المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

الموضوع امتنع شمولها لنفسها ، للزوم فرض الموضوع في رتبة سابقة على الحكم. لكن من الظاهر أن القضية المدعى عليها الإجماع في كلام السيد قدّس سرّه حقيقية لا خارجية فلا مانع من شمولها لنفسها.

هذا ، والذي ينبغي أن يقال : إن كان مرجع الإجماع المدعى من السيد قدّس سرّه إلى عدم حجية الخبر من جهة المانع وهو ردع الأئمة عليهم السّلام لمفاسد حادثة مانعة من القبول مع ثبوت مقتضي الحجية بعموم أدلتها أو بسيرة العقلاء أو نحوهما اتجه دخول نقل الإجماع المذكور في أدلة الحجية ، ومانعيته من حجية غيره من الأخبار ، لثبوت مقتضي الحجية فيه وعدم ثبوت الردع عنه ، لامتناع شمولاه لنفسه مع انحصار بيان المانع عن الحجية به ، إذ يستحيل ثبوت ملاك عدم الحجية حينئذ فيه ، فلا بد من قصور الحكم الذي تضمنه عن شمولاه تبعا لقصور ملاكه ، كما تقدم نظيره مفصلا في الطائفة الثالثة من الأخبار التي استدل بها على عدم حجية الخبر.

وإن كان مرجعه إلى عدم الحجية لعدم المقتضي في الخبر لها ، بنحو يرجع إلى عدم حجية الخبر ذاتا ، امتنع دخوله في أدلة الحجية لمنافاته لها ، فيمتنع شمولها له ، بل تكون مكذبة له مانعة من وجود مقتضي الحجية فيه ، لاستحالة حجية المتكاذبين معا ، وحيث كانت الأدلة حجة فرضا امتنع حجيته وكانت مانعة منها. مع أنه يعلم بعدم جواز التعويل عليه إما لكذبه أو لعدم حجيته ، إذ لو كان صادقا كان غير حجة ، لانه كسائر أخبار الآحاد ، فيشمله الحكم الذي تضمنه بعد فرض كونه واردا لبيان قضية حقيقية لا خارجية ، كما تقدم ، وإلا كان كاذبا ، وذلك يسقطه عن الحجية ، كما لو علم إجمالا بفسق الشاهد أو خطئه وكذب خبره.

ومنه يظهر أنه لا وقع لما تقدم من الجواب منهم بأنه يلزم من حجيته عدمها ، إذ في الفرض الأول لا يلزم من حجيته عدمها ، وفي الفرض الثاني لا

٢٤١

مجال لدخوله في أدلة الحجية ذاتا ، كي يحتاج في خروجه إلى المانع المذكور.

ثم إنه قد ذكر غير واحد وجوها أخر في الجواب ، لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما عرفت فراجع ، وتأمل جيدا.

الوجه الثالث : دعوى قصور الإطلاقات عن إثبات حجية الخبر بالواسطة ، الذي هو مورد الابتلاء في عصورنا ، واختصاصها بالخبر من غير واسطة ، الذي ليس بأيدينا شيء منه.

وقد يوجه ذلك بوجوه ..

الأول : انصراف إطلاقات الحجية عن الخبر بالواسطة.

وفيه : أنه لا منشأ للانصراف إلا دعوى : أن منصرف الإطلاقات إهمال احتمال الخلاف في الخبر ، الناشئ من احتمال تعمد المخبر للكذب أو احتمال خطئه ، لاندفاع الأول بفرض عدالته أو وثاقته ، والثاني بأصالة عدم الخطأ أو الغافلة.

وهذا لا يجري في الأخبار بالواسطة ، لعدم انحصار احتمال مخالفة الواقع فيه بذلك ، بل ينشأ أيضا من احتمال كذب الوسائط أو خطئهم ، ولا دافع للاحتمال المذكور.

ومن الظاهر أن الدعوى المذكورة إنما تقتضي التوقف عن الخبر بالواسطة مع عدم العلم بالوسائط ـ كما في المراسيل ـ أو مع ضعفها ، أما مع العلم بها ، وتحقق شرط الحجية فيها ـ كما هو محل الكلام ـ فلا وجه للانصراف بعد اندفاع احتمال الكذب والخطأ فيها بعين ما يندفع به احتمالهما في الخبر بلا واسطة ، فعمومات الحجية تقتضي حجية كل خبر من أخبار الوسائط ، كما لا يخفى.

الثاني : أن إطلاقات الحجية مختصة بما إذا ترتب أثر شرعي على التعبد بمؤدى الحجة ، ولا أثر إلا لخبر الحاكي عن الإمام مباشرة ، لترتب الحكم

٢٤٢

الشرعي عليه ، أما من قبله من رجال السند فلا يثبت بخبر كل منهم إلا إخبار من بعده من دون أن يترتب عليه حكم شرعي.

وفيه : أنه يكفي في ترتب الأثر المصحح للحجية في خبر كل منهم دخله في ترتب الحكم الشرعي ، بأن يترتب عليه الحكم ولو ضمنا ، بضميمة حجية بقية أخبارهم ، لكفاية ذلك في رفع اللغوية ، ولا يعتبر ترتب الأثر الشرعي على كل خبر استقلالا ، وإلا امتنعت حجية خبر الحاكي عن الإمام مباشرة أيضا ، إذ ليس أثره المباشر إلا التعبد بصدور كلام الإمام وليس هو حكما شرعيا ، ولا يترتب عليه الحكم الشرعي إلا بضميمة التعبد بظهوره.

