المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

لا يشبه ما نحن فيه ، حيث يكون كل من الحكم الواقعي والظاهري مجتمعا مع الآخر بنحو الاستمرار والاستقرار ، لتحقق موضوع كل منهما في ظرف تحقق موضوع الآخر.

وما هو النظير لما تقدم من تصحيح الاجتماع مع اختلاف الرتبة نصب الطرق بناء على الوجه الثاني من التصويب ، حيث يكون الحكم الواقعي موجودا في مرتبة قيام الطريق معدوما في المرتبة الثانية التي يتحقق فيها الحكم الثانوي المضاد له الذي هو مؤدى الطريق.

ولو كان اختلاف الرتبة بسبب أخذ أحد الحكمين في موضوع الآخر مصححا لاجتماعهما بالوجه الذي هو محل الكلام لصح أخذ العلم بأحد الحكمين في موضوع الآخر ، فيكون العلم بوجوب شيء ـ مثلا ـ موجبا لحرمته مع بقائه على الوجوب ، ومن الظاهر أن العلم متأخر رتبة عن الحكم المعلوم كالشك المأخوذ في المقام.

وبالجملة : اختلاف الحكمين المتضادين رتبة بسبب أخذ أحدهما في موضوع الآخر لا يصحح اجتماعهما بالنحو الذي هو محل الكلام ، حيث يكون كل منهما مستمرا باستمرار موضوعه ، مقتضيا للعمل المطابق له ، مجتمعا مع الآخر في ذلك.

وكأن ما ذكرنا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه ، حيث أورد على الوجه المتقدم بأن الحكم الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الحكم الواقعي ، إلا أنه يجتمع معه في بعض مراتبه ، فيلزم اجتماع المتنافيين في المرتبة المذكورة.

وإلا فهو بظاهره بيّن الوهن ، إذ مع فرض الترتب بين الحكمين لأخذ أحدهما في موضوع الآخر لا معنى لاجتماعهما في بعض المراتب ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه. فتأمل جيدا.

الثالث : ما عن بعض الأساطين من أن الحكم الواقعي شأني أو إنشائي ـ على اختلاف عباراته ـ والحكم الظاهري فعلي

١٤١

. وربما يظهر ذلك من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، وحكي أيضا عن المحقق الخراساني قدّس سرّه.

ولا يخفى أنه إن كان المراد بالحكم الإنشائي أو الشأني الحكم الذي لم يتم ملاكه ولا موضوعه فلا يصلح لأن يترتب عليه العمل ، نظير الحكم الاقتضائي ، في مقابل الحكم الفعلي الذي تم ملاكه بالنحو المذكور ، فهو راجع إلى التصويب الباطل.

وإن كان المراد به ما لم يبلغ مرتبة الامتثال بسبب الجهل به ، ويكون المراد بالفعلي ما كان بالغا المرتبة المذكورة ، فهو مسلم ، إلا أنه لا ينفع في جواز اجتماع الحكمين ، ضرورة امتناع اجتماع الحكمين الواقعيين المتضادين وان لم يكونا معا فعليين بالمعنى المذكور ، فضلا عما لو كان أحدهما فعليا ، كما في المقام ، ولذا كان الدليل على الحكم دليلا على نفي ضده وإن لم يتنجز ، كما هو ظاهر.

الرابع : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في بعض أقسام الحكم الظاهري من أن الحكم الواقعي وإن كان فعليا بنحو لو علم به المكلف لتنجز عليه ، إلا أن فعليته لا تستتبع البعث والزجر في نفس المولى ، لوجود المانع ، وهو المصلحة الملزمة بالترخيص الجدي الظاهري.

وفيه : أن عدم بلوغ الحكم مرتبة البعث والزجر راجع إلى عدم كونه فعليا ، بحيث يكون العلم به منجزا له ، فإن الحكم الفعلي هو الواصل إلى المرتبة المذكورة ، ولا يكون العلم به دخيلا في موضوعه وملاكه ثبوتا ، بل يكون منجزا له مع كونه على ما هو عليه قبل التنجز تام الملاك والموضوع ، وحيث إن الحكم الفعلي بعد تنجزه واصل إلى مرتبة البعث والزجر فهو قبل التنجز كذلك.

