المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

نقتصر هنا على القسم الأول ، ونخص القسم الثاني بفصل مستقل ، لعدم كون المقصود به خصوص الخبر وإن أفاد حجيته.

فاعلم أنه قد قرب دليل العقل في المقام بوجوه عمدتها : أن التأمل في طريقة أصحابنا (رضي الله عنهم) في حفظ الأخبار وشدة احتياطهم في جمعها يوجب العلم بصدور بعضها ، بل أكثرها ، كما أوضحه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، بل هو أظهر من أن يحتاج إلى توضيح.

كما أنه لا ريب في اشتمال الصادر على أحكام إلزامية ، ولا يحتمل كون الصادر خصوص ما يتضمن الأحكام غير الإلزامية كي لا يكون أثر للعلم الإجمالي المذكور في التنجيز ، وحينئذ فالعلم الإجمالي المذكور يقتضي العمل بجميع الأخبار المتضمنة للأحكام الإلزامية.

إلا أن يفرض امتناع الجمع بينها عملا ، كما في الدوران بين المحذورين ، فيتعين حينئذ التخيير أو ترجيح المظنون الصدور أو المطابقة للواقع ، على الكلام في ذلك في مبحث الدوران بين محذورين.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لزوم العمل بكل خبر والترجيح بالظن عند التعارض مطلقا وإن كان التعارض بين الخبر المتضمن لحكم إلزامي والخبر المتضمن لحكم ترخيصي.

فلا وجه له ، لعدم اقتضاء العلم الإجمالي المذكور لزوم العمل بالخبر المتضمن للحكم الترخيصي بنحو يتوقف لأجله عن العمل بالخبر المتضمن للحكم الإلزامي ، لإمكان الجمع بينهما عملا ، فيتعين عملا بالعلم الإجمالي المذكور.

نعم ، لو فرض لزوم العسر من العمل بجميع الأخبار المتضمنة لأحكام إلزامية لكثرتها فقد يتجه الاقتصار على خصوص مظنون الصدور أو المطابقة للواقع منها ، لما ياتي في دليل الانسداد. إلا أن الفرض المذكور غير ظاهر ، لعدم

٢٨١

وضوح كثرة الأخبار بالنحو المذكور.

ثم إنه قد يستشكل في الدليل المذكور بوجوه :

الأول : أن وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنما هو من حيث وجوب العمل بالتكاليف الواقعية الحاصلة في مواردها ، وحينئذ فالتكاليف المعلومة بالإجمال لا تختص بموارد الأخبار ، بل تسع جميع موارد الطرق الظنية غير المعتبرة في أنفسها ، كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية وغيرها ، بل جميع الشبهات الحكمية وإن لم تكن موردا للطرق الظنية ، وهو يستلزم الاحتياط فيها إلا أن يستلزم العسر أو اختلال النظام ، على ما يأتي الكلام فيه في دليل الانسداد ، ولا خصوصية في ذلك لموارد الطرق ، فضلا عن خصوص موارد الأخبار.

نعم ، قد يدعى انحلال العلم الإجمالي الكبير المذكور بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في خصوص موارد الطرق ، لأنه أخص منه موردا وداخل في ضمنه ، فلا تتنجز إلا موارد الطرق من دون فرق بين الأخبار وغيرها.

وهو مبني على ما هو الظاهر من عدم العلم بوجود أحكام أخر في غير موارد الطرق ، وإلا لزم وجوب الاحتياط فيها حتى مع فرض حجية الطرق ، ومن المعلوم عدم الالتزام بذلك ، بل لا ريب في عدم وجوب الاحتياط في غير موارد الأخبار لو فرض حجيتها وحدها بالخصوص ، لوفائها بالمقدار المعلوم بالإجمال حينئذ وإن كانت أقل من الطرق.

إن قلت : لا ريب في عدم انحلال العلم الإجمالي بالظن بالتكليف في بعض أطرافه إذا لم يكن حجة صالحا لتمييز المعلوم بالإجمال ، فإذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين لم ينفع الظن بكون النجس أحدهما في جواز ارتكاب الآخر.

قلت : هذا إنما يكون لو لم يتنجز مورد الظن بعلم إجمالي ، كما في المقام ،

٢٨٢

حيث فرض العلم الإجمالي بإصابة بعض الطرق للتكاليف الواقعية ، إذ مع تنجز أطرافه به ينحل العلم الإجمالي الكبير لا محالة.

نعم ، لو فرض في المقام احتمال خطأ جميع الطرق الظنية ، وانحصار التكاليف في الشبهات الخالية عنها اتجه عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير ، ويكون حينئذ نظير مثال الإنائين المتقدم. لكن لا يظن بأحد دعوى ذلك.

