المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

الفصل الأوّل

حجيّة الظّواهر

١٦١
١٦٢

الفصل الأول

في حجية الظواهر

حيث كان الكلام هو أهم الطرق البيانية التي جرى العقلاء على التفاهم بها ، وكان ذلك مما فضّل الله تعالى به الإنسان وميزه به عن البهائم ، وكان للعقلاء وأهل اللسان طرق خاصة في أداء المقاصد بالكلام وتحصيلها به ، فالظاهر من الشارع الأقدس جريه على الطرق المذكورة والمتابعة لها وعدم الخروج عنها ، وإلا كان عليه التنبيه على ذلك ، والردع عن الطرق المذكورة ، لأن متابعتها هي مقتضى الطبيعة الأولية كسائر السير العقلائية العامة ، فتحتاج مخالفتها إلى البيان والردع ، وحيث لم يظهر منه الردع عن الطرق المذكورة ، بل الجري عليها في كثير من الموارد كان ذلك قرينة قطعية على إمضائه للطرق العقلائية ، وإلا كان مخلا بغرضه ومغررا باتباعه ، وهو قبيح منه ممتنع في حقه.

وبالجملة : لا ريب في عدم خروج الشارع عن الطرق العقلائية في مقام التفاهم بالكلام ، وهذا راجع إلى حجية الطرق المذكورة شرعا إمضاء لسيرة العقلاء.

من دون فرق بين كلامه وكلام غيره ، فكما يجوز أخذ مقاصده من كلامه بالطرق المذكورة كذلك يجوز أخذ مقاصد غيره بها في حكمه ، كما في موارد الوصايا والأقارير والشهادات وغيرها.

وحينئذ فاللازم النظر في الطرق العقلائية وتحديدها.

فنقول : ليس مبنى العقلاء في مقام التفاهم على الاقتصار على النصوص

١٦٣

الكلامية غير القابلة للاحتمال والتأويل ، بل مبناهم على الاعتماد على الظهورات والركون اليها في بيان المقاصد الجدية ، بل هي الأكثر شيوعا ، لأنها أيسر وأسهل ، ولعدم تيسر ضبط النصوص في قواعد عامة يتفق عليها الكل ، لعدم الضابط للاحتمالات القريبة فضلا عن البعيدة ، فلو اقتصر على النصوص لتوقف التفاهم واختلت موازينه ، كما لا يخفى.

ولا فرق في الظهورات بين أن تكون عامة مستندة للوضع ، أو لقرائن عامة يرجع إليها عند عدم الصارف ، وأن تكون خاصة مستندة لقرائن خاصة اكتنفت الكلام.

نعم لا بد من تشخيص مقتضى الظهور الكلامي أولا. والظاهر أنه لا ضابط لمعرفة الظهورات الخاصة ، وأما الظهورات العامة فعمدتها الوضع ، وقد ذكر له الأصوليون علامات ، كالتبادر ونحوه ، كما وقع الكلام منهم في تشخيص بعض الظهورات لأهميتها ، كظهور المشتق وصيغة الأمر والمفاهيم وغيرها.

وليس هناك طريق ظني لها وقع الكلام في حجيته غير قول أهل اللغة الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.

ثم إن الفرق بين النص والظاهر بعد اشتراكهما في الكشف عن مراد المتكلم الجدي ، هو القطع بالمراد من النص واحتمال خلافه في الظاهر ، لاحتمال أحد أمور ..

الأول : خروج المتكلم عن الطريق العقلائي المذكور واختراعه طريقا آخر.

الثاني : عدم صدور الكلام لبيان المراد الجدي ، بل لغرض آخر عقلائي كالخوف والتقية وغيرهما أو غير عقلائي.

الثالث : غفلة المتكلم عن مقتضى الظهور أو عن إقامة القرينة الخاصة الموجبة لتبدله ، لو فرض إمكان ذلك في حقه ، كما في غير الشارع.

١٦٤

الرابع : ضياع قرائن احتفت بالكلام أوجب تبدل ظهوره.

نعم ، لا إشكال في عدم اعتناء العقلاء بالاحتمالات المذكورة بأجمعها ، وأن الظهور هو المتبع ، فيدفع الأول بأصالة جري العاقل على مقتضى الطريق المألوف للعقلاء ، ومن ثمّ سبق أن الخروج عنه يحتاج إلى دليل رادع ، والثاني بأصالة الجهة المعول عليها عند العقلاء. ويدفع الثالث أصالة عدم الخطأ والغافلة المعول عليها في غير المقام أيضا. والرابع أصالة عدم القرينة. ولو لا ذلك لاختل نظام التفاهم.

