المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على

سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله

على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق

باذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

الابتداء بتحرير هذه المطالب في المسودة مساء الثلاثاء غرة جمادى الاولى ، سنة ١٣٩٢ هجرية.

الابتداء بإلقاء هذه المضامين في مجلس الدرس ضحى الاحد السادس من شهر جمادى الاولى ، سنة ١٣٩٢ هجرية.

الابتداء بتبييض هذه المطالب في هذه الأوراق مساء الثلاثاء الخامس عشر من شهر جمادى الاولى ، سنة ١٣٩٢ هجرية.

محمد سعيد الطباطبائي الحكيم

٥
٦

القسم الثّاني

في الأصول المبتنية على العمل

٧
٨

القسم الثاني

في الأصول المبتنية على العمل

وقد سبق في التمهيد لمباحث الأصول أن المراد بها الكبريات المبتنية على العمل والناظرة له ، لابتنائها على التعذير والتنجيز وتحديد مواردهما ، وهي مباحث الحجج والأصول العملية ، في مقابل القسم الأول المبحوث فيه عن مدركات واقعية لا تتضمن العمل بنفسها ، وإنما يترتب عليها لخصوصية موضوعها أو بضميمة أمر خارج عنها.

٩

تمهيد

اعلم أن من التفت إلى حكم شرعي فإما أن يحصل له القطع به أو بعدمه أو لا ، وعلى الثاني فاما أن تقوم عنده الحجة المعتبرة عقلا أو شرعا عليه أو لا.

لا إشكال في وجوب متابعة القطع في الصورة الاولى ، ومتابعة الحجة في الثانية ، وأما في الثالثة فإن دل دليل شرعي أو عقلي على وجوب الفحص عن الحكم أو الحجة تعين ، ومع تعذر الفحص أو استكماله أو عدم قيام الدليل على وجوبه ، كان له الرجوع إلى الوظيفة العملية الشرعية أو العقلية المقررة للجاهل ، وهي المعبر عنها بالأصول في مصطلحهم.

ولا إشكال في شيء من ذلك ، إلا أن الذي ينبغي التنبيه عليه أمور ..

الأول : أن الترتب بين القطع وما بعده عقلي ، لامتناع جعل الحجة أو الأصل مع القطع ، لحجيته الذاتية ، وأما الترتب بين الرجوع للحجة والرجوع للأصول فهو مبني على تقديم أدلة الحجج على أدلة الأصول بالحكومة أو الورود أو غيرهما ، على ما يأتي الكلام فيه في شروط العمل بالأصل إن شاء الله تعالى.

الثاني : أنه لا فرق في موضوع الأقسام بين الحكم الالزامي وغيره ، كالاستحباب ، ولا وجه للتخصيص بالأول ـ الذي هو المراد بالتكليف في كلامهم ـ لجريان الأقسام المذكورة في الجميع. ولا سيما مع عموم الغرض المهم ـ وهو الاستنباط ـ لها.

نعم ، بعض الأصول العملية ـ كالبراءة ـ يختص بالحكم الإلزامي ، إلا أنه لا يقتضي تخصيص التقسيم به بعد ما ذكرنا.

الثالث : أن الأولى تعميم موضوع الأقسام المتقدمة لمطلق الملتفت ـ كما

١٠

ذكرنا ـ وعدم تخصيصه بالمكلف ـ كما صنعه شيخنا الأعظم قدّس سرّه (١) وغيره ـ لعدم أخذ التكليف في رتبة سابقة على التقسيم ، بل شرائط المكلف كسائر الأمور المعتبرة في الحكم الشرعي مما يمكن أن تكون موردا للقطع أو الحجة أو الوظيفة العملية ، فتجري الأقسام بلحاظها ، فلو فرض الشك في التكليف للشك في ما يعتبر في البلوغ لجرى فيه الشك في التكليف من سائر الجهات بلا فرق أصلا.

بل قد تفرض الأقسام المذكورة مع العلم بعد البلوغ بناء على ما عرفت من عموم موضوع التقسيم للأحكام غير الإلزامية ، على ما هو الحق من اختصاص أدلة رفع القلم بها.

وأما تخصيص الموضوع بالمجتهد ـ كما يظهر من بعضهم ـ فلا وجه له بعد جريان الأقسام في غيره ، إذ العامي إن فرض حصول القطع له بالحكم الشرعي تعين عليه العمل به ، وإلا فان فرض قيام الحجة عليه في حقه ـ ولو كانت هي فتوى المجتهد ـ تعين عليه العمل بها ، وإلا تعين عليه ما يتعين على المجتهد في فرض فقد الحجة.