إن قلت : على هذا يتجه انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف في ضمن جميع الطرق بالعلم الإجمالي بوجودها في ضمن خصوص موارد الأخبار ، لما تقدم من وفاء الأخبار بالمعلوم بالإجمال ، فلا يجب الاحتياط في الموارد التي تنفرد بها بقية الطرق عن الأخبار ، ولا يتم أصل الإشكال.

قلت : وفاء الأخبار بالمعلوم بالإجمال إنما يوجب الانحلال لو كانت موارد الأخبار أخص مطلقا من موارد بقية الطرق لتنجز موارد الأخبار بالعلم الإجمالي الحاصل فيها على كل حال ، فيمنع من تنجز بقية الاطراف بالعلم الإجمالي الشامل لها ، أما حيث كان بين موارد الأخبار وموارد بقية الطرق عموم من وجه فلا مجال للانحلال ، إذ وفاء موارد الأخبار بالمعلوم بالإجمال لكون بعضها ، بل كثير منها ، موردا لبقية الطرق ، لا لخصوصية للأخبار في العلم الإجمالي المذكور ، ولذا لا يبعد وفاء موارد بقية الطرق ـ التي منها موارد الاشتراك بينها وبين الأخبار ـ بالمعلوم بالإجمال ، فلو كان ذلك كافيا في انحلال العلم الإجمالي لزم الاحتياط في خصوص موارد بقية الطرق ، دون الموارد التي تنفرد بها الاخبار.

نعم ، لو كان مورد اجتماع الأخبار مع بقية الطرق وافيا بالمعلوم بالإجمال كان اللازم تنجزه وحده وانحلال العلم الإجمالي به. فيلزم عدم وجوب متابعة بقية الطرق في مورد انفرادها عن الأخبار ، ولا الأخبار في مورد انفرادها عن بقية الطرق. إلا أن وفاءه بالمعلوم بالإجمال غير ظاهر.

٢٨٣

وبالجملة : بعد فرض عدم حجية الأخبار بالخصوص وكون النسبة بينها وبين بقية الطرق العموم من وجه يتعين عدم خصوصيتها من بين أطراف العلم الإجمالي بنحو تقتضي انحلاله ولزوم العمل بجميعها.

نظير ما لو كان هناك عشر أوان ، سبع منها خزف ، وسبع بيض ، تجتمع البيض والخزف في أربع منها ، وعلم إجمالا بنجاسة ست من العشر ، فإن كلا من البيض والخزف وإن كانت وافية بالمعلوم بالإجمال ، إلا أنها لا تقتضي انحلال العلم الإجمالي ، لعدم المرجح لأحد الصنفين في التنجز.

نعم ، لو قامت البينة على نجاسة الخزف كان تنجزها بالبينة موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، لترجحها بسبب البينة في التنجز على بقية الأواني وإن احتمل خطأ البينة.

ومنه يظهر الوجه في انحلال العلم الإجمالي بالأخبار لو فرض ثبوت حجيتها بالخصوص ، لأن حجيتها كافية في ترجيحها على بقية الطرق ، وتنجيز مواردها ، وحل العلم الإجمالي بها وإن احتمل خطؤها.

نعم ؛ قد يقال : الأخبار وإن لم تفرض حجيتها بالخصوص إلا أن العلم الإجمالي بصدور بعضها يقتضي خصوصيتها في التنجز ، إذ ليست هي كبقية.

الطرق ، لأن صدور الخبر مقتض للعمل به وإن لم يعلم بمطابقة ظهوره للواقع ، لاحتمال احتفافه بالقرينة ، أو صدوره تقية أو نحوهما ، بخلاف بقية الطرق ، فإنها لا تقتضي العمل بأنفسها ، بل من جهة العلم بإصابتها للواقع.

وحينئذ فالعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار المتضمنة للتكاليف الإلزامية موجب لخصوصية موارد الأخبار في التنجز ، لرجوعه الى العلم بقيام الحجة على التكاليف الواقعية في ضمن موارد الأخبار ، الموجب لتنجزها مع قطع النظر عن العلم الإجمالي بوجود تكاليف في جميع موارد الشبهات الحكمية ، أو في خصوص موارد الطرق غير المعتبرة ، فيصلح لحل العلم

٢٨٤

الإجمالي المذكور ، ولا يتنجز حينئذ إلا موارد الأخبار.

وأما المنع من الانحلال من جهة أن الأخبار وان كانت وافية بالمعلوم بالإجمال ، إلّا أن التكاليف المعلومة في ضمنها لما كانت أقل من التكاليف المعلومة في ضمن مطلق الطرق لم تصلح لحل العلم الإجمالي بالأكثر ، فالمقام نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة ست من عشر أوان فيها سبع خزف علم بنجاسة أربع منها ، فإن الخزف وإن كانت وافية بالمعلوم بالإجمال ، إلا أن المحرمات المعلومة فيها لما لم تكن بقدر المحرمات المعلومة في ضمن تمام العشر لم تصلح لحل العلم الإجمالي القائم بتمام العشر.

