المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

فضال ، حيث قالوا له : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء. قال : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» (١) ، فإن الظاهر أن الأمر بالاخذ بروايات المذكورين ليس شهادة بصحتها ، بل لبيان عدم مانعية مخالفتهم للحق في أصول الدين عن قبول رواياتهم مع وثاقتهم في أنفسهم ، فإن ذلك هو المناسب للسؤال ، وهو الجهة المشتركة عرفا بين كتب بني فضال والشلمغاني المصححة لتعدي الحسين بن روح (رضوان الله عليه) عن مورد كلام الإمام عليه السّلام ، بخلاف العلم بإصابتها للواقع ، فإنه من الجهات الخفية التي لا خصوصية فيها لكتب بني فضال.

نعم ، لا مجال للاستدلال بما تضمن من الروايات الكثيرة الإرجاع لكتاب يوم وليلة تصنيف يونس بن عبد الرحمن وتصحيحه ، وتصحيح كتاب سليم بن قيس ، والحلبي ، والفضل بن شاذان ، وظريف ، وكتاب الفرائض عن أمير المؤمنين عليه السّلام وغيرها (٢) ، لأن التصحيح شهادة من الإمام ، وقرينة قطعية مخرجة للكتاب عن محل الكلام.

واما الاستدلال بعمل الشيعة بالكتب المذكورة فهو ـ مع انه ليس استدلالا بالسنة ، بل بسيرة المتشرعة الذي يأتي الكلام فيه ـ في غير محله ، إذ قد يكون العمل بها مبنيا على تصحيحها منهم عليهم السّلام الذي هو قرينة قطعية.

ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال بإقرار بعض الروايات للعمل المذكور ، لإمكان ابتناء العمل على التصحيح قبله.

ومثله في ذلك ما تضمن الإرجاع لآحاد الرواة والفقهاء ، كزرارة ، ومحمد بن مسلم ، وأبان بن تغلب ، وزكريا بن آدم ، ويونس بن عبد الرحمن ، والعمري

__________________

(١) روى في الوسائل ج ١٨ : ٧٢ ، كلام الإمام (ع) ، وذكر تمام الرواية شيخنا الأعظم (قدّس سرّه) في الرسائل.

(٢) تراجع النصوص المتضمنة لذلك في الوسائل ج ١٨ ، باب ٨ من أبواب صفات القاضي.

٢٦١

وابنه (١) ، لاحتمال خصوصيتهم عندهم عليهم السّلام واطلاعهم على عدم خطئهم أو ندرته بنحو يمتازون به عن غيرهم من الرواة ، وإن كانوا مثلهم بنظر الناس في الوثاقة. ومجرد التعبير عنهم بأنهم ثقاة ، أو السؤال من الأئمة عليهم السّلام عن وثاقتهم لاجل العمل بروايتهم ، لا يشهد بعموم حجيّة خبر الثقة ، لأن الثقة من الامور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص ، فرب رجل ثقة عند شخص غير ثقة عند آخر ، والروايات المذكورة إنما تدل على حجية خبر من هو ثقة عند الأئمة عليهم السّلام لا من هو ثقة عند المكلف الذي هو محل الكلام.

ولذا كانت الشهادات المذكورة رافعة للأشخاص المشهود لهم إلى مراتب عالية تقارب العصمة في التبليغ ، وليست كشهادة سائر الناس بالوثاقة.

ومن هنا يظهر عدم صحة الاستشهاد بما في التوقيع الشريف : «فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ونحملهم إياه إليهم» (٢) ، فإنه وارد في ثقاتهم عليهم السّلام كسفرائهم وخواصهم ، لا مطلق من يثق به الإنسان.

ومثله في ذلك ما عن تفسير العسكري عليه السّلام في بيان التمسك بالقرآن : «هو الذي يأخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا» (٣) ، لعدم وضوح كون المراد بالسفراء مطلق ثقاة الرواة من الشيعة ، بل لعلهم خصوص المنصوبين من قبلهم عليهم السّلام.

نعم ، لو ورد ما يدل على جواز الأخذ من الثقة كان ظاهرا في إيكال تشخيصه إلى المكلف نفسه كما هو الحال في بعض نصوص الطائفة الاولى.

الطائفة الثالثة : ما يدل بنفسه على المفروغية عن حجية خبر الواحد في

__________________

(١) تراجع النصوص المتضمنة لذلك باب ١١ من أبواب صفات القاضي من الوسائل.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج ١٨ باب : ٥ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٨.

