المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

وفي عدم ثبوته للطبيعة من حيث هي بنحو يقتضي سريانه لتمام أفرادها الذي يكفي فيه عدم تقييدها ، لا في عدم ثبوته للطبيعة المقيدة بالاطلاق ليرد عليه أن التقييد بأحد أمرين لا يقتضي نفي دخل الآخر.

وأما الثالث : فلان الخروج عن مقتضى المفهوم في بعض الموارد لا ينافي ثبوته بنحو يرجع إليه مع عدم الدليل على خلافه ، كما هو الحال في أكثر الظهورات الكلامية ، كالعموم والاطلاق وغيرها.

فالعمدة في إبطال الوجه المذكور ما عرفت.

وأما الوجه الثاني فلأن الظاهر كون الشرطية في المقام مسوقة لتحقيق الموضوع ، فلا يكون لها مفهوم.

والعمدة في ذلك : ان وجوب التبين في الجزاء لما كان كناية عن عدم حجية الخبر فمن الظاهر أن المراد به عدم حجية خصوص خبر الفاسق الذي هو موضوع قضية الشرط ، ومن الظاهر أن قضية الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع المذكور ، لا لبيان أمر خارج عنه ، إذ مجيء الفاسق بالنبإ عبارة عن وجوده ، وبدونه لا خبر للفاسق حتى يصح الحكم بحجيته أو عدمها.

نعم ، لو كان الموضوع مطلق النبأ ، ومجيء الفاسق به الذي تضمنته جملة الشرط من الامور الخارجة عنه الزائدة عليه لم تكن جملة الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع وكان لها مفهوم ، كما لو كان الخطاب هكذا : النبأ إن جاء به الفاسق فتبينوا عنه. لكنه لا يناسب التركيب الكلامي في الآية الشريفة ، وإن كان قد يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه تقريبه.

وكذا ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الموضوع هو النبأ والشرط هو كون الجائي به فاسقا ، وأن مرجع القضية إلى قولنا : النبأ إن كان الجائي به فاسقا وجب التبيّن عنه.

بل الظاهر من القضية أن الموضوع في جملة الجزاء هو خصوص خبر

٢٢١

الفاسق الذي سيقت جملة الشرط لتحقيقه ، وبارتفاعه لا يبقى موضوع للحكم الذي سيقت جملة الجزاء له ، فلا مفهوم للقضية.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض مشايخنا من أن ما يؤخذ في الشرط إن كان مما يتوقف عليه الجزاء عقلا لا يثبت المفهوم بانتفائه ، وإن لم يتوقف عليه الجزاء عقلا بل شرعا يثبت المفهوم بانتفائه.

ومن ثمّ لو قيل : ان ركب الأمير وكان ركوبه يوم الجمعة فخذ بركابه ، كان أصل الركوب مسوقا لتحقيق الموضوع ، فلا مفهوم بانتقائه ، بخلاف خصوصية يوم الجمعة ، فإنه يثبت المفهوم بانتفائها ، ومن الظاهر أن وجوب التبين عن النبأ يتوقف عقلا على ثبوت النبأ ، دون خصوصية الفسق ، فيتعين ثبوت المفهوم بانتفائه.

وجه الاندفاع : أن الذي لا يتوقف على خصوصية الفسق عقلا هو التبين عن مطلق النبأ ، أما التبين عن خصوص نبأ الفاسق الذي هو مفاد الجزاء ـ كما سبق ـ فهو كما يتوقف على ثبوت أصل النبأ يتوقف على خصوصية الفسق.

وأما التنظير بالمثال المتقدم فهو في غير محله ، لأن القضية المذكورة ذات شرطين مستقلين يتقوم الموضوع بأحدهما دون الآخر ، بخلاف الآية الكريمة ، لأن الشرط فيها أمر واحد يتقوم به الموضوع ، وإن كان مقيدا. فهو نظير قولنا : إن ركب الأمير يوم الجمعة فخذ بركابه ، الذي لا مفهوم له على الظاهر ، لأن المقوم لأخذ الركاب في القضية هو الركوب في يوم الجمعة الذي تعرضت له جملة الشرط ، لا مطلق الركوب وخصوصية الجمعة زائدة على ذلك.

نعم ، قد يستفاد من الخارج أن المقصود الإناطة بيوم الجمعة بعد الفراغ عن أصل الركوب. لكنه خارج عن محل الكلام.

وبالجملة : التأمل في الآية الشريفة في المقام شاهد بعدم المفهوم لها ، لكون جملة الشرط فيها مسوقة لتحقيق موضوع الحكم في الجزاء. وحملها

٢٢٢

على المفهوم تكلف لا شاهد له.

نعم ، ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ بعد الاعتراف بما ذكرنا ـ تقريبا آخر لدلالة الآية على المفهوم ، قال مقرر درسه : «هذا ، ولكن الإنصاف انه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به من مورد النزول ، فإن موردها ... إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق ، فقد اجتمع في إخباره عنوانان : كونه من الخبر الواحد ، وكون المخبر فاسقا ، والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبرى كلية ، لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن الأخبار التي لا يجب التبين عنها ، وقد علق وجوب التبين فيها على كون المخبر فاسقا ، فيكون الشرط لوجوب التبين هو كون المخبر فاسقا ، لا كون الخبر واحدا ، إذ لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه ، لأنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق ، فعدم التعرض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق. ولا يتوهم أن ذلك يرجع إلى تنقيح المناط ، أو إلى دلالة الإيماء ، فإن ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط ...».