ففيه .. أولا : أن التكاليف المعلومة في ضمن الأخبار ليست أقل من التكاليف المعلومة في ضمن جميع الطرق ، إذ لا طرق لإحراز وجود تكاليف في موارد بقية الطرق لا تدل عليها الأخبار.

وثانيا : أن ذلك لو سلم لا يكون مانعا من الانحلال ، لأن التكاليف المعلومة في ضمن الأخبار وإن كانت قليلة ، إلا أنها لما كانت منجزة لجميع موارد الأخبار لزم الاحتياط في الأخبار مع قطع النظر عن العلم الإجمالي القائم بجميع الطرق ، فلا يكون للعلم الإجمالي القائم بجميع الطرق أثر بالإضافة إلى الأخبار ، فلا يؤثر في بقية أطرافه ، لأنه يعتبر في منجزية العلم الإجمالي كونه منجزا لتمام أطرافه ، فلو كان بعضها منجزا في نفسه امتنع الرجوع فيه للأصول الترخيصية فلا يمنع العلم الإجمالي من الرجوع لها في بقية الأطراف لعدم معارضتها بمثلها في الأطراف الأخر المنجزة في نفسها.

وبالجملة : الظاهر أن ما ذكر من انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف في ضمن جميع الشبهات الحكمية ، أو في ضمن خصوص موارد الطرق غير العلمية بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في ضمن خصوص الأخبار متجه في نفسه ، ولازمه وجوب الاحتياط في خصوص الأخبار ، وجواز الرجوع في بقية

٢٨٥

الشبهات للأصول الترخيصية. فلاحظ.

الوجه الثاني : مما يستشكل به في الدليل العقلي المذكور : أنه لا ينهض بإثبات حجية الأخبار ليرفع به اليد عن العمومات والإطلاقات وغيرها من الظواهر الواردة في الكتاب المجيد والسنة المتواترة ، وعن الأصول العقلية والشرعية.

ويندفع بأن الاخبار حينئذ وان لم تنهض بالخروج عن الظهورات والحكومة على الأصول بعد فرض حجيتها ، إلا أن العلم الإجمالي بصدور الأخبار المتضمنة للاخبار الإلزامية يكون مانعا عن حجية الظهورات والأصول المذكورة ، لأن العمل بها معه يكون مؤديا إلى المخالفة الإجمالية للتكاليف المنجزة في ضمن الأخبار ، وذلك موجب لسقوط الظهور والأصل عن الحجية.

الوجه الثالث : أن الوجه المذكور لما كان مختصا بالأخبار المتضمنة للاحكام الالزامية فلا مجال للعمل بالأخبار المتضمنة للأحكام الترخيصية ، والخروج بها عن الظواهر المشتملة على التكاليف وعن الأصول الإلزامية ، بل يلزم حينئذ الاحتياط بالعمل على طبق الظواهر والأصول المذكورة ، لأنه وإن علم بالخروج عنها إجمالا ، إلا أنه لا يكفي في إهمالها بعد العلم إجمالا بعدم الخروج عنها في كثير من الموارد ، بل يجب الاحتياط في جميع الموارد التي لم يعلم بالخروج عنها فيها تفصيلا.

وهذا بالإضافة إلى لزوم الاحتياط في جميع الأخبار الإلزامية قد يستوجب الحرج الملزم بالرجوع للظن على التفصيل الآتي في دليل الانسداد.

على أن الوجه المذكور إنما يقتضي العمل بالخبر احتياطا ، لا لحجيته في نفسه الذي هو محل الكلام ، والذي تقتضيه بقية الأدلة المتقدمة من الكتاب والسنة والإجماع ، فلا ينبغي التعويل عليه معها ، لأنها في رتبة متقدمة عليه ، إذ هي تقتضي تشخيص ما هو الحجة من الأخبار وحل العلم الإجمالي المذكور

٢٨٦

بنحو يسقط عن اقتضاء الاحتياط.

ومنه يظهر الإشكال في بقية الوجوه لتقرير الدليل العقلي في المقام مما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره ، وأطالوا الكلام فيها ، ولا يسعنا استقصاء ذلك مع ما عرفت.

هذا ما وسعنا ذكره من حجج المثبتين ، وقد عرفت أن عمدتها الأخبار والإجماع. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

المقام الثالث : في تحديد ما هو الحجة من أقسام خبر الواحد بعد الفراغ عن حجيته في الجملة حسبما استفيد مما تقدم في المقام الثاني.

اعلم أنه اشتهر بين المتأخرين تقسيم أخبار الآحاد إلى أقسام أربعة ..

الأول : الصحيح ، وهو ما كان رواته عدولا إماميين.

الثاني : الموثق ، وهو ما كان في رواته غير إمامي ثقة.

