المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

الفصل السادس

في حجية مطلق الظن

والظاهر أن الكلام هنا مختص بحال انسداد باب العلم في المسألة وانحصار الأمر بغيره ، لأن الوجوه الآتية في الاستدلال لا تقتضي لزوم الاكتفاء بالظن وعدم وجوب تحصيل العلم لو امكن.

ومنه يظهر أنه لا مجال لمنع الوجوه الآتية وإبطالها بما تظافرت الأدلة به من عموم حرمة العمل بالظن وعدم حجيته في نفسه ، وخصوص ما ورد في بعض الظنون كالقياس ، بدعوى : أنها تكشف إجمالا عن خلل في الوجوه العقلية التي اقيمت على الحجية لو فرض عدم تيسر الجواب عنها تفصيلا.

إذ يمكن حمل الأدلة المذكورة على خصوص صورة تيسر العلم بحكم المسألة ، فلا تنافي الوجوه المستدل بها في المقام لتكشف عن بطلانها.

اللهمّ إلا أن يدعى امتناع حمل الأدلة المذكورة على خصوص صورة انفتاح باب العلم بحكم المسألة ، خصوصا ما ورد في الظن الممنوع عنه بالخصوص كالقياس. وغاية ما يمكن حملها على صورة انفتاح باب العلم أو العلمي بمعظم المسائل ، وإن فرض انسداده في خصوص المسألة ، وحينئذ فالأدلة المذكورة تلائم دليل الانسداد ، دون الوجهين الأولين ، لوضوح أنه يكفي فيهما انسداد باب العلم بحكم المسألة وإن لم ينسد في المعظم ، فتكون الأدلة المذكورة كاشفة عن خلل فيهما إجمالا ، فيكونان كالشبهة في مقابل البديهة.

وكيف كان ، فقد استدل على حجية مطلق الظن بوجوه ...

٣٠١

الأول : أن في مخالفة الظن بالحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة الضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.

وفيه : ـ مع أن لازمه وجوب مراعاة مطلق احتمال التكليف وإن لم يكن ظنا ، بل وإن كان على خلافه حجة ، بناء على ما هو التحقيق من لزوم دفع الضرر المحتمل وإن لم يكن مظنونا. ووجوب مراعاة الظن حتى بالموضوع ، لا خصوص الظن بالحكم الكلي ، ولا قائل بهما ـ أن المراد بالضرر إن كان هو العقاب فهو ليس من لوازم التكليف الواقعية ، ليلزم من الظن بالتكليف الظن به ، بل هو من لوازم تنجز التكليف ـ بحجة أو بإيجاب الاحتياط فيه ـ فيتوقف ظن العقاب على تنجز التكليف بالظن في مرتبة سابقة ، ولا يكون بنفسه موجبا لتنجزه به ومقتضيا لحجيته.

وإن كان هو الأضرار الواقعية الملازمة للتكليف ، لما عليه العدلية من تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد الملزمة ، فيلزم من مخالفتها الوقوع في المفاسد وتفويت المصالح المذكورة ، وهو نحو من الضرر.

ففيه : ـ مع ابتنائه على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، لا للمصالح في الأحكام أنفسها ـ أن وجوب دفع الضرر المظنون والمحتمل عقلا حكم طريقي ، لتجنب الضرر الواقعي ، فلا يلزم من مخالفته إلا الوقوع في الضرر الواقعي على تقدير إصابة الظن أو الاحتمال ، وليس الواجب إلا دفع الضرر الواقعي.

وحينئذ نقول : وجوب دفع الضرر الواقعي عقلا ليس كوجوب الإطاعة يرجع إلى حكم العقل باستحقاق العقاب بالإقدام عليه ولا كوجوب العدل ، وحرمة الظلم يبتني على التحسين والتقبيح العقليين ، ليكون مستلزما لوجوبه شرعا ، بناء على الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي ، كي يكون الظن بالضرر مستلزما للظن بالعقاب.

٣٠٢

بل هو راجع إلى أن حب الإنسان لنفسه يقتضي دفع الضرر عنها ، كما قد يهتم بدفع الضرر عن غيره لاهتمامه به وحبه له. ومن ثمّ قيل : إن دفع الضرر من الامور الفطرية ، لا الواجبات العقلية. وليس وراء الضرر المترتب أمر آخر من عقاب ونحوه يلزم بدفعه.

وما قيل : من استحقاق الذم بارتكاب الضرر الكاشف عن وجوب دفعه عقلا من باب التحسين والتقبيح ، نظير استحقاق الذم بالظلم.

غير ظاهر ، بل الظاهر أنه لا يستتبع إلا اللوم اللازم للتفريط المنافي للحكمة الملزمة بحفظ ما يتعلق الغرض بحفظه.

وعلى هذا يكون مرجع الدليل المذكور إلى أن مخالفة الظن بالتكاليف في معرض الوقوع في المفاسد ، وتفويت المصالح الموجبة للتكليف ، وليس وراء ذلك أمر آخر.

وهو مسلم بناء على التخطئة ، لكنه لا يصلح للإلزام بمتابعة الظن ، لأن المصالح والمفاسد المذكورة قد لا تكفي في الداعوية ، إما لعدم كونها من سنخ الأضرار الشخصية الراجعة إلى المكلف نفسه ، بل من الأضرار العامة التي لا يهتم بدفعها من لا يهتم بالصالح العام. أو لأن الانسان قد يقدم على بعض الأضرار ، لعدم كونه حكيما ، أو لابتلائه ببعض المزاحمات ولو كانت هي صعوبة الاحتياط.

