الذكي ـ فلا محذور فيه.

لكنه خروج عما نحن فيه ، لأن مرجعه إلى تخصيص الحكم بالذات التي من شأنها أن تعلم بالحكم على تقدير جعله ، لا بالذات العالمة بالحكم المجعول فعلا ، الذي هو محل الكلام.

وبالجملة : امتناع تقييد الحكم بالقطع به ليس لمجرد ترتب عنوان القيد على المقيد ، فيلزم من أخذه فيه لحاظ المتأخر قيدا في المتقدم نظير ما يذكر في قصد الامتثال في مبحث التعبدي والتوصلي ، حتى يمكن إبداله بالتقييد بما يلازم القيد المذكور من دون أخذ عنوانه المترتب على المقيد ، الذي هو عبارة عن نتيجة التقييد ، بل للترتب الخارجي الذاتي بينهما الموجب لامتناع نتيجة التقييد أيضا. فتأمل جيدا.

أما بعض الأعاظم قدّس سرّه فقد ذكر في المقام إمكان أخذ العلم في موضوع

٥٥

الحكم الذي تعلق به بنتيجة التقييد ، وإن امتنع أخذه بنحو التقييد اللحاظي في مرتبة جعل الحكم ، بدعوى : أن امتناع التقييد اللحاظي مستلزم لامتناع الاطلاق اللحاظي أيضا ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وهو موجب لقصور الجعل الأول عن إثبات أحدهما ، فلا بد من جعل آخر يستفاد منه نتيجة أحدهما ، وهو ما اصطلح عليه ب (متمم الجعل).

وفيه : أنه إن كان الجعل الأول متعينا لأحد الأمرين من الإطلاق والتقييد ثبوتا ، لامتناع الاهمال في الحكم ثبوتا ـ كما يظهر من تقرير المرحوم الكاظمي هنا ـ فلا حاجة إلى جعل آخر ، بل لا يحتاج إلا إلى شرح حال الجعل الأول ورفع إجماله.

والتحقيق : أنه يكفي فيه إطلاقه المستفاد من مقدمات الحكمة ، على ما ذكرناه في مبحث المطلق والمقيد ، بل عرفت هنا امتناع اختصاص الحكم بحال العلم به لا بالتقييد ولا بنتيجة التقييد ، فيتعين العموم ، فلا منشأ لتوهم الإجمال حتى يحتاج للإطلاق من هذه الجهة.

وإن فرض إهمال الجعل الأول ثبوتا ـ كما يظهر منه في مبحث التعبدي والتوصلي والمطلق والمقيد ـ فيحتاج إلى جعل آخر يتمم ما يقتضيه الجعل الأول.

ففيه .. أولا : ما أشرنا إليه من امتناع الإهمال ثبوتا.

وثانيا : أن فرض الإهمال في الجعل الأول مانع من العلم بالحكم الذي تضمنه ، لتوقف العلم بالحكم على تحديد موضوعه والعلم به ، ومع فرض عدمها لا علم بالحكم ، فكيف يمكن التقييد به في الجعل الثاني؟!.

وثالثا : ما ذكره شيخنا الاستاذ دامت بركاته من أن الجعل الثاني وإن رفع محذور الإهمال في الجعل الأول ، إلا أن المحذور وارد فيه أيضا ، إذ يمتنع تقييده بصورة العلم به أيضا ، كما يمتنع إطلاقه تبعا لذلك. والتزام جعل ثالث متأخر عنه

٥٦

رتبة رافع لإهماله موجب لتوجه المحذور في الجعل الثالث أيضا ، فيحتاج إلى جعل رابع .. وهكذا إلى ما لا نهاية.

وبالجملة : الالتزام بمتمم الجعل لا يرجع إلى محصل ظاهر ، لا في المقام ولا في غيره من الموارد التي التزم فيها قدّس سرّه ، كما ذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي أيضا.

