المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

أما الأول فلأن الحجة بالمعنى المنطقي هي الأوسط القياسي ، والقطع بالحكم لم يؤخذ في موضوع الكبريات الشرعية ، لاستحالة تقييد الحكم بالعلم به. وأما القطع بالموضوع ـ كالخمر ـ فهو غير مأخوذ في موضوع الكبريات الشرعية أيضا ، لأن الكلام في القطع الطريقي ، لا الموضوعي.

وأما الثاني فلأن الحجة بالمعنى الأصولي هي ما يوجب إثبات متعلقه في مقام العمل ، بحيث يصح الاعتماد عليه في الحكم به ، كما في الطرق والأمارات القائمة على الأحكام والموضوعات ، ولا يصدق ذلك على القطع ، لما عرفت من أنه عين وصول الواقع وانكشافه للنفس ، فهو مغن عن طلب الحجة رافع لموضوعها.

وبعبارة اخرى : الحجة في مقام العمل هي التي يكون العمل مبتنيا عليها ، بحيث يعتمد عليها في مقام إحراز موضوعه ، وذلك لا يجري في القطع ، لما عرفت من أنه لما كان عبارة عن الوصول للواقع ، كان النظر في مقام العمل للواقع لا غير ، ولم يكن القطع ملتفتا إليه حينه أصلا.

نعم ، قد يطلق على القطع الحجة بالمعنى العرفي ، الراجع إلى كون الشيء منجزا ومعذرا. ويأتي الكلام فيه في المقام الثاني.

الخامس : ان هذه المسألة خارجة عن المسائل الأصولية ، إذ المعيار في المسألة الأصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، لكونها إحدى مقدمات القياس المنتج له ، وقد عرفت أن القطع بنفسه وصول للحكم ، وليس هو مقدمة للوصول إليه واستنباطه ، فهو عبارة عن العلم بالنتيجة المغني عن تكلف القياس المنتج لها.

وأما متابعته فهي من آثاره اللاحقة له بذاته والتي لا دخل لها بالاستنباط بوجه ، بل هي كوجوب متابعة الحكم المستنبط ، الذي لا يكون مقدمة لاستنباطه.

٢١

تنبيه :

استدل غير واحد تبعا لشيخنا الأعظم قدّس سرّه على وجوب متابعة القطع واستحالة ردع الشارع عنها ، بأن ردع الشارع عن العمل به مستلزم للتناقض في الواقع أو في نظر القاطع ، لأن المكلف إذا حصل له القطع بحرمة الفقاع ـ مثلا ـ فنهي الشارع له عن العمل بقطعه وترخيصه في ارتكابه موجب للتناقض واقعا أو في نظره بين الحكم الذي قطع به والترخيص الشرعي المذكور.

وفيه .. أولا : أن بطلان التناقض لم يبلغ إلا مرتبة القطع ، فالاستدلال به موقوف على حجية القطع ، فكيف يكون دليلا على حجيته؟.

وبعبارة اخرى : الغرض من الاستدلال إيصال الواقع المستدل عليه للذهن وتصديقه به ، فإذا لم تكن متابعة الواقع الواصل ـ التي هي عبارة عن حجية القطع ـ بديهية غنية عن الاستدلال لم ينفع الاستدلال في مورد.

ولو أمكن ردع الشارع عن حجية العلم فكما يمكن ردعه عن حجية العلم بالحكم الشرعي كذلك يمكن ردعه عن حجية العلم بامتناع الردع المذكور الحاصل من الاستدلال بالتناقض. فتأمل جيدا.

وثانيا : أن الردع عن العمل بالقطع لا يرجع إلى الترخيص على خلاف الواقع المقطوع به ، بل مجرد الحكم بعدم حجيته ، وذلك لا يناقض الحكم الواقعي المقطوع به بوجه. نظير الحكم بعدم حجية الظن ، فإنه لا يكون راجعا إلى الترخيص على خلاف الحكم المظنون ، حتى يستلزم الظن بالتناقض ، الذي هو ممتنع كالعلم به.

نعم ، يستفاد الترخيص من الحجج أو الأصول الشرعية التي تجري مع عدم الحجة. وذلك مشترك بين العلم والظن وغيرهما.

ومن ثمّ أشكل الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية. والوجه الذي يندفع به الإشكال المذكور إنما لا يجري في صورة القطع لفرض حجيته ذاتا بنحو يمتنع التعبد بالحكم الظاهري معه ، فمع الفرض المذكور لا حاجة

٢٢

للاستدلال على الحجية بلزوم التناقض ، وبدونه لا محذور في التناقض بين الحكم الواقعي والظاهري ، كما هو الحال في صورة الظن.

على أن ذلك إنما يمنع من الرجوع للأصول الشرعية ، لا العقلية ، فإنها لا تقتضي حكما شرعيا مناقضا أو مضادا للحكم الواقعي ، بل لا تتضمن إلا الوظيفة العقلية عند عدم الحجة.

وبالجملة : لزوم متابعة القطع أوضح من أن يستدل عليه بمثل ذلك.

المقام الثاني : في منجزية القطع ومعذريته.

ولا إشكال عندهم في ثبوتهما للقطع في الجملة. لكن لا يبعد كون موضوع المعذرية والمنجزية أمرا آخر يجتمع مع القطع تارة ، ومع عدمه اخرى ، ولا خصوصية للقطع فيهما.