٢٦٢

الجملة ، مثل خبر العلل المتقدم عند الكلام في آية النفر ، وصحيح حريز ، ومرسلة العياشي ، ورواية عمر بن يزيد المتقدمة عند الكلام في آية الإيذاء ، وما عن روضة الواعظين للفتال عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم : «من تعلم بابا من العلم (عمل به أو لم يعمل) عمن يثق به كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة» (١) وخبر جميل عن أبي عبد الله عليه السّلام ، سمعته يقول : «المؤمنون خدم بعضهم لبعض ، قلت : وكيف يكونون خدم بعضهم لبعض؟ فقال : يفيد بعضهم بعضا الحديث» وخبر يزيد بن عبد الملك عنه عليه السّلام : «قال : تزاوروا ، فان في زيارتكم احياء لقلوبكم وذكرا لاحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فان أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم» وفي حديث خطبة رسول الله صلّى الله عليه وآله في مسجد الخيف المروية في الصحيح أو الموثق وغيرهما : «فقال : نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ، وحفظها ، وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ، ومرفوعة الكناسي عن أبي عبد الله عليه السّلام ، في قول الله عزّ وجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : «هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، ليس عندهم ما يتحملون به الينا ، فيسمعون كلامنا ، ويقتبسون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم ، وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتى يدخلوا علينا فيسمعون حديثنا فينقلوه إليهم ، فيعيه هؤلاء ويضيعه هؤلاء ، فاولئك الذين يجعل الله لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون» ، وخبر عبد السلام الهروي عن الرضا عليه السلام ، قال : «رحم الله من أحيا أمرنا. قلت : كيف يحيي أمركم؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا» وما روي بطرق متعددة عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال : «رحم الله خلفائي ـ ثلاث مرات ـ فقيل له : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الذين

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٤ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٢٢.

٢٦٣

يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي ، فيعلمونها الناس من بعدي» (١) ، بناء على عدم اختصاصه بالأئمة عليهم السّلام ، ورواية معاوية بن عمار أو حسنته عن أبي عبد الله عليه السّلام وفيها : «الرواية لحديثنا يشدّ به [يسدده في خ. ل] في قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد» وما ورد في تفسير قوله صلّى الله عليه وآله : «اختلاف امتي رحمة» من قول الصادق عليه السّلام : «إنما أراد قول الله عزّ وجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ ...) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم» وخبر حمزة بن حمران ، سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : «من استأكل بعلمه افتقر. قلت : إن في شيعتك قوما يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم ، فلا يعدمون منهم البر والصلة والإكرام ، فقال : ليس أولئك بمستأكلين ...» ، وما عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث أنه قال للحسن البصري : «نحن القرى التي بارك الله فيها ... فقال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) ، والقرى الظاهرة الرسل ، والنقلة عنا إلى شيعتنا ، و [فقهاء] شيعتنا إلى شيعتنا ...» (٢).

فإن النصوص المذكورة وإن لم يصرح في أكثرها بحجية الرواية إلا أن ما تضمنته من الاستفادة بالحديث بسبب النقل وإفادته به تبليغه للفقيه وتعليمه للناس ، وتعلمهم له ، وشد قلوب الشيعة به ونحو ذلك ظاهر في المفروغية عن حجيته بسبب النقل وصلوحه للعمل ، إذ بدون ذلك لا تتحقق الاستفادة بالحديث ولا ينفع تبليغه للفقيه ولا يصدق تعليم الناس ولا علمهم به ، وإنما يكونون عالمين بنقله من دون علم به.

__________________

(١) تراجع النصوص المذكورة من خب جميل الى هنا في الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٣٧ و ٣٨ و ٤٣ ، ٤٤ و ٤٥ ، و ٥٢ ، و ٥٣.

(٢) تراجع النصوص المذكورة من رواية معاوية بن عمار الى هنا في الوسائل ج ١٨ ، باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢ و ١٠ و ١٢ ، و ٤٧.

٢٦٤

نعم ، لا إطلاق لأكثرها في ذلك ، إلا أن حملها على خصوص صورة التواتر ونحوه مما يفيد العلم بعيد جدا. بل هو لا يناسب ذكر الوثوق في رواية الفتال ، وما في خطبة النبي صلّى الله عليه وآله في مسجد الخيف من ظهوره في كون المبلغ للفقيه واحدا ، فإنه ظاهر في إعمال الفقيه فقهه في ما بلغ به ليترتب عليه العمل.

ومثلها ما عن تفسير العسكري عليه السّلام الوارد في التقليد (١) ، فإنه وإن كان واردا في التقليد ، إلا أن التأمل في فقراته قد يشهد بعمومه للرواية. وكذا ما عن مجالس المفيد : «لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها» ، وقريب منه ما عن المحاسن (٢) ، بناء على أن المراد بالصادق الثقة ، لا الصادق الواقعي المعلوم الصدق ، وأن استحباب الأخذ بلحاظ ترتب الفائدة وهي العمل.

وأوضح من ذلك ما عن العدة عن الصادق عليه السّلام : «قال إذ نزلت بكم حادثة لا تعلمون حكمها في ما ورد عنا ، فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه السّلام فاعملوا به» (٣).

الطائفة الرابعة : ما يستفاد من مجموعها حجية الخبر وإن كان في دلالة كل واحد على ذلك نظر ، مثل المستفيض أو المتواتر المتضمّن انه : «من حفظ أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (٤) ، فإنه وإن أمكن حمله على الحفظ لأجل تكثير طرق الرواية حتى يحصل العلم بها لا لحجية خبر الواحد ، إلا أنه بعيد جدا ، لاحتياج التواتر إلى شروط خاصة يصعب المحافظة عليها فلو توقف الانتفاع بالرواية على حصول العلم بها قلّت فائدة الحفظ ، وهو خلاف ظاهر الروايات ، خصوصا مثل ما في بعض طرق الحديث من قوله صلّى الله عليه وآله : «من

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٠ أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠.