وفيه : أنه لم يتضح الوجه في رجوع ما ذكره لمفهوم الشرط ، كما لم يتضح دخل مورد النزول بما ذكره ، لوضوح أن المفهوم تابع لتركيب القضية ، وقد اعترف بأنه لا يقتضي المفهوم ، ومورد النزول داخل في القضية سواء كان لها مفهوم أم لم يكن.

وغاية ما يمكن به تقريب ما ذكره : ما أشار اليه من دعوى ورود الآية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن غيرها ، إذ لو تم ذلك رجع إلى حمل الآية على التحديد والحصر ، ولا إشكال في أن تحديد الخبر الذي يجب التبين عنه بخبر الفاسق يقتضي حجية غيره وعدم وجوب التبين عنه ، من دون فرق بين الجملة الشرطية وغيرها.

لكن الشأن في استفادة ذلك من الآية بنفسها أو من مورد نزولها ، إذ

٢٢٣

المتيقن منها بيان وجوب التبين عن خبر الفاسق الذي هو مورد النزول ، أما ورودها لتمييز ما يجب التبين عنه عن غيره فلا دلالة لها عليه ، لا بنفسها ، ولا بضميمة موردها. فما ذكره لا يرجع إلى محصل ظاهر.

ثم إنه ربما يستدل بالآية الشريفة ..

تارة : من جهة التبين المأمور به ، إذ ليس المراد به التبين العلمي ، بل العرفي ، وهو حاصل بنفس خبر العادل ، فيكون حجة بنفسه.

واخرى : من جهة التعليل في الآية الشريفة بخوف الندم ، وخبر العادل لا يخاف من الندم في العمل به ، لأن الندم إنما يحسن إطلاقه على ارتكاب ما لا يحسن فعله ، وليس منه العمل بخبر العادل الذي يؤمن عليه الكذب ، وإن فرض خطؤه واقعا.

وثالثة : من جهة ظهور الآية الشريفة ـ بقرينة المورد ـ في الردع عن سيرة العقلاء على العمل بالخبر ، فتخصيص الردع بخبر الفاسق ظاهر في عدم الردع عن السيرة في غيره. ولعله إليه يرجع ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه.

ويشكل الأول : بان ظاهر التبين هو العلمي لا العرفي ، اللهم إلا أن يحمل عليه بقرينة التعليل بالندم الذي يكفي في رفعه التبين العرفي.

والثاني : ـ مع ابتنائه على ورود الذيل للتعليل الذي هو محل الكلام الآتي ـ بأن التعليل إنما يقتضي ارتفاع الحكم بارتفاعه في موضوع الحكم المعلل ، لا مطلقا ، فإذا قيل : لا تأكل الرمان لانه حامض ، اقتضى جواز أكل ما لا يكون حامضا من الرمان ، لا كل ما ليس بحامض ، كما تقدم نظيره في أواخر مبحث حجية الشهرة. وحينئذ فهو إنما يدل على جواز العمل بخبر الفاسق الذي لا يورث الندم ، لا جواز العمل بكل ما لا يوجب الندم ومنه خبر العادل. اللهم إلا أن يتمسك فيه بالاولوية.

والثالث : بأنه لم يتضح من مورد الآية قيام سيرة من العقلاء على العمل

٢٢٤

بالخبر وورود الآية للردع عنها ، بل هو لا يناسب التعليل بالندم ، المختص بما لا يحسن فعله عند العقلاء ، بل الآية واردة للتبكيت والإنكار على فعل ما لا يقره العقلاء ، ولا نظر فيها إلى مورد السيرة بوجه.

هذا ، مع أن هذه الوجوه ـ لو تمت ـ لا تصلح لتقريب دلالة الآية على حجية خبر العادل ، إذ لا تعرض في الآية لتعيين ما يحصل به التبين ، ولا تعيين ما يرتفع به الندم ، ولا تعيين مورد عمل العقلاء بالخبر.

وغاية ما تقتضيه هو بناء العقلاء على حصول التبين بخبر العادل ، وحسن العمل به ، وقيام السيرة عليه فالاستدلال يكون ببناء العقلاء لا بالآية ، وهو خارج عن محل الكلام ، وموكول إلى الاستدلال بالسيرة. فلاحظ.

وأما الموضع الثاني : فحاصل الكلام فيه : أنه قد اورد على الاستدلال بالآية الشريفة بعد فرض كونها ذات مفهوم بإيرادات تعرض لها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، بعضها يختص بها ، وبعضها يعم جميع عمومات حجية الخبر.

أما القسم الأول فهو عدة وجوه ..

الوجه الأول : وهو أهمها ـ ما ذكره في العدة وحكي عن الذريعة والغنية والمعارج وغيرها ، وأشار إليه في مجمع البيان ومحكي التبيان ، وأصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه مدعيا أنه لا دافع له. وحاصله : أنه لا بد من رفع اليد عن المفهوم بعموم التعليل في ذيلها ، حيث أن مقتضاه النهي عن الإقدام مع الجهل لاحتمال الوقوع في أمر محذور ، ولا مانع من رفع اليد عن المفهوم بقرينة مانعة منه.

وقد يدفع ذلك بوجوه ..