بيان ذلك : أن الظاهر أن ملاك المعذرية بحسب المرتكزات العقلائية هي امتناع داعوية الحكم الواقعي ، فإن وجود الحكم الواقعي لا يصلح بنفسه منشأ للمسئولية ، بنحو يكون منجزا في حق المكلف ، ما لم يكن بنحو يصلح لأن يدعو المكلف إلى موافقته ، فإذا كان بنحو يمكن أن يكون داعيا للمكلف كان منجزا ، أما لو امتنعت داعويته فلا يكون صالحا للتنجز ، بل لا بد من الحكم بالمعذرية حينئذ.

إذا عرفت هذا ، فامتناع داعوية الحكم الواقعي بنحو لا بد معه من المعذرية بالإضافة إليه يكون ..

تارة : مع القطع بخلاف الحكم الواقعي لا عن تقصير.

واخرى : مع قيام الحجة على خلافه.

وثالثة : مع وجود الأصل المؤمن منه.

ورابعة : مع الغافلة المطلقة لا عن تقصير.

إذ في الصورة الاولى والرابعة تمتنع داعويته بسبب تعذر الالتفات إليه ، لما هو المعلوم من توقف داعوية الداعي على الالتفات إليه.

٢٣

وفي الصورة الثانية والثالثة وإن كان احتمال التكليف والالتفات إليه متحققا ، إلا أن الاحتمال لا يكفي في الداعوية مع وجود المؤمّن والمرخّص في إهمال التكليف المحتمل ، كما لا يخفى.

كما أن إمكان داعوية الحكم الواقعي يكون ..

تارة : مع القطع به.

واخرى : مع قيام الحجة عليه.

وثالثة : مع قيام الأصل الملزم بمراعاة احتماله.

ورابعة : مع القطع بخلافه عن تقصير.

وخامسة : مع الغافلة المطلقة عنه عن تقصير.

إذ في الصور الثلاث الاول يكون الواقع بالغا مرتبة الداعوية الفعلية. وفي الصورتين الأخيرتين وإن لم يكن كذلك ، لفرض عدم احتمال التكليف الذي هو شرط في فعلية داعويته ، إلا أنه لما كان المفروض أن عدم احتمال التكليف ناشئ عن التقصير ، بحيث لو لاه لكان احتمال التكليف بنحو منجز متيسرا كان ذلك راجعا إلى إمكان داعوية التكليف ذاتا ، وتعذرها مستند إلى المكلف نفسه ومسبب عن تقصيره ، فلا يكون مانعا من منجزيته في حقه.

على أن الحكم وإن لم يلتفت إليه بعنوانه تفصيلا في الصورتين المذكورتين ، إلا أن فرض التقصير مستلزم للالتفات إليه إجمالا ، لأن التقصير إنما يكون مع الالتفات إلى وجود أحكام في الشريعة يجب الخروج عنها والفحص مقدمة لذلك ولو بنحو الالتفات ، ومثل هذا الالتفات الإجمالي للحكم كاف في صلوحه للداعوية وفي تنجزه. فلاحظ.

ومما ذكرنا يظهر أن المنجزية ملازمة للقطع كوجوب المتابعة ، إذ التنجيز إنما يفرض مع إصابة القطع للواقع ، ومعه يكون الواقع داعيا بالفعل لوصوله ، أما المعذرية فهي مختصة بما إذا لم يكن ناشئا عن تقصير ، كما أشار إلى ذلك المحقق الخراساني قدّس سرّه هنا. فتأمل جيدا.

٢٤

الفصل الثاني

في التجري

وقع الكلام بينهم في استحقاق العقاب بمخالفة القطع مع خطئه بعد الفراغ عن الاستحقاق بها مع إصابته. وكلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه هنا مضطرب في تحديد محل النزاع ، إلا أن من تأخر عنه قد فصل الكلام في الجهات التي يمكن أن تقع موردا للنزاع في المقام.

والمستفاد منهم أن الكلام ..

تارة : في أن ما يقطع بكونه موردا للتكليف مورد له واقعا ، فإذا قطع بحرمة شيء كان حراما شرعا ، وإذا قطع بوجوب شيء كان واجبا كذلك ، ففعل الأول وترك الثاني يكونان معصية حقيقية ، فيستحق عليهما العقاب.

واخرى : في كون نفس التجري ـ وهو القصد للمعصية في ظرف الجري عليها بفعل ما يعتقد كونه معصية ـ محرما شرعا ، من دون أن يكون نفس الفعل المتجرى به محرما.

وثالثة : في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم التكليف المولوي ، بدعوى : أن منشأ استحقاق العقاب لا يختص عقلا بالمعصية الحقيقية.

ولأجل ذلك كان اللازم الكلام في الوجوه الثلاثة في مقامات ثلاثة ..

٢٥

المقام الأول : في تحقيق حال عمل المكلف الذي يكون به التجري ، وأنه هل يكون محرما شرعا أو لا؟ وقد يوجه تحريمه بوجوه ..

الوجه الأول : أن الخطابات الاولية بالتكاليف الشرعية الواردة على العناوين الخاصة ـ كالخمر والصلاة وغيرهما ـ لا تختص بالمعنونات الواقعية ، بل لا بد من صرفها إلى ما يعتقد بانطباق العناوين عليه وإن كان خطأ ، فيكون مورد التجري مشمولا لإطلاق الأدلة المذكورة أو عمومها.