ومجرد تعذر الرجوع عليه لبعض الحجج أو لبعض الأصول ـ كالبراءة ـ لا يقتضي تخصيص التقسيم به ، بل هو كتعذرها في بعض الموارد على المجتهد ، لحصول الموانع له.

نعم ، الغرض المهم في المقام لما كان هو استنباط الأحكام الفرعية عن أدلتها التفصيلية كان الغرض المذكور في بعض الأقسام مختصا بالمجتهد ، إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص التقسيم به ، وإلا كان اللازم عدم التعرض للقطع ، لعدم دخله في الغرض المذكور ، كما سيأتي. مع أن الغرض من التقسيم الإشارة الاجمالية إلى المقاصد المبحوث عنها ، لا التفصيلية المبنية على التدقيق ، بل هي

__________________

(١) الشيخ المرتضى الأنصاري قدّس سرّه (منه).

١١

موكولة إلى حين الدخول في المقاصد.

وبهذا يظهر أنه لا حاجة في التعميم إلى ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه (١) من دعوى إمكان حصول الصفات في حق بعض العوام ممن له خبرة بالأدلة وإن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد. كما يمكن رجوعه للأدلة الاجتهادية والأصول العملية بتوسط فحص المجتهد ، حيث إنه ينوب عنه في ذلك.

على أن ما ذكره لا يخلو في نفسه عن الإشكال ، على ما قد يتضح في بعض المباحث الآتية.

كما يظهر أنه لا حاجة إلى تخصيص موضوع التقسيم بالأحكام الكلية ، بل يجري في الأحكام الجزئية التي يلحقها العلم والجهل بسبب العلم بتحقق الموضوع في الخارج والجهل به ، وإن اختص الغرض بالأحكام الكلية.

الرابع : إنما جعلنا المدار في القسمين الأخيرين على قيام الحجة المعتبرة وعدمه ـ كما جرى عليه المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ لا على الظن والشك ـ كما جرى عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ لعدم خصوصية الظن والشك في الأحكام المذكورة لهما. إذ موضوع الحجية لا يختص بالظن ، بل قد يكون أمورا أخر قد لا توجب الظن بل تجتمع معه تارة ، ومع الشك ـ بل الوهم ـ اخرى.

كما أن موضوع الأصول العملية لا يختص بالشك ، بل يعم صورة وجود الظن غير المعتبر ، وليس موضوعها الا عدم الحجة على الحكم الواقعي ، كما ذكرنا.

ودعوى : أنّ المراد بالظن هو النوعي المعتبر ، لا مطلق الشخصي. كما ترى! تلاعب بالألفاظ ، إذا لا معنى لحجية الظن النوعي.

بل غاية ما يقال : ان الحجة ما من شأنه أن يفيد الظن وإن لم يفده فعلا. وهو ـ مع عدم تماميته ، لإمكان حجية ما ليس من شأنه أن يفيد الظن ـ راجع في

__________________

(١) الشيخ ضياء الدين العراقي قدّس سرّه (منه).

١٢

الحقيقة إلى أن المدار على الحجية ، لا على الظن.

نعم ، ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن تثليث الأقسام بالوجه المذكور في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه إنما هو بلحاظ خصوصيات الأقسام المذكورة من حيثية وجوب الحجية وإمكانها وامتناعها ، لا بلحاظ كونها موضوعا للحجية الفعلية وعدمه ، فالقطع حيث كان تام الكشف وجبت حجيته عقلا ، والظن حيث كان فيه نحو نقص في الكاشفية أمكن حجيته بجعل الشارع ، والشك حيث لم يكن فيه كشف أصلا امتنعت حجيته.

وفيه .. أولا : أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه وإن أشار إلى ذلك في مبحث البراءة ، إلا أنه لم يتضح منه كون التقسيم بلحاظه ، بل ظاهره كون التقسيم بلحاظ الحجية وعدمها فعلا ، ولذا ذكر أن الظن الذي لم يدل على اعتباره دليل بحكم الشك.

وثانيا : أنه لا يظهر الوجه في امتناع جعل الحجية للشك ، لأن الظاهر أن المعيار في الحجية في باب الطرق والامارات ليس هو الكشف الذاتي الناقص في الأمارة ، ليختص بالظن ولا يجري في الشك ، بل المعيار فيها لسان الجعل والتعبد ، فإن كان مبنيا على اعتبار الشيء ، طريقا إلى الواقع كان حجة ، وإن كان شكا ، بل وهما ، وإن كان مبنيا على محض التعبد بالعمل من دون نظر إلى الواقع ولا كشف عنه كان أصلا وإن كان ظنا ، كما اعترف بالأخير شيخنا الأعظم قدّس سرّه في خاتمة الاستصحاب.