ولا سيما مع إمكان تدارك الأضرار المذكورة من قبل الشارع الأقدس ، فإنه وإن لم يقم الدليل على ذلك ـ خلافا لمن ادعى امتناع جعل الطرق غير العلمية والأصول بدونه ـ إلا أن احتماله كاف في ضعف احتمال الضرر وصلوحه لأن يزاحم.

وهذا بخلاف ما لو كان الوقوع في الضرر مظنة العقاب ، فإن العقاب لأهميته صالح للداعوية العقلية مطلقا وإن ضعف احتماله ، ولا يزاحم بشيء

٣٠٣

أبدا.

وأما وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل شرعا المستتبع للعقاب بدونه فهو مختص ببعض الأضرار ، كتلف النفس والطرف ، ولا يعم كل ضرر ، خصوصا الأضرار النوعية ، فلو فرض ملازمة الظن بالتكليف للظن بالأضرار المذكورة تعين وجوب مراعاة الظن المذكور ، بل يجب في مثله مراعاة مطلق الاحتمال وإن لم يكن ظنا ، من دون فرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية. إلا أن هذا فرض نادر خارج عن محل الكلام ، ولا ينفع في جعل مقتضى القاعدة العلم بالظن.

هذا ، مع أن الوجه المذكور ـ لو تم ـ إنما يقتضي لزوم العمل بظن التكليف ، لا الظن بعدمه ، ولا الظن بالأحكام الوضعية ، إلا من حيث استتباعهما للظن بالتكليف. فلو ظن بملكية قدر الاستطاعة ـ مثلا ـ لم يقتض الوجه المذكور إلا وجوب الحج ، دون جواز التصرف فيه ، بل مقتضى أصالة عدم تملكه حرمة التصرف ، وهذا قد يوجب الحرج.

الثاني : أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح.

وفيه : ـ مع أن مقتضاه الرجوع للظن حتى في الشبهة الموضوعية ، بل امتناع نصب الحجة على خلافه ـ أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح إنما يقتضي العمل بالظن إذا تعلق الغرض بتحصيل الواقع.

فإن كان المراد بالوجه المذكور استكشاف حكم الشارع بحجية الظن فهو موقوف على كون ظن المكلف هو الأقرب والأرجح بنظر الشارع ، وعلى تعلق غرضه بحفظ التكاليف الواقعية وتحصيلها.

ولا طريق لإثبات الأول ، لإمكان علمه بكثرة خطأ المكلف في ظنه ، كما يشهد به في الجملة ما ورد في القياس من أن ما يفسده أكثر مما يصلحه.

٣٠٤

كما أنه تقدم في مبحث جواز نصب الطرق غير العلمية إنكار الثاني ، وأنه قد لا يتعلق غرض الشارع بتحصيل التكاليف الواقعية لاجل بعض المزاحمات المانعة منه.

وإن كان المراد به إلزام المكلف بالعمل به تحصيلا للتكاليف الواقعية وإن لم يكن حجة شرعا ، فهو موقوف على تعلق غرضه بتحصيل الواقع ، ولا وجه له بعد جعل الأصول المؤمنة له مع فرض عدم الحجة.

نعم ، لو فرض تنجز الواقع عليه على كل حال ـ كما لو قصر في الفحص في موارد الدوران بين محذورين ، أو اضطر بسوء الاختيار إلى ارتكاب أحد أطراف الشبهة التحريمية المحصورة ـ لزمه عقلا متابعة الظن بالتكاليف ، لما ذكر من قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

ومنه يظهر أن الوجه المذكور لا ينهض بجواز متابعة الظن بعدم التكليف ، إذ لا غرض في متابعة عدم التكليف ، لا للشارع ولا للمكلف ، بل يتجه الرجوع فيه للأصول أو الأدلة ، وقد يلزم من ذلك الحرج ، كما تقدم في الوجه الأول.

هذا ، مع أن الاجتزاء بالراجح في فرض تعلق الغرض بتحصيل الواقع موقوف على تعذر العلم بتحصيل الواقع ولو بالاحتياط كما تقدم في المثالين السابقين ، وهو مبني على ما يأتي في دليل الانسداد.

ومن ثمّ قيل إن هذا الوجه مقدمة من مقدمات الدليل المذكور. فلاحظ.

الثالث : هو الدليل المعروف بدليل الانسداد ، وهو مركب من مقدمات اختلف الاعيان في تعدادها ، والظاهر أن عمدتها ثلاث ..

الاولى : انسداد باب العلم والعلمي بالحكم الشرعي.

الثانية : عدم إمكان الرجوع للأصول الشرعية والعقلية المقررة للجاهل بالأحكام من البراءة والاحتياط وغيرهما وعدم ثبوت غيرها من الشارع الأقدس.

٣٠٥

الثالثة : قبح ترجيح المرجوح على الراجح. فإنه مع فرض تمامية المقدمات المذكورة ليس هناك إلا العمل بالظن.