وقد يستفاد مما ذكره غير واحد توجيه ذلك بدعوى : أن التكليف لا بد أن يتعلق بما هو مقدور للمكلف ، بنحو يقتضي توجه الاختيار والإرادة نحوه ، فالمطلوب الأصلي للمولى توجه اختيار المكلف وإرادته نحو الفعل ، وحيث كان تمام الموضوع للإرادة والاختيار هو الصور الذهنية الحاصلة حين القطع ـ ولو مع الخطأ ـ لا المعنويات الواقعية ، لعدم السنخية بينها وبين الاختيار والإرادة اللذين موطنهما النفس ، فيمتنع تأثيرها فيهما ، لزم صرف التكليف بالعناوين الواقعية إلى التكليف بالاختيار المتعلق بالصور الذهنية الحاصلة مع القطع ، فمرجع التكليف بحرمة الخمر ـ مثلا ـ إلى التكليف باختيار ترك ما يقطع بكونه خمرا ، كما أن مرجع التكليف بوجوب الصلاة ـ مثلا ـ إلى التكليف باختيار فعل ما يقطع بكونه صلاة ، سواء كان القطع مصيبا أم مخطئا.

وفيه .. أولا : أنه مختص بما إذا كان الخطأ في الموضوع الثابت له الحكم ، كالخمر ، ولا يجري فيما لو كان الخطأ في أصل ثبوت الحكم ، كما لو قطع خطأ بحرمة عصير الزبيب مثلا ، إذ لا إطلاق في البين ، حتى يتوهم عمومه لحال الخطأ.

وثانيا : أنه مستلزم لرجوع جميع التكاليف التحريمية إلى تكاليف وجوبية باعمال الاختيار في ترك الحرام ، ولعدم تحقق الامتثال لو فرض موافقة التكليف غفلة من دون إعمال الإرادة والاختيار ـ نظير ما قيل من أن النهي

٢٦

يقتضي الكف لا مجرد الترك ـ ولإجزاء ما يقطع خطأ بأنه من أفراد الواجب ـ كما نبه له بعض مشايخنا ـ ولترتيب بقية آثار العنوان الذي هو مورد التكليف ، كالحد والكفارة ونحوهما مما يساق في الأدلة مساق التكليف بالعنوان ، إذ لا مجال للتفكيك بين الآثار المذكورة والتكليف في الموضوع مع سوقها في الأدلة في مساق واحد ، فتأمل.

ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على ذلك.

على أنه لا يرجع إلى حرمة الفعل المتجرى به شرعا ، كما هو المدعى في تحرير محل الكلام ، بل إلى وجوب اختيار تركه شرعا كاختيار الترك في مورد الإصابة ، من دون أن يحرم نفس الفعل الخارجي في مورد الإصابة أو الخطأ.

وثالثا : أنه لا وجه لصرف التكليف بالعنوان إلى التكليف بالاختيار والارادة المتعلقين به ، فإن توقف التكليف على القدرة لا يقتضي إلا التكليف بالواقع في ظرف كونه مقدورا ، لا التكليف باختياره وإرادته.

نعم ، قد يقال : إن الغرض من التكليف إحداث الداعي في نفس المكلف ليختار ما كلف به ، فالمطلوب للامر هو الاختيار ، لانه الغرض من التكليف.

وفيه : أن كون الاختيار داعيا للتكليف وغرضا منه لا يقتضي كونه مطلوبا للامر ، بحيث يكون هو المكلف به ، بل هو نظير تخويف المكلف الذي قد يكون غرضا من الخطاب ، وليس المطلوب إلا العنوان الواقعي الذي جعل في الأدلة موردا للتكليف.

وبعبارة اخرى : حدوث الداعي في نفس المكلف واختياره لما كلف به مما قد يترتب تكوينا على التكليف ، لا أنه هو المكلف به.

على أن ما اشتهر من أن الغرض من التكليف إحداث الداعي لا أصل له ، كيف وقد يعلم المولى بعدم حدوث الداعي في نفس المكلف ، لكونه في مقام التمرد عليه ، وذلك لا يمنعه من تكليفه له ، الناشئ من إرادته التشريعية المتقومة

٢٧

بجعل السبيل ، وإنما يكون إحداث الداعي غرضا فيما لو كانت الإرادة التشريعية ناشئة من الإرادة التكوينية للفعل المطلوب. فهو من لوازم الإرادة التكوينية ، لا التشريعية التي يتقوم بها التكليف.

والتحقيق : أن الغرض من التكليف هو احداث الداعي العقلي بمعنى داعوية العقل للفعل أو الترك لا حدوث الداعي الفعلي في نفس المكلف.

وبالجملة : لا مجال لتوهم كون موضوع التكليف هو الاختيار والإرادة مع منافاته لظهور الأدلة في كون المكلف به هو العناوين الحاكية عن المعنونات الواقعية التي هي موضوع الأغراض والآثار ، وبها تقوم الملاكات الموجبة للتكليف.

بل لو لا ذلك لما تعلق اختيار المكلف بالعناوين المذكورة ، لوضوح أن الداعي لتعلق الاختيار بها هو امتثال التكليف بها ، المستلزم لكونها بأنفسها موضوعا له ، ولو كان موضوعه الاختيار نفسه لكان اللازم تعلق الاختيار بالاختيار مقدمة لامتثال التكليف به ، ولا يكفي اختيار واحد متعلق بالعناوين المذكورة مع عدم التكليف بها ، وهو كما ترى!