الثالث : أنه لا ريب في تقدم الموضوع على حكمه رتبة ، لأنه كالمعروض له ، ففي مرتبة ورود الحكم لا بد من كون الموضوع متحققا ، ويمتنع ترتب الموضوع على حكمه وتفرعه عليه ، وحيث كان موضوع الحجية في العمومات هو الخبر فلا بد من فرضه في رتبة سابقة عليها ، ومن الظاهر أن خبر من عدا الأول من رجال السند غير معلوم وجدانا ، بل تعبد بضميمة الحكم بحجية خبر من قبله المستفادة من العمومات ، مع أنه موضوع للحجية أيضا ، فيلزم كون الخبر الذي هو موضوع الحجية متفرعا عليها. نعم لا يجري هذا في خبر أول رجال السند ، لأنه معلوم وجدانا ، لا تعبدا.

وفيه : أن خبر كل من الوسائط لا يتفرع التعبد به على حجيته بنفسه ، بل على حجية خبر الحاكي عنه ، ولا محذور في ذلك ، لتعدد الحكم بالحجية تبعا لتعدد الأخبار التي هي موضوع لها. واتحاد الأحكام المذكورة دليلا لا يوجب اتحادها ذاتا ، لانحلال العام إلى أحكام بعدد أفراد موضوعه.

ومنه يظهر أنه لا مجال لتوجيه الإشكال باستلزام شمول العمومات للاخبار بالواسطة لكون الحجية أثرا لنفسها ، إذا لا أثر لحجية خبر الأول إلا إثبات خبر الثاني ثم حجيته لإثبات خبر الثالث ثم حجيته ، وهكذا حتى نصل إلى خبر الحاكي عن الإمام ، مع وضوح التباين بين الأثر والمؤثر ، بل ترتبهما.

٢٤٣

لاندفاعه : بأن أثر الحجية في كل خبر ليس هو حجيته نفسها ، بل حجية الخبر المحكي به ، فالأثر مباين للمؤثر ومترتب عليه.

وأما دعوى : أن الأحكام المذكورة بالحجية المتعددة بتعدد موضوعاتها لما كانت مترتبة في أنفسها امتنع إرادتها من الدليل الواحد وهو عموم الحجية ، لاستحالة لحاظ الامور المترتبة بلحاظ واحد.

فمندفعة : بأن الملحوظ في العام الوارد بنحو القضية الحقيقية ليس هو الأفراد بخصوصياتها المتباينة ، بل هو العنوان بحدوده المفهومية بنحو ينطبق على أفراده المحققة والمقدرة ، وانطباقه حينئذ على أفراده المترتبة قهري ولا محذور فيه. ومن ثمّ تقدم في الوجه الثاني شمول القضية لنفسها مع عدم محذور خارجي.

بل لو كان العام بنحو القضية الخارجية المختصة بالأفراد المتحققة لم يمتنع شمولاه للأفراد المترتبة في أنفسها ثبوتا ، كالعلة والمعلول ، لعدم لحاظ ترتبها في مقام الحكاية عنها بالعام ، بل الملحوظ مجرد فرديتها له ، وهي متساوية من الحيثية المذكورة.

نعم ، لو كان بعضها ثبوتا متأخرا رتبة عن صدور العام أو إعماله امتنع شمول العام له ، لعدم كونه من الأفراد المتحققة في مرتبة صدور العام وحكايته عن أفراده.

إلا أن الأخبار بالواسطة ليست كذلك ، لوضوح أن أخبار الوسائط وإن لم تكن جميعها محرزة وجدانا ، بل لا يحرز كل منها إلا تعبدا بسبب إعمال عموم الحجية في الخبر الذي قبله الحاكي عنه ، إلا أنها ليست مترتبة ثبوتا على إعمال العام ، بل مترتبة عليه إثباتا ، فهي بأجمعها من الأفراد المحققة في مرتبة صدور العام ومشمولة له واقعا ، وإن كان إحراز فردية كل منها متأخرا رتبة عن إعمال العام في الخبر الحاكي له ، ولا محذور فيه.

٢٤٤

نعم ، قد يقال : إذا كان الدليل متعرضا لموضوع حكم دليل آخر ومنقحا له يكون حاكما على ذلك الدليل ومتقدما عليه رتبة ، وحيث يمتنع اتحاد الحاكم والمحكوم ، لاستلزامه تقدم الدليل على نفسه ونظره لها ، يمتنع دخول الحكم بالحجية في جميع أخبار الوسائط تحت دليل واحد ، لأنه حيث كان كل منها منقحا لموضوع الآخر كان دليله حاكما على دليله ، فيلزم اتحاد الحاكم والمحكوم.

لكنه مندفع : بأن الترتب والتحاكم في مثل المقام إنما يكون بين نفس الحكمين ، لترتب موضوع أحدهما على الآخر إثباتا ، ونسبته إلى الدليلين بالعرض ، وقد عرفت أنه لا مانع من شمول العام للأحكام المترتبة ثبوتا فضلا عن المترتبة إثباتا ، وإنما يكون التحاكم بين الدليلين حقيقة فيما لو كان أحدهما ناظرا للآخر وشارحا له بما هو دليل ، وفي مثله يمتنع اتحاد الدليل الحاكم والمحكوم. وتمام الكلام في مبحث التعارض.