(٢) تراجع الاحاديث .. في الوسائل ج ١٨ ، باب من أبواب صفات القاضي حديث : ٦٧ و ٦٨ و ٦٩ ، ٧٠.

(٣) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٧.

(٤) ذكره في الوسائل في طرق مختلفة متقاربة في المتون باب : ٨ من أبواب صفات القاضي.

٢٦٥

حفظ من امتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (١) وفي آخر : «من حفظ من امتي أربعين حديثا مما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (٢) ، لظهورهما في أن تحمل الرواية وبيانها كاف في حصول الانتفاع وسدّ الحاجة ، ومن ثمّ لا يبعد اختصاصها بما إذا كان المتحمل للرواية محافظا على شروط الحجية والانتفاع من الثقة والعدالة وغيرهما. ولذا لا يبعد كون هذين الحديثين من الطائفة السابقة لا من هذه الطائفة.

ومن هذه الطائفة ما تضمّن الأمر بكتابة الحديث وروايته ومذاكرته ومدارسته ومنه قولهم عليهم السّلام : «اعرفوا منازل الرجال منا بقدر روايتهم عنا» وما ورد من الترخيص في النقل بالمعنى والتحذير من الكذابين ونحو ذلك (٣) مما يشعر بحجية الخبر وإن لم يفد العلم ، وإلا قلّت الفائدة في ذلك ، كما نبه لذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وبالجملة : هذه الطائفة لو لم تصلح للاستدلال فهي صالحة للتأييد ، ويكون الاستدلال بالطوائف الثلاث الاول ، واستيعابها يورث القطع بحجية الخبر في الجملة ، لتواترها إجمالا. والله سبحانه ولي العصمة والسداد.

الثالث : من الادلة التي يستدل بها على حجية الخبر : الإجماع ، ويراد به ..

تارة : الإجماع القولي ، الراجع إلى تصريح العلماء بحجية خبر الواحد.

واخرى : الإجماع العملي ، الراجع إلى الاتفاق في مقام العمل على الرجوع إليه في معرفة الحكم وترتيب الاثر عليه.

أما الأول فلا مجال للاستدلال به ، لعدم ثبوته تحصيلا ولا نقلا ، حيث لم

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥٤ ، ٧٢.

(٢) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من صفات القاضي حديث ٦٠.

(٣) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل ج ١٨ ، في اوائل ابواب كتاب القضاء.

٢٦٦

ينقل التصريح بالقول المذكور إلا عن الشيخ قدّس سرّه وبعض من تأخر عنه ممن تعرض للمسائل الأصولية وألف فيها. وهم قليلون لا يكشف اتفاقهم عن الحكم الشرعي ، وأما الباقون فما كانوا يهتمون بتحرير المسائل الأصولية ، بل صرح بعض من حررها بعدم الحجية كالمرتضى قدّس سرّه ، بل بامتناعها كابن قبة ، فلا مجال للاستدلال بالوجه المذكور.

والعمدة الوجه الثاني ، وهو الإجماع العملي.

وتقريبه بأحد وجوه ..

الأول : إجماع العلماء على العمل به في مقام الفتوى واستنباط الحكم الشرعي.

الثاني : إجماع المسلمين بما هم مسلمون متدينون على العمل به والرجوع إليه في معرفة الحكم ، وهو المعبّر عنه في كلامهم بسيرة المتشرعة.

الثالث : إجماع العقلاء بما هم عقلاء على العمل به.

والفرق بين الوجوه الثلاثة : أن الوجه الثالث لا ينهض بالاستدلال إلا بضميمة الإمضاء ، أو عدم الردع من قبل الشارع الأقدس على ما يأتي الكلام فيه.

أما الوجهان الأولان فهما ينهضان للاستدلال بأنفسهما ، لكشفهما عن رضا الشارع الاقدس ، لامتناع حصولهما عادة مع عدم رضاه بالحكم ، حيث يمتنع جهل المسلمين بأجمعهم بمراده ، وخصوصا العلماء منهم ، لامتناع خفاء مراده عليهم مع بذلهم الجهد في معرفة الأحكام عن المعصومين عليهم السّلام ومخالطة كثير منهم لهم عليهم السّلام وأخذهم عنهم خصوصا في مثل هذه المسألة المهمة التي يكثر الابتلاء بها ، وبها نظم الفقه وعليها أساس الاستنباط.

كما أنه لا مجال لرفع اليد عن الوجهين المذكورين بظهور بعض الادلة في الردع لأنهما قطعيان يكشفان عن خلل في الدليل الرادع مانع من الاعتماد عليه.

٢٦٧

ومن ثمّ أشرنا في ذيل الأخبار التي استدل بها على عدم حجية الخبر الى عدم نهوضها في مقابل الإجماع والتسالم على الحجية بين الأصحاب.