والظاهر أنه لا حاجة إلى إضافة مقدمة اخرى للمقدمات المذكورة ، وهي عدم جواز إهمال الأحكام المذكورة ، كما صنعه غير واحد كشيخنا الأعظم قدّس سرّه ومن تأخر عنه.

إذ الإهمال إن كان على خلاف القاعدة فلا وجه لتوهم جوازه حتى يحتاج إلى فرض عدم جوازه في مقدمات الدليل. وإن كان على طبق القاعدة فهو عبارة ، اخرى عن امتناع الرجوع للبراءة المفروض في المقدمة الثانية.

اللهم إلا أن يراد بإهمال الأحكام هو إهمالها تبعا لسقوطها واقعا بسبب الجهل بها ، فيكون أمرا آخر غير ما يأتي في المقدمة الثانية.

لكنه بعيد عن ظاهر بعض كلماتهم. ويأتي الكلام فيه تبعا للكلام في الاحتياط إن شاء الله تعالى.

ومثله ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أخذ مقدمة خامسة ، وهي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف شرعية ، إذ لا يحتاج إلى العلم المذكور لو فرض تمامية المقدمات الثلاث.

نعم ، قد يكون العلم المذكور دخيلا في إثبات المقدمة الثانية ، لا أنه يؤخذ في قبالها ، كما نبه لذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

وكيف كان ، فيقع الكلام في المقدمات الثلاث ، فنقول :

أما المقدمة الاولى : فقد جعلت في كلامهم عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي في معظم المسائل.

والظاهر أنه مع فرض تمامية المقدمتين الاخريين يكفي انسداد باب العلم ولو في مسألة واحدة ، كما في موارد التقصير في الفحص وتعذر الاحتياط ، إلا أن تمامية المقدمة الثانية في محل الكلام ـ وهو ما لم يكن المكلف مقصرا ـ

٣٠٦

موقوفة على فرض الانسداد في المعظم ، حيث يلزم من الاحتياط والبراءة المحاذير الآتية.

فخصوصية الانسداد في المعظم ليست دخيلة في أصل الدليل ، بل في تمامية مقدماته في محل الكلام.

وكيف كان ، فانسداد باب العلم بالمعظم وإن كان ظاهرا ، إلا أن انسداد باب العلمي مبني على عدم حجية قسم يفي بالمعظم من أخبار الآحاد التي بين أيدينا ، لعدم ثبوت التعبد بسندها أو بدلالتها ، بناء على ما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه من عدم حجية الظواهر في حق غير المقصودين بالإفهام.

لكن الظاهر حجية المقدار الوافي من الأخبار الذي لا محذور من الرجوع للأصول في مورد عدمه. لما تقدم في الفصل الأول من حجية ظواهر الأخبار ، وفي الفصل السابق من ثبوت التعبد شرعا بصدورها مع الوثوق بها ، أو برواتها. فالمقدمة المذكورة غير تامة.

وأما المقدمة الثانية : فالظاهر تماميتها في الجملة ، إذ لا إشكال في عدم الرجوع للبراءة لو فرض انسداد باب العلم في معظم المسائل ـ كما هو مفاد المقدمة الاولى في كلامهم ـ للعلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في موارد الانسداد فيلزم من الرجوع للبراءة المخالفة الإجمالية الكثيرة.

بل لو فرض عدم مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للبراءة فهو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما واحدا أو أحكاما قليلة يمكن تسامح الشارع فيها ، دون المقام ، حيث كان المعلوم بالإجمال أحكاما كثيرة ، بل معظم الأحكام فلو بني فيها على مقتضى البراءة لزم إهمال تلك الأحكام بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به. وهو الذي عبر عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بمحذور الخروج عن الدين.

كما أنه لو فرض كون تعذر الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي

٣٠٧

موجبا لسقوط التكاليف الواقعية عن الفعلية ، بنحو يجوز المخالفة في جميعها ، ولا يجب التبعيض في الاحتياط فلا مجال لذلك في المقام أيضا ، لأجل المحذور المذكور.

فلا بد من الالتزام ببقاء الأحكام الواقعية ولزوم حفظها في مقام الامتثال في الجملة. وقد عرفت احتمال رجوع عدم جواز الإهمال الذي جعل مقدمة مستقلة في كلماتهم إلى هذا المعنى.

وأما الاحتياط فهو وإن كان مقتضى القاعدة في العلم الإجمالي ، إلا أنهم ذكروا امتناعه في المقام لامور ..

الأول : الإجماع القطعي الارتكازي على عدم كون الاحتياط هو المرجع على تقدير انسداد باب العلم. قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وصدق هذه الدعوى مما يجده المنصف من نفسه بعد ملاحظة قلة المعلومات».

ولا يخفى أنه بعد الاعتراف بكون المسألة من المستحدثات ، لبناء الأصحاب سابقا على انفتاح باب العلم ، فالإجماع المذكور لا أثر له في استكشاف الحكم الشرعي ، بل استكشاف الإجماع بالوجه المذكور ناشئ عن دعوى وضوح الحكم ارتكازا ، بنحو لو بنى الأصحاب على الانسداد لبنوا عليه.

فلا وجه لإرجاع الوجه المذكور للاجماع إلا المحافظة على عدم الخروج في الاستدلال عن الأدلة الأربعة.