نعم ، قد يكون وصول الحكم دخيلا في فعليته متمما لملاكه وموضوعه وموجبا لوصوله الى مرتبة البعث والزجر ، نظير ما تقدم من أخذ العلم في موضوع الحكم المعلوم ، فهو قبله غير واصل إلى مرتبة الفعلية ولا إلى مرتبة

١٤٢

البعث والزجر ، إلا أن العلم به حينئذ لا يكون منجزا له ، بل يكون المنجز له العلم بفعليته المترتبة على العلم به ، والالتزام بذلك في المقام راجع للتصويب. كما أشار لذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

الخامس : ما ذكره هو في بعض أقسام الحكم الظاهري أيضا ، من أنه وإن لزم اجتماع الحكمين إلا أنهما ليسا بضدين ولا مثلين ، لأن منشأ تضاد الأحكام تضاد مبادئها ، وهي الإرادة والكراهة في نفس المولى بسبب المصلحة أو المفسدة الموجودتين في المتعلق ، وليس الحكم الظاهري ناشئا عن إرادة أو كراهة في نفس المولى مضادتين لمنشا الحكم الواقعي ليمنع اجتماعهما ، بل هو حكم طريقي ناشئ عن مصلحة في جعله وإنشائه لا يترتب عليه الا التنجز أو صحة الاعتذار ، فلا يضاد الحكم الواقعي ولا يماثله.

وقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدّس سرّه : بأن الحكم الذي لا يكون حاكيا عن إرادة أو كراهة أو ترخيص نفسي لا يكون موضوع أثر في نظر العقل ، فكيف يترتب عليه تنجز الواقع أو العذر في مخالفته.

ويندفع : بأن عدم ترتب الأثر بنظر العقل موقوف على كون الإنشاء صوريا لا بداعي البعث والزجر ، وهو غير مدعى في المقام ، بل المدعى عدم صدور الحكم عن إرادة أو كراهة أو رضا بنفس المتعلق ، وهو فعل المكلف ، واعتبار ذلك في ترتب الأثر بنظر العقل أول الكلام.

نعم ، يشكل ما ذكره المحقق المذكور ..

أولا : بأن توقف الأحكام الواقعية على مصالح في متعلقاتها ليس مسلما ، بل يمكن أن تكون ناشئة عن مصالح في جعلها ، ولو فرض امتناع ذلك في أحكام الشارع فليس هو لكون المصالح والمفاسد في المتعلقات مقومة للأحكام الواقعية ، بحيث لا يمكن جعل الحكم بدونها ، بل لدعوى أنه مناف للحكمة فيقبح من الشارع ، وإلا فلا إشكال في إمكان جعل الحكم بدون ذلك ،

١٤٣

إما لإنكار التحسين والتقبيح العقليين ـ كما عن الأشاعرة ـ أو لكون المولى ممن يمكن في حقه الخروج عن ذلك كالموالي العرفيين ، وحينئذ تكون الأحكام المذكورة كالأحكام الظاهرية على ما ذكره قدّس سرّه ، فتكون مضادة لها ، كتضاد الأحكام الظاهرية المختلفة فيما بينها ، ولا ينهض الوجه المذكور بدفع المحذور حينئذ.

وثانيا : بما أشرنا إليه آنفا من عدم كون الأحكام الواقعية ناشئة عن الإرادة والكراهة المسببتين عن المصلحة والمفسدة في المتعلق ، ليكون منشأ تضادها تضاد مبادئها ، بل هي ناشئة عن الخطاب بداعي جعل السبيل ، أو بداعي رفع الحرج ، وحيث كانت متقومة بنحو اقتضائها للفعل كانت متضادة في أنفسها ، لأن لكل منها نحو اقتضاء للفعل من قبل المولى لا يناسب اقتضاء الآخر له ، ولذا كان تضاد الأحكام ارتكازيا ، حتى بناء على عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، ومن الظاهر مشاركة الأحكام الواقعية للظاهرية في ذلك ، فإذا كان الحكم الظاهري مخالفا للواقعي كان مقتضاهما من حيث العمل مختلفا ، ولزم التضاد بينهما كالحكمين الواقعيين.

السادس : ما ذكره بعض مشايخنا مبنيا على بعض ما تقدم في الوجه السابق ، وحاصله : أن حقيقة الأحكام التكليفية جعل متعلقاتها في ذمة المكلف واعتبارها عليه كالدين في ذمة المديون ، وعليه فهي اعتبارات صرفة خفيفة المئونة لا تضاد بينها في أنفسها ، وإنما يكون تضادها عرضيا باعتبار تضاد مباديها ـ من الشوق والكراهة والمصلحة والمفسدة ـ وتضاد آثارها في مقام الامتثال ، لتعذر جمع المكلف بينها فيه.