أما الوجه الثالث فليس هو إلا مقتضيا للحجية فيتعين رفع اليد عنه بظهور الادلة الرادعة ، لأن الظهور حجة فعلية صالحة للردع ، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

أما الوجه الأول : فيمكن تحصيله بتتبع طريقة العلماء في مقام الاستدلال من زماننا إلى زمان الشيخين بل ما قبلهما من أرباب الفتاوى ، سواء كانوا في مقام تحرير الفتاوى مجردة ، أم في مقام بيانها بطريق إيداع الرواية ـ كما هو حال مثل الصدوق قدّس سرّه في الفقيه ـ فإنا نجدهم متسالمين على الاستدلال باخبار الآحاد ، والفتوى في فروع ليس فيها إلا خبر واحد لا يوجب العلم ، لا يتناكرون ذلك ، ولا يتوقفون فيه.

ويقطع بأنهم في ذلك قد جروا على سنن من كان قبلهم من معاصري الأئمة عليهم السّلام وأصحابهم. لامتناع الابتداع في مثل ذلك ، لتعذر اتفاقهم عليه دفعة واحدة في عصر واحد عادة. وانفراد بعضهم في بعض العصور ـ ثم شيوع طريقته بين المتأخرين عنه ـ مثار الانكار والتشنيع من معاصريه وأتباعهم ، ولو كان لوصل ، لأهميته وتوفر الدواعي لنقله ، كما هو ظاهر.

وأما احتمال استناد عمل القدماء للقرائن القطعية المحتفة بالأخبار لحجيتها في أنفسها ، وقد اشتبه ذلك على المتأخرين عنهم فظنوا اتفاقهم على حجيتها ، فعملوا بها لذلك بعد ضياع القرائن عليهم.

فلا مجال له ، لأن تحري القرائن القطعية في جميع الفروع الفقهية محتاج إلى عناية خاصة لو كان بناء القدماء عليها لما خفي على المتأخرين مع تقارب العصور واتصال بعضهم ببعض وأخذ كل عمن قبله.

والإنصاف : أن التأمل في ذلك يوجب وضوح الحال بنحو يغني عن

٢٦٨

تجشم الاستدلال عليه وتكلف البحث والنظر.

هذا ، وقد صرح بالإجماع بالوجه المذكور الشيخ قدّس سرّه في العدة ، حيث قال في مقام الاستدلال على مختاره : «والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة ، فاني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه : من أين قلت هذا؟ فإن أحالهم على كتاب معروف ، أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. هذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلّى الله عليه وآله ومن بعده من الأئمة ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته ، فلو لا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه ، لأن إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو» (١). ثم أطال في تعقيب ذلك إلى أن قال :

«فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجردها ، بل عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها لأجلها عملوا بها ، ولو تجردت لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يمكن الاعتماد على عملهم بها.

قيل له : القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء مخصوصة نذكرها في ما بعد من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ، لأنها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ، لانه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرائن ، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ، ودليله ومعناه ، ولا في السنة المتواترة ، لعدم ذلك في أكثر الأحكام ، بل لوجودها [وجودها خ. ل] في مسائل معدودة ، ولا في الإجماع ، لوجود الاختلاف في ذلك ، فعلم أن ادعاء

__________________

(١) العدة ج ١ ص ٤٢.

٢٦٩

القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة.

ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معولا على ما يعلم ضرورة خلافه ، مدافعا لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه. ومن قال عند ذلك : اني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ، لأنه يكون معولا على ما يعلم من الشرع خلافه» (١).

وقد وافقه في نقل إجماع الاصحاب غير واحد ، منهم السيد رضي الدين ابن طاوس قدّس سرّه ففي محكي كلامه الذي رد به على السيد قدّس سرّه : «ولا يكاد تعجبي ينقضي كيف اشتبه عليه أن الشيعة (لا) يعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعية ، ومن اطلع على التواريخ والأخبار ، وشاهد عمل ذوي الاعتبار ، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر ذلك محمد بن الحسن الطوسي في كتاب العدة وغيره من المشغولين بتصفح أخبار الشيعة وغيرهم من المصنفين».

ومنهم العلامة قدّس سرّه ، ففي محكي النهاية : «ان الأخباريين منهم لم يعولوا في اصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد ، والأصوليون منهم ، كابي جعفر الطوسي عمل بها ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم».

ومنهم المجلسي ، حيث ادعى ـ كما عن بعض رسائله ـ تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد.

بل قد يظهر من السيد المرتضى قدّس سرّه الاعتراف بعمل الأصحاب بخبر الواحد ، إلا أنه لا يعول عليه ، لأنه من الأمور المشتبهة ، فعن محكي كلامه في الموصليات أنه قال : «إن قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة عولوا في كتبهم في

__________________

(١) العدة : ج ١ ص ٥١.

٢٧٠

الأحكام الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها العمدة والحجة في الأحكام؟! حتى رووا عن أئمتهم عليهم السّلام في ما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامة ، وهذا يناقض ما قدمتموه.