وكيف كان ، ففي تمامية الدعوى المذكورة مع قطع النظر عن الوجوه الأخر إشكال ، بل منع ، فلا مجال للخروج بها عن القواعد المقتضية للاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

ودعوى القطع بعدم رضا الشارع بابتناء الامتثال في معظم الفقه على الاحتياط ، وانه لا بد من سلوك طريق الجزم بالامتثال غير ظاهرة.

الثاني : لزوم اختلال النظام من الاحتياط ، لكثرة موارد الجهل وابتناء

٣٠٨

العمل في كثير من المسائل التي هي مورد الجهل على مسائل أخر هي مورد للجهل أيضا ، وهو موجب لتعدد جهات الاحتياط في العمل الواحد ، والمحافظة على الاحتياط في جميع ذلك وتحقيق ما ينبغي سلوكه عند تزاحم جهات الاحتياط خصوصا في حق العامي المحتاج إلى تعلم المسائل وضبطها مستلزم لاختلال النظام واضطراب أمر المعاش والمعاد ، بنحو يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به.

بل قيل بقبحه عقلا ، لأدائه إلى ترك جملة من الواجبات في كثير من الموارد. وإن كان لا يخلو عن إشكال ، لرجوعه إلى دعوى تعذر الاحتياط.

مع أن قبح ترك الواجبات مختص بصورة القدرة عليها وتنجزها ، ولا يشمل ما لو تعذر الاتيان بها لمزاحمتها للاحتياط في تكاليف أخر.

نعم ، قد يدعى أهمية حفظ النظام العام من جميع الملاكات الواقعية للأحكام المقتضية لحفظها بالاحتياط ، الكاشف عن عدم وصول النوبة للاحتياط لو استلزم اختلال النظام.

وهو غير بعيد ، وإن كان لا حاجة إليه بعد العلم بعدم ابتناء الشريعة السهلة على ما يخل بالنظام بنحو يقطع بعدم لزوم الاحتياط معه.

الثالث : أنه يلزم من الاحتياط العسر والحرج المرفوعان في الشريعة.

والاستدلال بذلك يبتني على مفاد قاعدة نفي الحرج. فالذي ذهب إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن مفادها نفي الأحكام المستلزمة للحرج ، من باب نفي المسبب بلسان نفي السبب.

والذي ذكره المحق الخراساني قدّس سرّه أن مفادها نفي الأحكام الواردة على الموضوع الحرجي ، من باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، نظير : لا شك لكثير الشك.

والظاهر هو الوجه الأول ، لأن الثاني إنما يتجه في ما إذا سلط النفي على

٣٠٩

نفس الموضوع الذي يراد رفع حكمه ، كالشك في المثال المتقدم. وليس الحرج بعنوانه موضوعا للأحكام الأولية ، التي يراد رفعها ، بل الموضوع له هو الأفعال بعناوينها الخاصة كالوضوء والكذب ، ولم يسلط النفي عليها ، بل على الحرج ، فلا وجه له إلا كون الأحكام المذكورة سببا للحرج ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، وهو الظاهر من مثل قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

مع أن لازمه عدم صلوح القاعدة لرفع الأحكام التحريمية ، إذ لا تكون موضوعاتها حرجية ، بل الحرجي تركها.

نعم ، لو سلط النفي على نفس الأفعال اتجه ما ذكره قدّس سرّه كما لو قيل : لا كذب مع الحرج. كما لعله ظاهر.

وكيف كان ، فعلى ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه قد يتجه الاستدلال بقاعدة نفي الحرج لنفي وجوب الاحتياط لو كان حرجيا ، لأن الحكم الواقعي وإن لم يكن حرجيا بنفسه ، إلا أنه بسبب اشتباه متعلقه وتردده بين المحتملات يكون حرجيا ، إذ هو حينئذ يقتضي الجمع بينها ، فيستلزم الحرج.

أما بناء على ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه فلا مجال للاستدلال المذكور ، إذ لا مجال لتطبيق القاعدة على نفس الاحتياط الذي هو حرجي ، لعدم كون وجوبه شرعيا قابلا للرفع الشرعي ، ولا على متعلق الحكم الواقعي كالصلاة للقبلة الواقعية ، لفرض عدم كونه حرجيا ، وإنما يلزم الحرج من الجمع بين المحتملات.

ومن ثمّ منع المحقق الخراساني قدّس سرّه من الاستدلال بالوجه المذكور.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم الفرق بين المبنيين في أمثال المقام مما كانت أطراف الشبهة من التدريجات ، فإن المحتملات الاولى لا تكون حرجية ، فيجب مراعاتها حتى على ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، والمحتملات الأخيرة هي التي تكون حرجية ، فلا يجب مراعاتها حتى على ما ذكره المحقق

٣١٠

الخراساني ، إما لعدم التكليف بها واقعا أو لكونها حرجية.

ففيه : ـ مع ابتناء ذلك على لزوم تبعيض الاحتياط عند تعذر الاحتياط التام ، ولا يقول به المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ أن الحرج لا ينشأ من الجمع بين المحتملات فقط ، بل ينشأ أيضا من صعوبة ضبط موارد الاحتياط وتحديد مقداره عند تعدد جهات الشك ، ولا سيما مع عدم انضباط الأحكام التي يبتلى بها المكلف ، فبناء على ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه يتعين سقوط الاحتياط من أول الأمر ، وعلى ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه يتجه الاحتياط حتى تصل النوبة إلى المحتملات الحرجية.