وثالثا : أن ما يقبل الحجية قد لا يكون هو الظن أو الشك ، بل أمرا آخر ، يقارن أحدهما أو كلا منهما ، كخبر الواحد ، فلا يكون التقسيم مستوفيا للأقسام ، بخلاف ما ذكرنا.

الخامس : أنه قد يظهر منهم في تحرير التقسيم أنه مع عدم الحجة المعتبرة ينحصر الأمر بالرجوع للأصول العملية ، وليس الأمر كذلك ، بل هو مختص بما إذا لم يدل الدليل على وجوب الفحص عن الواقع أو الحجة ـ كما

١٣

في مورد أصالة التخيير مطلقا ، وفي غيره في العبادات بناء على لزوم نية الوجه مع الامكان فيها ـ فإن الدليل المذكور يكون مانعا من الرجوع للأصول العملية. ومن ثمّ كان ما ذكرنا في بيان حكم الصورة الثالثة أولى.

السادس : أن الكبرى المذكورة في التقسيم المتقدم حيث كانت بديهية ـ لما سيأتي من بداهة وجوب متابعة القطع ، وكذا الحجة والأصل العملي في موردهما ، لأنه مقتضى جعلهما ـ فالمهم تشخيص موضوعها وصغرياتها ، وحيث كان تشخيص موارد القطع وضبطها متعذرا ، لأنه أمر حقيقي تابع لأسبابه التكوينية غير المنضبطة ، لم يقع موردا للكلام في المقام ، واختص الكلام بتشخيص الحجج ومفاد الأصول العملية ومواردها ، ليرجع إليها مع عدم القطع ، فإنها لما كانت تابعة لجعل الشارع وحكم العقل تيسر ضبطها ، تبعا لما يستفاد من أدلتها.

ومن هنا كان الغرض المقصود بالأصل للأصولي ـ الباحث عن طرق استنباط الأحكام الشرعية الواقعية التي هي مفاد الحجج ، والظاهرية التي هي مفاد الأصول ـ البحث في مقامين ..

الأول : في مباحث الحجج.

الثاني : في مباحث الأصول العملية شرعية كانت أو عقلية.

كما أن المناسب لهذا القسم من مباحث الأصول التعرض هنا لبعض المباحث المتعلقة بالقطع ، تبعا لغير واحد لأنه مثلها في الحجية ولزوم المتابعة.

وبعض هذه المباحث ليس مختصا بالقطع ، بل يعم غيره من الحجج والأصول ، لكن لا من حيثية تشخيص مواردها ـ الذي هو الغرض الأصلي للمقام ، كما عرفت ـ بل بلحاظ الأحكام اللاحقة لها في ظرف قيامها وجريانها ، كالبحث عن التجري ، وعن مقتضى العلم الإجمالي ، وتقسيم القطع إلى الطريقي والموضوعي ، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

١٤

ومن ثمّ كان المناسب جعلها مقدمة للمقصدين المذكورين لارتباطها بهما.

ومما ذكرنا ظهر أن التقسيم بالوجه المتقدم هو الأنسب بمقاصد الكتاب ، لتضمنه الإشارة الإجمالية لموضوعات مباحث المقصدين المذكورين والمقدمة ، بخلاف ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه (١) في أول كلامه من تثنية الأقسام ، حيث ذكر أن المكلف إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري ، فإما أن يحصل له القطع به أولا ، وعلى الثاني لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن الانسدادي أو الأصول العقلية.

فإن التقسيم المذكور وإن كان عقليا ، إلا أنه لا فائدة فيه ، لعدم تضمّنه الإشارة الإجمالية للمقاصد المبحوث عنها ، لوضوح أن القسم الأول جامع بين مباحث القطع والحجج وأهم الأصول العملية ، وهي الأصول الشرعية. فلا يتأدى بذلك الغرض المهم من التقسيم.

وأما مباحث التعارض فقد جعلها بعض المعاصرين في اصوله خاتمة لمباحث الحجج.