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهودة المقطوع عليها إلى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل ، وقد علم كل موافق ومخالف أن الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدي إلى العلم ، وكذلك نقول في أخبار الآحاد».

ويؤيد ذلك ما عن ابن إدريس في مقام تقريب الإجماع على المضايقة أنه قال : «إن ابني بابويه والاشعريين ـ كسعد بن عبد الله وسعيد بن سعد ومحمد بن علي بن محبوب ـ والقميين أجمع ـ كعلي بن إبراهيم ومحمد بن الحسن بن الوليد ـ عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة ، لأنهم ذكروا أنه لا يحل رد الخبر الموثوق بروايته».

فإن اتفاق من ذكر مع معاصرتهم للأئمة عليهم السّلام ، وجلالتهم ، ورفعة مقامهم مؤيد للاتفاق المدعى في كلام من عرفت. بل عن المجلسي قدّس سرّه : ان عمل أصحاب الأئمة عليهم السّلام بالخبر غير العلمي متواتر بالمعنى.

ويشهد بصحة الإجماع المذكور أمور ..

منها : تصدي الأصحاب قديما وحديثا للجرح والتعديل ، وتمييز من تقبل روايته ممن لا تقبل ، وتعبيرهم عن بعض الرواة بأنه مسكون لروايته ، أو أنه مقبول الرواية أو صحيح الحديث ، أو لا يعمل بما ينفرد به ، وتصريحهم بتصحيح ما يصح عن جماعة ، وقبول مراسيل بعض الرواة ، لأنه لا يرسل إلا عن ثقة ، إلى غير ذلك مما يشهد بالمفروغية عن قبول الخبر غير العلمي في الجملة بينهم. وقد نبه لذلك الشيخ قدّس سرّه في العدة ، فقال : «إنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء ، وفرقوا بين من

٢٧١

يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذموا المذموم ، وقالوا : فلان متّهم في حديثه ، وفلان كذاب ، وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي وغير ذلك من الطعون التي ذكروها ، وصنفوا في ذلك الكتب ، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم ، حتى أن واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعفه بروايته ... فلو لا أن العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز لما كان بينه وبين غيره فرق ، وكان يكون خبره مطرحا مثل خبر غيره ، فلا يكون فائدة لشروعهم في ما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق ، وترجيح الأخبار بعضها على بعض. وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترناه» (١).

ومنها : تصريح جمع من قدماء الأصحاب ومتأخريهم بما يظهر منه المفروغية والتسالم على العمل بخبر الواحد في الجملة ، فعن الصدوق قدّس سرّه في الفقيه في ذيل أخبار سهو النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال : «فلو جاز ردّ هذه الأخبار الواقعة في هذا الباب لجاز رد جميع الأخبار ، وفيه إبطال الدين والشريعة».

وعن المحقق في المعتبر أنه قال في مسألة خبر الواحد : «أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر .. واقتصر بعضهم من هذا الافراط فقال : كل سليم السند يعمل به ، وما علم أن الكاذب قد يصدق ، ولم يتنبه على أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ ما من مصنّف إلا وهو يعمل بالخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل ...».

وعن الشهيد في الذكرى والمفيد الثاني ولد الشيخ الطوسي : أن الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند إعواز النصوص تنزيلا لفتاواه منزلة رواياته. قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «ولو لا عمل

__________________

(١) العدة : ج ١ ص ٥٣.

٢٧٢

الأصحاب برواياته غير العلمية لم يكن وجه للعمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته» ، إلى غير ذلك مما يجده الباحث المتتبع مما يشهد بوضوح الحكم بين الأصحاب وتسالمهم عليه ومفروغيتهم عنه ، وقد أطال في ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

ومن جميع ذلك يظهر وهو الإجماع الذي ادعاه السيد المرتضى قدّس سرّه على المنع من العمل بخبر الواحد ، فلا بد إما من تنزيله على أخبار المخالفين ، كما قد يناسبه ذكره لذلك في تعقيب حديث عدم توريث الأنبياء صلّى الله عليه وآله ، ويكون قد تجنن بالإجماع الذي ادعاه دفعا للخصوم ، حيث لا يمكنه الطعن في رواياتهم بفسق راويها ، كما يظهر ذلك من الشيخ قدّس سرّه في العدة ، حيث قال : «فإن قيل : أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أن الخبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحة ذلك؟ ... قيل له : الذين أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنما كلموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يروون هم خلافها. وذلك صحيح على ما قدمنا. ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه ...» (١).

أو يكون مراده بالعلم ما يعم الوثوق ، بناء على ما حكي عنه من تفسير العلم بأنه ما يوجب سكون النفس ، أو غير ذلك مما يمكن به توجيه كلامه ، وإن كان على خلاف ظاهره ، وإلا فمن البعيد جدا خفاء عمل الأصحاب بالخبر عليه ، مع وضوحه واشتهاره بينهم.

وكيف كان ، فلا مجال للالتفات إلى ما ذكره بعد ما عرفت.