ورابعا : أن كون المكلف به هو الاختيار والإرادة لا يستلزم عمومه لما إذا كانا واردين في مورد الخطأ ، فإن تبعيتهما للصور الذهنية ليس بمعنى كونها موضوعا لهما بحيث يتعلقان بها تعلق الغرض بموضوعه ، لوضوح أن الصور الذهنية ملحوظة عبرة للموجودات الخارجية المطابقة لها وحاكية عنها ، فالمتعلق هو الموجودات الخارجية ، بل بمعنى أنهما مسببان عن الصور الذهنية ، لما تقدم من توقف الاختيار على الالتفات للجهات المقتضية له ، وذلك لا ينافي اختصاص التكليف بالاختيار والإرادة بخصوص ما كان منها مصيبا للمعنونات الواقعية.

بيان ذلك : أن المراد بالاختيار ..

٢٨

تارة : يكون محض القصد القائم بالنفس المقارن للفعل.

واخرى : يكون هو إعمال القدرة والإرادة في الفعل الخارجي ، فهو عبارة عن إضافة قائمة بين الفاعل وفعله منتزعة عن قيامه به عن التفات إليه.

أما الأول فهو حاصل بنحو واحد في صورتي الخطأ والإصابة ، فكما يكون شارب الخمر الحقيقي قاصدا لشرب الخمر ، كذلك يكون شارب ما يعتقد خطأ أنه خمر.

وأما الثاني فحيث كان أمرا إضافيا قائما بموضوعه الخارجي ، فصدقه تابع لتحقق موضوعه واقعا ، فمن شرب الماء المقطوع الخمرية لا يصدق أنه اختار شرب الخمر ، بل هو قد اختار شرب الماء الذي يعتقد أنه خمر.

وحينئذ نقول : الدليل المتقدم ـ لو تم ـ لا يقتضي صرف التكليف للأمر الأول ، بل للأمر الثاني ، لأنه المناسب لأخذ القدرة في التكليف حيث يكون الموضوع الأفعال الخارجية ، ولما هو المعلوم من قيام الملاكات بالأمور الخارجية ، وعليه لا يكون موضوع التكليف إلا الاختيار المتعلق بالمعنونات الواقعية غير الحاصل في مورد التجري.

نعم ، لو استفيد من الأدلة أن متعلق الاختيار هو الأمور الخارجية التي يقطع بثبوت العناوين لها ولو كان خطأ كان اللازم العموم لمورد التجري. لكنه خلاف ظاهر الأدلة ، لظهورها في أن المدار على الواقع.

وبالجملة : ظاهر الأدلة أن الموضوع هو المعنونات الواقعية ، سواء كانت بأنفسها موضوعا للتكليف ـ كما هو الحق ـ أم كانت موضوعا للاختيار الذي هو موضوع التكليف ـ كما يدعيه المستدل ـ وهو لا يقتضي عموم التكليف لمورد التجري.

فالإنصاف : أن الوجه المذكور في غاية السقوط ولو لا تعرض غير واحد من الأكابر له لما أطلنا الكلام فيه ، وإن كنا قد تابعناهم في كثير مما

٢٩

ذكروه في رده.

الوجه الثاني : أن الأحكام الأولية وإن اختصت ـ تبعا لأدلتها ـ بالمعنونات الواقعية ، إلا أن القطع بحرمة شيء موجب لحدوث مفسدة فيه تقتضي حرمته بعنوان ثانوي ، كما أن القطع بوجوب شيء يوجب حدوث مصلحة فيه تقتضي وجوبه بعنوان ثانوي أيضا.

وفيه : أن حدوث ملاك ملاك مغاير للملاك الواقعي بسبب القطع بالحكم الشرعي إن كان يعم القطع المصيب للواقع لزم تعدد التكليف في مورد الإصابة ، ولا يظن من أحد الالتزام بذلك. بل يلزم التسلسل في الأحكام الشرعية ، إذ كل قطع محدث للحكم تبعا له وموجب للقطع به إلى ما لا نهاية.

وإن كان مختصا بالقطع غير المصيب للواقع فهو يشكل ..

أولا : بأنه وإن كان ممكنا ذاتا ، إلا أنه محتاج إلى دليل تعبدي خاص مفقود في المقام ، بل قام الدليل على عدمه ، لرجوعه للتصويب المنسوب للمعتزلة ، الذي قام الإجماع عندنا على بطلانه ، خصوصا في مورد خطأ القطع ، لا الطريق أو الأصل الشرعيين المستتبعين للحكم الظاهري ، ولا سيما في مورد الخطأ في الموضوع.

وثانيا : أن الحكم المذكور لا يقتضي استحقاق العقاب ، لعدم العلم به ، إذ المفروض حصول القطع له بثبوت حكم العنوان الأولي المفروض عدمه ، وعدم التفاته إلى خطأ قطعه ، ليعلم بثبوت الحكم الثانوي له.

ومنه يظهر أنه لا أثر لجعل الحكم المذكور وإن تم ملاكه ، لعدم صلوحه للداعوية بعد امتناع الاطلاع على موضوعه.

نعم ، لو كان التجري في مورد خطأ الامارة أو الأصل لكان لاستحقاق العقاب لأجل الحكم الثانوي الثابت فيه ـ بناء على التصويب ـ وجه ، لأن احتمال خطأ الأصل أو الأمارة موجب للعلم التفصيلي بثبوت التكليف في موردهما ، إما

٣٠

الأولي الثابت مع إصابة الأصل أو الأمارة للواقع ، أو الثانوي الثابت مع خطئهما ، وهذا كاف في تنجز التكليف الثانوي لو فرض ثبوته ، بخلاف مورد القطع ، لأن القاطع لا يحتمل ثبوت الحكم الثانوي حتى يتنجز مع العلم المذكور.