ثم إن هذه الوجوه الثلاثة من الإشكال مختصة بعمومات حجية الخبر القابلة للتخصيص ، ولا تجري في الأدلة اللبية من الإجماع والسيرة ونحوهما ، إذ هي ـ لو تمت ـ قطعية لا تبقي مجالا للوجوه المذكورة ، وإلا لم تصلح للدليلية ، فلا موضوع للإشكال عليها بما تقدم ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في آية النبأ ، وقد أطلنا الكلام فيها تبعا لما ذكره مشايخنا في المقام. ومن الله سبحانه نستمد العون ، وبه الاعتصام.

الآية الثانية : التي استدل بها على حجية خبر الواحد قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١).

ولعل الأولى في تقريب الاستدلال بها أن يقال : هي ظاهرة في وجوب

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٢٤٥

الحذر تبعا لظهورها في وجوب الإنذار ، لأنها ظاهرة في كونه غاية له ، بمقتضى كلمة (لعل) المسوقة مساق التعليل ، والعلة اذا كانت مما يترتب على المطلوب كانت غاية له مطلوبة مثله.

وحينئذ فوجوب الحذر راجع إلى حجية قول المنذر بالأحكام الإلزامية القابلة للحذر. ويتم في غيرها بعدم الفصل ، بل بفهم عدم الخصوصية ، بعد ظهورها في كون الحذر من الامور المترتبة طبعا على الانذار ، لا أنها في مقام تشريعه بعده تعبدا تأسيسا من الشارع ، وذلك إنما يكون بلحاظ السيرة العقلائية المرتكز مضمونها في الأذهان ، فيكون ظاهر الآية الشريفة امضاءها والجري عليها ، ومن الظاهر عدم خصوصية الأحكام الإلزامية في السيرة المذكورة.

وبذلك يندفع توهم أن الحذر كما يكون بقبول الخبر وحجيته كذلك يكون بالعمل عليه احتياطا ، لتنجز الواقع المحتمل به ، فغاية ما تدل عليه الآية الشريفة منجزية الخبر للتكليف المحتمل ، وهو أعم من حجيّته عليه ، وحيث لا موضوع لذلك في الخبر الذي لا يتضمن تكليفا كان خارجا عن مدلولها.

وجه الاندفاع : أن ذلك لا يناسب ظهور الآية في إمضاء أمر ارتكازي ، كما تقدم ، لأن الأمر الارتكازي الذي جرت عليه سيرة العقلاء هو حجية الخبر وقبوله ، لا وجوب الاحتياط معه ، بل هو ـ لو تم ـ يحتاج إلى جعل شرعي تأسيسي لا يناسب مساق الآية الشريفة.

مضافا إلى المفروغية ظاهرا عن الملازمة بين وجوب الحذر عقيب الخبر وحجيته ، وذلك كاف في المطلوب لو فرض قصور الآية بمدلولها اللفظي عن إفادته.

وبما ذكرنا من ظهور الآية في إمضاء سيرة العقلاء يظهر وجه اختصاصها بالخبر الموثوق به على ما يأتي تفصيله ، لعدم بناء العقلاء على حجية كل خبر ، فلا حاجة معه إلى طلب الدليل على التخصيص.

٢٤٦

هذا ، وقد يستشكل في الاستدلال المذكور بوجوه ..

الأول : ما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه من عدم إطلاق في الآية يقتضي وجوب الحذر عند الإنذار ، لأنها مسوقة لبيان وجوب النفر ، لا لبيان كون غاية الإنذار الحذر ، ولعل وجوبه مشروط بالعلم.

وفيه : أن سوق الآية لبيان وجوب النفر لا ينافي سوقها لبيان ترتب الإنذار على الحذر وكونه غاية له ، كما هو مقتضى تركيبها الكلامي.

نعم ، قد يمنع كون الإطلاق مقتضى تركيبها الكلامي بظهور (لعل) في عدم ملازمة ما بعدها لما قبلها وإمكان تخلفه عنه ، فلعل المراد لزوم الحذر في الجملة ولو على تقدير حصول العلم من الإنذار ، بأن تعدد المنذرون أو قامت القرينة على صدقهم. نظير قولك : انصح زيدا لعله يقبل ، وأخبره لعله يصدقك. ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في منع الاطلاق.

لكنه مندفع : بأن (لعل) إنما تقتضي عدم الملازمة بين الحذر نفسه والإنذار ، وهو لا ينافي مطلوبية الحذر عقيب الإنذار بمقتضى كونه غاية له ، الظاهر في مطلوبيته بمجرده ، نظير قولك : أحسن لزيد لعله ينفعك ، وادفع له عشرة دراهم لعله يتعفف عن الناس ، فإنه ظاهر في كون الإحسان ودفع الدراهم كافيين في حسن النفع والاستغناء من زيد بلا حاجة إلى أمر آخر ، واحتمال دخله مدفوع بالإطلاق.

ولا بد أن يكون عدم ملازمة الغاية لذيها المستفاد من (لعل) لأمر آخر كقصور المكلف ، لعدم علمه بكون الشيء غاية للواجب واجبا بتبعه ، كما لعله الحال في مثل : أخبره لعله يصدقك ، أو تقصيره لتجاهله لذلك عصيانا ، كما هو الظاهر في المقام ، لأن الأمر بالنفر والتفقه والإنذار والحذر عام لا يجهله أحد ، خصوصا مع ظهور الآية في كون ذلك مقتضى طبيعة الإنذار ، نظرا للسيرة العقلائية المشار إليها آنفا.

