المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

الفصل الثاني

حجيّة قول اللغويين

١٨١
١٨٢

الفصل الثاني

في حجية قول اللغويين

لا إشكال في أن الظهور الذي تقدم اعتباره هو الظهور الخاص الحاصل من مجموع الكلام ، الذي قد يكون على طبق الظهور النوعي للمفردات ، وهو ظهورها في معانيها الموضوعة لها ، وقد يكون على خلافها بسبب القرائن النوعية أو الشخصية المحيطة بالكلام الموجبة للخروج عن مقتضى الوضع.

نعم ، مع عدم القرينة المخرجة عن مقتضى الوضع لا إشكال في ظهور الكلام في المعنى الموضوع له ، فيكون هو المتبع.

ومن ثمّ ذكرنا أن أصالة الظهور من صغريات أصالة الحقيقة راجعة إليها. ولذا كان تشخيص ظهور المفردات النوعي التابع لوضعها مهمّا في المقام

ولا كلام مع القطع بذلك للتبادر أو اتفاق اللغويين أو غيرهما ، وإنما الكلام في جواز الرجوع للغويين في ذلك وحجية قولهم فيه مع عدم حصول القطع منه ، فقد ذهب إليه جماعة. وقد استدل عليه بوجوه ..

الأول : إجماع العلماء عملا على الرجوع لهم والاستشهاد بكلامهم لمعرفة المراد بالكلام من غير نكير من أحد.

ويشكل : بقرب كون رجوعهم لهم لتحصيل الاطمئنان من قولهم أو القطع بالمعنى ، إما لاتفاقهم ، أو لقرائن خارجية تقتضي ذلك ، أو للاستعانة بهم في معرفة موارد الاستعمال إلى غير ذلك مما يمنع من الجزم بابتناء رجوعهم لهم على البناء على حجية قولهم ، فضلا عن الاتفاق عليها بنحو يكشف عن

١٨٣

ثبوتها شرعا.

الثاني : أنه مقتضى سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، حيث لا إشكال بينهم في الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومنه المقام.

وفيه ..أولا : أنه لم يتضح خبرة اللغويين بتعيين المعاني الموضوع لها ، فإنه وإن كان ظاهرهم التصدي لذلك لا لتعيين موارد الاستعمال ، إلا أن النظر في كتبهم يمنع من الثقة بخبرتهم ، لكثرة المعاني التي يذكرونها للفظ الواحد بنحو يطمئن بعدم وضعه لجميعها استقلالا ، وأن مستندهم في ذكرها محض الاستعمال فيها مع الغافلة عن أن خصوصيات كثير منها ناشئة من خصوصيات الاستعمال ، ولم تؤخذ في المعنى وضعا.

وثانيا : أنه لا وثوق بتقيدهم في ثبوت الاستعمالات التي يستنبط منها المعنى بالوجه المعتبر من علم أو علمي ، بل من القريب جدا تسامحهم في ذلك كثيرا ، فلا مجال للتعويل عليهم بملاك الرجوع إلى أهل الخبرة.

نعم ، قد يستأنس بما ذكروه بنحو يكون من مقدمات تشخيص الظهور واستنباطه بنظر الباحث واجتهاده.

وثالثا : أن من المعلوم تسامحهم في تحديد المعنى ومبناهم على الإشارة إليه إجمالا من دون ضبط له بالنحو الجامع المانع. ومن ثم اشتهر أن تعاريفهم لفظية لا حقيقية ، ومعه لا مجال للرجوع لهم لمعرفة المعنى تفصيلا ، وأما معرفته إجمالا فلا أثر لحجية قولهم فيها ، لتيسر القطع به غالبا ولو بعد الرجوع لهم.

ورابعا : أن جواز الرجوع إلى أهل الخبرة يختص بمن لا يتيسر له الاجتهاد في موضوع خبرتهم ، والظاهر تيسر الاجتهاد للفقيه في تشخيص الظهور الذي هو المهم في المقام ، لقلة موارد الاحتياج لذلك في الأحكام الشرعية ، وتيسر مقدمات الاستنباط ولو بعد الرجوع لهم ، بنحو لا يعلم بانهم أوصل منه نوعا. فلاحظ.