ودعوى : أنه يكفي في استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي مع الجهل به الإقدام في مورده على مخالفة المولى ولو باعتقاد تكليف آخر خطأ ، فمن أقدم على شرب الخمر فشرب ماء مغصوبا استحق العقاب للمعصية وإن كان ما قصده لم يقع وما وقع منه لم يقصد.

مدفوعة : بأن استحقاق العقاب في مثل ذلك ـ لو تم ـ فهو بلحاظ الاقدام على مخالفة ما اعتقده خطأ ، وهو مبني على استحقاق المتجري للعقاب الذي هو محل الكلام في المقام ، لا بلحاظ مخالفة التكليف الواقعي المجهول ، ليكون معصية حقيقية ، ولذا لا تكون مرتبة العقاب تابعة له ارتكازا ، فمن رأى شبحا واعتقد أنه حيوان مملوك لمسلم ، فقتله ، وتبين أنه إنسان مؤمن ، لا يستحق عقاب قاتل المؤمن ، بل غاية ما يستحقه بتجرّيه عقاب المعتدي على المسلم بإتلاف ملكه.

وبالجملة : استحقاق العقاب في مثل ذلك ـ لو تم ـ فهو بملاك التجري ، لا بملاك المعصية الحقيقية.

نعم ، لو اشترك المقطوع به والمجهول في موضوع تكليف واحد استحق عقابه بملاك المعصية الحقيقية وإن اختلفا في بعض الخصوصيات الخارجة عن التكليف أو الموجبة لزيادته ، كما لو شرب خمرا باعتقاد أنه من خمر زيد ، فبان أنه من خمر عمرو ، أو شرب خمرا باعتقاد أنه ماء متنجس ، فإنه يستحق في الأول عقاب الخمر ، وفي الثاني عقاب شرب النجس ، بملاك المعصية الحقيقية ، لمصادفة ما اعتقده للواقع في الجهة المشتركة المقتضية للحرمة ، وإن خالفه في بعض الخصوصيات كخصوصية كونه من زيد أو خصوصية الخمرية.

٣١

أما في المقام فالمفروض أن ملاك الحرمة الأولية المقطوع بها مباين لملاك الحرمة الثانوية الثابتة بسبب خطأ القطع ، فما قصد لم يقع ، وما وقع لم يقصد ، والثاني لا عقاب عليه قطعا ، والأول يبتني على استحقاق العقاب على التجري وإن لم يكن معصية حقيقية.

ودعوى : أن القطع موجب للحرمة بعين ملاك الحرمة الواقعية ، لا بملاك آخر مترتب عليه ، ومرجع ذلك إلى أن المجعول حكم واحد ثابت في حالتي الاصابة والخطأ ، فيكفي الالتفات له في ترتب عقاب الواقع بملاك المعصية الحقيقية.

مدفوعة : بأن ذلك خروج عن محل الكلام لرجوعه إلى عدم خطأ القطع حينئذ. مع أنه محال في نفسه ، لتأخر القطع رتبة عن الحكم المقطوع ، فكيف يكون مأخوذا في موضوعه؟ ومن ثمّ امتنع التصويب المنسوب للأشاعرة.

نعم ، قد يتصور ذلك في القطع بالموضوع ، بأن لا يكون الحرام ـ مثلا ـ هو الخمر فقط ، بل مقطوع الخمرية أو ما يعمها.

لكنه راجع إلى كون القطع موضوعيا ، لا طريقيا ، وهو خروج عن محل الكلام ، ومخالف لظاهر أدلة الأحكام من أن الموضوع هو العناوين الواقعية لا غير.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه قال : «هذا مع أن الفعل المتجري به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا ، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي ، لا بعنوانه الطارئ الآلي ، بل لا يكون غالبا مما يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا».

وجه الإشكال : أنه إن فرض تعقل كون عنوان القطع بالوجوب أو الحرمة

٣٢

مطلقا وإن كان مصيبا موجبا لحدوث التكليف الشرعي ، كفى في الالتفات إلى العنوان المذكور المصحح للعقاب الالتفات إليه بما هو آلة للواقع ، فإن القطع كاشف عن نفسه وعن غيره ، ولا ملزم باعتبار الالتفات الاستقلالي في تنجز الحكم واستحقاق العقاب عليه.

فالعمدة ما عرفت من امتناع ذلك من دون فرق بين كون القطع مأخوذا في موضع الحكم المنكشف به وكونه موجبا لحدوث حكم آخر.

وإن فرض تبدل الحكم الواقعي بسبب القطع المخطئ لا غير ، بحيث يكون القطع المذكور موجبا لحدوث حكم ثانوي رافع للحكم الواقعي. فهو وإن كان ممكنا ذاتا كما عرفت ، إلا أن العنوان المذكور مما يمتنع الالتفات إليه ، لا استقلالا ولا آلة ، بل يقطع بعدمه حين القطع ، لما هو المعلوم من امتناع احتمال خطأ القطع حين وجوده.

مع أن عدم الالتفات إلى العنوان لا ينافي كونه من جهات الحسن أو القبح عقلا بنحو يستلزم التكليف شرعا لقاعدة الملازمة ، لوضوح أن منشأ الحسن والقبح المذكورين الملاكات الواقعية التي عرفت إمكان تبدلها بسب القطع ، وليس الالتفات شرطا في تأثر الملاكات الواقعية للحسن والقبح المستلزمين للأحكام الشرعية بقاعدة الملازمة ، كما هو الحال في جميع الأحكام الواقعية المغفول عن موضوعاتها.