الأول : ما ذكره بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله في تقريب معنى الآية من منع سوق الذيل للتعليل ، لما فيه من لزوم تقدير مفعول لقوله : (فَتَبَيَّنُوا) ، ولزوم تقدير ما يدل على التعليل في الذيل ، بأن يكون تقدير الآية هكذا : إن

٢٢٥

جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا صدقه لئلا تصيبوا قوما ... أو نحو ذلك ، وهو خلاف الأصل ، فالأولى جعل الذيل بنفسه مفعولا لقوله : (فَتَبَيَّنُوا) قال : «فيكون معناه : فتثبتوا واحذروا إصابة قوم بجهالة». وحينئذ لا يكون للذيل عموم ينهض برفع اليد عن المفهوم.

وفيه : أنه لا مجال لكون الذيل مفعولا للتبين بعد تقييد الذيل بالجهالة التي هي من الامور الوجدانية غير القابلة للجهل ، والتبين إنما يكون عن الامور الواقعية القابلة للجهل ، فلا يتم ما ذكره إلا بتقدير تعلق الذيل بفعل يناسبه كالحذر ، إما بتقدير فعل الحذر ـ كما ذكره في كلامه ـ أو بتصيده من التبين بجعل التبين متضمنا معناه ، وكلاهما خلاف الأصل ، كالتقدير مع الحمل على التعليل.

بل لعل الثاني أولى ، لاشتهار حذف عامل «أن» خصوصا في مقام التعليل ، كما في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ)(١) ، وقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)(٢) ، وقوله تعالى : (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)(٣) ، وغيرها.

ولا سيما مع كون التعليل أبلغ في بيان المطلوب وادعى للارتداع.

ولا أقل من الإجمال الموجب لعدم ظهور الآية الشريفة في المفهوم لو فرض مانعية التعليل منه.

الثاني : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن المفهوم أخص مطلقا من

__________________

(١) الاعراف : ١٧٢.

(٢) الزمر : ٥٥ و ٥٦.

(٣) الاعراف : ٢٠.

٢٢٦

عموم التعليل ، لاختصاصه بخبر العادل غير العلمي ، لخروج الخبر العلمي عن المفهوم والمنطوق معا ، لقصور أدلة نفي الحجية وإثباتها عنه. بل لو فرض عموم المفهوم للخبر كان أعم من وجه من التعليل ، فيقدم المفهوم في مورد الاجتماع ، وهو خبر العادل غير العلمي ، إذ لو قدم التعليل واختص المفهوم بالخبر العلمي كان لغوا ، لأن ارتفاع حكم المنطوق معه عقلي لا شرعي ، فهو نظير السالبة بانتفاء الموضوع لا تصلح لبيان قضية شرعية ، كما هو شأن المفهوم.

وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه : بأن التعارض إنما هو بين ظهور التعليل في العموم وظهور الشرطية في المفهوم ، وحيث كان الأول أقوى كان مانعا من الثاني مع اتصال الكلام ، فلا مفهوم حتى يصلح لمعارضة عموم التعليل وينهض بتخصيصه.

وما ذكره قدّس سرّه موقوف على عموم التعليل لمورد المفهوم ، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثالث : ما ذكره غير واحد من حكومة المفهوم على التعليل ، لأنه يقتضي كون خبر العادل علما تعبدا أو تنزيلا ، فيخرج عن موضوع التعليل ، فلا معارضة بين التعليل والمفهوم حتى يرفع اليد بالأول عن الثاني.

وهو مبني على كون مفاد جعل الطرق جعلها علما تعبدا أو تنزيلا ، وقد تقدم إنكار ذلك في الفصل الثالث من الكلام في القطع.

هذا ، مع أن التنزيل المذكور لو تم موقوف على انعقاد الظهور في المفهوم المقتضي للحجية ، وعموم التعليل مانع من انعقاده ، لأنه يقتضي وجوب التبين وعدم حجية خبر العادل.

وبعبارة اخرى : خروج خبر العادل عن عموم التعليل إثباتا في رتبة متأخرة عن انعقاد الظهور في المفهوم ، وعموم التعليل مانع عن انعقاده. وأما مجرد صلوح القضية في نفسها للدلالة على المفهوم فهو لا ينفع ما لم ينعقد

٢٢٧

ظهورها فيه ، لعدم القرينة المانعة ، وعموم التعليل قرينة مانعة.

فما ذكر إنما يتم لو كان دليل المفهوم منفصلا عن التعليل ، لا في مثل الآية الشريفة ، كما أشار إليه شيخنا الاستاذ دامت بركاته.

ولعل ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في المقام ناظر إلى ذلك. فراجع.

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه في وجه منع الحكومة المذكورة من أنه لما كان الأصل في التعليل أن يكون ارتكازيا تعين حمله على الجهل الحقيقي ، لأنه المطابق للارتكاز ، فلا يصلح المفهوم لإخراج مورده عنه.

فهو كما ترى! لمنع عموم وجوب التبين ارتكازا لجميع موارد الجهل الحقيقي كما سيأتي ، بل لا إشكال في اختصاصه بغير موارد قيام الحجج ـ المفروض كونها علما تنزيلا ـ قطعا ، لمنافاة وجوب التبين للحجية عرفا.

وأما خصوصية مورد الآية من حيث أهمية القتل والاعتداء على الناس بغير حق فهي لا تمنع ارتكازا من جعل الحجج والاكتفاء بها عن الواقع في مقام العمل.