ولا سيما مع ما نبه له شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) من القطع بعدم الجعل الثاني في الأحكام العرفية ، لوضوح عدم الالتفات فيها إلى جعل آخر لا من المولى ولا من المكلف ، مع أنها مشتركة مع الأحكام الشرعية في الإشكال. وهو شاهد بعدم توقف الأمر فيها على الالتزام بمتمم الجعل.

هذا كله لو اريد من أخذ العلم في موضوع الحكم هو العلم بالحكم الجزئي التابع لوجود الموضوع في الخارج ، أما لو اريد منه العلم بالحكم الكلي المستنبط من الأدلة ، فلا يتوجه المحذور المتقدم فيه ، للتباين بين ما يكون العلم طريقا له وما يكون مأخوذا في موضوعه.

نعم ، مرجع ذلك إلى أن موضوع الحكم لبا ليس هو العنوان المأخوذ في الكبرى الشرعية ـ كالاستطاعة ـ على إطلاقه ، وإلا لاستحال دخل العلم في الصغرى ، بل لا بد أن يكون الموضوع مقيدا بالعلم بالكبرى المذكورة ، وحيث كان العلم بالكبرى متأخرا عن نفس الكبرى رتبة امتنع التقييد به بعنوانه فيها ، بل لا بد حينئذ من فرض نتيجة التقييد ، وأن الحكم في الكبرى لم يجعل على العنوان الواقعي ـ كالمستطيع ـ على إطلاقه ، بل على خصوص الذات المقارنة للعلم بتشريع الحكم الذي تضمنته الكبرى المذكورة على اجماله ، ولا يلزم منه المحذور المتقدم ، وهو امتناع حصول العلم بالحكم ، لوضوح إمكان حصول العلم بالكبرى المذكورة لكل أحد ، فيعلم بالحكم تبعا لذلك. فتأمل جيدا.

ثم إنه يمكن اختصاص الاحكام الفعلية بخصوص العالم بوجهين

٥٧

آخرين ..

الأول : أن تكون الأحكام التي تضمنتها الكبريات الشرعية اقتضائية لا فعلية ، ويكون العلم بها متمما لملاكها وشرطا لفعليتها ، فالعلم بالإضافة إلى الحكم الاقتضائي طريقي ، وبالاضافة إلى الحكم الفعلي موضوعي. وليس مأخوذا في نفس الحكم الذي هو طريق إليه كما هو محل الكلام.

الثاني : أن تكون الأحكام المذكورة فعلية ، إلا أن الجهل بها مطلقا أو مع وجود المعذّر من الحكم رافع لها ، لكونه سببا في حدوث ملاك مزاحم للملاك الواقعي مانع من تأثيره. وإلى هذا يرجع التصويب المحكي عن المعتزلة.

ولا إشكال في أن الوجهين المذكورين خلاف ظاهر الأدلة ، فلا بد فيها من دليل مخرج عنها. ويأتي في مبحث إمكان التعبد بغير العلم تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

بقي في المقام أمران :

الأول : أن اختصاص الحكم بحال الجهل به غير ممكن بنحو التقييد اللحاظي ، لاستلزامه أخذ المتأخر في المتقدم.

بل قد يدعى أنه لا مجال لذلك بنتيجة التقييد أيضا ، لاستلزامه لغوية جعل الحكم ، إذ الاثر المصحح له عرفا هو العمل المترتب على العلم ، فلو اختص بحال الجهل لم يكن صالحا لترتب العمل.

لكن هذا إنما يمنع من اختصاص الحكم بصورة عدم المنجز له ، ولا يمنع من اختصاصه بصورة الجهل بالحكم الذي يجتمع مع المنجز له ، فإن المعيار في العمل بالحكم على المنجّز له ولو لم يكن قطعا ، فيكون أثر جعل الحكم حينئذ ترتب العمل عليه بسبب غير العلم من المنجزات من الامارات والأصول.

غاية الأمر أن يكون العلم من سنخ الرافع للحكم ، لكونه سببا في حدوث

٥٨

المزاحم له ، ولا محذور في ذلك. وما حكاه شيخنا الاستاذ عن بعض الأعاظم قدّس سرّه من امتناع كون القطع موجبا لتغير الملاك كي يتبعه الحكم. مما لم يتضح مأخذه لو تمت نسبته له.