وما ذكرناه في تقرير الإجماع العملي يغني عن تقريره ببعض الوجوه الأخر ، كدعوى الإجماع حتى من السيد وأتباعه على العمل بأخبار الآحاد في

__________________

(١) العدة ج : ١ ص ٤٨.

٢٧٣

مثل زماننا الذي ينسد فيه باب العلم ، لتصريحه بانفتاح باب العلم. أو على العمل بالاخبار التي بأيدينا المودعة في اصولنا ، لدعواه احتفافها بالقرائن القطعية ، مع الإشكال في ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه ، وإن تعرض لبعضه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وأما الوجه الثاني : ـ وهو سيرة المتشرعة على العمل بالخبر غير العلمي ـ فهو مما لا يظن بأحد انكاره ، إذ لو لا ذلك لاختل نظامهم في امور معاشهم ومعادهم ، لعدم تيسر العلم في جميع ما يبتلون به ، وتحري طرقه وأسبابه يوجب توقفهم عن العمل في كثير من الموارد ، بل أكثرها ، وهو مخل بنظامهم. ولا مجال لاحتمال سلوكهم طريقا آخر في الشرعيات ، فإن ذلك لو كان لظهر وبان.

بل لا ينبغي الريب في أن عملهم بالخبر المذكور مستند إلى ارتكازياتهم الأولية من دون حاجة منهم إلى بيان خاص من الشارع ، وإلا لظهر ، لكثرة الحاجة إلى السؤال عن ذلك لو لا الارتكازيات المذكورة. فسيرتهم متفرعة على سيرة العقلاء ومن مظاهرها ، وإن كانت أولى بالاستدلال ، لعدم الحاجة معها إلى الإمضاء أو عدم الردع ، وعدم الاعتناء بظهور بعض الأدلة في الردع ، كما تقدم عند الكلام في أقسام الإجماع العملي.

وأما الوجه الثالث ـ وهو سيرة العقلاء ـ فتوضيح الكلام فيه : أن سيرة عامة الناس وتعارفهم على العمل بطريق ..

تارة : تكون مستندة إلى أمر خارج عنهم طارئ عليهم ، كحاجتهم إليه في خصوص زمان أو مكان ، أو حملهم عليه من جهة خاصة ، كسلطان قاهر أو عالم ناصح.

واخرى : يكون ناشئا من مرتكزاتهم التي أودعها الله عزّ وجل فيهم ، وغرائزهم التي فطرهم تعالى عليها.

٢٧٤

أما الوجه الأول فلا مقتضي فيه للكشف عن الحجية الشرعية في مورده ، إذ لا وجه لحمل الشارع على الجهة الخارجية المذكورة ، كما لا وجه لحمل غيره من الموالي على ذلك بنحو يستكشف حكمهم.

بل لا بد معه من إحراز الإمضاء من المولى ، ويكون الإمضاء تمام المقتضي للحجية من قبله ، لا أن السيرة تكون تامة الاقتضاء بحيث تحتاج إلى الردع الذي هو من سنخ المانع والرافع ، فلا يكفي في البناء عليها عدم الردع فضلا عن عدم ثبوته.

نعم ، لو فرض استحكام السيرة بنحو يغافل عن إرادة خلافها والتفات المولى إلى ذلك ، وتيسر الردع عليه كان عدم صدور الردع منه ظاهرا في إمضائه لها ، الذي عرفت أنه تمام المقتضي لمتابعتها.

وأما الوجه الثاني فالظاهر أنه هو المراد بسيرة العقلاء في كلامهم ، إذ الظاهر من نسبتها لهم جريهم عليها بما هم عقلاء لا بجهة اخرى.

والظاهر أن السيرة بالوجه المذكور بنفسها مقتضية للعمل على طبقها ، بنحو يكون الأصل بنظر العقل متابعة الشارع وسائر الموالي لها وجريهم عليها ما لم يثبت ردعهم عنها ، لأن الارتكازيات التابعة للادراك والفطرة مما يحسن الاحتجاج به عقلا ما لم يثبت الردع عنه من المولى ، فمورد السيرة يشترك مع العلم في ثبوت مقتضي الحجية فيه بذاته وإن فارقه بأنه صالح للردع عنه ، بخلاف العلم فإنه علّة تامة للحجية لا تقبل الردع.

وعلى هذا لا يحتاج العمل بذلك إلى إثبات الإمضاء ، كما تجشمه غير واحد ، بل ولا إلى عدم الردع واقعا ، بل يكفي عدم ثبوت الردع ، لحكم العقل بلزوم متابعة المقتضي في مثل ذلك ما لم يثبت الردع عنه حتى لو احتمل كون عدم الردع لعدم تيسره للمولى ، كما يشهد به التأمل في المرتكزات العقلائية القطعية.

٢٧٥

ومن ثمّ لا يظن من أحد التشكيك في الإلزام والالتزام بظاهر كلام المولى لو احتمل كون عدم ردعه عن العمل بالظهور لعدم تيسر الردع له.

ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من عدم ثبوت هذا الوجه وإن كان من أحسن الوجوه في الاستدلال بالسيرة.