ولا يخفى أن بعض أحكام التعارض لا يختص بالحجج ، بل يجري في الأصول أيضا ، مثل مقتضى الأصل في المتعارضين. وبعضها يختص بخصوص الأخبار من الحجج ، كالتخيير ـ بناء على ثبوته ـ والمرجحات المنصوصة ، فلا وجه لجعله من لواحق مباحث الحجج.

كما لا وجه لجعله خاتمة للمقصدين الباحثين في الحجج والأصول ، لأنه ليس خارجا عن المقصد المهم حتى يجعل خاتمة لهما ، بل هو بحث في شئون الحجج والأصول وشروط فعلية الحجية والتعبد. ولذا كانت مسائله كبريات في الاستنباط.

__________________

(١) الشيخ ملا كاظم الخراساني الهروي قدّس سرّه (منه).

١٥

ومن ثمّ كان الأنسب جعله في مقصد مستقل ، كما صنعه المحقق الخراساني قدّس سرّه.

وعلى هذا يكون البحث في قسم الأصول الناظرة لمقام العمل في مقدمة ومقاصد ثلاثة ..

أما المقدمة ففي أحكام القطع وأقسامه.

وأما المقاصد الثلاثة ..

فالأول : في مباحث الحجج.

والثاني : في الأصول العملية.

والثالث : في التعارض.

ونسأله تعالى العون في الجميع والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٦

مقدمة

في أحكام القطع وأقسامه ، وفيها فصول ..

الفصل الأول

في حجية القطع

والحجية .. تارة : يراد بها محض لزوم المتابعة في مقام العمل.

واخرى : يراد بها المنجزية المستلزمة لاستحقاق العقاب بالمخالفة ، والمعذرية المستلزمة للأمان منه مع الموافقة ولو مع الخطأ وعدم الوصول للواقع.

ويظهر من بعض كلماتهم في المقام التلازم بين الأمرين ، بل الخلط بينهما ، وإن صرحوا بعدم الملازمة في غير المقام ، بل أشار بعضهم إلى ذلك في المقام.

ولأجل ذلك ينبغي الكلام في مقامين ..

المقام الأول : في وجوب متابعة القطع في مقام العمل ، ولعله المهم في المقام ، ولا يخفى أن كلمات الأعلام وإن تطابقت على ذلك ، إلا أنهم قد اختلفوا في تقريبه.

ولعل الأولى أن يقال : بعد فرض كون الواقع الذي يتعلق به القطع موردا لعمل المكلف إلزاما كان أو غيره ، فمن البديهي أنه بنفسه لا يقتضي فعلية

١٧

العمل ، لأن العمل من الأمور التابعة للاختيار المنوط بالالتفات للجهات المقتضية له. أما بعد فرض الوصول للواقع والالتفات إليه فلا معنى للتوقف عن العمل على ما يقتضيه. وحيث كان القطع بنفسه وصولا للواقع فلا بد من متابعته ، لتحقق موضوع العمل وشرطه.

ومع ذلك تكون متابعته مقتضى ذاته ولا تحتاج لجعل من الشارع ، بل يكون جعله لغوا ، لعدم استناد الأثر إليه ، كما لا تحتاج إلى حكم العقل زائدا على مقتضى الذات.

وهذا بخلاف غيره من الطرق ، فإنها لما لم تكن بنفسها وصولا للواقع ، ولا سببا للوصول له توقف وجوب متابعتها على أمر خارج عنها ، وهو حكم العقل بها زائدا على ذاتها ، أو الجعل الشرعي لها ، فيترتب العمل على جعلها ولا يكون لاغيا.

كما أنه لا مجال للردع عن متابعة القطع ، إذ عدم متابعته إن كان لعدم كون الواقع موردا للعمل ، فهو خارج عن محل الكلام ، إذ المفروض عدم تصرف الشارع في الحكم المعلوم برفعه أو نسخه. وإن كان لعدم كونه وصولا للواقع ، فلا معنى له ، إذ القطع عين الوصول للواقع ، وبه قوام ذاته. وإن كان لاعتبار أمر آخر في فعلية العمل بالواقع زائد على وصوله فهو خلاف المرتكزات الأولية النظرية غير المختصة بالإنسان ، بل كل ذي شعور لا يحتاج في ترتيب الأثر على الواقع إلى أكثر من وصوله.

ولو فرض منه عدم ترتيب الأثر عليه بوصوله فليس ذلك لكون الوصول بنظره غير كاف في فعلية العمل ، بل لقصور الواقع عن مقام العمل ، إما لعدم كونه مقتضيا له بنظره ، أو لكونه مزاحما بما يمنع عن تأثيره من شهوة أو غضب أو نحوهما.