الثالث : الحسن ، وهو ما كان في رواته ممدوح بالخير والصلاح ولم ينص على عدالته ، والظاهر لزوم كون المدح بنحو يوجب الوثوق به والأمن من كذبه.

الرابع : الضعيف ، ويدخل فيه ما كان بعض رواته مجروحا ، أو مجهول الحال ، إما مع معرفة اسمه ، أو بدونه ، كما في المرفوع والمرسل.

هذا ، وقد عرفت أن عمدة الأدلة التي يستفاد منها حجية الخبر هي الأخبار والإجماع العملي ، بوجوهه الثلاثة الراجعة إلى إجماع العلماء والمتشرعة والعقلاء.

أما الأخبار فحيث لم تكن متواترة لفظا ولا معنى ، بل إجمالا ، كان اللازم الاقتصار فيها على المتيقن المستفاد من جميعها ، ولا يتضح إمكان استفادة حجية قسم منها متفق عليه ، لعدم تعرضها غالبا لبيان حجية الخبر ، وإنما استفيد منها حجيته في الجملة لظهورها في المفروغية عن حجيته ، فاللازم الاقتصار

٢٨٧

على المتيقن من الكل ، وقد قيل : إنه الخبر الصحيح.

ولكن قد يستفاد من ذلك حجية خبر الثقة وإن لم يكن عدلا ، بدعوى : أنه حيث كان في الأخبار الصحيحة ما يدل على حجية خبر الثقة مطلقا ، لزم البناء على حجيته وإن لم يتواتر ما دل على حجيته ، كما ذكر ذلك بعض مشايخنا ، ونسبه للمحقق الخراساني قدّس سرّه.

وفيه : أنه لم يتضح وجود خبر صحيح يدل على حجية خبر الثقة مطلقا ، فان ما سيأتي من الأخبار ليس فيها ما هو الصحيح اصطلاحا. ولا سيما مع أن المتيقن ليس كل صحيح ، بل خصوص من علم أو قامت البينة على تزكية جميع رجال سنده ، فإن قبول خبر العدل الواحد في التزكية لا يمكن استفادته من الأخبار ، لاختصاصها بالروايات ، وإنما يستفاد من السيرة التي لسنا بصدد الاستدلال بها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للاستدلال بصحيح حريز المتقدم في آية النفر ، المتضمّن لقوله عليه السّلام : «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم» ، بدعوى : دخوله في المتيقن من النصوص ، لأنه صحيح ، ودلالته على حجية خبر كل مؤمن وإن لم يكن عادلا ، غاية الأمر تخصيصه بخبر الثقة ، أو بمطلق ما يوثق بصدوره من الأخبار ولو لقرائن خارجية ، فيتعدى منه لخبر غير المؤمن الثقة ، أو الموثوق بصدوره ، لعدم القول بالفصل بين خبر المؤمن غير العادل وخبر غيره.

إذ فيه : أن الصحيح المذكور غير داخل في المتيقن ، إذ لم يوثق حريز إلا الشيخ قدّس سرّه في الفهرست ، بل قد يدعى أن الثابت به كونه ثقة لا عادلا. وتمام الكلام في محله.

على أن الاستدلال المذكور ـ مع ابتنائه على رجوع عدم الفصل في المقام إلى الإجماع على عدمه ـ مبني على عموم المؤمن في الحديث لغير العادل ، وهو لا يخلو عن إشكال فإن كثيرا من النصوص ظاهرة في كون العمل من شروط

٢٨٨

الإيمان أو متمماته. وهو المناسب للاستشهاد في الحديث بالآية الكريمة الواردة في مقام مدح المؤمنين في قبال المنافقين ، بل هو المناسب لمورد الحديث ، وهو الاخبار عن الموضوع الخارجي ـ وهو شرب الخمر ـ الذي يعتبر فيه العدالة بلا إشكال.

بل قد يدعى كون ذلك مانعا من إطلاق الحديث بنحو يقتضي عدم اعتبار التعدد ، ولا سيما مع التعبير فيه بالشهادة. فلاحظ.

هذا ، وقد يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه دعوى تواتر ما دل على حجية الخبر الموثوق به صدورا أو مضمونا وإن لم يكن راويه ثقة ، فضلا عما لو لم يكن عادلا ، حيث يستفاد حجيته مما دل على الترجيح بشهرة الرواية ووثاقة الراوي وعدالته ، والترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فإنهما يوجبان الوثوق بالمضمون. وما دل على الإرجاع لآحاد الرواة بنحو يظهر منه كون منشئه الوثوق بخبرهم. وما دل على جواز الرجوع لكتب بني فضال.

وفيه : أن الترجيح بما يوجب الوثوق الشخصي من شهرة الرواية ونحوها أو غيره لا ينافي اعتبار قيود تعبدية في أصل الحجية كالعدالة.