هذا ، مع أن إيكال الأمر إلى لزوم الحرج الشخصي من نفس المحتملات لا يكفي في رفع الحرج ، لعدم الضابط لذلك مع ما أشرنا إليه من عدم انضباط الأحكام التي يبتلى بها المكلف ، بل لا يرتفع الحرج إلا بتشريع طريق مضبوط لا يلزم منه الحرج ، أو برفع الأحكام كلية. فتأمل. فالظاهر اختلاف المبنيين فيما هو محل الكلام.

ثم إنه حيث عرفت أن الظاهر هو ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه فالذي ينبغي أن يقال : إنه بناء على أن تعذر الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي ، أو لزوم الحرج منه موجب لسقوط الاحتياط كلية ، لأن الاضطرار أو الحجر مانع من فعلية التكليف المعلوم بالإجمال الذي هو منشأ الاحتياط ، فلا مجال للتمسك بقاعدة نفي الحرج في المقام ، لما أشرنا إليه من أنه لا مجال لإهمال التكاليف في المسائل التي انسد فيها باب العلم ، فإن ذلك مستلزم لفعليتها وقصور قاعدة نفي الحرج عن رفعها تخصيصا.

ودعوى : أن إعمال القاعدة ليس بلحاظ رفع الأحكام المذكورة المستلزم لإهمالها ، بل بلحاظ استكشاف وجوب تحصيلها بطريق آخر غير الاحتياط لا يلزم منه الحرج.

٣١١

مدفوعة : بعدم نهوض القاعدة بتشريع الأحكام التي يرتفع بها الحرج ، بل هي مختصة برفع الأحكام الحرجية ، والمفروض امتناعه في المقام ، الموجب لتخصيص القاعدة فيه.

نعم ، لو فرض العلم في المقام بعدم رضا الشارع الأقدس بلزوم الحرج في المقام كشف ذلك عن تشريع طريق آخر غير الاحتياط.

إلا أنه ليس راجعا إلى قاعدة نفي الحرج القابلة للتخصيص ، بل إلى العلم الذي هو حجة ذاتية نظير العلم بعدم رضا الشارع باختلال النظام.

أما بناء على أن تعذر الاحتياط التام أو لزوم الحرج منه لا ينافي فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، بل يتنزل للتبعيض في الاحتياط ، فيمكن الاستدلال بالقاعدة ، لعدم منافاتها لما تقدم من عدم جواز الإهمال.

هذا ، والظاهر أنه لا مجال للبناء على تبعيض الاحتياط ، خصوصا فيما إذا لم يكن منشأ سقوط الاحتياط التام هو التعذر ، بل التعبد الشرعي من جهة الحرج ونحوه. وتمام الكلام في مباحث الشبهة المحصورة.

ومن هنا لا مجال لما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لزوم الاحتياط في موارد الظن بالتكليف ، بل في موارد الشك أيضا ، لاندفاع العسر بترك الاحتياط في موارد الظن بعدم التكليف ، وكذا اختلال النظام.

نعم ، قد يدعى لزوم العمل بالظن بالتكليف للعلم الإجمالي بإصابة بعض الظنون للواقع ، فينحل به العلم الإجمالي الكبير الذي أطرافه جميع الشبهات ، لوفاء أطراف الأول بالمعلوم في الثاني ، فإنه لا مجال لدعوى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في غير موارد الظن ، وحينئذ فالعمل بالظن ليس من باب التبعيض في الاحتياط ، بل من باب الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي الذي اختصت المنجزية به بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير به.

لكن ذلك ـ لو تم ـ لا يختص بالظن ، بل يجري في جميع موارد الطرق

٣١٢

غير العلمية ، وإن لم تفد الظن الشخصي. وقد سبق في الوجه العقلي لحجية الخبر انحلال العلم المذكور بالعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار ، ومقتضى ذلك اختصاص الاحتياط بها ، دون بقية موارد الطرق غير العلمية.

نعم ، هذا موقوف على عدم لزوم محذور اختلال النظام أو الحرج من الاحتياط فيها. وهو في غاية الإشكال ، بل المنع ، كما أشرنا إليه هناك.

ومن ثمّ لا مجال لإبطال هذه المقدمة من هذه الجهة.

غاية الأمر أنه يتعين لأجل ذلك البناء على اختصاص دليل الانسداد بموارد الأخبار ، بحيث لو فرض تماميته بحيث يقتضي الرجوع للظن بالتكليف لكان مختصا بموارد الأخبار ، فيرجع فيها إلى الظن بصدور الخبر أو بثبوت التكليف في مورده ، مع الرجوع في غيرها إلى الأدلة الأخر ، كظهور الكتاب ، أو السنة القطعية ، أو الأصول ، وإن ظن بخلافها.

وليس هذا من باب تقديم الأصل على الدليل ، بل من باب ارتفاع موضوع دليلية الدليل بالأصل ، وإنما يتعين تقديم الدليل على الأصل فيما لو كان عموم دليليته شاملا لمورد الأصل ، بخلاف المقام.