هذا ، والظاهر أصالة الظهور الراجعة إلى كون مقتضى الظهور هو المراد الجدي للمتكلم تبتني على الأصول المذكورة بأجمعها ، وترجع إليها فهي إجمال لمؤدياتها ، وليست أصلا برأسه في قبالها.

وأما الأصول الوجودية الأخر ـ كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق ونحوها مما يذكر في كلماتهم ـ فهي راجعة إلى أصالة الظهور ومن صغرياتها ، فلا يعول عليها لو فرض انعقاد الظهور على خلافها.

كما أن الأصول العدمية الأخر ـ كأصالة عدم المخصص والمقيد ونحوها ـ إن اريد بها نفي اتصال الأمور المذكورة بالكلام بنحو تقتضي تبدل ظهوره فهي راجعة إلى أصالة عدم القرينة ومن صغرياتها. وإن أريد بها نفي الأمور المذكورة خارج الكلام بنحو يرفع بها اليد عن مقتضى ظهوره بعد فرض انعقاده ـ كما هو غير بعيد ـ كانت من صغريات أصالة عدم المعارض المعول عليها عند العقلاء أيضا.

والظاهر أن ما ذكرنا أولى مما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من رجوع أصالة الحقيقة وأخواتها إلى أصالة عدم القرينة ، ومما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من إنكار أصالة عدم القرينة ، والاعتراف بأصالة الظهور ، بدعوى : أن بناء العقلاء على إرادة الظهور ليس بتوسط بنائهم على عدم احتفاف الكلام بالقرينة. ومما

١٦٥

ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن أصالة الظهور في قبال أصالة عدم القرينة ، ومترتبة عليها موضوعا ، لأن أصالة عدم القرينة تنقح ظهور الكلام ، وأصالة الظهور تقتضي إرادة مقتضاه بعد الفراغ عن ثبوته ، على تفصيل في كلامه.

وكذا ما تردد في كلمات بعضهم من جعل أصالة عدم الظهور في قبال أصالة الجهة. فإن جميع ذلك خلاف الظاهر ، والظاهر ما ذكرنا. فلاحظ.

ثم إن ما ذكرنا من حجية الظواهر من المسلمات في الجملة ، نعم وقع الكلام بينهم في بعض الموارد إما لدعوى عدم بناء العقلاء عليها ، أو لدعوى ردع الشارع عن مقتضى سيرتهم فيها. واستقصاء الكلام فيها في ضمن مباحث ..

١٦٦

المبحث الأول

في حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالافهام

فعن المحقق القمي قدّس سرّه اختصاص الحجية بمن قصد بالإفهام. وربما يحمل عليه كلام صاحب المعالم قدّس سرّه في الدليل الرابع على حجية الخبر.

وحاصل ما يستدل به لذلك : أن أصالة الظهور مبنية على أصالة عدم الغافلة المعول عليها عند العقلاء في جميع أمورهم ، فكلما احتمل إرادة المتكلم لخلاف ظاهر كلامه إما لغافلته عن إقامة القرينة ، أو لغافلة السامع عن القرائن المكتنفة بالكلام ، فلا يعتنى بالاحتمال المذكور ، لأصالة عدم الغافلة منهما.

أما لو لم يبتن احتمال إرادة خلاف الظاهر على احتمال الغافلة منهما فلا دليل على حجية الظهور في معرفة مراد المتكلم. وحينئذ فحيث لم يكن وظيفة المتكلم تفهيم كل أحد ، بل تفهيم خصوص من يقصد افهامه ، وله تعمد إخفاء المراد عن غيره ، فلا مجال لحجية الكلام في حق من لم يقصد بالإفهام ، لاحتمال اختصاص من قصد بالإفهام بقرينة لم يطلع عليها غيره ، ولا يكون عدم اطلاعه عليها ناشئا عن غفلته ، ولا عن غفلة المتكلم ، ليدفع الاحتمال المذكور بالأصل ، بل لعدم حدوث الداعي للمتكلم في اطلاعه على القرينة ، ولا دافع للاحتمال المذكور.