وهذا إنما يقتضي التضاد فيما لو كان الحكمان المختلفان معا واقعيين أو ظاهريين ، دون ما لو كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا ، لعدم التنافي بين مباديهما ولا بين آثارهما ، أما المبادئ فلعدم كون الحكم الظاهري ناشئا عن

١٤٤

المصلحة أو المفسدة والشوق أو الكراهة للمتعلق كالواقعي ، بل هو ناشئ عن مصلحة في جعله ـ كما سبق من المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ وهي تقتضي الشوق إلى الجعل لا إلى المتعلق ، فلا ينافي الحكم الواقعي من هذه الجهة. وأما من حيث الآثار فلامتناع وصولهما معا للمكلف ، ليتعذر امتثالهما ، لوضوح أنه مع وصول الحكم الواقعي لا موضوع للحكم الظاهري ومع عدمه لا يجب امتثاله عقلا ، ليتعذر الجمع بينه وبين الحكم الواقعي في الامتثال.

وفيه .. أولا : أن ما ذكره في حقيقة الأحكام التكليفية من أنها من سنخ الوضع والاعتبار كالدين مخالف للمرتكزات العرفية ، للتباين ارتكازا بين مفاد الوضع والتكليف ، فالأول من سنخ الجعل والتكوين الاعتباري ، والثاني من سنخ البعث والتحريك اعتبارا ، فهو ناظر لحركة المكلف متقوم بها ، ولذا امتنع اعتباره وجعله عرفا مع تعذر الفعل ، بخلاف الوضع كالدين ، ولذا ذكرنا أنه متقوم بالخطاب والتحريك بداعي جعل السبيل إلزاما أو اقتضاء ، كما أن الاباحة مبتنية على النظر لفعل المكلف ورفع الحرج فيه.

وثانيا : أن ما ذكره في منشأ تضاد الأحكام الواقعية من حيث المبدأ مما لا مجال له بعد ما سبق في دفع محذور تفويت الملاكات الواقعية من عدم تبعية الأحكام للإرادة والشوق والكراهة ، وما عرفت في دفع الوجه الخامس المتقدم من عدم لزوم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات.

كما أن ما ذكره في منشأ التضاد بينها من التنافي بينها في الآثار لعدم إمكان الجمع بينها في الامتثال انما يقتضي امتناع الجمع بينها لاستلزامه التكليف بالمحال ، لا التضاد بينها بنحو يكون الجمع بينها تكليفا محالا.

مع أنه مختص بالأحكام المتنافية في مقام العمل ، دون مثل الوجوب مع الاستحباب ، والإباحة مع غيرها من الأحكام ، إذ لا يتعذر على المكلف الجمع بينها في مقام الامتثال.

١٤٥

وقد عرفت في رد الوجه الخامس أن الأحكام لما كانت أمورا اعتبارية جعلية ، وكان قوامها نحو اقتضائها للفعل من قبل المولى الجاعل لها كان اختلافها في نحو اقتضائه موجبا للتضاد بينها ذاتا بحسب المرتكزات العرفية التي هي المدار في اعتبار الاحكام الشرعية ، وذلك جار في الحكم الواقعي والظاهري المخالف له ، لما هو المعلوم من أن الحكم الظاهري له نحو من الاقتضاء للفعل كالحكم الواقعي ، فيعود المحذور.

ومجرد عدم محركية الحكم الواقعي ، وعدم فعلية تأثيره بسبب الجهل به ، وعدم تنجزه لا يرفع التضاد المذكور ، لأن منشأ التضاد ليس هو الحركة الفعلية المسببة عن الحكم ، بل نحو اقتضاء الحكم للحركة ، الذي يمتنع اختلافه مع وحدة الحاكم.

ولذا لا ريب في التضاد بين الحكمين الواقعيين لو كان أحدهما مقارنا للجهل بالآخر من دون أن يؤخذ في موضوعه الجهل به ، كما لو فرض جهل المكلف بفسق زيد ، وحكم المولى بوجوب إكرامه ، وحرمة إكرام كل فاسق ، فيكون إكرامه واجبا وحراما في وقت واحد. بل لا إشكال في أن الحكم بوجوب إكرام زيد يكون ملازما إما لعدم كونه فاسقا ، أو لتخصيص عموم حرمة إكرام الفساق.

وبالجملة : الوجه المذكور لا ينهض بدفع الشبهة. بل لا بد من التأمل في وجه آخر يكون به التخلص عنها.

فنقول بعد التوكل على الله تعالى والاستعانة به :

لا موقع للشبهة في موارد الطرق بناء على ما عرفت في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي من أن مفاد أدلة جعلها ليس جعل مؤداها ، بل جعل حجيتها ، لأن الحجية من الأحكام الوضعية القابلة للجعل ، فإن حجية الطريق لا تماثل الحكم الواقعي الثابت في مورده ولا تضاده ، لاختلافهما سنخا.