هذا كله في الاحتياط اللازم من العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الشريعة ، أو من العلم باهتمام الشارع بالأحكام بنحو لا يرضى بإهمالها لمحذور الخروج عن الدين ، الناشئ من انسداد باب العلم في معظم المسائل ، أما الاحتياط اللازم من العلم الإجمالي بثبوت التكليف في خصوص مورد لانسداد العلم فيه ، كما في الدوران بين القصر والتمام ، فسقوطه مبني على كثرة موارد العلم الإجمالي المذكور بنحو يلزم من الاحتياط فيها المحاذير المتقدمة ، وهو محتاج إلى تأمل واستقصاء لا يسعه المقام.

وكيف كان ، فهو لا يخل بهذه المقدمة ، لعدم وفائه بمعظم المسائل. هذا كله في الاحتياط.

٣١٣

وأما الاستصحاب فلا مجال للرجوع إليه لو كان نافيا للتكليف ، للعلم الإجمالي بمخالفته للواقع في كثير من الموارد ، لكثرة موارد الاستصحاب المذكور ، حيث انه يجري في أكثر موارد الرجوع للبراءة ، فيمتنع الرجوع إليه ، إما لقصور دليله عن شمول صورة العلم الإجمالي ، أو لسقوطه بالمعارضة ، أو للزوم المخالفة للتكليف المعلوم بالإجمال ، على ما ذكر في مبحث الاستصحاب.

وكذا لو كان مثبتا للتكليف لو فرض كثرة موارده بسبب انسداد باب العلم بنحو يعلم إجمالا بمخالفته في بعضها للواقع بناء على أن العلم الإجمالي مانع من الرجوع للاستصحاب مطلقا.

أما لو فرض عدم العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاستصحابات المثبتة للتكليف للواقع لقلتها ، أو عدم مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للاستصحاب المثبت فالمتجه الرجوع اليه.

وليست كثرة موارده بنحو يفي بمعظم المسائل ليمنع من تمامية هذه المقدمة ، كما أنها ليست بنحو يلزم من الرجوع إليه محذور اختلال النظام أو العسر والحرج بنحو يكشف عن تخصيص دليله ، وليس هو كالاستصحاب النافي للتكليف.

ومنه يظهر أنه لو فرض تمامية دليل الانسداد واقتضاؤه حجية الظن فلا مجال لرفع اليد به عن الاستصحاب المذكور ، بل هو متأخر عنه رتبة. وليس هذا من باب رفع اليد بالأصل عن الدليل ، بل من باب ارتفاع موضوع الدليل بالأصل ، كما تقدم نظيره في الاحتياط.

وأما أصالة التخيير فالعقل إنما يحكم بها في الدوران بين محذورين كالوجوب والحرمة ، أما مع تعذر الاحتياط لجهة اخرى فلم يتعرضوا للرجوع إليها. ويأتي في المقدمة الثالثة تمام الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في الأصول المعروفة التي يرجع إليها في الشبهات

٣١٤

الحكمية.

ومن الظاهر أنه لم يثبت من قبل الشارع الأقدس طريق أو أصل آخر متبع في خصوص حال الانسداد. فلا بد من الرجوع للعقل في تشخيص مما ينبغي العمل عليه لو فرض عدم الرجوع للأصول المتقدمة.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه تعرض في هذه المقدمة لامتناع الرجوع للتقليد ، للإجماع ، وقصور أدلة مشروعية التقليد عنه ، لاختصاصها بالجاهل العاجز عن الفحص ، دون المجتهد الذي استكمل الفحص وخطّأ المفتي في دعواه الانفتاح.

فإن كان مراده منع كونه من الطرق المجعولة بالخصوص كالخبر ، فما ذكره في وجهه وإن كان متينا ، إلا أن امتناعه ينبغي أن يكون مفروضا في المقدمة السابقة المتضمنة لانسداد باب العلم والعلمي.

وإن كان مراده منع الرجوع إليه في فرض الانسداد وتعذر الرجوع للطرق المعروفة ، فدليله لا ينهض بذلك إذ هو كأدلة المنع من الرجوع للظن لا ينافي الرجوع إليه في فرض الانسداد.

فالأولى أن يقال : إنه لم يثبت من الشارع جعله في حال الانسداد ، كما أشرنا إليه. وهو كاف في هذه المقدمة. هذا تمام الكلام في المقدمة الثانية.

وأما المقدمة الثالثة : فتشكل بما تقدم في الوجه الثاني من الوجوه العقلية لحجية مطلق الظن من أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح مختص بما إذا تعلق الفرض بإصابة الواقع ، وهو غير ظاهر في المقام ، فإن غرض الشارع بمقتضى عدم جواز الإهمال وإن كان هو امتثال الحكم الواقعي ، إلا أنه في مقابل الإهمال المطلق ، لا الاهتمام به على كل حال بنحو يقتضي تحصيله مهما أمكن وبأقرب الطرق.

مع أنه إنما يقتضي تعيين الظن إذا كان ظن المكلف أرجح وأقرب بنظر الشارع ، وهو ممنوع ، كما تقدم أيضا.

٣١٥

وأما المكلف فلا غرض له بإصابة الواقع إلا من حيث تنجزه بالعلم الإجمالي أو بالعلم باهتمام الشارع بالتكاليف الواقعية بنحو لا يجوز إهمالها ، ومن الظاهر أن ذلك لا يقتضي تنجزه مطلقا بعد فرض تعذر الاحتياط التام أو عدم وجوبه ، بل هو راجع إلى تنجزه في الجملة ، وذلك لا يكفي في التمسك بقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح لإثبات لزوم الرجوع للظن.