١٨٤

أما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من اختصاص بناء العقلاء في الرجوع إلى أهل الخبرة بما إذا حصل الوثوق بقولهم ، وهو لا يحصل من قول اللغويين.

فإن أراد به اعتبار حصول الوثوق الشخصي فهو غير ظاهر من سيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة.

وإن أراد به أن قول اللغويين ليس من شأنه أن يوجب الوثوق نوعا بنحو يصح التعويل عليه عند العقلاء. فلعله راجع إلى ما ذكرنا.

ثم إن سيدنا الأعظم قدّس سرّه قد استشكل في الاستدلال المذكور : بأن الرجوع إلى أهل الخبرة إنما هو في الامور الحدسية المبنية على الاجتهاد وإعمال النظر ، وليس منها تعيين معنى اللفظ ، حيث يكون الاستناد فيه على المقدمات القريبة من الحس ، فهو نظير نقل الخبر بالمعنى ، لا يدخل في باب قول أهل الخبرة بالمعنى المذكور ، بل في باب خبر الثقة ، فينبغي الاستدلال عليه بعموم قبول خبر الثقة في الأحكام ، لأن خبر اللغوي وإن كان عن الموضوع ، لا عن الحكم ـ كالمفتي ـ إلا أن المراد بقبول خبر الثقة في الأحكام كل خبر ينتهي إلى الخبر عن الحكم الكلي ولو بالالتزام ، ومنه المقام ، فلا يعتبر فيه العدالة والعدد ، بخلاف الخبر عن الموضوع الصرف الذي لا يقتضي إلا الحكم الجزئي.

أقول : تعيين المعنى إنما يبتني على الحدس القريب من الحس إذا كان مبتنيا على التبادر ـ كما في النقل بالمعنى ومعرفة أهل اللغة بلغتهم ـ أو كان مبنيا على استفاضة النقل من أهل اللسان وتسالمهم. أما لو كان مبنيا على استنباط المعنى من الاستعمالات بعد التأمل فيها ، وتمييز حقائقها من مجازاتها ، وتعيين الخصوصيات الاستعمالية من الخصوصيات الوضعية ونحو ذلك ، كما هو الحال في المفاهيم ذات الحدود الخفية ، فهو مبني على الحدس والاجتهاد الملحق لصاحبه بأهل الخبرة ، كما اعترف به قدّس سرّه.

وحجية قول أهل اللغة في الأول لا أهمية لها غالبا ، لغلبة تيسر معرفة

١٨٥

المعنى للباحث نفسه في مثل ذلك ولو بضميمة ذكرهم له ، ولا سيما مع كون الوجه المذكور لا يقتضي غالبا تعيين المعنى بوجه تفصيلي ، بل إجمالي ، وإنما المهم حجية قولهم في الثاني لو فرض خبرتهم ، لصعوبة تمييزه على الباحث نفسه ، كما لا يخفى.

هذا ، مع أن التأمل في ما سبق منا وفي غيره يمنع من الوثوق باللغويين بنحو يدرج خبرهم في خبر الثقة. فتأمل جيدا.

الثالث : أنه لو لم يرجع لقول اللغويين لزم انسداد باب العلم باللغة ، إذ الغالب انحصار معرفة أصل المعنى إجمالا أو خصوصياته تفصيلا بالرجوع لهم ، ومع انسداد باب العلم يتعين التنزل للظن الحاصل من قولهم.

وفيه .. أولا : أنه لا أثر لانسداد باب العلم باللغة إلا من حيث إفضائه إلى انسداد باب العلم في غالب الأحكام الشرعية ، وهو لا يلزم في المقام ، لقلة الأحكام المتعلقة بالمفاهيم المجملة التي لا يتسنى للفقيه تشخيص ظهور الأدلة المتعرضة لها بنفسه ولو بمعونة الرجوع لهم ، فلا يلزم من الرجوع للأصول فيها مخالفة قطعية ، فضلا عن الخروج عن الدين ، كما لا يلزم من الاحتياط فيها الحرج ، فضلا عن اختلال النظام ، كي يتعين معه الرجوع للظن حكومة أو كشفا.