ولذا لا إشكال ظاهرا في أن عموم التعليل في المقام كسائر عمومات عدم حجية غير العلم ونسبته إلى أدلة جعل الحجج كنسبتها إليها في لزوم تقديم أدلة الحجج بالحكومة أو نحوها ، وعدم توهم أن النسبة بينه وبينها لما كانت هي العموم من وجه لزم التوقف في مورد الاجتماع ، بل تقديم عمومه ، لابائه عن التخصيص بعد كونه ارتكازيا. فتأمل.

وكيف كان ، يكفي في منع الحكومة ما ذكرنا. ولذا لم يتضح لنا بعد الرجوع لكلماتهم والتأمل ما يدفع به إشكال منع عموم التعليل من ظهور القضية لو فرض صلوحها له ذاتا ، وقد عرفت من شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه لا دافع للإشكال المذكور.

٢٢٨

نعم ، الإشكال المذكور موقوف على عموم التعليل لمورد المفهوم ، وهو لا يخلو عن إشكال ، بل منع ، فإن حمله على مطلق العمل مع عدم العلم بالواقع لا يناسب مقام التعليل الذي ينبغي فيه أن يكون ارتكازيا صالحا لبيان وجه الحكم وتقريبه إلى ذهن السامع ليذعن به ويقتنع بمضمونه ، كما لا يناسب خصوصية الفسق التي هي من الخصوصيات الارتكازية في التوقف عن الخبر.

بل المناسب للأمرين الحمل على خصوص الجهل الذي لا يرى العقلاء الاقدام معه ، لعدم وجود ما يصلح لأن يعتمد عليه ويطمئن اليه ، كما لو لم يكن هناك إلا خبر الفاسق ، فتقديم عموم التعليل على المفهوم ، إنما هو بالإضافة إلى ما يشبه خبر الفاسق في ذلك ، كخبر العدل غير الضابط ، دون خبر العدل الضابط الذي يصح الركون إليه والاعتماد عليه عند العقلاء ، بل التعليل يقصر عنه.

كما يقصر عن خبر الفاسق الثقة المأمون عليه الكذب وإن كان داخلا في المنطوق ، ولعل وجه ذكر الفاسق غلبة كونه من القسم الأول ، مع التنبيه والتأكيد على فسق المخبر في مورد النزول.

ونظير ما ذكرنا ما لو قيل : لا تستعمل الدواء الذي تصفه لك النساء لأنك لا تأمن ضرره ، فإنه لا يتوهم عموم التعليل فيه لما يصنعه الطبيب الحاذق غير المعصوم من الخطأ ، وإنما يعم ما يصفه غير الأطباء من الرجال ، كما يقصر عما تصفه النساء الطبيبات الحاذقات ، وليس وجه ذكر النساء إلا غلبة تصدي غير الطبيبات منهن لوصف الدواء ، أو الابتلاء بهن في مورد الخطاب.

ويشهد بما ذكرنا ـ مضافا إلى ذلك ـ التعقيب بالندم ، الظاهر في المفروغية عن ترتب الندم على خبر الفاسق ، لا الحكم به تأسيسا ، ومن الظاهر أن الندم لا يكون بنظر العقلاء بمجرد فوت الواقع ، بل مع التقصير فيه المستلزم لتفريع النفس وتأنيبها ، ولا تقصير في العمل بخبر العادل المذكور.

ومنه يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في تقريب الإشكال : من أن

٢٢٩

مقتضى عموم التعليل وجوب التبين في كل خبر لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبر عادلا.

إذ فيه : أن العادل الذي لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل بخبره هو خصوص غير الضابط ، وهو خارج عن محل الكلام ، وأما غيره فالندم مأمون معه وإن لم يؤمن معه فوت الواقع.

ثم إنه لأجل ما ذكرنا من قصور التعليل عن مورد المفهوم كان عموم التعليل آبيا عن التخصيص عرفا ، ولو حمل على مطلق عدم العلم بالواقع لم يكن آبيا عنه ، لتعارف الطرق غير العلمية عند العقلاء.

هذا كله بناء على حمل الجهالة على ما يقابل العلم ، وأما بناء على حملها على ما يناسب الطيش والحمق والسفه ، ويقابل التعقل والحكمة والاتزان فالأمر أظهر.

ولعل المعنى الثاني هو الأشهر في الاستعمال في الكتاب والسنة وغيرهما ، فقد استعمل الجهل ومشتقاته في ما يزيد على عشرين موضعا من الكتاب الكريم كلها في المعنى المذكور أو قابلة للحمل عليه ، واشتهر استعماله في ذلك في السنة الشريفة ، كما يظهر بملاحظة كتاب العقل والجهل من الكافي وغيره ، وكذا الحال في استعمالات أهل اللغة.

بل ذكر بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله أن تتبع الاستعمالات في اصول اللغة يشهد بأن تحديد الجهل بخصوص ما يقابل العلم اصطلاح جديد للمسلمين في عهد نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية ، حيث استدعى تحديد معاني كثير من الألفاظ وكسبها اطارا يناسب الأفكار الفلسفية ، وإلّا فالجهل في أصل اللغة يراد به المعنى الأول الذي قد يلتقى مع المعنى الجديد.

وما ذكره وإن لم يتضح بنحو يقتضي الجزم إلا انه قريب جدا بالنظر للاستعمالات.

٢٣٠

ويناسبه أن الجهل عرفا من أوصاف الندم المستتبعة للّوم ، بخلاف محض عدم العلم ، فإنه وإن كان نقصا ، إلا أنه من سنخ العذر الرافع للوم.