بل لا بد فيه من تنجزه مطلقا بحيث يكون فوته سببا للعقاب على كل حال ، إذ يحكم العقل حينئذ بلزوم اختيار أبعد الطرق عن الخطر ، كما في مورد التقصير في الفحص على ما تقدم ، فالظاهر أن القاعدة أجنبية عما نحن فيه.

والذي ينبغي أن يقال : الكلام ..

تارة : يكون على القول بأن سقوط الاحتياط التام اللازم بمقتضى العلم الإجمالي لا يقتضي سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية والرجوع إلى طريق آخر ، بل يقتضي التنزل للتبعيض في الاحتياط بالمقدار الذي لا يلزم منه محذور من حرج أو غيره.

واخرى : يكون على القول بأن سقوط الاحتياط التام يقتضي سقوطه كلية لمانعيته من فعلية التكليف الواقعي ، الموجب لعدم صلوح العلم الإجمالي لتنجيزه.

أما على الأول فظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره المفروغية عن أن المدار في التبعيض على ما هو الأبعد احتمالا فالأبعد ، فيترك الاحتياط فيما إذا عدم التكليف فيه مظنونا بالظن القوي ، فإن لم يف بدفع الحرج ترك فيما إذا عدم التكليف فيه مظنونا بالظن الضعيف ، فإن لم يف بدفع الحرج أيضا ترك فيما إذا التكليف فيه مشكوكا ، وهكذا. لكنه غير ظاهر.

وما قيل : من أنه لا يجوز التنزل للامتثال الاحتمالي إلا بعد تعذر الامتثال الظني ، كما لا يجوز ، التنزل للامتثال الظني إلا بعد تعذر الامتثال العلمي.

٣١٦

إنما يتم مع فرض تنجز التكليف الواقعي مطلقا ، كما في موارد التقصير في الفحص ، كما تقدم ، لا في مثل المقام مما تقدم عدم تنجزه فيه إلا في الجملة. وإلا كان اللازم الترجيح بالظن في مثل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، ولم يذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، بل صرح بعض الأعاظم قدّس سرّه بعدمه.

وبالجملة : لزوم مراعاة الأقرب احتمالا بناء على تبعيض الاحتياط مما لا يتضح منشؤه بعد فرض عدم ثبوت حجية الظن في نفسه وعدم تنجز التكليف الواقعي مطلقا وعلى كل حال.

وأما على الثاني فالمعروف منهم تقريب لزوم الرجوع للظن بأحد وجهين :

الأول : الحكومة ، بدعوى : أنه مع تعذر العلم التفصيلي وعدم منجزية العلم الإجمالي وفرض اهتمام الشارع بالأحكام بنحو لا يجوز إهمالها يحكم العقل بلزوم الرجوع إلى الظن في تشخيص الأحكام الشرعية.

الثاني : الكشف ، بدعوى أن العقل يستكشف بذلك حجية الظن شرعا بنحو يكون هو المنجز للأحكام الواقعية كسائر الحجج الشرعية ، وكلا الوجهين لا يخلو عن إشكال.

أما الأول : فلأنه إن كان المدعى أن المنجز للأحكام هو اهتمام الشارع بها المفروض في المقام ، بنحو يكون حكم العقل بالرجوع للظن واردا في مقام الإطاعة بعد الفراغ عن مقام التنجيز.

ففيه : أن الاهتمام بالاحكام إن كان هو المنجز لها كان كالعلم الإجمالي مقتضيا للامتثال العلمي ، نظير الأمر بالاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص ، فيكون الاكتفاء بمتابعة الظن مبنيا على تبعيض الاحتياط ، وهو راجع إلى ما قيل من أن تعذر الامتثال العلمي يقتضي التنزل إلى الامتثال الظني.

ولكنه يشكل .. تارة : من حيث أصله ، لعدم وضوح تنجز الحكم بالعلم

٣١٧

الإجمالي أو غيره مع عدم لزوم الاحتياط التام فيه ، كما أشرنا إليه آنفا.

واخرى : من حيث عدم الوجه في جعل المعيار فيه قوة الاحتمال ، كما تقدم في الوجه الأول.

وثالثة : من حيث أن مراعاة قوة الاحتمال تقتضي عدم الاكتفاء بمتابعة الظن بالتكليف ، بل لا بد من مراعاة الاحتياط في موارد الشك في التكليف لو فرض عدم لزوم العسر منه ، نظير ما تقدم على الوجه الأول ، فإن الظن بالامتثال موقوف على ذلك ، ولا يكون بالاقتصار في ترك الاحتياط على الموهومات ، كما نبه له في الجملة بعض الأعاظم قدّس سرّه.

ودعوى : أن اهتمام الشارع بالتكاليف المنجز لها ليس بنحو يقتضي امتثالها القطعي ، ليكون الاقتصار فيها على بعض المحتملات مبنيا على تبعيض الاحتياط ، فيجري ما تقدم. بل بنحو يقتضي امتثالها في خصوص موارد الظن ، فالاقتصار على الظن لانه هو الواجب ابتداء ، لا تنزلا بعد تعذر العلم.