وفيه : ـ كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره ـ أن بناء العقلاء وأهل اللسان على العمل بالظواهر لا تبتنى على خصوص أصالة عدم الغافلة ، بل الأصل عندهم عدم الصارف عن ظاهر الكلام مطلقا بعد الفحص عنه في مظانه ، من

١٦٧

دون فرق بين المشافه وغيره ، فاذا وقع كتاب موجه من شخص إلى آخر بيد ثالث ، فإنه لا يتأمل في استخراج مراد المرسل منه ، بحيث لو كان مضمون الكتاب متعلقا بعمله لم يكن له التساهل والتسامح معتذرا بعدم حجية ظهور الكتاب في حقه ، لعدم كونه مقصودا بالتفهيم به.

وعلى هذا جرت سيرة العلماء في الأحكام الكلية ، حيث يأخذونها من ظواهر الأخبار ، مع كون المقصود بالإفهام بها خصوص المخاطبين بها ـ على تفصيل يأتي ـ وكذا في الأحكام الجزئية ، كما في باب الوصايا والأقارير والعقود وغيرها ، كما لا يخفى. فما ذكره قدّس سرّه من التفصيل غير ظاهر.

بقي في المقام شيء ، وهو أن المحقق القمي قدّس سرّه جعل ثمرة التفصيل المتقدم عدم حجية الأخبار ، لأن المقصود بالافهام بها خصوص المخاطبين. وكذا الكتاب بناء على عدم كوننا مقصودين بالافهام به ، أما بناء على كونه من باب تصنيف المصنفين يقصد به تفهيم كل من يطلع عليه فيكون حجة علينا وإن لم نكن مخاطبين به.

أما ما ذكره في الكتاب فقد أنكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه مدعيا أن لازم التفصيل المذكور عدم حجية ظواهره مطلقا وإن كان من باب تصنيف المصنفين.

وكأن وجهه : أن احتمال إرادة خلاف الظاهر منه لا يستند إلى احتمال غفلة المتكلم أو السامع عن القرينة ، بل إلى احتمال ضياع قرائن كانت موجودة حين الخطاب به ، ولا دافع للاحتمال المذكور إلا أصالة عدم القرينة ، التى تقدم من المحقق القمي قدّس سرّه إنكارها في غير مورد احتمال الغافلة.

وفيه : أن احتمال ضياع القرينة لا يعتنى به بعد فرض كون المتكلم في مقام تفهيم كل أحد بكلامه ، إذ يلزمه حينئذ عدم الاعتماد إلا على القرائن التي من شأنها الوصول لكل أحد ، فلو فرض ضياع القرينة كان فهم خلاف المراد

١٦٨

ناشئا منه من دون تقصير من المكلف.

ودعوى : أنه لا يقبح الاعتماد على القرائن التي من شأنها الوصول إلى جميع من قصد إفهامه وإن اختفت بسبب المكلفين أنفسهم ، إذ لا يجب على الشارع إلا حفظ الواقع بالطرق المتعارفة.

لو تمت لا تنافي حجية الظهور بمقتضى فرض تعهد المتكلم به في حق كل من قصد إفهامه ، لرجوعه إلى ظهور حال المتكلم في عدم الاعتماد على القرائن المختفية ، فاختفاؤها خلاف فرض ظاهر تعهده وإن لم يقبح منه التعهد المذكور ، وهذا بخلاف اختفاء القرينة في حق من لم يقصد به بالإفهام ، فإنه لا ينافي ظهور حال المتكلم ولا تعهده.

وبالجملة : احتمال اختفاء القرائن مع فرض قصد المتكلم تفهيم كل أحد كاحتمال تعمد المتكلم بيان خلاف الواقع لمصلحة ملزمة لا ينافي حجية الظهور ، وأما ما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه من انحصار أصالة عدم القرينة باحتمال الغافلة ، فهو على الظاهر لبيان سقوط الظهور مع احتمال اختفاء القرينة من دون تعهد من المتكلم ، لا لبيان سقوطه مطلقا حتى مع تعهده. فلاحظ.

وأما ما ذكره في الأخبار فهو غير ظاهر في أكثر الأخبار ، وهي التي يرويها المخاطبون بها ، لأن نقلها مبني على بيان المضمون لأجل العمل به والرجوع إليه ، لا لمجرد نقل اللفظ ، فيكون الناقل متعهدا بالمضمون ، فيلزمه التعرض لجميع ما هو الدخيل فيه من قرينة حالية أو مقالية.