وما دل على الترجيح بوثاقة الراوي أو عدالته لا يقتضي الاكتفاء بالوثوق بالخبر ولو لم يكن الراوي ثقة ، أو عادلا.

وموافقة الكتاب لا توجب الوثوق بمضمون الخبر ، لكثرة تخصيص الكتاب المانع من الوثوق الشخصي بعمومه.

ومخالفة العامة من القريب أن تكون من المرجحات الجهتية الخارجة عما نحن فيه.

وما دل على الإرجاع لآحاد الرواة قد تقدم عند التعرض لأخبار المسألة الإشكال في الاستدلال به للمقام.

وما دل على جواز الرجوع لكتب (بني فضال) إنما يدل على الاكتفاء

٢٨٩

بالوثوق في الراوي وإن لم يكن عادلا ، ولا يدل على الاكتفاء بالوثوق بالخبر مع عدم الوثوق بالراوي. مع أنه خبر واحد.

وأما استفادة ذلك من بقية الأخبار فهو غير ظاهر. فإن حملها على ذلك وإن كان قريبا جدا ، بلحاظ كونه ارتكازيا يناسب عمل الأصحاب ، إلا أنه لا مجال لاستفادته من النصوص ودعوى ظهورها فيه ، ولا سيما مع عدم صدور أكثرها لبيان الحجية ، بل لبيان أمر آخر يستفاد منه المفروغية عن الحجية في الجملة. خصوصا مع لزوم كون المضمون متواترا ولو إجمالا ليمكن البناء عليه في هذه المسألة.

نعم ، لا يبعد دعوى أن النظر في النصوص يوجب العلم بحجية خبر الثقة ، لدلالة نصوص كثيرة عليه ، مثل ما ورد في كتب (بني فضال) ، وخبر الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السّلام ، قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق. قال : «فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» ، وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السّلام ، «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم ، فترد إليه» (١) ، وما في رواية عمر بن يزيد المتقدمة في آية الإيذاء من قوله عليه السّلام : «إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر ..» ، وما تقدم في الاستدلال بالسنة عن روضة الواعظين من قوله صلّى الله عليه وآله : «من تعلم بابا من العلم عمن يثق به ..». وما ورد في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ..) حيث يظهر منه جواز الاعتماد على خبر المضيع للحديث الذي هو غير عادل غالبا ، وما عن الكاظم عليه السّلام في كتابه لعلي بن سويد : «لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا ، فانك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ..» فإن تعليل عدم القبول من غير الشيعة بخيانتهم ظاهر في كون منشئه

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٠ ، ٤١.

٢٩٠

عدم الوثوق به ، فيدل على أن المدار على الوثوق. وقريب منه ما عن تفسير العسكري عليه السّلام الوارد في التقليد ، بناء على عمومه للرواية ، كما تقدم عند التعرض للنصوص ، وعلى أن ظاهر التعليل فيه كون اعتبار ما اعتبر فيه من الشروط لأجل ملازمتها للوثوق ، لا تعبدا. مضافا إلى ما تقدم بطرق متعددة من قولهم عليهم السّلام : «لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها» ، بناء على أن المراد بالصادق من له ملكة الصدق الذي هو الثقة ، لا من هو صادق بالفعل في الخبر الشخصي ، لندرة الاطلاع على ذلك في غير المعصوم. فتأمل.

فإن النصوص المذكورة ظاهرة في حجية خبر الثقة وإن لم يكن عادلا ، بل ظاهر كثير منها المفروغية عن ذلك ، مع اعتضادها ببعض المطلقات ، وبما تقدم من أن هذا حيث كان ارتكازيا كان حمل بقية النصوص عليه قريبا جدا ، وإن لم يمكن دعوى دلالتها عليه ، لعدم ورودها في مقام البيان. والتأمل في جميع ذلك يوجب القطع بحجية خبر الثقة.

بل قد يدعى أن أخذ الوثوق في الراوي إنما هو لأجل حصول الوثوق بروايته ، لمناسبته للارتكاز العقلائي ، فلو فرض حصول الوثوق برواية من ليس ثقة في نفسه دخل في الأدلة المذكورة.

وهو لا يخلو عن إشكال ، لأن الظاهر كون الوثوق بالراوي موجبا لحجية روايته وإن لم يحصل الوثوق بها ما لم تقم القرائن الموجبة لاستبعاد صدقها.

بل قد يقال : إن المتيقن من النصوص المتقدمة حجية رواية الثقة لا كل خبر له ، وحينئذ فلا يجتزأ في توثيق الراوي بخبر الواحد ، بل لا بد من العلم به أو قيام البينة. وهو موجب لسقوط كثير من الروايات.

اللهم إلا أن يتعدى عن مورد النصوص الى مطلق خبر الثقة لفهم عدم الخصوصية ، ولا سيما مع كون خصوصية خبر الثقة ارتكازية يصعب التفكيك فيها بين الموارد. فلاحظ.