٢٤٧

الثاني : أن الحذر لم يجعل غاية لمطلق الإنذار وإن كان من واحد ، لينفع في ما نحن فيه ، بل لإنذار الطائفة ، وإخبارهم يوجب غالبا العلم مع فرض كونهم ثقات ، خصوصا في عصر صدور الآية ، بلحاظ قرب الناس من صاحب الشريعة ، الموجب غالبا لانكشاف حال الخبر ، لتيسر القرائن.

فلا تكون الآية واردة جريا على سيرة العقلاء في الاعتماد على الخبر ، بل لبيان لزوم الاستعانة بالغير في تحصيل العلم لمن لا يتيسر له تحصيله بنفسه. ويشهد به ما ورد من الاستشهاد بها على لزوم النفر لمعرفة الإمام مع أنه لا بد فيه من العلم.

وأجاب عن ذلك بعض مشايخنا بأن ظاهر مقابلة الجمع بالجمع إرادة الاستغراق والتفريق ، فالمعنى أن كل واحد من الطائفة ينذر بعضا من قومه ، لا أن مجموع الطائفة ينذرون مجموع القوم ، وهو الذي يقتضيه طبع الحال ، إذ الغالب عدم اجتماع الطائفة المتفقهة في ناد واحد ، بل يذهب كل إلى خاصته فينذرهم بما تفقه فيه.

وفيه : أن ظهور مقابلة الجمع بالجمع في التفريق مختص بما اذا اخذ فيه عنوان لا يصدق على الجمع ، كما في مثل : أكرموا جيرانكم ، وأدبوا اولادكم ، لوضوح أن علاقة الجوار والبنوة لا تقوم بالمجموع من حيث المجموع بل بكل جار وجاره وأب وابنه بنحو التفريق ، دون مثل المقام مما كان نسبة القوم لأفراد الطائفة نسبة واحدة ، فإن حمله على التفريق ـ وإن كان ممكنا ـ يحتاج إلى دليل.

بل الظاهر أنه لا مجال للبناء عليه في المقام ، ولذا لا يظن من أحد دعوى أنه لو قصر بعض المتفقهين فلم ينذر لم يجب على الباقين استيعاب الباقين بالإنذار بل لهم الاكتفاء بإنذار بعضهم ، كما هو مقتضى التفريق المدعى.

وأما كون ذلك مقتضى طبع الحال فهو لا يخلو عن غموض ، لإمكان أن تكون سيرتهم في تلك العصور على الاجتماع في نوادي رؤسائهم ونحوها مما

٢٤٨

يضم جماعتهم ، كما هو الظاهر من سيرة أهل القرى والاحياء المبنية على البساطة والبعد عن الحضارة الحديثة والمدنية المعقدة التي باعدت بين الناس وأشغلت كلا بنفسه.

نعم ، ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن التكليف بالتفقه والانذار والحذر استغراقي انحلالي لا مجموعي ارتباطي ، فيجب على كل أحد القيام بها وإن عصى غيره.

فإن تم كان قرينة في المقام على حجية الخبر من المنذرين بنحو صرف الوجود الشامل للواحد ، لأن الحذر إذا كان غاية لوجوب الإنذار بنحو الانحلال دل على كفاية الانذار من شخص واحد في وجوب الحذر الملازم لحجيته.

وما ذكره مقطوع به في الحذر ، وهو الظاهر في التفقه والإنذار ، كما هو الحال في كل الخطابات الشرعية الموجهة للجمع.

ومن ثم استفيد من الآية الشريفة وجوب الاجتهاد وتبليغ الأحكام كفاية على كل أحد ولو لم يقم به غيره.

وعلى هذا فظهور الآية في عموم الحجية تبعا لمقتضى سيرة العقلاء مستحكم. فتأمل جيدا.

وأما الاستشهاد في الأخبار بالآية الشريفة لوجوب النفر لمعرفة الامام فهو بلحاظ ظهورها في جواز الاستعانة بالغير في الفحص وعدم وجوب مباشرة كل أحد له ، لا لظهورها في اعتبار المعرفة العلمية ، بل اعتبارها في معرفة الإمام مستفاد من دليل خاص غير الآية.

الثالث : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن التفقه الواجب إنما هو معرفة الأحكام الشرعية ، والإنذار الواجب إنما يكون بها ، والحذر لا يجب إلا عقيبه ، لا عقيب كل إنذار ، فإذا لم يحرز المكلف المنذر أن الإنذار بالأحكام الشرعية لاحتمال خطأ المنذر أو تعمده الكذب لا يحرز تحقق موضوع وجوب الحذر ، ولا يحرز تحقق موضوعه إلا بالعلم بموافقة الإنذار للواقع ، فهو نظير : أخبر زيدا

٢٤٩

بأوامري لعله يمتثلها.

وفيه : أنه لا إشكال في أن الحذر إنما هو من الأحكام الواقعية الشرعية ، وهو لا ينافي ظهور الآية في كون الإنذار طريقا شرعيا لمعرفتها وحجة عليها ، وليس المراد بالإنذار بالأحكام الشرعية الذي هو حجة الإخبار عنها ، وهو أمر وجداني لا يتوقف على صدقه ، ولو توقف وجوب الحذر على العلم بصدقه لغى جعل حجيته.

وأما المثال الذي ذكره فهو يفترق عن المقام بأن تكليف الامر للرسول بالتبليغ غير معلوم للمكلف ، فلا طريق له إلى إحراز حجية تبليغه ، فلا بد من تنزيله على صورة حصول العلم بالواقع منه ، بخلاف المقام ، فإن التكليف بالنفر والتفقه والإنذار والحذر عام لا يجهله أحد ، كما أشرنا إليه قريبا ، فيصلح لأن يكون بيانا على حجية الإنذار.