إذ يكفي في ثبوته ما عرفت من المرتكزات القطعية الراجعة إلى حكم العقل القطعي بالتعذير والتنجيز على طبق السيرة المذكورة.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه من قوله في الكفاية : «ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو في صورة المخالفة عن الواقع يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع على اتباعه في الشّرعيات».

كما ظهر أن الحجية حينئذ لا يصح نسبتها للشارع الأقدس أو غيره من الموالي ، لعدم استنادها إليه ، بل هو ملزم عقلا بها.

نعم ، لو لم يردع مع تمكنه من الردع تكون الحجية مستندة إليه لاستناد بقائها إليه.

إذا عرفت هذا ، فلا ينبغي الإشكال في بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد في الجملة وسيرتهم على ذلك. كما لا إشكال في أنها من القسم الثاني المستند لارتكازياتهم على صلوحه للاعتماد والعمل ، وذلك كاف في حجيته مع عدم ثبوت الردع عنه ، كما ذكرنا.

بل ذكر غير واحد أن عدم ثبوت الردع كاشف عن الإمضاء ، فإن السيرة المذكورة بمرأى من الشارع الأقدس ومسمع ، فلو لم يكن راضيا عنها لردع عنها ، كما ردع عن القياس ، ولو ردع عنها لوصل الردع ، كما وصلنا الردع عن القياس ، لتوفر الدواعي على نقله. بل لا ينبغي الإشكال في ظهور أكثر الادلة

٢٧٦

المتقدمة في الامضاء ، وإن كان هذا رجوعا عن الاستدلال بالسيرة إلى الاستدلال بها كما لا يخفى.

نعم ، قد يدعى صلوح العمومات الناهية عن العمل بغير العلم للردع عن السيرة المذكورة. وقد تصدى غير واحد للمنع عن ذلك لوجوه ذكروها في المقام ..

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن مرجع حرمة العمل بما عد العلم أمران ..

الأول : أن التعبد. بغير العلم مستلزم للتشريع المحرم بالأدلة الاربعة.

الثاني : أن فيه طرحا للأصول اللفظية والعملية المعتبرة شرعا.

وكلا الوجهين غير جار في العمل بالخبر بعد استقرار سيرة العقلاء على العمل به ، لانتفاء التشريع مع بنائهم على العمل به ، ولذا يعولون عليه في أوامرهم العرفية مع قبح التشريع فيها عندهم ، كالأحكام الشرعية.

وأما الأصول فهي لا تجري مع الخبر. أما اللفظية منها فلعدم بناء العقلاء على اعتبارها مع وجود الخبر في مقابلها.

وكذا العملية العقلية ـ وهي البراءة والاحتياط والتخيير ـ لأن نسبة حكم العقل بالعمل بها إلى الأحكام العرفية والشرعية سواء ، وحيث كان الخبر بعد فرض بناء العقلاء على العمل به مانعا من حكم العقل بمقتضاها في الأحكام العرفية كان مانعا منه في الأحكام الشرعية.

وأما الاستصحاب فإن اخذ من العقل فلا إشكال في أنه لا يفيد الظن في المقام ، وإن اخذ من الأخبار فهي آحاد لا تقتضي الا الوثوق.

وفيه : أن عدم صدق التشريع مع الخبر في الأحكام العرفية إنما هو لبنائهم على حجيته وعدم الرادع في أحكامهم عنه ، فلا وجه لقياس الأحكام الشرعية بها مع فرض عموم دليل حرمة العمل بغير العلم للخبر ، وصلوحه للردع

٢٧٧

الشرعي عن حجيته ، الموجب لكون التعبد به في الأحكام الشرعية تعبدا بغير الحجة وتشريعا محرما.

ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره في الأصول اللفظية والعملية العقلية ، فان عدم جريانها مع الخبر في الأحكام العرفية لكونه حجة عند العرف رافعا لموضوعها ، وهو لا ينافي جريانها معه في الأحكام الشرعية لو فرض ردع الشارع عنه بالعمومات المذكورة.

على أن اختصاص الأصول الشرعية بالاستصحاب لا وجه له ، بل البراءة والاحتياط قد يكونان شرعيين مستندين إلى أدلة قطعية غير أخبار الآحاد ، فلا مانع من رادعيتها عن حجية الخبر. كما أن المراد بابتناء الاستصحاب العقلي على افادة الظن ـ لو سلم ـ إنما هو بمعنى كونه مفيدا للظن نوعا ، فلا يرتفع موضوعه مع الخبر ، كما لا يرتفع مع غيره من الامارات التي لم تثبت حجيتها أو ثبت الردع عنها.

نعم ، الأصول اللفظية الثابتة ببناء العقلاء لا تنهض بالمنع عن العمل بالخبر الثابت ببناء العقلاء أيضا ، لأن نسبة أدلة حرمة العمل ـ بما عدا العلم ـ إلى الأصول المذكورة والخبر واحدة ، فإن صلحت للردع كانت رادعة عنهما معا ، فيكون رفع اليد عن الأصول بالخبر رفعا لليد عن غير الحجة بغير الحجة ، وإلا لم تصلح للردع عنهما معا ، فيكون رفع اليد عن الأصول بالخبر رفعا لليد عن الحجة بالحجة.