وكيف كان ، فالمعنى المذكور هو الأقرب في الآية الشريفة ، ولا سيما بملاحظة كونها إشارة إلى أمر ارتكازي عرفي ، كما لعله ظاهر. وحينئذ فقصور التعليل فيها عن مورد المفهوم ظاهر جدا.

نعم ، قد يقال : إن حمل التعليل على خصوص ما لا يقدم العقلاء على العمل به ـ إما لحمل الجهالة على ما يقابل الحكمة ، أو لحملها على ما يقابل العلم بعد تخصيصها بذلك ـ لا يناسب مورد الآية ، حيث وردت للردع عن محاولة النبي صلّى الله عليه وآله أو الصحابة العمل بخبر الفاسق. إذ لا مجال لتوهم إقدامهم على ما لا ينبغي الإقدام عليه عند العقلاء بنحو مناف للحكمة ومناسب للسفه والحمق ، بل لا بد من الالتزام بورود الآية الشريفة لردعهم في مورد سيرة العقلاء على العمل بالخبر.

لكنه مندفع بما أشرنا إليه من عدم ظهور الآية في الردع تعبدا أو تأسيسا من قبل الشارع ، بل في التنبيه إلى طريقة العقلاء وارتكازياتهم في لزوم التثبت في خبر الفاسق ، الكاشف عن كون مورد الردع مما لا يقدم عليه العقلاء.

ولم يظهر منها الردع للنبي صلّى الله عليه وآله أو لأهل التعقل من المؤمنين ، بل سياقها كالصريح في مجانبة النبي صلّى الله عليه وآله ومن أطاعه من المؤمنين للعمل بخبر الفاسق في مورد النزول ، وأن الردع مختص بغيرهم من جهال الناس الذين ينعقون مع كل ناعق ، ويؤخذون بالتهريج والارجاف الذي يقوم به المنافقون ونحوهم ممن لا يتقيد بتعاليم النبي صلّى الله عليه وآله ، ولا يتبع سبيل المؤمنين ، وقد ابتلي بهم النبي صلّى الله عليه وآله في حياته والمؤمنون بعد وفاته.

فانظر قوله تعالى بعد الآية المذكورة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي

٢٣١

قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(١) فانه كالصريح في انقسام المسلمين على أنفسهم طائفة مع النبي صلّى الله عليه وآله في التوقف عن خبر الفاسق قد حبب إليهم الإيمان وكره اليهم الفسوق والعصيان ، وطائفة أرادوا العمل به وحملوا النبي صلّى الله عليه وآله على ذلك وأصروا عليه ، ولكنه صلّى الله عليه وآله أبى عليهم ، فنزلت الآية تأييدا له وقمعا للفتنة ، كما نبه لذلك شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) وسبقه إليه بعض المفسرين كالزمخشري في الكشاف وغيره على ما حكي.

فالآية الشريفة وردت للتعب على هؤلاء الجهال أرادوا الخروج عن الطريق العقلائي في الاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه واستنكار موقفهم وتبكيتهم ، فليست هي رادعة عن سيرة العقلاء في العمل بالخبر ، بل داعية لمقتضى سيرتهم في التوقف عن خبر غير المأمون واستنكار الخروج عنها بمحاولة العمل به ، كما أشرنا إليه آنفا عند الكلام في وجوه الاستدلال بالآية الشريفة على حجية الخبر.

كما وردت أكثر آيات سورة الحجرات لتأديب المسلمين وتهذيبهم مما يشينهم من أخلاق وأفعال ، كرفع أصواتهم فوق صوت النبي صلّى الله عليه وآله ، وعدم توقيره ، وسخرية بعضهم من بعض ، واغتيابهم لهم وغير ذلك مما لا يقره العقلاء ، ولا يناسب الحكمة والتعقل.

وبالجملة : التأمل في لسان الآية الكريمة وسياقها وبقية آيات السورة شاهد بما ذكرنا وإن أغفله كثير من المفسرين.

وبه يتم ما ذكرنا من قصور التعليل عن شمول مورد المفهوم ، فلا ينهض برفع اليد عنه لو تم في نفسه ، ولا موقع للإشكال المذكور من أصله.

ثم إنه بما ذكرنا يتضح انه لا مجال للاستدلال بالآية على عدم حجية خبر الفاسق مطلقا وإن كان ثقة في نفسه مأمونا عليه الكذب ، للزوم الخروج عن

__________________

(١) الحجرات : ٧.

٢٣٢

إطلاق الفاسق فيها بالتعليل بعد حمله على ما عرفت. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ورود الآية للإرشاد إلى عدم جواز مقايسة خبر الفاسق بغيره وإن حصل منه الاطمئنان. لان الاطمئنان الحاصل منه يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته بالمعصية وإن كان متحرزا عن الكذب.

فهو غير ظاهر ، إذ لو اريد به زوال الاطمئنان من خبره حقيقة بسبب الالتفات إلى فسقه ، فهو غير مطرد لان ملكة التحرز عن الكذب لا تختص بالعادل قطعا ، بل هو خلاف المفروض من تحرزه عن الكذب.

وإن اريد به أن الاطمئنان من خبره وإن لم يذهب بالالتفات إلى فسقه إلا أن الشارع قد ردع عن خبره مطلقا ، لعدم اكتفائه بالاطمئنان الحاصل منه ، فلا مجال له بعد ما تقدم من ظهور التعليل في كونه ارتكازيا لا تعبديا ، وظهور الآية في الحث على مقتضى طريقة العقلاء لا الردع عنها ، فلا مجال للخروج بالآية عما دل على حجية خبر الثقة لو تم. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

الوجه الثاني : مما اورد على الاستدلال بالآية : أن المفهوم غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية ، إذ لا إشكال في عدم الاكتفاء فيها بخبر الواحد ، بل لا بد فيه من التعدد ، فلا بد من طرح المفهوم ، لعدم جواز إخراج المورد.