وثانيا : أنه لو تم اقتضى الاكتفاء بكل ظن ، لا بخصوص ما يحصل بقول اللغوي ، إلا أن يكون هو المتيقن مع فرض إهمال نتيجة دليل الانسداد. وهو غير ظاهر.

وثالثا : أن ما عرفت من الإشكال في خبرة اللغويين والثقة بهم يمنع من حصول الظن بقولهم.

١٨٦

تنبيه :

ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أنه بعد الفراغ عن عدم حجية قول اللغويين فلو حصل الوثوق بالمعنى من قولهم أوجب ظهور اللفظ فيه ، ولا يكون الوثوق بالمراد مستندا لأمر خارجي غير معتبر ، بل يدخل المورد في كبرى حجية الظهور بالخصوص ، لأن الوثوق بالمعنى لو حصل قبل إلقاء الكلام لأوجب ظهور اللفظ فيه قطعا ، فكذا بعده ، لعدم معقولية الفرق.

وفيه : أن الوثوق بالمعنى ـ سواء حصل من قول اللغويين أم من غيره ـ لا يوجب إلا الوثوق بالظهور ، سواء حصل قبل إلقاء الكلام أم بعده.

وحينئذ فحيث كان موضوع الحجية هو الظهور الواقعي فلا بد من إحرازه بعلم أو علمي ، ولا يكفي مجرد الوثوق إذا لم يستند إلى حجة ، كما هو المفروض. إلا أن يراد به العلم العادي ، فيكون حجة بنفسه. فلاحظ.

١٨٧
١٨٨

الفصل الثّالث

حجّيّة الإجماع المنقول

١٨٩
١٩٠

الفصل الثالث

في حجية الإجماع المنقول

لا يخفى أن الكلام في هذه المسألة متفرع على القول بحجية خبر الواحد ، حيث قد يدعى أن حجية خبر الواحد تستلزم حجية نقل الإجماع بخبر الواحد ، لأنه من أفراده ، فكان المناسب التعرض لها بعد الكلام في ذلك ، إلا أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث حررها هنا وتبعه جماعة ممن تأخر عنه تابعناهم في ذلك.

هذا ، وينبغي تقديم امور تنفع في تحرير الكلام ..

الأمر الأول : اشتهر ذكر الإجماع في أدلة الاحكام في كلمات أهل الاستدلال ، وقد صرّح أصحابنا بأن الإجماع ليس حجة بنفسه ، بل الملاك في حجيته موافقة المجمعين للإمام عليه السّلام فالحجة قوله ، لا أقوالهم ، إذ لا مرجع للامة بعد النبي صلّى الله عليه وآله إلا الكتاب الكريم والعترة الطاهرة ، ولا عبرة بأقوال الامة اذا خالفتهما.

نعم ، قد يستكشف قوله عليه السّلام من أقوالهم ، فلا أثر لاقوالهم إلا من حيث الكشف عن الحجة.

الأمر الثاني : بعد ما عرفت من أن حجية الإجماع منوطة باتفاق الإمام عليه السّلام من المجمعين فإحراز رأيه عليه السلام يكون بأحد وجوه ..

الاول : العلم برأيه عليه السّلام بطريق الحس أو بطريق ملحق بالحس ، كالتواتر.

الثاني : إحرازه حدسا بقاعدة اللطف ، التي حكي عن الشيخ قدّس سرّه البناء

١٩١

عليها ، بل امتناع الاستدلال بالإجماع لولاها وهي راجعة إلى امتناع اتفاق الامة في عصر على خلاف رأي الإمام عليه السّلام ، بل يجب عليه عليه السّلام إزاحة العلة بالظهور ، أو إظهار من يبين الحق في المسألة ، فمتى تم اتفاقهم كشف عن موافقتهم له عليه السّلام. وإن كان التحقيق عدم تمامية القاعدة.

الثالث : إحرازه حدسا بمقدمات نظرية يختلف الناس فيها ، كحسن الظن بالمجمعين ، بنحو يمتنع عادة اتفاقهم على الخطأ مطلقا ، أو في خصوص الواقعة ، لكونها موردا للابتلاء ، المانع من اختفاء حكمها عليهم ، أو نحو ذلك.