٢٩١

هذا كله في مقتضى الأخبار ، وأما الإجماع فقد عرفت أن الاستدلال منه بالاجماع العملى ، من العلماء والمتشرعة والعقلاء.

ولا ينبغي الريب في عموم إجماع قدماء الأصحاب العملي لخبر الثقة وإن لم يكن إماميا عدلا ، وكذا خبر الضعيف المحتف بالقرائن الموجبة للوثوق بصدوره ، مثل أخذه من الأصول المعتمدة عند الأصحاب ، واعتماد قدمائهم عليه في مقام الفتوى ، وغير ذلك مما يذكر في محله.

وقد صرح الشيخ قدّس سرّه في العدة بذلك في غير موضع من كلامه ، قال قدّس سرّه في حال ما يرويه المخالف الثقة : «أما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة عليهم السّلام نظر في ما يرويه ، فإن كان هناك من طرق الوثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره .. وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ، ولا يفرق لهم قول فيه وجب أيضا العمل به ، لما روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال : «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها في ما روي عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه السّلام فاعملوا به» ، ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث ، وغياث بن كلوب ، ونوح بن دراج ، والسكوني ، وغيرهم من العامة ، عن أئمتنا عليهم السّلام في ما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه».

ثم ذكر نظير ذلك في فرق الشيعة غير الاثنى عشرية ، وقال : «فلأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية ، مثل عبد الله بن بكير وغيره ، وأخبار الواقفة ، مثل سماعة بن مهران ، وعلي بن حمزة ، وعثمان بن عيسى ، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال ، وبنو سماعة ، والطاهريون وغيرهم في ما لم يكن عندهم فيه خلافه».

ثم ذكر الغلاة وأن أخبارهم ترد في حال تخليطهم ، ثم قال : «وكذلك القول في ما يرويه المتهمون والمضعفون. وإن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على

٢٩٢

صحتها وجب العمل به .. فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحررا فيها فإن ذلك لا يوجب رد خبره ، وكذا كون العمل به ، لأن العدالة في الرواية حاصلة فيه ، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره ، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم».

ثم استطرد في ذكر اختلاف الأخبار إلى أن قال : «وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر في حال المرسل ، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوت [ميزت خ. ل] الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، وغيرهم من الثقاة الذي عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به ، وبين ما أسنده غيرهم. ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم. فأما إذا لم يكن كذلك ، ويكون ممن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة فإنه يقدم خبر غيره عليه ، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به. فاما إذا انفردت المراسيل فجواز العمل بها على الشرط [الوجه خ. ل] ذكرناه (كذا). ودليلنا على ذلك الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد ، فإن الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل ، فما يطعن في واحد منهما يطعن في الآخر ، وما أجاز أحدهما أجاز الآخر ، فلا فرق بينهما على حال ..» (١).

وقال في مقدمة الفهرست : «فإذا ذكرت كل واحد من المصنفين وأصحاب الأصول فلا بد من أن أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح ، وهل يعول على روايته أولا؟ وابين عن اعتقاده وهل هو موافق للحق أو هو مخالف له ، لأن كثيرا من مصنفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة وإن كانت كتبهم

__________________

(١) العدة ج : ١ ص ٥٦ ، ٥٧ ، ٥٨.

٢٩٣

معتمدة» ، وهو صريح في الاعتماد على كتب ذوي المذاهب الفاسدة ، ولا وجه لاعتمادهم عليها إلا ثقتهم في أنفسهم أو احتفافها بما يوجب الوثوق بها ، وإلا فمن البعيد جدا احتفافها بما يوجب العلم بثبوت جميع ما فيها. كيف وقد صرح نفسه في ما تقدم نقله عنه في العدة بعدم تيسر القرائن القطعية؟!.

وقد أطال في خاتمة الوسائل في ذكر القرائن التي تشهد بصحة الأخبار الموجودة في الكتب ، والظاهر أنه يريد ما يوجب الوثوق بها ، لا العلم التفصيلي بصحة كل خبر فيها ، وعلى كل حال فما ذكره شاهد بتسالم الأصحاب على العمل بأخبار الثقات غير العدول ، بل أخبار الضعاف مع احتفافها بقرائن توجب الوثوق بصدورها.

وأدنى سبر لكتب الأصحاب بما فيها الكتب الأربعة شاهد بذلك ، لاشتمالها على كثير من الأخبار غير الصحيحة بالاصطلاح المتقدم ، مع العلم بان إثباتهم لها لركونهم إليها واستدلالهم بها ، لا لمحض التدوين والحفظ ، كما يشهد به تصاريحهم والنظر في طريقتهم في الاستنباط ، مع ما هو المعلوم عندهم من حال رواتها ، فانهم أخبر منا بهم ، فما أكثر من جرحوه أو ضعفوه في كتب الرجال وأودعوا رواياته في كتب الاستدلال من غير غمز فيها.