اللهم إلا أن يفرض القطع بعدم الردع عن الأصول المذكورة تخصيصا لعمومات الادلة المذكورة ، فتصلح الأصول المذكورة للمنع من العمل بالخبر بعد فرض حجيتها وصلوح العمومات للردع عنه.

وبالجملة : لا وجه لقياس العمل بالخبر في الأحكام الشرعية بالعمل به في الأحكام العرفية ، بعد فرض عدم الردع عنه من قبل الموالي العرفيين الموجب

٢٧٨

لحجيته في أحكامهم ، وفرض كون مقتضى عموم أدلة حرمة العمل بغير العلم الردع عنه الموجب لعدم حجيته شرعا ، فيكون التعبد به في الأحكام الشرعية تشريعا محرما ، ومخالفا للأصول الجارية فيها المفروض اعتبارها.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من استحالة الردع عن السيرة بالعمومات المذكورة ، للزوم الدور منه ، لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيصها بالسيرة ، وهو يتوقف على الردع بها عنها ، إذ مع عدم الردع بها عنها تكون حجة صالحة للتخصيص.

وفيه : أن صلوح العمومات للردع عن السيرة فعلي ناشئ من فعلية ظهورها المفروض الحجية ، وصلوح السيرة لتخصيص العمومات موقوف على حجيتها الموقوفة على عدم الردع عنها بالعمومات ، ولا مجال للتوقف عن المقتضي التنجيزي بالمقتضي التعليقي ، بل يجب البناء على المقتضي التنجيزي ورفع اليد به عن المقتضي التعليقي ، لعدم فعلية تأثيره في مرتبة المقتضي التنجيزي ، ففي مرتبة ظهور العمومات المفروضة الحجية تكون رادعة عن السيرة مانعة من حجيتها ومن صلوحها للتخصيص.

الثالث : ما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه وصرح به بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن عمل العقلاء بالخبر لما كان مبنيا على بنائهم على أن حاله حال العلم وعلى تتميم كاشفيته وإلغاء احتمال الخلاف معه كان خارجا عن موضوع العمومات ، فلا تصلح للردع عنه. وكأن ما ذكره بعض مشايخنا من حكومة السيرة على العمومات المذكورة راجع إلى ذلك.

وفيه : أنه لو سلم ابتناء حجية الخبر على تتميم كاشفيته فلا يكفي في خروجه عن العمومات تتميم كشفه بنظر العقلاء ، بل لا بد من تتميم كشفه عند الشارع ، ولا مجال لإحراز ذلك مع ظهور العمومات في الردع عنه.

هذا ، ولو فرض ثبوت الإمضاء للسيرة من قبل الشارع كان الخبر خارجا

٢٧٩

عن موضوع العمومات ، إلا أن ذلك لا يستند إلى السيرة ، بل إلى دليل الامضاء الحاكم على العمومات أو المخصص لها ، وهو خروج عن محل الكلام.

نعم ، قد يكون استحكام السيرة على العمل بالخبر وبناء العقلاء على صلوحه له بما هم عقلاء موجبا للغافلة عن شمول العمومات له ، فلا يترتب على العمومات الارتداع عنه ولا يتأدى بها الغرض ، ويحتاج ذلك إلى ردع خاص رافع للعلة ، بل ردع كثير يناسب استحكام العمل بالخبر وعمومه أكثر من الردع عن القياس الذي عمل به طائفة خاصة من الناس ، فعدم ورود ذلك من الشارع واقتصاره على العمومات المذكورة كاشف عن عدم تصديه بها للردع عن السيرة ، كما اشير إليه في كلام بعض أفاضل العصر.

لكن هذا ـ لو تم ـ لا يحتاج إلى فرض ابتناء عملهم على تتميم الكشف.

هذا كله مع قطع النظر عما عرفت من الأدلة الكثيرة ومنها سيرة العقلاء والمتشرعة على إمضاء السيرة المذكورة الكاشف عن تخصيص العمومات على تقدير تماميتها.

مع أنه تقدم منا في تحقيق مقتضى الأصل عند الشك في الحجية المناقشة في ثبوت العمومات المذكورة. فلا ينبغي الإشكال في الرجوع للسيرة في المقام وصحة الاستدلال بها.

بل هي من أهم الأدلة ، لنهوضها بتحديد ما هو الحجة ، بخلاف بقية الأدلة ، فإنه لا إطلاق لها ينهض بذلك غالبا.

الرابع : من الادلة التي يستدل بها على حجية الخبر : دليل العقل وهو من وجوه ..

بعضها يختص باثبات حجية خبر الواحد ، وبعضها يقتضي حجية الظن مطلقا أو في الجملة ، ليدخل فيه الخبر ، أو يختص به بضميمة مقدمة خارجية ، وهو كونه متيقن الحجية من بين الظنون على تفصيل يذكر في محله. ونحن

٢٨٠