الأمر الثالث : لما كان ملاك حجية الإجماع موافقة الإمام عليه السّلام للمجمعين فربما يظهر من كلام بعضهم أن الإجماع في الاصطلاح هو الاتفاق المشتمل على قول الإمام عليه السّلام بحيث يكون ظاهر ناقل الإجماع مع عدم القرينة الصارفة هو نقل قول الإمام عليه السّلام في ضمن أقوال المجمعين.

لكنه خلاف الظاهر ، بل ظاهرهم إرادة إجماع العلماء أنفسهم ، فليس المنقول إلا قولهم ، كما يشهد به مقابلة الإجماع في كثير من الموارد بالخلاف ، واستثناء بعض الأشخاص من الإجماع وغير ذلك مما يظهر منه عدم إرادة المعنى المذكور.

بل هو كالصريح في مثل قولهم : أجمع علماؤنا ، أو أصحابنا ، أو فقهاؤنا ، أو فقهاء أهل البيت عليهم السّلام.

نعم ، قد يحتمل إرادة دخول الإمام عليه السّلام في المجمعين من مثل قولهم : أجمعت الامة ، أو المسلمون ، أو أهل الحق ، أو الطائفة ، أو نحو ذلك.

وبالجملة : دعوى ظهور كلام ناقل الإجماع في نقل قول الإمام عليه السّلام مع المجمعين في غير محلها ، بل ظاهره غالبا إرادة نقل أقوال العلماء وحدهم ، وإن كان مستلزما لقول الإمام عليه السّلام بنظر الناقل.

ولا سيما إذا نقل الإجماع في مقام الاحتجاج ، لظهوره في خصوصية

١٩٢

اتفاق الجميع في الاحتجاج ، وإن كان من حيث استلزامه للحجة ، لا في كون الاحتجاج بقول البعض ـ وهو الإمام عليه السّلام ـ ولا أثر للباقين.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر أن الإجماع اصطلاحا مختص باتفاق أهل العصر الواحد ، واستشهد بكلمات بعضهم.

وهو وإن ناسب طريقة القائلين بقاعدة اللطف ، إلا أنه لم يتضح بوجه معتد به بنحو يصلح لتحديد مصطلحهم بذلك لتحمل كلماتهم عليه عند الاطلاق.

ولا سيما مع ظهور كثير من كلماتهم في الفقه في إرادة إجماع جميع العلماء ، كما يشهد به مقابلة الإجماع بالخلاف ، بنحو يظهر منه إرادة الخلاف ولو بين أهل العصور المختلفة ، فلا مخرج عن مقتضى الإطلاق الظاهر في إرادة علماء جميع العصور.

نعم ، الاطلاع بطريق حسي على فتاوى جميع علماء العصر الواحد فضلا عن فتاوى علماء جميع العصور لا يتسنى عادة لأحد ، خصوصا المتأخرين ، مع تباعد الأمكنة ، وعدم ضبط فتاوى كثير من العلماء ، إما لكونهم مغمورين لا ظهور لهم ، أو لضياع فتاواهم ، بل ربما لا يكون لبعضهم فتوى في المسألة ، لعدم نظره في أدلتها.

فلا بد من توجيه كلام مدعي الإجماع ، إما بحمله على إرادة خصوص أهل الفتاوى الظاهرة أو أهل الكتب المشهورة أو نحو ذلك ، وإما بحمله على إرادة الكل مع كون الاطلاع عليهم بطريق الحدس ، لاستبعاد مخالفتهم للمشهورين ، أو لابتناء الفتوى على أصل أو قاعدة إجماعية بنظر مدعي الإجماع ، كما تعرض لذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه وأطال الكلام فيه.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه حكي عن جماعة أن ما دل على حجية خبر الواحد في الأحكام يقتضي حجية الإجماع المنقول لأنه من أفراده ، لرجوع

١٩٣

دعوى الإجماع إلى حكاية قول الإمام عليه السّلام أو رأيه ، بل ربما قيل : إنه من الخبر العالي السند ، لأن مدعى الإجماع يحكي عنه عليه السّلام بلا واسطة.