ولذا كان الظاهر أن اختلاف النسخ بالزيادة والنقصان إذا كان موجبا لاختلاف المضمون لحقه حكم التعارض ، لأن ظاهر من لا يروي الزيادة عدم وجودها ، فيعارض ناقلها.

وعليه فاحتمال عدم وصول القرينة الحاصلة للمخاطب المقصود بالإفهام ناشئ من احتمال غفلة المخاطب عنها في مقام تلقي المضمون من

١٦٩

المعصوم عليه السّلام أو غفلته عنها في مقام حكايته ، أو تعمد إخفائها ، ويندفع الأولان بأصالة عدم الغافلة ، والثالث بفرض حجية نقله ، لكونه ثقة في نفسه.

نعم ، قد يتم في الأخبار التي يرويها غير المخاطبين بها ، كما لو قال الراوي : سمعته يقول لرجل ، أو : سأله رجل ، أو نحو ذلك.

وما ذكره شيخنا الاستاذ من كون المقصود بها إفهام جميع السامعين لها ، لا خصوص السائل ، لأن الأئمة عليهم السّلام كانوا يعلمون أن غرض الجالسين في مجالسهم الاستفادة من سؤال السائلين والتفقه به.

وإن لم يكن بعيدا ، إلا أنه غير ظاهر بنحو يعتد به في إثبات المطلوب ، فلا يبعد ترتب الثمرة في مثل ذلك ، كما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه.

لكن الأخبار المذكورة تشهد بعدم الفرق في الحجية بين من قصد بالافهام وغيره ، لما أشرنا إليه من أن النقل ليس لمحض حكاية اللفظ ، بل لبيان المضمون من أجل الرجوع إليه والعمل به ، وهو شاهد بأن عموم الحجية من الارتكازيات العامة التي جرى عليها الرواة ونقلة الحديث والعلماء في مقام الاستدلال ، وإليه يرجع ما تقدم من الاستدلال بسيرة العلماء في أخذ الأحكام الكلية من الأخبار.

ثم إنه قد يستشكل في الرجوع للروايات ..

تارة : من جهة التقطيع الذي طرأ عليها ، حيث يحتمل معه ضياع القرينة.

واخرى : من حيث النقل بالمعنى ، حيث أن الناقل قد يخطئ في فهم المراد أو في أدائه بغير لفظه.

ويندفع الأول بما أشرنا إليه من أصالة عدم الغافلة ، فانه حيث كان اثبات الروايات في الكتب بعد تقطيعها لأجل الرجوع إليها والأخذ بمضامينها كان اللازم على مثبتها ملاحظة القرائن الدخيلة في فهم المراد ، واحتمال غفلته مدفوع بالأصل.

١٧٠

ويندفع الثاني : ـ مضافا إلى ظهور كلام الراوي في أنه حاك باللفظ ـ بأن ظاهر النصوص المجوزة له حجيته ، لما هو المعلوم من أن الغرض من النقل هو الرجوع للحديث والعمل به ، فالحكم بجوازه ظاهر في حجيته. ولا يبعد بناء العقلاء على ذلك أيضا ، لأصالة عدم الغافلة والخطأ من الناقل في فهم المعنى وأدائه.

ويكفي في الإعراض عن هذه التشكيكات النظر في سيرة الرواة والعلماء قديما وحديثا ، فإن اهتمامهم بتدوين الأحاديث واستدلالهم بها يوجب القطع بالمفروغية عن حجية ظهورها عند الكل ، كما هو ظاهر جدا.

١٧١

المبحث الثاني

هل يعتبر في حجية الظواهر إفادتها الظن

أو عدم الظن بخلافها أو لا؟

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن ، أو إذا حصل الظن الغير المعتبر على خلافها. لكن الإنصاف أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان في كل مكان».

وربما يدعى قصور سيرة العقلاء عن ذلك ، لما نبّه له بعض مشايخنا من أن المشاهد من طريقة العقلاء عدم التعويل في الأمور المهمة على الظهور ما لم يحصل لهم الظن أو الاطمئنان بالمراد منه ولو بالاستزادة في القرائن الموضحة له.

لكنه مندفع بما نبه له أيضا من اختصاصه بما إذا كان المطلوب تحصيل الواقع ، دون ما لو كان المطلوب الخروج عن عهدة التكليف ومسئوليته ، فإنهم يكتفون حينئذ بالظهور لصلوحه ـ بنظرهم ـ للتنجيز والتعذير وإن لم يوصل للواقع.