ومن ثمّ تكون المخالفة مع العلم للواقع المعلوم ، لا للعلم نفسه ، بل لا

١٨

يلتفت للعلم في مقام العمل ، ويكون مغفولا عنه حينه.

وهذا بخلاف غيره من الحجج المجعولة ، فان المخالفة معها ..

تارة : تكون ناشئة من عدم الاعتناء بالواقع الذي قامت عليه.

واخرى : تكون ناشئة من عدم الاعتناء بالحجة نفسها وتجاهل دليل حجيتها دون أن يصل إلى الواقع الذي قامت عليه.

وقد ظهر بما ذكرنا أمور ينبغي الالتفات إليها ..

الأول : أن ما في بعض كلماتهم من أن القطع طريق إلى الواقع لا يخلو عن تسامح أو إشكال ، فإن الطريق ما يكون سببا للوصول للواقع ، وليس القطع كذلك ، بل هو بنفسه وصول له.

نعم ، سبب القطع قد يكون طريقا للواقع ، لابتنائه على بيانه والكشف عنه ، كالخبر المتواتر ، وقد لا يكون كذلك ، كما في الأسباب التكوينية الموجبة لحصول القطع بطريق الإلهام ونحوه.

الثاني : أن متابعة القطع ليست ناشئة من حكم العقل بها ، المبتني على التحسين والتقبيح ، إذ لا جهة تقتضي حسن متابعة القطع وقبح مخالفته ، بل هو ـ كما عرفت ـ مغفول عنه حين العمل.

كما لا تكون ناشئة من إلزام العقل به بملاك دفع الضرر ، إذ ذلك موقوف على الالتفات لمنشا الضرر حين العمل ، وقد عرفت الغافلة عن القطع في مقام العمل. بل هي ناشئة من كون القطع بذاته محققا لشرط الاختيار ، وهو الالتفات للجهات المقتضية للعمل ، كما سبق.

ومن ثمّ كانت نسبة الوجوب للمتابعة غير خالية عن المسامحة ، والمراد بذلك مجرد اللابدية التكوينية التابعة للذات.

نعم ، كون الواقع المعلوم موردا للعمل قد يكون بحكم العقل المبتني على التحسين والتقبيح العقليين ، كما في وجوب شكر المنعم وقبح الظلم ، وقد يكون

١٩

بملاك لزوم دفع الضرر ، الذي قد يكون معلوما ، كما في شرب ما يعلم كونه سما وقد يكون محتملا ، كما في موارد التكاليف الشرعية ، حيث أنه مخالفتها توجب استحقاق العقاب ، لا فعليته ، لإمكان العفو.

الثالث : أن موضوع الآثار العملية من حسن العمل أو قبحه هو الواقع المقطوع به ، لأنه موطن الأغراض والملاكات المقتضية للحسن والقبح ، ولذا لا يكون القطع مأخوذا في الكبريات العقلية ، بل موضوعها الواقع بنفسه وليس القطع إلا شرطا في فعلية العمل ، لكونه محققا لشرط تعلق الاختيار به ، فهو شرط في ترتيب العمل على الصغرى ، لا شرط في موضوع الكبرى.

نعم ، حيث كان العمل في الصغرى تابعا للاختيار ، وكان الاختيار منوطا خارجا بالالتفات للجهات المقتضية للعمل ـ كما ذكرنا ـ كان العمل تابعا للقطع بنفسه وإن لم يصب الواقع ، بل كان جهلا مركبا ، لتحقق شرط الاختيار به ، وبهذا يكون القطع دخيلا في الحسن والقبح الفاعليين المستتبعين لفعلية المدح والذم ، والمسببين عن العمل على طبق مقتضى الحسن والقبح الفعليين وعن مخالفته.

وكأن هذا هو مراد بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في المقام ، وإن كان تقرير كلامه قد يوهم خلاف ذلك ، وأن القطع هو تمام الموضوع للحسن والقبح الفعليين في الكبرى.

وهو كما ترى! لأن أخذه في الكبرى مستلزم لأخذه في الصغرى لينطبق موضوع الصغرى على موضوع الكبرى ، وقد عرفت أنه مغفول عنه في مقام العمل ، وليس الالتفات إلا للواقع المقطوع به ، وهو الذي يكون موضوع الملاك والغرض.

الرابع : أنه لا مجال لإطلاق الحجة على القطع بالإضافة إلى الأحكام الشرعية ، لا بالمعنى المنطقي ، ولا بالمعنى الأصولي.

٢٠