وقد أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره : بأن المورد داخل في المنطوق ، وهو عدم حجية خبر الفاسق ، لا في المفهوم ، وهو حجية خبر العادل ، وغاية ما يلزم هو تقييد المفهوم في الموضوعات الخارجية بالتعدد ، ولا يلزم منه خروج المورد. وإليه يرجع ما قيل من أن ارتكاب التقييد في المفهوم مقدم على إلغائه بالكلية.

والذي ينبغي أن يقال : إرجاع الشرطية إلى المنطوق والمفهوم ليس

٢٣٣

لانحلالها إليهما حقيقة ، بنحو تكون هناك قضيتان يمكن طروء التقييد عليهما أو على إحداهما ، بل لدلالتها على معنى يستلزمهما ، وهو إناطة الجزاء بالشرط المستلزمة لوجوده عند وجوده وانشائه عند انتفائه.

وحينئذ فإذا فرض كون الشرطية ذات مفهوم كان مفادها إناطة عدم حجية الخبر بالفسق المستلزمة لثبوت الحجية مع العدالة مطلقا ، وحيث لا مجال لذلك في الموضوعات لاعتبار التعدد فيها بلا إشكال فلا بد إما من تخصيص موضوع الشرطية وهو النبأ بغير الموضوعات ، أو إلغاء ظهور الشرطية في الإناطة ، وحملها على محض بيان ترتب الجزاء على الشرط ، وحيث يمتنع الأول ، لاستلزامه خروج المورد عن الشرطية ، تعين الثاني المستلزم لعدم كون القضية ذات مفهوم وتوجه الإشكال.

وأما احتمال إبقاء الشرطية على عمومها والمحافظة على ظهورها في الإناطة المستلزمة للمفهوم مع تقييدها في خصوص الموضوعات بالتعدد.

فلا مجال له ، إذ التقييد المذكور لا يناسب الإناطة التامة ، ولا مجال للتفكيك في الإناطة لبساطتها ، كما أوضحناه في مسألة تعدد الشرط مع وحدة الجزاء من مبحث مفهوم الشرط. فراجع.

ولعله لذا ذكر في الفصول أن ذلك تكلف مستبشع. نعم ، قد يلتجئ لذلك مع قوة ظهور الشرطية في الإناطة ، بحيث لا يمكن رفع اليد عنه بوجه ، ولا مجال لاطالة الكلام فيه. فتأمل جيدا.

هذا ، وأما ما ذكره شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) من أن الارتداد ليس موردا للآية فحسب ، بل هي مختصة به وبما يشبهه مما يوجب القتل ، بقرينة التعليل المتضمن لإصابة قوم ، التي يراد بها قتلهم ، الذي هو من أحكام الارتداد ونحوه.

فربما يندفع : بأن خصوص التعليل لخصوصية المورد لا ينافي عموم

٢٣٤

الحكم المعلل ، عملا بإطلاق النبأ ، كما أشار إلى ذلك في الفصول.

الوجه الثالث : ما عن بعض من أن التبين في الآية الشريفة إن اريد به خصوص العلم الوجداني كان الأمر به إرشاديا ، لأن وجوب العمل به عقلي ، والمفهوم لا يستفاد من الأمر الإرشادي.

وإن اريد به مجرد الوثوق وقع التدافع بين المنطوق والمفهوم ، لأن مقتضى المفهوم حجية خبر العادل مطلقا وإن لم يحصل الوثوق به لإعراض الاصحاب ونحوه ، ومقتضى المنطوق حجية خبر الفاسق الذي يحصل الوثوق به ولو من عمل الأصحاب به ، ولا قائل بذلك بين الأصحاب.

إذ هم بين من يعتبر العدالة أو الثقة في المخبر ، ولا يعبأ بحصول الوثوق بالخبر نفسه ، ومن يعتبر حصول الوثوق بالخبر نفسه ، ولا يكتفي بعدالة المخبر أوثقته ، فلا يعمل بالخبر المهجور وان كان صحيحا ، فالجمع بين الأمرين إحداث قول ثالث.

وفيه .. أولا : ما أشار إليه بعض مشايخنا من أنه لا مانع من حمل التبين على العلمي ، إذ الشرطية في الآية لا تتضمن وجوب العمل بالعلم الذي هو أمر عقلي ، بل وجوب تحصيله وعدم العمل بالخبر بدونه ، ليس هو مما يحكم به العقل ، بل هو حكم شرعي راجع إلى عدم حجية الخبر بدونه ، فلا مانع من استفادة المفهوم منه.

على أنه لا مانع من استفادة المفهوم لو تضمّنت الشرطية وجوب العمل بالعلم الذي هو أمر عقلي ، إذ ليس مفادها مجرد ذلك ، بل إناطة وجوب العمل بالعلم وتخصيصه به ، وهو مستلزم لعدم حجية غيره الذي هو أمر شرعي. ولذا لو قيل : الخبر إن أفاد العلم فاعمل به ، كان مفهومه عدم حجية الخبر غير العلمي شرعا.

وثانيا : أنه لا مانع من القول الثالث المذكور لو اقتضته الأدلة بعد عدم

٢٣٥

رجوع كلام الأصحاب إلى القول بعدم الفصل ، بل إلى مجرد عدم القول به.