الثاني : قال المرحوم الكاظمي في تقرير درس بعض الأعاظم قدّس سرّه : «وأما الأحكام العقلية فالعلم فيها دائما يكون موضوعا .. فإن حكم العقل بحسن شيء أو قبحه لا يكون إلا بعد العلم والالتفات الى الموضوع العقلي ، فلا يحكم العقل بقبح التصرف في مال الناس إلا بعد الالتفات إلى كونه مال الناس ..».

ولا يخفى ما في ظاهره من التدافع ، إذ بعد فرض كون الموضوع العقلي هو العنوان الواقعي ـ كالتصرف في مال الناس ـ كيف يكون العلم بالموضوع دخيلا فيه؟! فلا بد إما من الالتزام بأن الموضوع هو العلم بالعنوان ، لا العنوان الواقعي بنفسه ، أو بأن العلم بالعنوان طريقي محض لا موضوعي.

والذي ينبغي أن يقال : الحسن والقبح المنتزعان من الملاك المقتضي للعمل ، واللذان هما مفاد الكبريات العقلية موضوعهما العناوين الواقعية ، كالإحسان الى الناس ، والتصرف في أموالهم ، والحسن والقبح المترتبان على العمل الملازمان لاستحقاق المدح والذم والثواب والعقاب عليه موضوعهما العلم بالعناوين المذكورة ، لا العناوين بأنفسها.

والخلط بين المعنيين في غير محله ، نظير ما تقدم من الخلط بين قسمي القبح الفعلي عند الكلام في قبح التجري ، والذي عليه يبتني التفصيل المتقدم عن صاحب الفصول قدّس سرّه. فراجع.

الأمر الثاني : حيث عرفت امتناع أخذ القطع موضوعا في ما هو طريق إليه ، وأن القطع لا يكون موضوعيا إلا بالإضافة إلى حكم آخر غير ما قام عليه.

فاعلم : أن الأقسام الفرضية المتصورة للقطع الموضوعي كثيرة ،

٥٩

والمناسب التعرض لما وقع الكلام فيه بينهم بلحاظ بعض الآثار المترتبة عليه فنقول :

القطع الموضوعي إما أن يتعلق بموضوع واقعي لا حكم له شرعا ، كقيام زيد ، أو بموضوع له حكم شرعي كالاستطاعة ، أو بنفس الحكم الشرعي ، كوجوب الحج.

لا إشكال في الأول.

وعلى الأخيرين فالحكم المترتب على القطع ..

تارة : يكون مماثلا لحكم المقطوع أو للحكم المقطوع به ، بان يتفقا نوعا ومتعلقا ، كما لو قال : إن علمت أنك مستطيع وجب عليك الحج ، أو : إن علمت أن الحج واجب عليك وجب عليك الحج ، مع فرض أن تمام موضوع وجوب الحج هو الاستطاعة ، وأن الوجوب الثابت بسبب العلم بها أو بوجوب الحج هو وجوب آخر غير ذلك الوجوب.

واخرى : يكون مضادا له ، كما لو قال : إن علمت أنك مستطيع حرم عليك الحج ، أو : إن علمت أن الحج واجب عليك حرم عليك الحج.

وثالثة : يكون مخالفا له بأن يتعدد متعلقهما ، كما لو قال : إن علمت انك مستطيع وجب عليك التصدق ، أو : إن علمت أن الحج واجب عليك وجب عليك التصدق.

لا إشكال في إمكان الأخير.

كما لا ينبغي الإشكال في امتناع الثاني ، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتضادين ولا يصححه اختلاف الحكمين رتبة ، لما ذكره غير واحد من أن الاختلاف الرتبي لا يصحح اجتماع الضدين. فإن ملاك التضاد بين الأحكام المانع من اجتماعها في متعلق واحد تنافيها في مقام العمل ، وهو لا يرتفع باختلاف الرتبة المذكور.

٦٠