نعم ، الملاكات المذكورة كالأحكام التابعة لها لا تقتضي الحسن والقبح العقليين في حق المكلف المستتبعين للمدح والذم ، كما لا تقتضي استحقاق العقاب ولا الثواب إلا بالالتفات إليها ، كما سبق.

وبالجملة : الالتفات إلى موضوع التكليف شرط في استحقاق الثواب أو العقاب على الفعل ، لا في جعل الحكم له إلا بملاحظة ما سبق من أن تعذر الالتفات لموضوع الحكم دائما ـ كما في المقام ـ مانع من جعله ، لعدم صلوحه

٣٣

للداعوية في مقام العمل ، ولا للعقاب والثواب ، وإن تم ملاكه. فلاحظ.

الوجه الثالث : أنه لا إشكال في أن القطع بالحرمة يوجب القبح الفاعلي في الفعل ، الذي هو بمعنى كشف الفعل عن سوء سريرة العبد مع المولى.

بل يأتي أنه يوجب القبح الفعلي ، حيث يوجب كون الفعل نفسه تمردا على المولى وخروجا عن مقتضى العبودية له ، وهو قبيح عقلا. وحينئذ فالقبح المذكور كاشف عن الحرمة الشرعية ، لقاعدة الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي.

ويندفع : بأن الحسن والقبح المستلزمين للحرمة شرعا هما الناشئان من المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام ، لا الناشئان من نفس الحكم الشرعي المتفرعان عليه ، بسبب صدق عنوان الطاعة والمعصية والانقياد والتجري ونحوها مما هو متأخر رتبة عن التكليف ، فانه لا معنى لاستلزامه الحكم الشرعي وكشفه عنه.

وبالجملة : الحسن والقبح المذكوران من سنخ حسن الطاعة وقبح المعصية لا يقتضيان التكليف شرعا ، بل يتفرعان عليه ، فلا بد في إثبات التكليف الشرعي من وجه آخر.

مع أن موضوع الحسن والقبح المذكورين إن اختص بما إذا كان القطع مخطئا لم ينفع جعل التكليف شرعا على طبقهما في تصحيح العقاب بعد عدم الالتفات للعنوان المذكور. بل يمتنع جعل التكليف مع امتناع الالتفات إليه ، لما تقدم من عدم الاثر له ، فيلغو جعله. وإن عم ما إذا كان القطع مصيبا لزم تعدد التكليف في مورد الإصابة ولا يظن من أحد الالتزام به. فتأمل جيدا.

الوجه الرابع : دعوى دلالة الأدلة الشرعية على حرمة الفعل المتجرّى به لمجرد الاعتقاد.

منها : موثقة سماعة ، قال : سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر ، فقال

٣٤

أحدهما : هو ذا ، وقال الآخر : ما أرى شيئا ، قال : «فليأكل الذي لم يستبن [يتبين خ. ل] له الفجر ، وقد حرم على الذي زعم أنه راى الفجر ، إن الله عزّ وجل يقول : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)» (١) ، فقد ادعى شيخنا الأعظم قدّس سرّه ظهورها في ذلك. وكأنه لحكم الإمام عليه السّلام بحرمة الأكل على الذي تبين له ، ومقتضى إطلاقه ثبوت الحرمة حتى في ظرف الخطأ.

ومنها : الاجماع المدعى في موردين ..

الأول : من ظن ضيق الوقت ، حيث ادعي الاجماع على أنه إن أخر الصلاة عصى وإن انكشف سعة الوقت.

الثاني : من سلك طريقا مظنون الضرر ، حيث ادعي الاجماع أيضا على عصيانه ووجوب الاتمام عليه وإن انكشف عدم الضرر.

لكن الجميع ـ مع أنها مختصة بمواردها ـ غير صالحة للاستدلال.

أما الموثقة فلأن التبين في الآية الكريمة إن كان هو الموضوع الواقعي للحرمة كان القطع موضوعيا وخرج عن باب التجري. وإن كان موضوع الحرمة هو طلوع الفجر واقعا والتبين طريق إلى ذلك ، لإمكان الرجوع مع عدمه إلى استصحاب الليل ـ كما هو الظاهر ـ كان مراد الإمام عليه السّلام من الحرمة هي الحرمة في مقام العمل ظاهرا الراجعة إلى تنجز طلوع الفجر عليه وعدم جريان الأصل المرخص ، ليطابق الدليل ، وهو الآية الكريمة ، وذلك يقتضي اختصاص الحرمة الواقعية بحال الإصابة ، ولا تعم الخطا ، ولا دلالة للرواية حينئذ على كون الأكل محرما واقعيا ومعصية حقيقية بسبب الاعتقاد الخاطئ.

وأما الإجماع فيدفعه ..

أولا : أنه غير ثابت ، ولا سيما مع تصريح العلامة قدّس سرّه في محكي التذكرة

__________________

(١) الوسائل ج ٧ : ٨٥ ، باب : ٤٨ ، من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الامساك حديث : ١.

٣٥

بعدم المعصية بتأخير الصلاة لو انكشف سعة الوقت ، وعن النهاية والبهائي التوقف في ذلك. بل عن الشهيد قدّس سرّه في محكي قواعده التنظر في تأثير التجري العقاب والذم ، فضلا عن التحريم الشرعي.