وبعبارة اخرى : عدم اعتمادهم على الظواهر في الفرض ليس لعدم حجيتها ، بل لعدم اكتفائهم بالحجة مع احتمال خطئها ، لتعلّق غرضهم بالواقع.

ولعل منشأه أن إناطة الحجية بالظن وجودا أو عدما يوجب عدم انضباط موارد الحجة حتى يتكل عليها المتكلم ، لاختلاف الظن الشخصي بحسب

١٧٢

الأحوال والأشخاص كثيرا ، وذلك يوجب اضطراب باب التفاهم ، ويتوقف معه الالزام والاحتجاج بالكلام ، بخلاف ما لو كان تابعا للظهور ، فان ضبطه سهل حينئذ ، لتبعيته للمرتكزات العامة المشتركة غالبا بين الكل ، فيتسنى الاعتماد عليه في مقام التفاهم والالزام به في مقام الاحتجاج والتعذير والتنجيز.

نعم ، لا يبعد توقف العقلاء عن الاعتماد على الظهور مع وجود أمارات عرفية توجب الوثوق بوجود قرائن ترفع بها اليد عن أصالة عدم القرينة أو أصالة الجهة ونحوهما مما كان العمل بالظهور مبنيا عليه ، وإن لم يقطع بوجود القرائن المذكورة ولم تكن الامارات معتبرة.

ولعله على ذلك تبتني سيرة الفقهاء في مختلف العصور على طرح الروايات المتروكة والمهجورة بين الأصحاب ، فان هجرها قرينة عرفية توجب الاطمئنان بعثورهم على خلل في ظهورها أو جهتها ، وإن لم يقطع بذلك.

وإنما لا يكفى الظن أو الوثوق بعدم إرادة الظهور إذا لم يستند إلى أمارة تقتضي وجود القرينة بالنحو المذكور ، بل استند إلى جهات خارجية لا دخل لها بالظهور.

ولعله لذا لا يعتنى بشهرة الفتوى على خلاف ظهور الرواية إذا لم يظهر منهم الهجر لها أو لظهورها ، بل كان لأجل الاعتماد على دليل بنوا على معارضته لها ، أو لعدم اطلاعهم على الرواية ، أو لخطئهم في فهمها ، أو لنحو ذلك مما لا يوجب الوثوق باطلاعهم على ما يوجب الخلل في ظهورها أو جهتها. فتأمل جيدا.

١٧٣

المبحث الثالث

في حجية ظواهر الكتاب الكريم

فقد حكي عن جماعة من الأخباريين المنع عن العمل بظواهر الكتاب ما لم يرد تفسيرها عن الأئمة عليهم السّلام ، وهو ظاهر الوسائل.

وقد استدل له بوجوه كثيرة بعضها ظاهر الوهن ، وما ينبغي الكلام فيه وجوه ..

الأول : ـ وهو عمدتها ـ النصوص الكثير التي تعرض لكثير منها في الوسائل ، وأنهاها في الباب الثالث عشر من أبواب صفات القاضي إلى ثمانين ، ثم قال : «وتقدم ما يدل على ذلك ، ويأتي ما يدل عليه ، والأحاديث في ذلك كثيرة جدا ... وانما اقتصرت على ما ذكرت لتجاوزه حد التواتر».

وهي على طوائف ..

الاولى : ما تضمّن عدم حجية القرآن إلا بعد الرجوع للأئمة عليهم السّلام كصحيح منصور بن حازم : «وقلت لأبي عبد الله عليه السّلام : .. وقلت للناس : أليس تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وآله كان الحجة من الله على خلقه؟ قالوا : بلى .. فقلت : فحين مضى رسول الله صلّى الله عليه وآله من كان الحجة لله على خلقه؟ قالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ ، والقدري ، والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقا .. فاشهد أن عليا عليه السّلام كان قيّم القرآن .. فقال : رحمك الله» (١) ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ١٢٩ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث ١.

١٧٤

ورواية عبيدة السلماني ، سمعت عليا عليه السّلام يقول : «يا أيها الناس اتقوا الله ولا تفتوا بما لا تعلمون ، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال قولا آل منه إلى غيره ، وقد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه». فقام عبيدة وعلقمة والأسود واناس معهم فقالوا : يا أمير المؤمنين فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف؟ فقال : «يسأل عن ذلك علماء آل محمد صلّى الله عليه وآله» (١).