الرابع : ما ذكره هو أيضا على تفصيل لا مجال لاستقصائه ، وسبقه إليه في الفصول.

والأولى تقريبه : بأن التفقه والإنذار من وظيفة المفتي لا الراوي ، لأن التفقه في الدين عبارة عن معرفة أحكامه ، وهو لا يكون بمجرد تحمل الرواية وحفظها ، بل باستحصال الحكم منها ، لتمامية دلالتها وعدم المعارض لها ، كما أن الإنذار عبارة عن الإخبار مع التخويف ، وهو لا يكون بمجرد الإخبار بكلام الإمام ، بل بالإخبار بالتكليف المستلزم للعقاب.

نعم ، يظهر من رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام صدق التفقه والانذار بمجرد تحمل الرواية وروايتها ، لقوله عليه السّلام : «إنما امروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزّ وجل ... مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة عليهم السّلام إلى كل صقع وناحية ، كما قال الله عزّ وجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...)(١).

لكن الاعتماد عليها في الخروج عن ظاهر الآية راجع إلى الاستدلال

__________________

(١) الوسائل ج ٧ ، ٨ ، باب : ١ من أبواب وجوب الحج ، شرائطه ، حديث : ١٥.

٢٥٠

بالسنة لا بالكتاب ، كما نبه له في الجملة شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الإنذار وإن كان هو الاخبار المشتمل على التخويف ، إلا أنه لا يعتبر تصريح المخبر بالتخويف ، بل يكفي تضمن الخبر له واشتماله عليه وإن سيق لغيره ، ولذا يصدق على الفتوى مع عدم تصريح المفتي بالتخويف ، ولا فرق بين الفتوى والرواية في أن كلا منهما يشتمل على التخويف ضمنا ، فإن الأخبار بالوجوب يتضمن الأخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب.

ففيه : أن اشتمال الخبر على التخويف ضمنا وإن كان كافيا في صدق الإنذار ، إلا أنه لا بد من قصد المخبر له ، لابتناء خبره على الملازمة بين الخبر به والعقاب ، بحيث يرجع الاخبار به للإخبار بالعقاب ، وذلك مختص بالمفتي ، ولا يجري في الراوي الناقل لألفاظ الحديث من دون تعهد بمضمونه ، وأما الراوي المتعهد بالمضمون فهو إن كان منذرا أيضا ، إلا أن ظاهر الآية حجية خبره من حيث إنذاره لا مطلقا ، وهو راجع إلى قبول قوله في ترتب العقاب الذي يختص بالعامي الذي يجب عليه تقليده ، وأما قبول المجتهد لإخباره عن كلام الإمام مجردا عما تضمنه من التخويف فلا دلالة للآية عليه بوجه.

ومنه يظهر اندفاع ما في الفصول من أنه إذا ثبت من الآية حجية رواية الراوي المذكور لصدق الإنذار عليها ثبت حجية رواية غيره بعدم القول بالفصل.

إذ فيه : أن حجية روايته في حق المجتهد لم تثبت من الآية حتى يتعدى لغيرها بعدم الفصل ، وحجيتها في حق العامي راجعة إلى حجية فتواه ، ومن الظاهر ثبوت الفصل بينها وبين حجية رواياته في حق المجتهد ، فضلا عن روايات غيره.

اللهم إلا أن يدعى دلالتها على حجية الرواية بتنقيح المناط أو بالأولوية العرفية ، لأن الرواية لما كانت من مقدمات الفتوى فحجية الفتوى مع ابتنائها

٢٥١

عليها وعلى الحدس تقتضي حجيتها بالفحوى.

وفيه : أن ذلك إنما يتم لو كانت الفتوى حجة في حق المجتهد كالرواية ، أما حيث كانت حجة في حق العامي الذي ينحصر معرفته بالوظيفة الفعلية بها فحجيتها في حقه لا تستلزم حجية الرواية في حق المجتهد لا عقلا ولا عرفا. فتأمل جيدا.

فالانصاف أنه لا دافع للإشكال المذكور ، ومن ثمّ كان الاستدلال بالآية الشريفة على حجية الفتوى أولى من الاستدلال بها في المقام.

الآية الثالثة : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(١).

بتقريب : أن حرمة الكتمان ووجوب البيان ظاهر في وجوب القبول ، وإلا لغى. ومن ثم استدل في المسالك على حجية خبر المرأة عما في رحمها بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(٢)

وفيه : أن وجوب الإظهار لا يلغو مع عدم حجيته ، لإمكان كون فائدته مجرد اثارة الاحتمال الملزم بالفحص ، أو الاحتياط ، بل قد يوجب العلم أو يكون بعض السبب له ، وذلك فائدة مهمة.

نعم ، قد تدعى الملازمة العرفية بين وجوب الإنذار ووجوب القبول وإن لم يكن بينهما ملازمة واقعية ، لكنها ـ لو تمت ـ مختصة بما إذا كان الغالب انحصار طريق معرفة الشيء بالإبلاغ المأمور به ، ولم يكن الغالب فيه افادة العلم ، ولعل منه مورد كلام المسالك ، دون المقام ، لعدم انحصار المعرفة باخبار الآحاد ، خصوصا في عصر صدور الآية.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٩.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٨.

٢٥٢

مع أن الآية مختصة بالإخبار عما أنزله الله تعالى ، وهو وظيفة المجتهد دون الراوي ، لأنه إنما يحكى كلام الإمام ، وهو وإن كان ملازما لما أنزله الله تعالى ، إلا أنه غير محكي له ، كما تقدم نظيره في الآية السابقة. فلاحظ.