والذي ينبغي أن يقال : إن حجية نقل الإجماع بملاك حجية خبر الواحد مبني على أحد أمرين :

الأول : أن يكون مرجع كلام ناقل الإجماع إلى نقل قول الإمام عليه السّلام في ضمن أقوال المجمعين.

الثاني : أن يكون ما ينقله من الأقوال ملازما عقلا أو عادة لقول الإمام عليه السّلام ، فيكون خبره حجة فيه ، بناء على ما هو الظاهر من حجية الخبر في لازم مؤداه وإن لم يقصد المخبر الإخبار عنه.

أما الأول فهو بعيد عن ظاهر كلام أكثر نقلة الإجماع ، كما سبق.

مع أنه لا مجال لحجيته مع عدم كون ناقل الإجماع من أصحاب الأئمة عليهم السّلام ، لعدم اطلاعه على آرائهم من السؤال ونحوه من الطرق الحسية.

كما يبعد اطلاعهم عليها من طريق ملحق بالحس ، كالتواتر الموجب للعلم لكل أحد ، وإلا لكان ذكره في مقام الاستدلال أولى من ذكر الإجماع ، لأنه أصرح في بيان الحجة.

مع أنه يكفي في عدم قبول نقل الإجماع الشك في ذلك بعد عدم ظهور كلام الناقل فيه ، إذ لو سلم ظهوره في نقل قول الإمام عليه السّلام فلا ظهور له في اعتماده على الحدس الملحق بالحس ، لاحتمال اعتماده على خبر من لا يوجب خبره العلم لغيره ، فيكون بمنزلة رواية مرسلة ليس بحجة.

على أن الظاهر بل المقطوع به ابتناء النقل ـ لو تم ظهور كلام الناقل فيه ـ على الحدس ، لقاعدة اللطف أو غيرها مما تقدم ، ومثل ذلك خارج عن عموم أدلة حجية خبر الثقة في الأحكام ، لاختصاصها بالإخبار عن حسّ أو حدس قريب منه ، وقبول الخبر عن حدس إنما هو من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ،

١٩٤

الذي لا يصح من المجتهد ، بل يجب عليه إعمال اجتهاده بنفسه.

ومما ذكرنا يظهر حال ما عن بعض من حجية الإجماع المنقول من القدماء ، بدعوى احتمال كون مستندهم في ذلك هو السماع من المعصوم ولو بالواسطة ، لقرب عصرهم من عصر الحضور.

إذ لو فرض حصول الاحتمال المذكور فلا مجال للتعويل عليه بعد ما عرفت.

وأما الثاني فلا مجال لإحرازه بعد ما عرفت من أن كلام ناقل الإجماع وإن كان ظاهرا بدوا في إرادة النقل عن جميع العلماء في جميع الأعصار ، وهو لو تم ملازم لقول الإمام عليه السلام عادة ، إلا أنه بعد العلم بامتناع الاطلاع على أقوالهم بطرق حسية لا بد من حمله على إرادة النقل عن بعضهم أو عن جميعهم اعتمادا على الحدس ، ومثل ذلك لا يستلزم عادة قول الإمام عليه السّلام حتى ينفع في المقام.

ثم إن بعض الأعاظم قدّس سرّه ذكر أن إجماع الأصحاب يكشف عن دليل معتبر عندهم خفي علينا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه ، وإلا احتمل استنادهم إليها ، لا إلى دليل آخر وراءها ، وحينئذ فلو فرض كون ناقل الإجماع مثل الشهيد والمحقق والعلامة قدّس سرّه تعين اعتبار حكايتهم ، لانهم يحكون نفس الفتاوى بلسان الإجماع الكاشفة عن الدليل المعتبر مع عدم وجود أصل أو قاعدة في البين ، بخلاف ما لو كان الحاكي من المتقدمين عليهم ، لان الغالب ابتناء حكايتهم الإجماع على الأصل أو القاعدة بنظرهم ، لا على حكاية نفس الفتاوى.

أقول : الاتفاق منهم على الفتوى لا يستلزم وجود دليل معتبر واقعا ، إذ كما أمكن خطؤهم في الاستناد إلى الأصل أو القاعدة أو الدليل الموجود في المسألة ، يمكن خطؤهم في الأدلة التي اعتمدوها وخفيت علينا.