مدفوعة : بأن تحديد مقدار الامتثال تابع للعقل لا للشارع ، وليس للشارع إلا جعل الأحكام وتنجيزها بنصب الحجة عليها أو إيجاب الاحتياط فيها ، مع إيكال كيفية الامتثال للعقل ، وهو يحكم بلزوم الامتثال القطعي. والتنزل لغيره مبني على تبعيض الاحتياط كما ذكرنا.

مع أنه لو فرض كون تحديد الامتثال بيد الشارع بحيث يكون له التنجيز بنحو خاص ، فكما يمكن تنزله للظن يمكن تنزله للشك ، ولا معين للأول. ومجرد أقربيته بنظر المكلف لا يقتضي تعينه ، لما تقدم عند الكلام في قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وإن كان المدعى أن المنجز للأحكام ليس هو اهتمام الشارع بها ، بل العقل بعد اطلاعه على الاهتمام المذكور يحكم بحجية الظن ومنجزيته للأحكام لأقربيته ، ومن ثم يكون الظن حجة عقلية ومرجعا في تنجيز التكليف وإثباته

٣١٨

عقلا ، وليس مرجعا في مقام الامتثال.

ففيه : أنه لا غرض للعقل في حفظ التكاليف ومنجزيته لها ، بل هو من أغراض الشارع الأقدس ، وإنما يهتم العقل بحفظها في مقام الامتثال بعد الفراغ عن فعليتها وتنجزها دفعا لخطر العقاب.

وأما ما قيل من امتناع حكم العقل بالحجية ، بل هو من الوظائف المختصة بالشارع الأقدس.

فهو غير ظاهر ، إذ لا يراد بحكم العقل بحجية الظن إلا إدراكه جهة في الظن تقتضي منجزيته للتكليف بنحو يحسن العقاب بمخالفته ويقبح مع موافقته فإن الادراك والتحسين والتقبيح من وظائف العقل بلا إشكال.

نعم ، لو اريد بحجيته هو اعتبار الحجية عقلا للظن والتعبد بمؤداه كما هو مفاد الحجية الشرعية كان منعه في محله ، كما تقدم في أول مباحث الحجج ، لكنه لا يحتاج إليه في المقام ، بل يكفي تنجيز الظن للتكليف عقلا ، الذي يشبه وجوب الاحتياط عقلا معه ، فلاحظ.

وأما الثاني فلأن غاية ما يقال في وجهه : أن الشارع بعد فرض اهتمامه بالأحكام ، وعدم تنجزها بمنجز عقلي أو شرعي ، لا بد من حفظه لها في مقام الإثبات والتنجيز بنصب الحجة الواصلة عليها ، ليتحصل غرضه في حفظ الأحكام الواقعية في الجملة ، وحيث لم يصل غير الظن كانت أقربية الظن صالحة للاتكال عليه في مقام بيان حجيته شرعا ، فإنه الطريق الذي يجري عليه العقلاء عند تعذر العلم والاهتمام بإصابة الواقع.

ومنه يظهر أنه لا مجال للتوقف عن حجيته لاحتمال نصب الشارع غيره في حال الانسداد ، كالتقليد ، والقرعة وغيرهما ، فإن عدم وصول طريق آخر مانع من اعتماد الشارع عليه في أداء الغرض المذكور ، والمتعين لذلك هو الظن للجهة المذكورة فيه.

٣١٩

وفيه : أن الأقربية في الظن لا تصلح للاتكال عليه في بيان حجيته ، لأن الأقربية إنما تقتضي العمل حيث يتعلق الغرض بتحصيل الواقع على كل حال ، كما تقدم ، وهو لا يقتضي الحجية المبتنية على الإلزام والالتزام ، والتعذير والتنجيز.

وبعبارة اخرى : الرجوع إلى شيء عند تعذر العلم ..

تارة : يكون من حيث الاهتمام بتحصيل الواقع على كل حال المقتضي لسلوك أقرب الطرق إليه.

واخرى : يكون لصلوحه بنظر العقل أو العقلاء للاحتجاج والتعذير والتنجيز وترتب المدح والذم.

والمناسب للحجية هو الثاني ، فهو الذي يمكن الاتكال على حاله في بيان حجيته ، لأن للجهة المذكورة نحوا من الاقتضاء صالحا للاتكال عليه في مقام البيان. بل الظاهر أنه لا يحتاج معه الى مقدمات الانسداد ، لأن الأصل الجري على المقتضي المذكور الثابت بحكم العقل أو ببناء العقلاء ، ومن ثم سبق في الفصل الأول والخامس الاعتماد في الحجية على السيرة بمجرد عدم ثبوت الردع.

نعم ، لو فرض اختصاص الاقتضاء المذكور في الطريق بصورة تمامية المقدمات اتجه تقييد الحجية الشرعية به أيضا.

هذا ، والظاهر أن الأقربية في الظن إنما تقتضي العمل به على الوجه الأول ، لا الثاني ، فلا مجال لاستكشاف حجيته من مجرد اهتمام الشارع بحفظ التكاليف وسكوته عن جعل غيره.

اللهم إلا أن يدعى بناء العقلاء عند الانسداد وعدم طرق اخرى هي من سنخ الحجج بنظرهم على العمل بالظن بما هو حجة صالح للاعتماد عليه في مقام التعذير والتنجيز ، لكنه ممنوع.

٣٢٠