الآية الرابعة : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ، فانه ظاهر في أن وظيفة الجاهل السؤال من العالم والقبول عنه ، فيكون دالا على إمضاء سيرة العقلاء على قبول خبر الثقة ، لورودها في مقام الاحتجاج على الكفار ، وإبطال زعمهم في امتناع بعث البشر ، فإن مقام الاحتجاج لا يناسب اللجوء للقضايا التعبدية المحضة ، بل ينبغي الاستعانة فيه بالقضايا الارتكازية العامة التي لا يتسنى للخصم إنكارها.

ومنه يظهر الوجه في اختصاصها بما إذا كان المخبر ثقة ، كما تقدم في آية النفر نظيره.

كما يظهر اندفاع ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وسبقه إليه في الفصول من أن ظاهر الآية بقرينة السياق إرادة علماء أهل الكتاب ، كما عن بعض المفسرين.

إذ فيه : أن ورود القضية مورد الإمضاء لسيرة العقلاء الارتكازية موجب لإلغاء خصوصية موردها عرفا لو فرض عدم العموم فيها لفظا.

ومثله في الإشكال ما ذكره قدّس سرّه من أنه ليس المراد بأهل العلم مطلق من علم ولو بسماع رواية من الإمام ، وإلا لدلّ على حجية قول كل عالم بشيء ولو بطريق الحس ، مع أنه يصح سلب هذا العنوان عنه ، بل المتبادر من وجوب سؤال أهل العلم هو سؤالهم عما يعدون عالمين به ، فينحصر مدلوله في التقليد دون الرواية.

فإنه يندفع : بأن الظاهر صدق العنوان على الرواة لا خصوص المجتهدين عملا بإطلاق العلم الشامل للعلم الحسي ، وهو المناسب لمورد الآية ، لوضوح

__________________

(١) سورة النمل : ٤٣.

٢٥٣

أن السؤال فيها ليس عن أمر حدسي نظري ، بل عن أمر حسي ثابت بطرق حسية أو ملحقة بالحس ، لوضوحها. فتأمل.

وأما ما ذكره من صحة سلب العنوان عمن علم بشيء بطريق الحس. فهو مبني على تعارف إطلاق العنوان على خصوص العلم بطريق الحدس ، بل خصوص العلم بالأحكام الشرعية ، من دون اختصاص له بذلك لغة ، ولا موجب لذلك في الآية الشريفة ، خصوصا مع ظهورها في إمضاء السيرة الارتكازية المشار إليها.

نعم ، يشكل الاستدلال لوجهين ، أشار إليهما شيخنا الأعظم قدّس سرّه ..

الأول : أنه لا ظهور لها في كون السؤال لأجل العمل ، لتدل على حجية الجواب عرفا. بل لعل الظاهر منها كون السؤال لأجل تحصيل العلم ، لأن ظاهرها الإنكار على من امتنع عن الإذعان بجواز بعث الرسل من البشر ، فيكون الأمر بالسؤال لتحصيل الإذعان المذكور ، لا لأجل العمل بالجواب وإن لم يوجبه ، وهو لا ينافي كون القضية ارتكازية ، إذ الارتكاز كما يقتضي العمل بخبر الثقة وإن لم يحصل منه العلم ، كذلك يقتضي السعي لتحصيل العلم في مورد الحاجة إليه بالسؤال من الغير والاستعانة به وعدم الاقتصار على ما يدركه الإنسان بنفسه مستغنيا عن غيره. ولا أقل من إجمال الآية من هذه الجهة فلا مجال للاستدلال بها.

الثاني : أنه لا بد من رفع اليد عن ظهور الآية البدوي في إرادة مطلق العلماء من أهل الذكر بالنصوص الكثيرة الظاهرة ، بل الصريحة في اختصاص أهل الذكر بالأئمة عليهم السّلام وعدم شمولها لغيرهم بالنحو الذي ينفع في ما نحن فيه ، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر قدّس سرّه قال : ان من عندنا يزعمون أن قول الله عزّ وجل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) انهم اليهود والنصارى ، قال : «إذا يدعوكم إلى دينهم» قال : قال بيده إلى صدره : «نحن أهل الذكر ونحن

٢٥٤

المسئولون» وغيره (١) ، وقد تضمن بعضها أن النبي صلّى الله عليه وآله هو الذكر والأئمة عليهم السّلام أهله ، فلا بد من رفع اليد عن ظهور الآية بذلك.

ودعوى : أن ذلك من التفسير بالباطن فلا يمنع من حجية الظهور.

مدفوعة : بان التفسير بالباطن إنما لا ينافي حجية الظهور إذا لم يرد مورد الردع عنه ، كما تضمنته النصوص المذكورة ، مع أن كون التفسير المذكور من التفسير بالباطن لا يناسب مساق النصوص المذكورة.

ومثلها ما ذكره بعض مشايخنا من أن ذلك من باب تطبيق الكلي على مصداقه فلا تنافي عمومه لغيره ، وقد ورد عنهم عليهم السلام أنه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن ، وأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر.

لاندفاعه : بأنه لا يظهر من النصوص المذكورة محض تطبيق أهل الذكر عليهم عليهم السّلام ، ولا نزولها فيهم عليهم السّلام ، بل اختصاصها بهم عليهم السّلام ، كما ذكرنا ، فتكون كسائر الآيات المختصة بهم عليهم السّلام كآيات الولاية والمودة والتطهير ، التي لا يلزم موتها ، لأنهم عليهم السّلام باقون ما بقي القرآن مرجعا للناس وحجة عليهم.