١٩٥

نعم ، هو يكشف عن وجود دليل معتبر عندهم ، كما تكشف فتوى العدل الواحد عن وجود دليل معتبر عنده ، وذلك بنفسه لا يكفي في الحجية ، كما لا يخفى.

مع أن الفرق في الحاكي بين مثل المحقق ومن تقدمه ـ لو تم ـ لا ينفع بعد ما عرفت من امتناع اطلاع الحاكي على فتاوى الكل حسّا ، بل لا بد من توجيه حكايته بما تقدم المانع من الاعتماد عليه.

فالانصاف أنه لا مجال لحجية الإجماع المنقول بنفسه.

نعم ، قد تشهد القرائن في بعض المقامات بمطابقته للحكم الواقعي ، أو للدليل المعتبر ، وهو يختلف باختلاف ناقلي الإجماع ، والمسائل المنقول فيها ، والمجتهدين الذين يرجعون للنقل. كما قد يحصل العلم بالحكم من ذهاب المشهور ، أو تسالم جماعة قليلة عليه أو غير ذلك مما لا ضابط له ، ليرجع إليه.

١٩٦

الفصل الرّابع

حجّيّة الشّهرة الفتوائيّة

١٩٧
١٩٨

الفصل الرابع

في حجية الشهرة الفتوائية

ذكروا أن الشهرة ..

تارة : تكون في الرواية ، وهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة ومعروفيتها عندهم وتسالمهم عليها ، في قبال الحديث النادر الذي ينفرد به البعض.

واخرى : تكون في العمل بالرواية أو في الاعراض عنها في مقام الاستدلال.

وثالثة : تكون في الفتوى مع قطع النظر عن الحكم.

والاولى من المرجحات في باب تعارض الروايات.

والثانية هي التي قيل : انها تجبر الحديث الضعيف وتوهن الحديث الصحيح. وقد أشرنا في آخر مبحث حجية الظواهر إلى وجه الثاني. ولعله يأتي في مبحث حجية خبر الواحد الكلام في وجه الأول.

وأما الثالثة فهي محل الكلام في المقام.

وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنها تحصل بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين ، سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف ، أم لم يعرف الخلاف والوفاق من غيرهم.

وقد حكي عن بعضهم حجيتها ، وقد استدل عليها ..

تارة : بما دل على حجية الخبر بضميمة الأولوية ، لأن الظن الحاصل منها

١٩٩

أقوى من الظن الحاصل منه.

واخرى : بما تضمن الترجيح بين الروايات المتعارضة بالشهرة ، كما في المقبولة والمرفوعة.

وثالثة : بأنها مقتضى التعليل في آية النبأ بقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) ، بتقريب : أن المراد من الجهالة السفاهة ، فتدل بمقتضى التعليل الموجب لتخصيص الحكم بمورده على جواز الاعتماد على ما لا يكون الاعتماد عليه سفاهة ، ومنه الشهرة المذكورة.

والكل كما ترى!

إذ يندفع الأول : بأن المدعى إن كان هو الأولوية الظنية فهي ـ مع عدم تماميتها كما يأتي ـ أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسك بها في حجيتها ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وإن كان هو الاولوية القطعية فهي ممنوعة ..

تارة : لعدم ثبوت كون إفادة الظن هي الملاك في حجية الخبر ، كيف ولا إشكال في عدم حجية كثير مما يفيد الظن غيره؟!

واخرى : لعدم اطراد أقوائية الظن الحاصل من الشهرة من الظن الحاصل من الخبر.

ويندفع الثاني ..

تارة : بما عرفت من أن المرجح هو الشهرة في الرواية الموجبة لعدم الريب فيها ، لا الشهرة في الفتوى التي هي محل الكلام هنا.

وما قيل من عموم الشهرة المذكورة في الأدلة لهما ، يظهر وهنه بأدنى تأمل فيها ، كما تعرض له غير واحد بما لا ينبغي الإطالة فيه.

واخرى : بأن الترجيح بالشهرة لا يستلزم حجيتها في نفسها في غير مورد

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٢٠٠