الثانية : ما تضمّن اختصاص الأئمة عليهم السّلام بالعلم بالتأويل وأنهم الراسخون في العلم ، وما تضمّن تفسير قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بهم عليهم السّلام ، وأن علم الكتاب عندهم ، وإليهم ميراثه خاصة ، وعهد بيانه إليهم ، وهم المستنبطون ، ووجوب الرجوع لهم في تفسير القرآن ، وأن المتمسّك بالقرآن هو الذي يأخذه منهم ومن سفرائهم إلى شيعتهم ، لا عن آراء المجادلين وقياس الفاسقين.

الثالثة : ما تضمّن النهي عن تفسير القرآن مطلقا ، أو عن تفسيره بالرأي ، أو من غير علم ، وعن القول والمراء والجدال فيه ، وأخذه من غير الائمة عليهم السّلام ، وأن الرجل ينتزع الآية فيخرّ فيها أبعد ما بين السماء والأرض ، وأنه ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر ، ونحو ذلك.

الرابعة : ما تضمن أن للقرآن ظهرا وبطنا ، وأن فيه ناسخا ومنسوخا ، وأنه ليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ، ومن تفسيره ونحو ذلك.

لكن النصوص المذكورة على كثرتها لا شاهد فيها بالمدعى.

أما الطائفة الاولى فالعمدة فيها صحيح منصور ، وهو ظاهر في إرادة لزوم نصب الإمام ، ليكون حجة على الناس في رفع الاختلاف وبيان الحق ، وأن القرآن لا يكفي في ذلك ، وهو لا ينافي حجية ظاهر الكتاب في مقام العمل كظاهر كلام الإمام عليه السّلام الذي لا يرفع الاختلاف أيضا. فالمراد فيه بالحجة الحجة

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ١٢٩ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٧.

١٧٥

الرافعة للاختلاف ، لا الحجة التي يرجع إليها في مقام العمل.

وإن شئت قلت : ظاهر كلام الراوي الإشارة إلى الواقع الخارجي الذي كان عليه الناس ، حيث تمسك كل فئة من القرآن بما يناسب رغباتهم وآراءهم ليجادلوا به مع تجاهلهم لغيره ، غفلة أو تغافلا عن اشتماله على المجمل والمتشابه والظهورات المتنافية ، وعن عدم وفاء ظواهره ببيان تمام الواقع ، لوجود غيره من الأدلة من سنة النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام ، وأن ذلك سبب للتفرق والانقسام في الامة ، ولا يمكن تجنبه إلا بنصب مرجع يحكم فيه ويبين ما خفي منه ، ولا ظهور له في الردع عن العمل بظاهر القرآن على أنه حجة كسائر الحجج بعد الفحص عما ينافيها.

وأما رواية عبيدة فهي وإن كان لها نحو تعلق بالمطلوب ، لورودها في الفتوى ، إلا أنها مع ضعف سندها ـ لا يبعد حملها على بيان عدم جواز الاستغناء بالكتاب الكريم وسنة النبي صلّى الله عليه وآله من دون رجوع للأئمة عليهم السّلام تنبيها على مقام أهل البيت عليهم السّلام الذي كان مجهولا حينئذ ، كما يشهد به صدرها الظاهر في التنبيه على عروض النسخ أو الكذب أو نحوهما مما يمنع من الاكتفاء بسنة النبي صلّى الله عليه وآله ، فإنه مسوق لبيان عدم جواز العمل بما روي منها على ما هو عليه والاستغناء به عن أهل البيت عليهم السّلام ، ولا ينافي حجيتها بعد استكمال الفحص ، وحينئذ فيراد بالرجوع في ما اخذ من الكتاب لعلماء آل محمد صلّى الله عليه وآله قبول ما يرد عنهم فيه ، وعدم الاستغناء عنهم به ، كما هو طريقة العامة ، فلا ينافي حجيته بعد الفحص وعدم العثور على ما ينافيه منهم عليهم السّلام.

وأما الطائفة الثانية فهي ـ على كثرتها ـ أجنبية عما نحن فيه ، إذ لا تدل إلا على لزوم قبول ما يرد من الأئمة عليهم السّلام في تفسير القرآن وتأويله وعدم الاستغناء عنهم به وفي تأويله ، كما عليه العامة ، لا عدم حجية ظاهره إذا لم يرد منهم ما ينافيه.