الآية الخامسة : قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢).

وتقريب الاستدلال بها : أن بعض المنافقين المؤذين لرسول الله صلّى الله عليه وآله لما طعن في النبي صلّى الله عليه وآله بأنه أذن يقبل كل ما يسمع ، ويصدق كل أحد فلا يخشى منه وصول الخبر ، لانا ننكره فيصدقنا ، رد عليهم تعالى بأن تصديقه لكم ليس حقيقيا ، بل صوري ، وهو خير لكم إذ لولاه لأوقع بكم عقابه ، وليس إيمانه

__________________

(١) يراجع في النصوص المذكورة اصول الكافي ج ١ : ص ٢١١ ، والوسائل ج ١٨ ، باب : ٧ من أبواب صفات القاضي

(٢) سورة التوبة : ٦١.

٢٥٥

الحقيقي إلا بالله وللمؤمنين ، فهم الذين يصدقهم تصديقا حقيقيا دونكم. فيدل ذلك على رجحان تصديق المؤمنين ، وصحة الاعتماد على خبرهم ، وحجيته.

وأما حمل التصديق للمؤمنين فيها على التصديق الصوري وإظهار القبول من دون تصديق حقيقي ، تأكيدا لما تضمنه قوله تعالى : (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) الذي لا يراد به التصديق الحقيقي ، لأن المخاطب به هم المنافقون الذين يعلم عدم تصديق النبي صلّى الله عليه وآله لهم ـ كما أطال الكلام فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ فهو بعيد عن ظاهر الآية جدا ، لظهور سياقها في مدح المؤمنين بتصديقه صلّى الله عليه وآله لهم ، وهو يناسب إرادة المؤمنين الحقيقيين ، لا ما يعم المنافقين ، بل إطلاق عنوان المؤمن على ما يعم المنافق في مثل هذه الآية الواردة لذم المنافقين بعيد جدا غير مناسب لذيلها المفصل بين المؤمنين والمؤذين لرسول الله صلّى الله عليه وآله في الرحمة والعذاب.

ومثله في الإشكال دعوى : أن اختلاف تعدية فعل الايمان لله تعالى والمؤمنين ، حيث عدي له تعالى بالباء ولهم باللام قرينة على إرادة التصديق الصوري من الإيمان للمؤمنين ، الراجع إلى قبول عذر المعتذر ورفع العقاب عنه المستلزم لامانه ، لما قيل من أن اختلاف التعدية للفرق بين إيمان التصديق. وإيمان الامان.

لاندفاعها : بعدم تبادر ذلك في اللام ، بل الظاهر منها إرادة التصديق الحقيقي ، كما في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)(١) ، وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(٢) ، وقوله تعالى : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(٣).

__________________

(١) سورة يوسف : ١٧.

(٢) سورة الاسراء : ٩٠.

(٣) سورة الشعراء : ١١١.

٢٥٦

واختلاف التعدية ظاهر في أن المراد بالإيمان به تعالى ليس هو تصديقه كالمؤمنين ، بل التصديق بوجوده كالإيمان بالاخرة ، وإن كان ذلك خلاف ظاهر صحيح حريز الآتي ، لكن الصحيح لا ينافي ما ذكرنا في تصديق المؤمنين ، الذي هو محل الكلام.

وبالجملة : ما ذكرناه في معنى تصديق المؤمنين هو الظاهر المناسب لسياق الآية ، وحكي عن بعض المفسرين.

ويشهد به صحيح حريز المتضمن استبضاع اسماعيل بن الصادق عليه السّلام رجلا من قريش بلغه أنه يشرب الخمر ، فأكل الرجل المال ، فدعا اسماعيل في الطواف بالأجر والخلف ، فقال له الصادق عليه السّلام : «يا بني فلا والله مالك على الله هذا ، ولا لك أن يأجرك ، ولا يخلف عليك ، وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته. فقال اسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر ، إنما سمعت الناس يقولون ، فقال : يا بني إن الله عزّ وجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدق الله ويصدق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم. ولا تأتمن شارب الخمر ، إن الله عزّ وجل يقول في كتابه (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) فأي سفيه أسفه من شارب الخمر ...» (١) وقريب منه مرسلة العياشي (٢).

وحملهما على التصديق الصوري بعيد عن الظاهر جدا ، ولا سيما مع تطبيق الإمام عليه السّلام شارب الخمر على الرجل المذكور ، بل لا مجال له في رواية عمر بن يزيد ، قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : أرأيت من لم يقرّ بأنكم في ليلة القدر كما ذكرت ولم يجحده؟ قال : «اما إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر. وأما من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتى يسمع ، ثم قال أبو

__________________

(١) الوسائل ، باب : ٦ من أبواب الوديعة ح ١.

(٢) تفسير العياشي حديث ٨٣ من تفسير سورة براءة : ج ٢ ص ٩٥.

٢٥٧

عبد الله عليه السّلام : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين» (١).

ومما ذكرنا يظهر مواقع الإشكال في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام فراجع.

ثم إنه لو تم ما ذكرنا فلا إطلاق للآية الشريفة يقتضي عموم تصديق المؤمنين ، لعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهة ، بل في مقام أنه صلّى الله عليه وآله لا يصدق غير المؤمنين ومدح المؤمنين ، بذلك ، وهو لا ينافي اعتبار بعض الامور في تصديقهم.