على أنه لا يبعد بناء الأصحاب عليه ، ولعل عدم عملهم بالخبر الصحيح المهجور ليس لعدم حجية سنده ، بل لكشف الهجر عن خلل في دلالته أو جهته ، كما أشرنا إليه عند الكلام في حجية الظواهر.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أنه لا مانع من تقييد المفهوم بما إذا لم يكن الخبر مهجورا عند الأصحاب ، فيظهر الكلام فيه مما سبق في الوجه الثاني من تعذر تسليط القيد على المفهوم وحده.

الوجه الرابع : أنه لا مجال للعمل بالمفهوم في الأحكام ، لوجوب الفحص عن المعارض في خبر العادل بلا إشكال ، الذي هو نحو من التبين ، فينافي المفهوم.

ويندفع بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن وجوب الفحص عن المعارض ليس من سنخ التبين الذي تعرضت له الآية ، إذا التبين فيها كناية عن عدم حجية الخبر ذاتا ، والفحص عن المعارض مبني على حجيته ذاتا لو لا المعارض ، ولذا لو فحص عن المعارض ولم يعثر عليه عمل بالحجة ، أما لو تبين عن غير الحجة ـ كخبر الفاسق ـ ولم يعثر على شيء فلا يعمل به.

الوجه الخامس : أن المراد من الفاسق لا يخلو عن إجمال ، لأن إطلاقه في مقابل العادل بالمعنى المعتبر عندهم في حجية الخبر وتحديده بالمعنى المذكور اصطلاح متأخر ، والشائع في الاستعمالات خصوصا في الكتاب الشريف إطلاقه في مقابل المؤمن ، فيعم الكافر والمنافق ، وهو المناسب لمورد الآية ، بل في بعض الروايات النهي عن إطلاق الفاسق على المؤمن العاصي ، وأنه فاسق العمل ، وحينئذ فلا مجال لحمل القضية على المفهوم إلا بتقييده بالعادل الذي لا مجال له ، إما لما سبق في الوجه الثاني من امتناع تقييد المفهوم ، أو لأن التقييد المذكور لما كان مستلزما لإخراج كثير من الأفراد أو أكثرها كان إلغاء

٢٣٦

المفهوم أهون منه وأقرب عرفا.

هذا تمام الكلام في وجوه الإيراد على الاستدلال بالمفهوم. وهناك بعض الوجوه الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها ، قد تعرض لها ولدفعها صاحب الفصول وشيخنا الأعظم قدّس سرّه. فراجع.

وقد عرفت أن العمدة فيها هو الوجه الثاني والخامس ، مضافا إلى الإشكال في أصل صلوح القضية بحسب تركيبها الكلامي لافادة المفهوم. فلاحظ وتأمل جيدا.

هذا كله في القسم الأول مما اورد على الاستدلال بالآية الشريفة.

وأما القسم الثاني ـ وهو ما لا يختص بها ، بل يجري في جميع عمومات الخبر ـ فلا ينبغي التعرض له هنا ، بل في ذيل الكلام في أدلة المثبتين ، إلا أنه متابعة شيخنا الأعظم قدّس سرّه تقتضي التعرض له هنا. وهو عدة وجوه ..

الأول : ان عموم دليل حجية الخبر معارض بعمومات عدم حجية غير العلم ، والمرجع بعد التساقط أصالة عدم الحجية.

وقد أجاب عن ذلك غير واحد : بأن دليل حجية الخبر أخص مطلقا من عمومات عدم حجية غير العلم ، لاختصاصه بالخبر الذي لا يفيد العلم ، للغوية جعل الحجية للخبر العلمي بعد حجية العلم ذاتا ، فيلزم تخصيصها به.

إن قلت : قصور دليل الحجية عن شمول الخبر العلمي لا يوجب كونه أخص مطلقا من العمومات المذكورة ، لاختصاصها بصورة التمكن من العلم ، بناء على اقتضاء مقدمات الانسداد حجية الظن بنحو الكشف الراجع إلى حجيته شرعا ، فتكون النسبة هي العموم من وجه.

قلت : لازم ذلك هو البناء على حجية الخبر بالخصوص في حال الانسداد ، لعدم المعارض له حينئذ ، هو كاف في المقام كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

٢٣٧

مع أن تخصيص عمومات عدم حجية غير العلم بدليل الانسداد مع عمومها لحال الانسداد ذاتا لا يقتضي كونها أعم من وجه من أدلة حجية الخبر ، إلا بناء على انقلاب النسبة الذي لا نقول به ، لعدم المرجح لبعض المخصصات على بعض حتى تلاحظ النسبة بينه وبين العام قبل ملاحظة نسبة غيره ، بل حيث كانت نسبة المخصصات جميعا للعام واحدة كان لا بد من تخصيصه بها جميعا.

وأما ما ذكره شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) من أن دليل الانسداد لما كان عقليا كان مقدما على غيره ، لأنه بمنزلة المخصص المتصل ، المانع من انعقاد ظهور العام في العموم ، وكان موجبا لاختصاصه من أول الأمر بصورة التمكن من العلم ، فيكون أخص من وجه من عموم دليل حجية الخبر.