وثانيا : أنه لا يبعد حمله على إرادة أنه بحكم المعصية من حيث التمرد على المولى والعقاب ، لا أنه معصية حقيقية ، بمعنى كونه مخالفة لحكم شرعي واقعي ، لعدم ثبوت كون المعصية في مصطلحهم خصوص المخالفة للتكليف الواقعي. ولعل هذا المعنى عندهم كاف في وجوب الاتمام.

وثالثا : أنه قد يكون مبنيا على ذهابهم إلى كون ظن الضرر وضيق الوقت تمام الموضوع لحرمة السفر ووجوب المبادرة بالصلاة واقعا ، فيخرج عن باب التجري ، وذلك في نفسه وإن كان خلاف ظاهر الأدلة ، إلا أنه لعلهم استظهروا من الأدلة ما لم نستظهره منها. كيف ولازم الحمل على ما ذكر التصويب الذي أجمعوا على بطلانه.

هذا كله مع أن الحكم المذكور لما كان غير ملتفت إليه مع القطع ، لعدم احتمال خطأ القطع لم ينفع في تصحيح العقاب على ما تقدم الكلام فيه في الوجه الثاني. فراجع وتأمل جيدا.

المقام الثاني : في كون نفس التجري بما هو أمر نفسي محرما.

وربما يظهر من بعض كلماتهم امتناع تحريمه شرعا ، لكونه خارجا عن الاختيار ، لأنه عبارة عن القصد والعزم وهما من مبادي الاختيار ، فلو كانا اختياريين لزم التسلسل في الاختيار.

ويدفعه : أن التسلسل إنما يمنع من كون كل اختيار اختياريا ، ولا يقتضي كون كل اختيار خارجا عن الاختيار ، فلا مانع من كون الاختيار الأول المتعلق بنفس الفعل الخارجي ـ مثلا ـ اختياريا بنحو يصح التكليف به.

وبوجه آخر نقول : التسلسل إنما يقتضي عدم توقف الاختيار على

٣٦

الاختيار ، بحيث لا يوجد بدونه ، ولا يمنع من دخوله تحته ، بنحو يمكن أن يستند إلى الاختيار تارة ، وألا يستند إليه اخرى ، وهذا كاف في دخوله تحت التكليف ، إذ لا يعتبر في التكليف إلا القدرة على المكلف به ، وإن كان قد يتحقق من دون إعمالها.

فالإنصاف : أن الاختيار وإن كان مما يغافل عنه كثيرا ، ولا يلتفت إلا إلى موضوعه وهو الفعل الخارجي ، إلا أنه يمكن توجه النفس له وسيطرتها عليه بسبب التأمل في ما يترتب عليه من الآثار ، فيمكن تعلق التكليف به ، كما قد يشهد به ما ورد من الحث على نية الخير والتحذير من نية الشر ، فإنه لو لم يكن واردا لبيان الحكم المولوي الوجوبي او الاستحبابي فلا أقل من وروده للإرشاد ، وذلك أيضا موقوف على كون النية اختيارية ، إذ لا معنى للحث على ما ليس اختياريا. فتأمل.

نعم ، قد يشكل الأمر : بأن المحرم إن كان هو مطلق العزم على المعصية ولو مع الإصابة لزم تعدد المعصية في صورة الإصابة ، ولا يظن بأحد الالتزام به. وإن كان خصوص العزم الخاطئ فهو بسبب امتناع الالتفات إليه حين وجوده يلغو تحريمه ، كما أنه لا يصحح العقاب ، كما عرفت في المقام الأول.

ومنه يظهر أن ما دل من النصوص على الحث على نية الخير والزجر عن نية الشر لو فرض عمومه لمثل العزم الحاصل حين الفعل لا بد أن يحمل على محض الإرشاد ، بلحاظ الحسن والقبح العقليين الثابتين لهما. بل حتى لو فرض دلالة الأدلة على الثواب والعقاب فهي لا تكشف عن الحكم الشرعي ، لعدم التلازم بينهما وبينه ، كما يأتي.

ويأتي التعرض للنصوص المذكورة إن شاء الله تعالى.

المقام الثالث : في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم التكليف المولوي وذلك راجع إلى أن موضوع الاستحقاق لا يختص بالمعصية الحقيقية ،

٣٧

بل يعم التجري ، فتكون المسألة عقلية صرفة ، لأن المرجع في استحقاق العقاب هو العقل لا غير. بخلاف البحث في المقامين الأولين.

وعن السبزواري تقرير حكم العقل المذكور بأنه لا فرق بين المعصية الحقيقية والتجري ، إلا في إصابة الواقع وعدمه ، ومثل ذلك لا يكون فارقا في استحقاق العقاب ، لانه أمر خارج عن اختيار المكلف ، وليس من المكلف إلا الإقدام على ما يعتقد كونه معصية ، وهو اختياري له.

وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه : بأن العقاب على ما لا يرجع بالاخرة إلى الاختيار قبيح ، أما عدم العقاب لأمر خارج عن الاختيار فقبحه غير معلوم.

ولا يخفى أن الكلام ليس في نفس العقاب ، ليقع الكلام في قبحه وعدمه ، بل في استحقاقه.

فالأولى أن يقال : إن من يرى عدم استحقاق المتجري للعقاب يرى أن موضوع الاستحقاق خصوص المخالفة الواقعية التي هي اختيارية لمن يصيب قطعه الواقع ، وعدم الاستحقاق مع الخطأ لعدم الموضوع ، ولا مانع عند العقلاء من كونه غير اختياري ، نظير من لا يتحقق منه العصيان لحبس ونحوه مما يوجب عجزه عن المعصية ، وإن كان بحيث لو قدر لعصى ، مع أنه لا يستحق العقاب عندهم.