١٧٦

وليس معنى لزوم أخذه منهم عليهم السّلام دون غيرهم إلا أخذ ما احتاج إلى التأويل والتفسير ، لا أخذ ما هو ظاهر بنفسه ، إذ الظاهر يصل بنفسه عرفا بلا حاجة لأن يؤخذ من أحد كما أن إرثه ليس إلا بإرث ما اختص بالنبي صلّى الله عليه وآله من علمه وخفي على الناس ، ولا يشمل مثل الظواهر التي تظهر لعموم الناس.

ومنه يظهر حال الطائفة الثالثة ، فإن الأمور المذكورة فيها لا تنافي حجية ظواهر القرآن ، لعدم ابتناء العمل بها على التفسير والتأويل ، ولا على القول فيه بغير علم ، وليس هو من انتزاع الآية ، ولا من ضرب بعض القرآن ببعض ، لظهورهما في ابتناء أخذ المعنى على التكلف والعناية أو التحكم.

ومثلها في ذلك الطائفة الرابعة ، فإن وجود الظهر والبطن والناسخ والمنسوخ وغيرها في القرآن لا ينافي حجية ظاهره بالطرق المقررة في سائر الظواهر ، نعم يمنع من الأخذ بالظهور البدوي من دون نظر في القرائن الأخر التي يكون بالنظر إليها من المتشابه.

وليس معنى بعده عن عقول الرجال تعذر حصول شيء منه لهم ، بل بمعنى تعذر الوصول على تمام ما يقصد به ، كما هو ظاهر ما في مرسلة شبيب بن أنس عن الصادق عليه السلام ، قال : «يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين انزل عليهم ... وما ورثك الله من كتابه حرفا» (١). بل هو صريح ما في رواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام : «ثم إن الله قسم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه الا من صفا ذهنه ، ولطف حسّه ، وصح تمييزه ، ممن شرح الله صدره للاسلام ، وقسما لا يعلمه إلا الله وملائكته والراسخون في العلم» (٢).

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ٢٩ ، باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٧.

(٢) الوسائل ج ١٨ : ٤٣ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٤٤.

١٧٧

كيف ولا إشكال ـ ولو بضميمة بعض الروايات ـ في أن بعض ظواهره مرادة ، وهي مما تصل له العقول.

وبالجملة : التأمل في الروايات المذكورة المتقدمة وغيرها على كثرتها شاهد بورودها للردع عن الاستغناء بالقرآن عن الأئمة عليهم السّلام ، أو في مقام النهي عن تأويل مجملاته وصرف ظواهرها بالاجتهاد والاستحسانات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، أو عن الأخذ بمشتبهاته من دون تأمل في القرائن الأخر ، أو نحو ذلك مما هو أجنبي عن محل الكلام.

على أنه لو فرض عدم ظهور جميع النصوص المذكورة في ما ذكرنا تعين حملها عليه أو على نحوه مما لا ينافي المطلوب لأجل النصوص الكثيرة الظاهرة في جواز الرجوع لظواهر الكتاب والعمل بها ، كحديث الثقلين ونحوه مما دل على حجية الكتاب والسنة ، وأحاديث عرض الأخبار على الكتاب وأحاديث الترجيح بينها بموافقته.

وما في الوسائل من أن العمل حينئذ بالكتاب والسنة لا بالكتاب وحده. كما ترى! فإن مفاد النصوص المدعى دلالتها على المنع ليس هو المنع تعبدا عن العمل به إلا بضميمة السنة ، بل المنع ، لعدم إمكان الاطلاع على معناه إلا بشرحه فيها ، وحينئذ فإذا فرض تعارض النصوص الشارحة كيف يكون مرجحا لها مع فرض إجماله وتعذر الاطلاع على معناه؟! بل كيف يمكن مع ذلك طرح الأخبار به لو خالفها ، أو كونه قرينة عليها لو وافقها؟! كما تضمنته نصوص العرض ، وكيف يكون المتبوع تابعا والحاكم محكوما؟!

ومثل النصوص المتقدمة النصوص الكثيرة الواردة في الموارد الخاصة المتفرقة التي يظهر منها المفروغية عن جواز الرجوع للقرآن والاحتجاج بظاهره ، وقد تعرض لبعضها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، ولا مجال لاستقصائها.