نعم ، قد يستفاد ورودها للعموم بضميمة الاستدلال بها في الروايتين المتقدمتين ، خصوصا الاولى ، لتعقيب الاستدلال فيها ببيان الكبرى المذكورة لكنه خروج عن الاستدلال بالكتاب إلى الاستدلال بالسنة.

هذا تمام ما عثرنا عليه من الآيات التي استدل بها في المقام. وقد عرفت عدم نهوض ما عدا الأخيرة منها بالمطلوب.

الثاني : من الادلة التي استدل بها في المقام : السنة ، وهي على طوائف ..

الطائفة الاولى : ما ورد في الخبرين المتعارضين ، وهي عدة أخبار ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، وموثقة سماعة ، ومرسلات الكليني ، وخبري المعلى بن خنيس والميثمي ، وصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، وخبر الحسين السرى ، وروايات الحسن بن الجهم ، ورواية محمد بن عبد الله ، ومكاتبة محمد بن علي بن عيسى ، ومرسلتي الحارث بن المغيرة وسماعة بن مهران ، ومرسلة الاحتجاج (٢) ، ومرفوعة زرارة المروية عن عوالي اللئالي ، ويبلغ مجموعها ثماني عشرة رواية.

__________________

(١) الوسائل ج ١ باب : ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث ١٩.

(٢) راجع في الأخبار المذكورة الوسائل ج ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ١ ، ٥ ، ٦ ، ٩ ، ١٩ ، ٨ ، ٢١ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٤٠ ، ٤٨ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٣.

٢٥٨

وهي وإن اختلفت من حيث الحكم بالتخيير والترجيح والتوقف ، إلا أن ظاهرها المفروغية عن قبول الرواية لو لا التعارض.

ويبعد حملها على خصوص ما يقطع بصدوره ، لندرة التعارض معه ، بل لو فرض القطع بدوا بصدور الرواية إلا أن الالتفات إلى وجود المعارض لها يزيل القطع غالبا ، خصوصا مع التنبيه في بعضها على كون الراويين ثقتين ، فإنه كالصريح في أن المقتضي للعمل هو الوثوق بالراوي. مع أن اشتمال بعضها على المرجحات السندية ـ كالأوثقية ـ مانع من حملها على صورة العلم ، إذ لا موضوع لها معه.

الطائفة الثانية : ما تضمن الإرجاع للشيعة أو للعلماء والرواة ، وكتبهم ، كالتوقيع الشريف عن الحجة عجل الله فرجه : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» وكتاب الكاظم عليه السّلام لعلي بن سويد : «وأما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ...» وفي كتاب الهادي عليه السّلام لأحمد بن حاتم بن ماهويه وأخيه : «فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى» (١).

ودعوى : اختصاصها بالفتوى ، في غير محلها ، فإن الرجوع للرواة في الأول لو لم يختص بأخذ الروايات منهم فلا أقل من عمومه لها ، فتأمل.

كما أن معالم الدين في الثاني تشمل الروايات أو تختص بها ، كما أن الظاهر شمول الثالث لها بإطلاقه.

وأوضح منها في ذلك ما تضمن جواز الرجوع للكتب ، كموثق عبيد بن زرارة ، قال لي أبو عبد الله عليه السّلام : «احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها» ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٩ و ٤٢ و ٤٥.

٢٥٩

وخبر المفضل بن عمر ، قال لي أبو عبد الله عليه السّلام : «اكتب وبث علمك في إخوانك ، فإن مت فأورث كتبك بنيك ، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم» (١) ، فإنهما كالصريحين في النظر إلى زمان الغيبة ونحوه مما تنقطع فيه طرق العلم وينحصر الامر في الكتب.

وحملها على إرادة الرجوع إليها في خصوص ما يورث العلم بعيد جدا عن الواقع الخارجي ، ضرورة قلة المتواترات في الكتب ، وانقطاع القرائن القطعية المحتفة بأخبار الآحاد بتقادم الزمان. بل في غالب موارد تواتر الروايات او احتفافها بالقرائن القطعية لها يحتاج إلى الكتب للاتفاق على الحكم. فهما ظاهران في المفروغية عن قبول خبر الواحد المودع في الكتب.

ومثلهما في ذلك رواية محمد بن الحسن بن أبي خالد أو حسنته ، قلت لأبي جعفر الثاني عليه السّلام : جعلت فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السّلام وكانت التقية شديدة ، فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم ، فلما ماتوا صارت تلك الكتب إلينا ، فقال : «حدثوا بها ، فانها حق» (٢) فإنه لو لا المفروغية عن حجية ما يرويه المشايخ في مقام العمل لم يحتج إلى الاستئذان من الإمام عليه السّلام في رواية الكتب المذكورة ، إذ روايتها لمجرد إثبات الرواية وحفظها ، لتكون بعض السبب الموجب للعلم لا يحتاج إلى الاستئذان المذكور ، كما لا يخفى.

بل لا يبعد أن يكون قوله عليه السّلام : «فإنها حق» أنها كتبهم فلا تحتاج رواية ما عنهم إلى حديثهم بها ، لا ان ما تضمنته حق واقعا ، ليكون شهادة الإمام بحقيقة الكتب المذكورة قرينة قطعية على صحتها ، فتخرج عن محل الكلام.

ومثلها في ذلك ما عن الحسين بن روح (رضوان الله عليه) ، حيث سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني فقال : «أقول فيها ما قاله العسكري عليه السّلام في كتب بني

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث ١٧ ، ١٨.

(٢) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث ٢٧.

٢٦٠