ولم يعرف الغمز في أسانيد الروايات المذكورة في كتب الأصحاب المشهورة إلا من ابن إدريس والمحقق ومن تأخر عنهما عند اشتمال الرواية على بعض الأحكام المستبعدة في نظرهم ، مع عدم طعنهم في نظائرها من حيثية السند ، بل يعملون بها متسالمين على قبولها ، مما يشهد بأن طعنهم ناشئ عن الاستبعاد المذكور الذي قد يجر للتشبث بما لا يصح التشبث به ، لعدم إمكان الالتزام بلوازمه.

كيف ومن المعلوم أن تقسيم الأخبار إلى الأقسام الأربعة المتقدمة قد حدث متأخرا؟! فقد قيل : إن أول من اصطلح ذلك السيد جمال الدين أحمد بن

٢٩٤

طاوس ، وتبعه تلميذه العلامة (قدس سرهما) ، ولم تكن طريقة من تقدم على ذلك ، ولا التعويل عليه أو التقيد به ، بل كان الصحيح عندهم ـ كما عن البهائي في مشرق الشمسين ـ ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه.

وأي إجماع أقوى من مثل هذا الإجماع الذي جرى عليه قدماء الأصحاب في مقام العمل بعد الغيبة مدة تزيد على ثلاثة قرون ، وشاع بين المتأخرين جريهم على ذلك حتى اشتهر تعبيرهم بانجبار الرواية بعمل الأصحاب وقبولهم لها.

ويعلم من حال من اطلعنا عليه متابعتهم في ذلك لمن قبلهم من أصحاب الأئمة عليهم السّلام ، وجريهم على طريقتهم ، لامتناع الابتداع في مثل ذلك من الأمور المهمة التي يكثر الابتلاء بها ، لعدم خفاء طريقة الطائفة فيها ، خصوصا بعد ما تقدم من الشيخ قدّس سرّه.

بل الظاهر أن ابتناء طريقة الأصحاب في أوائل الغيبة على التشدد في الرواية والاحتياط لها أكثر مما كان عليه الأصحاب قبل ذلك في عصور الأئمة عليهم السّلام لتنبههم إلى بعض الجهات الموجبة للتشكيك في الروايات ، وقد اهتموا بتنقيحها ، لشعورهم بمسيس الحاجة لها بسبب انقطاعهم عن المعصومين عليهم السّلام ، وعدم تيسر الرجوع لهم في كشف تلك الشبه عنها ، كما يشهد به ما ينقل عنهم من استثناء بعض الروايات من الكتب ، وتوقفهم عن الرواية عن الضعفاء ، وغمزهم في بعض الرواة بما لا ينافي وثاقته ، مثل كونه يروي عن الضعفاء ، ويعتمد المراسيل ، ولا يبالي عمن أخذ .. إلى غير ذلك.

والانصاف : أن التأمل في جميع ذلك يورث القطع بتسالم الأصحاب على العمل بأخبار الثقات ، وأخبار غيرهم إذا احتفت بما يوجب الوثوق بها والركون إليها ، وعمدة ذلك عمل الأصحاب بالرواية وتدوينهم لها في اصولهم التي هي المرجع في أخذ الأحكام ، وعدم طعنهم في سندها. والتوقف في ذلك من سنخ

٢٩٥

الوساوس التي لا ينبغي الركون اليها والاعتماد عليها. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

وأما سيرة المتشرعة فهي لا تخلو عن غموض ، فان دعوى استنكارهم أخذ معالم الدين من غير العادل وإن لم تكن بعيدة ، إلا أنه لا يبعد كون منشئها عدم الوثوق به بنحو يغافل عن فرض الوثوق بخبره لتحرزه عن الكذب أو لقرائن خارجية ، فلا مجال لجعل سيرتهم من أدلة المنع في المقام ، فضلا عن أن تنهض بمعارضة سيرة العلماء المشار إليها.

هذا ، وأما سيرة العقلاء ، فهي عمدة أدلة الباب في تحديد ما هو الحجة من أقسام الخبر ، لأنها تابعة للمرتكزات الوجدانية ، ولسيرتهم الخارجية الظاهرة ، ولا ريب في عدم أخذ العدالة في موضوعها ، بل يكفي فيه الوثوق بالمخبر. بل الظاهر أنها أعم من ذلك أيضا ، فهم يعملون بخبر غير الثقة في نفسه إذا احتف بما يوجب الوثوق بصدوره من القرائن الخارجية ، فإن القرائن المذكورة وإن لم تكن حجة في نفسها ، إلّا أنها توجب حجية الخبر ودخوله في موضوع السيرة ، بحيث لا يكون العمل به تفريطا عند العقلاء.