والإنصاف : أنه لا مجال للاستدلال في مثل هذه الأمور الارتكازية العقلية التي ليس لها وراء الارتكاز واقع محفوظ يمكن الاستدلال عليه. كما لا مجال لفرض كبريات مسلمة. لتنفع في الاستدلال ، لأن الكبريات لما كانت مأخوذة من العقل امتنع فرضها عليه ، فإنكار بعض صغرياتها أو التشكيك فيها قد يرجع إلى إنكار الكبرى بالنحو الشامل لتلك الصغريات أو التشكيك فيها ، فتسقط عن الاستدلال.

٣٨

نعم ، قد تكون فائدة الاستدلال تنبيه الوجدان وحمله على استيضاح المرتكز الذي قد يغافل عنه أو يلتبس عليه لبعض الشبه التي قد تثار حول الموضوع ، فالعمدة هو الوجدان المترتب على الاستدلال ، لا الاستدلال نفسه.

وحينئذ فنقول : التأمل في المرتكزات العقلية قاض بأن الملاك في استحقاق العقاب التمرد على المولى وهتك حرمته ومجاهرته بذلك ، وكل ذلك حاصل مع المعصية الحقيقية والتجري بنحو واحد ، وخصوصية إصابة القطع الواقع في الأول غير دخيلة ارتكازا في موضوع استحقاق العقاب.

وبعبارة اخرى : مبنى ثبوت الحقوق العقلية والعرفية هو ثبوتها بنحو يقتضي عدم التعمد لمخالفتها ، فيعدّ المقدم على ذلك مخالفا لمقتضى الحق وإن كان مخطئا في اعتقاد ثبوته ، ولا يختص ذلك بحق المولوية ، بل يجري في غيره ، كحق الابوة والاخوة والصداقة والإحسان وغيرها ، فمن اعتقد أن صديقه مريض فتسامح في عيادته عدّ مخالفا لمقتضى حق الصداقة وحوسب حساب المخالف وإن كان مخطئا في اعتقاد مرضه.

ودعوى : أنه لا بد في استحقاق العقاب على الفعل من مبغوضيته للمولى وقبحه ، وأنه لا معنى للعقاب على ما لا يبغضه المولى ، فضلا عما يحبه ، كما لو صادف التجري موافقة تكليف واقعي غير مقصود.

مصادرة ، بل لما كان الاستحقاق في المعصية بحكم العقل فالملاك فيه ارتكازا ما ذكرنا ، الذي لا يفرق فيه بين الموارد المذكورة. على أنه سيأتي أن ذلك موجب لاتصاف الفعل المتجرى به بنحو من القبح هو الملاك في استحقاق العقاب.

وهذا بخلاف ما إذا كان المكلف في مقام التمرد من غير طريق التجري ، كما لو كان بحيث لو قدر لعصى ، فإنه لا يستلزم شيئا من ذلك ، لعدم ابتنائه على المجاهرة للمولى وهتك حرمته ، وإن كان هو قبيحا في نفسه.

٣٩

على أنه لا يبعد عموم ملاك استحقاق العقاب لذلك أيضا ، ولو فرض عدم العقاب عليه فهو من باب الإسقاط ، للتفضل منه تعالى ، على ما سيأتي الكلام فيه في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى.

نعم ، لا يبعد اختصاص ذلك بالمولى الحقيقي الواجب الإطاعة عقلا ، الذي يكون الخضوع له من حقوقه والتمرد عليه ظلم له ، أما الموالي العرفيون أو السلاطين ونحوهم ممن يسطو بقوته فالظاهر أن العقلاء لا يرون لهم العقاب بمقتضى سلطنتهم إلا في ظرف المخالفة الحقيقية ، وأما مع الخطأ فلا موضوع له ، إذ نفس التمرد ليس مما يستهجن عقلا بالفرض حتى يستحق عليه العقاب ، وإنما السبيل للمكلّف مع مخالفة تكليفه ، فمع فرض عدم المخالفة لا موضوع للعقاب.

ومن ثمّ لا نلتزم بأن العقاب المستحق بالتجري على المولى الأعظم هو المجعول على المعصية الحقيقية الذي أوعد به ، لأن موضوع الجعل والوعيد مخالفة التكليف الواقعي لا ما يعم التجري ، فلا يستحق العبد بالتجري إلا العقاب في الجملة ، مع إيكال تقديره للمولى الأعظم المحيط بموازين العدل.

وبالجملة : استحقاق العقاب مع التجري إنما هو في ما إذا كان لزوم الطاعة وترك المعصية بحكم العقل المبني على التحسين والتقبيح من حيث كونهما من حقوق المولى اللازمة له ، وتركهما ظلم له ، ولا يفرق في ملاك ذلك بين المعصية الحقيقية والتجري ، بخلاف ما إذا كان بملاك دفع الضرر من حيث ترتب العقاب الموعود على المعصية ، لأن موضوع الوعيد هو المعصية الحقيقية ، لا ما يعم التجري.

وإذا عرفت هذا ، فلا يهم الكلام في أن القبح في التجري فاعلي فقط ، أو فعلي أيضا ، إذ عدم استحقاق العقاب مع القبح الفاعلي إنما هو لأجل المرتكزات العقلية المدعاة في المقام ، فلا معنى للخروج بها عما عرفت من

٤٠