ففيه : أن ذلك إنما يتم في الدليل العقلي الجلي الذي هو من سنخ القرينة المتصلة ، دون مثل دليل الانسداد المبني على مقدمات نظرية محتاجة إلى التأمل.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لدعوى كون عمومات عدم حجية غير العلم أخص من وجه ، بلحاظ تخصيصها بمثل البينة ونحوها مما يجري في الشبهات الموضوعية. فإنه مبني على انقلاب النسبة أيضا.

نعم ، قد يقال : لا وجه لاختصاص أدلة الحجية بالخبر غير المفيد للعلم وعدم شمولها للخبر المفيد له ، فإن ذلك إنما يتم فيما لو استفيدت الحجية مما دل على جعلها بعنوانها شرعا ، أو مما دل على وجوب العمل بالطريق تأسيسا من قبل الشارع الأقدس ، أما لو استفيد منها وجوب العمل بالطريق من دون ظهور له في التأسيس ، بل بنحو قابل للتنزيل على كونه جريا على ما يحكم به العقل او يبني عليه العقلاء ، فلا وجه لقصور دليله عن صورة العلم ، بل لا مانع من اختصاصه بها. غاية الأمر أن ذلك يرجع إلى عدم كون الدليل مسوقا لبيان الحجية الشرعية ولا ضير فيه.

٢٣٨

وإن شئت قلت : الدليل المذكور إن شمل صورة غير العلم كشف عن جعل الحجية شرعا فيها ، وإن اختص بصورة العلم ـ ولو بقرينة عمومات عدم حجية غير العلم ـ كشف عن عدم جعلها ، بل كون الأمر بالعمل حينئذ إرشادا لحكم العقل به ، والظاهر أن أدلة حجية الخبر ومنها آية النبأ من القسم الثاني ، ولذا ورد في بعض النصوص الاستدلال بآية النفر على وجوب النفر لمعرفة الإمام ، مع أنه يعتبر في معرفته العلم.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أنه لا مجال لذلك في آية النبأ ، لأن المفهوم فيها لما كان تابعا للمنطوق كان مختصا بالخبر الذي لا يفيد العلم تبعا له.

فيدفعه : أن ذلك موقوف على سوق الآية للمفهوم ، وظهورها فيه وإن كان مفروضا في محل الكلام ، إلا أنها حيث كانت منافية لعموم ما دل على عدم حجية غير العلم ، فكما يمكن الجمع بينها وبينه بتخصيصه بها ، كذلك يمكن الجمع برفع اليد عن ظهورها في المفهوم بحمل ذكر الفاسق فيها على كونه لمحض غلبة عدم حصول العلم من خبره ، لمناسبته لذلك ، لا لخصوصيته في الحكم بعدم الحجية ، وهو لا ينافي المفروض في محل الكلام.

اللهم إلا أن يدعى أن الوجه الأول هو الأقرب عرفا. لكنه لا يخلو عن تأمل وإشكال ، فإنه وإن كان البناء على تخصيص العموم بالمفهوم في سائر الموارد ، إلا أنه يشكل في خصوص المقام ، بقرب حمل ذكر الفاسق على غلبة كون خبره غير موجب للعلم ، وهو مما يوجب ضعف الظهور في المفهوم بنحو يشكل رفع اليد به عن العموم.

هذا ، وقد أجاب غير واحد عن الإشكال المذكور بحكومة عمومات حجية الخبر على عمومات عدم حجية غير العلم ، لأنها تقتضي كونه علما تعبدا أو تنزيلا ، فيخرج عن العمومات المذكورة ، وقد أشرنا إلى منع ذلك قريبا ،

٢٣٩

وتقدم تفصيله عند الكلام في مفاد أدلة جعل الطرق والأصول في الفصل الثالث من مباحث القطع. فراجع.

نعم ، الإشكال المذكور مبني على ثبوت عموم يقتضي عدم حجية غير العلم ، وقد تقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية المنع من ذلك. فراجع.

الوجه الثاني : أنه لو بني على العمل بعموم حجية الخبر لزم حجية نقل الإجماع من السيد المرتضى قدّس سرّه على عدم حجية خبر الواحد ، لأنه حاك لقول الإمام عليه السّلام في جملة المجمعين.

وفيه .. أولا : أن أدلة الحجية تقصر عن شمول نقل الإجماع ، لما تقدم في الفصل الثالث من عدم حجية الإجماع المنقول.

وثانيا : أن نقل السيد قدّس سرّه الاجماع المذكور معارض بنقل الشيخ قدّس سرّه الإجماع على الحجية ، ولا وجه لترجيح الأول ، بل قد يلزم ترجيح الثاني ، لقرائن يأتي التعرض لها.

هذا ، وقد أجاب غير واحد عن الوجه المذكور أيضا بأنه يمتنع شمول أدلة الحجية لخبر السيد قدّس سرّه ، لأنه يلزم من حجيته عدمها ، لأنه أيضا خبر واحد غير علمي.

ودعوى : امتناع دخوله في الإجماع المنقول به لامتناع شمول القضية لنفسها.

مدفوعة .. أولا : بان امتناع شمولها لنفسها لفظا لا ينافي شمولها ملاكا ، لما هو المعلوم من عدم خصوصية خبر السيد قدّس سرّه من بين غيره من أخبار الآحاد بأمر يقتضي حجيّته.

وثانيا : بأنه لا يمتنع شمول القضية لنفسها إذا كانت حقيقية راجعة إلى ثبوت الحكم في فرض وجود الموضوع ، فإن انطباقها على نفسها حينئذ قهري.

نعم ، لو كانت قضية خارجية واردة على خصوص الأفراد المتحققة من

٢٤٠