ومن ثمّ أشرنا في آية النبأ إلى أن التبين الرافع للندم عرفا ليس خصوص ما يوجب العلم. والظاهر أن سيرة الاصحاب التي تقدمت الإشارة إليها مبنية على سيرة العقلاء المذكورة ومتفرعة عليها ، فهي كاشفة عن إمضائها شرعا ، لا انها مبنية على محض التعبد في قبالها.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن ما هو الحجة من أقسام الخبر أربعة الأول : الخبر الصحيح.

الثاني : الموثق.

الثالث : الحسن.

الرابع : الضعيف المحفوف بالقرائن الموجبة للوثوق بصدوره ، مثل

٢٩٦

تسالم الأصحاب على العمل به ، وعدم طعنهم فيه من جهة السند ، وتدوينهم له في اصولهم المعدّة لأخذ الأحكام ، خصوصا مع تعدد طرقهم إليه وغير ذلك.

وأن حجية القسم الأول هي المتيقن من الأدلة. وأن الأخبار قد تنهض بإثبات الثاني والثالث أيضا. وأما سيرة الأصحاب والعقلاء فهما ينهضان بإثبات حجية الأقسام الأربعة كلها.

ومن هنا فقد يستدل على حجية القسم الرابع بمنطوق آية النبأ ، بدعوى : أن المراد من التبين فيها ليس خصوص التبين الموجب للعلم ، بل ما يعم الموجب للوثوق ، بقرينة التعليل بالندم المختص بما اذا كان العمل مخالفا للطريق العقلائي ، دون المقام ، لما عرفت من اكتفاء العرف في مقام العمل بخبر غير الثقة بوجود القرائن الموجبة للوثوق بصدقه ولو في خصوص ذلك الخبر.

بل قد يتمسك لأجل ذلك بالآية لإثبات حجية بقية الأقسام ، كما ذكرناه عند الكلام في وجوه الاستدلال بالآية.

لكنه يشكل : بأن الإطلاق المذكور لا مجال له في خصوص مورد الآية الشريفة ، وهو الشبهة الموضوعية ، خصوصا ما يوجب القتل ، كالارتداد.

والالتزام بكون التقييد فيه مستفادا من أدلة خارجية ولا يمنع من التمسك بالاطلاق في سائر الموارد ـ كما في المقام ـ بعيد جدا عن المرتكزات العرفية في مقام فهم الكلام.

فلا يبعد سوق التعليل لمحض التبكيت والتأنيب للمخاطبين ، لأن خروجهم عن الطريق العقلائي ادعى للاستنكار وأوقع فيه ، لا لبيان المعيار في الحجية ، ليمكن التمسك بإطلاقه ، لإثبات الاكتفاء بالتبين غير العلمي تبعا لسيرة العقلاء.

وقد تقدم عند الكلام في مفاد التعليل في الآية ما ينفع في المقام. فتأمل جيدا.

٢٩٧

بقي في المقام أمران ..

الأول : أنه لا يبعد اختصاص بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة بما إذا لم تقم قرائن تشهد بكذبه ، وعدم صدوره بحيث توجب الريب فيه عرفا ، وقد تقدم نظير ذلك في مبحث حجية الظواهر.

وربما يبنى على ذلك ما اشتهر من وهن خبر الثقة بإعراض الأصحاب عنه ، حتى قيل : إنه كلما ازداد السند قوة زاد وهنا بإعراضهم.

لكن الظاهر أن إعراض الأصحاب لا يوجب الوهن في السند بحيث يرتفع الوثوق معه بصدور الخبر ، بل هو موجب لارتفاع الوثوق بظهوره ، كما تقدم في مبحث حجية الظواهر.

وإلا فمن الصعب جدا التشكيك ، في صدور الروايات التي يرويها أعاظم الأصحاب بأسانيد عالية ، خصوصا مع إيداعها في الأصول المعدّة لأخذ الأحكام ونحوهما مما يعلم من حال مؤلفيها تحري خصوص ما يوثق بصدوره.

الثاني : أنه حيث كان من عمدة أدلة المقام هو سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة فمن الظاهر أنه لا يفرق في السيرة المذكورة بين الروايات وغيرها ، وذلك يقتضي عموم حجية خبر الثقة ما لم يثبت الردع عنه في خصوص مقام.

وعليه يبتني الاكتفاء في توثيق رجال السند بتزكية الواحد إذا كان ثقة أو قامت القرائن على صدقه. ولا يعتبر فيه العدالة ، فضلا عن التعدد.

هذا تمام ما تيسر من الكلام في حجية خبر الواحد. نسأله تعالى أن يكون وافيا بالمقصود ، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل. والحمد لله رب العالمين.

٢٩٨

الفصل السّادس

حجّيّة مطلق الظّنّ

٢٩٩
٣٠٠