وعلى هذا جرت سيرة الأصحاب قديما وحديثا ، فقد عرفوا بالرجوع

١٧٨

للكتاب والاستدلال به متسالمين على حجيته ، حتى اشتهر بينهم عدّه أول الأدلة الأربعة ، وتقديمه على سائر الأدلة الظنية ، مع أن النصوص المتقدمة نصب أعينهم قد تضمنتها كتبهم ، وحفظتها صدورهم ، ووعتها قلوبهم ، وما ذلك إلا لعدم صلوحها بنظرهم للردع عن حجيته ، ولا للمنع عن العمل به.

وبهذا يظهر حال بقية الوجوه التي استدل بها للاخباريين ، فقد استدل لهم بوجوه كثيرة لا مجال للتعويل عليها بعد ما عرفت من إجماع الأصحاب وتسالمهم على حجية ظواهر الكتاب.

مع أنها في أنفسها غير صالحة للاستدلال.

منها : ما عن السيد الصدر ـ على اضطراب كلامه ـ من أن الظواهر من المتشابه الذي ورد النهي عن العمل به في الكتاب والسنة ، وأن المحكم خصوص النصوص القطعية الدلالة. ولو فرض الشك في شمول المتشابه للظواهر كفى في منع العمل بها.

وفيه : أن المتشابه هو المحتاج للتأويل ـ كما تضمنته الآية الكريمة ـ إما لإجماله في نفسه ، أو لمصادمته لظهور مثله ، أو لدليل قطعي مانع من البناء عليه ، ولا يشمل الظواهر التي لا معارض لها والتي يبني العقلاء على العمل بها.

ومن ثمّ كان ظاهر الآية الكريمة المفروغية عن حرمة العمل بالمتشابه ، لا النهي عنه تأسيسا ردعا عن طريقة العقلاء في العمل بالظواهر.

ولو فرض إجمال المراد بالمتشابه لزم الاقتصار فيه على المتيقن ، فلا ينهض لإثبات الردع عن الظواهر ، ويلزم العمل بها ، لأنه مقتضى الأصل الذي اعترف به في كل ظاهر.

ومنها : أن ما دل من الروايات على وقوع التحريف في القرآن مانع من العمل به ، لاحتمال ضياع القرائن الموجبة لتبدل ظهوره. ولا مجال للرجوع لأصالة عدم القرينة في الظواهر التي وصلت إلينا ، لعدم بناء العقلاء عليها في مثل

١٧٩

ذلك ، خلافا لما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام من عدم سقوط الظواهر التي بأيدينا إلا مع العلم الإجمالي المنجز بوجود الخلل فيها.

وفيه : أنه يصعب جدا البناء على التحريف مع ما هو المعلوم من اهتمام المسلمين بحفظ القرآن في الصدور والزبر ، ومدارسته من الصدر الأول ، بنحو لا يتهيأ لأحد تضييعه بالتحريف ، كما أطال الكلام فيه السيد المرتضى قدّس سرّه وغيره ، فلو فرض صحة النصوص الدالة عليه ، وتعذر حملها على معنى آخر لزم التوقف وردها إلى أهلها عليهم السّلام فانهم أعلم بما اريد بها.

على أن ما تقدم من النصوص الكثيرة الصريحة في جواز العمل بظواهر القرآن شاهد بعدم كون التحريف ـ لو فرض وقوعه ـ مانعا من ذلك ، إما لعدم وقوعه في آيات الأحكام ، أو لكونه في كلام مستقل لا دخل له بالظهورات الواصلة ، أو لغير ذلك ، كما نبه له غير واحد.

ومنها : أن العلم الإجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز وغيرها في ظواهر الكتاب مانع من الرجوع اليها.

وفيه : أن العلم المذكور إنما يمنع عن العمل بالظواهر قبل الفحص عما ينافيها ، لا مطلقا ، لانحلاله بالعلم بوجود المقدار الكافي بالفحص ، كما هو الحال في ظواهر الأخبار أيضا ، على ما يذكر في مسألة وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام ، وفي شرائط الرجوع الأصول العملية وغيرها.

وهناك بعض الوجوه الأخر راجعة إلى ما تقدم ، أو بيّنة الوهن ، فلا ينبغي أن تسطر وتذكر بعد ما عرفت ، والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

١٨٠