١٤٦

وكذا الحال في الأصول الإحرازية ، كالاستصحاب وأصالتي الحل والطهارة ، فإنها لا تقتضي إلا التعبد بمؤداها ولزوم البناء عليه إثباتا في مقام العمل ، لا جعله ثبوتا ، ليستلزم جعل الحكم الظاهري ويقع الكلام في مضادته للحكم الواقعي أو مماثلته له.

نعم ، لا مجال لذلك في الأصول غير الإحرازية المنحصرة ظاهرا بالبراءة والاحتياط ، لوضوح انهما لا يتضمنان البناء في مقام العمل على ثبوت التكليف أو عدمه ، بل محض حكم العمل في ظرف الشك به.

وحينئذ فقد يتوجه المحذور فيهما ..

بدعوى : أن مرجع إيجاب الاحتياط وجعل البراءة إلى جعل حكم فعلي لفعل المكلف في ظرف الجهل بالحكم الواقعي يضاد الحكم الواقعي أو يماثله ، كسائر الأحكام الثانوية بالإضافة إلى الأحكام الأولية.

لكنه يندفع : بأن الحكم المذكور لا يضاد الحكم الواقعي ولا يماثله ، لأنه في طوله ، لا من حيث كون موضوعه مترتبا عليه ـ كما تقدم في الوجه الثاني ـ بل لأنه وارد لبيان الوظيفة العملية إزاء الحكم الواقعي ، فهو ليس حكما لفعل المكلف المشكوك الحكم في قبال حكمه الواقعي ومع قطع النظر عنه ، ليكون حكما واقعيا مثله مماثلا أو مضادا له ، بل هو حكم لنفس الحكم الواقعي متفرع عليه راجع إلى جعل الوظيفة فيه ، فلا سنخية بين الحكمين حتى تكون بينهما مماثلة أو مضادة.

نظير حكم العقل بالبراءة والاحتياط ، أو بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية بالإضافة إلى الحكم الواقعي. غايته أن حكم الشارع إن كان مخالفا لحكم العقل كان رادعا عنه ، واردا عليه ، رافعا لموضوعه ، وإن كان موافقا له كان إمضاء له وبيانا لعدم جعل ما يرفع موضوعه ، كما تقدم توضيح ذلك في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي ، كما تقدم هناك أيضا بعض

١٤٧

الجهات المتعلقة بالمقام. فراجع.

ولأجل ما ذكرنا من اختلاف السنخية والطولية بين الحكمين كان عدم التضاد والتماثل بين الأحكام الواقعية والظاهرية أمرا ارتكازيا جليا عند العقلاء ، مع وضوح ثبوت التماثل والتضاد عندهم بين الأحكام الواقعية بنفسها ، وبين الأحكام الظاهرية كذلك.

ثم إنه لو فرض غض النظر عما ذكرناه في الطرق والأصول الإحرازية ، وقلنا باستلزامها لجعل الأحكام الظاهرية في مواردها فلا بد من الالتزام بأن الأحكام المذكورة من سنخ الحكم بالبراءة والاحتياط الشرعيين في طول الأحكام الواقعية لبيان الوظيفة العملية فيها ، لا أنها أحكام مجعولة في عرضها ومع قطع النظر عنها ، وإلّا أشكل محذور التماثل والتضاد منها. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

الأمر الثاني : في الأصل أو القاعدة التي يرجع إليها عند الشك في الحجية.

لا إشكال ـ في الجملة ـ في أن الاصل عدم الحجية في ما شك في حجيته. إلا ان الظاهر اختلاف الكلام باختلاف آثار الحجية المترتبة عليها.

وتوضيح ذلك : أنهم ذكروا أن للحجية أثرين ..

الأول : ما يرجع لمقام العمل بمؤدى الحجة ، وهو المعذرية والمنجزية بالاضافة إلى التكليف الواقعي ، المستتبعان للعمل عليه.

الثاني : جواز نسبة مؤدى الحجة للمولى والتعبد به على أنه من الدين.

أما الأول فهو الأثر المهم في المقام ، لمناسبته لوظيفة الأصولي.

ولا ريب في كونه من الآثار العقلية المحضة. كما لا ريب في أنه مع الشك في الحجية لا يرى العقل ترتب الأثر المذكور ، فما هو المعذر والمنجز فعلا هو ما ثبت حجيته والتعبد به من قبل المولى.

١٤٨

لكن الظاهر أن اعتبار وصول الحجية في ترتب الأثر المذكور ليس لكون الوصول دخيلا في مقتضي الأثر عليه ، وهو لزوم الاطاعة ، فان تمام المقتضي والموضوع ثبوتا بنظر العقل هو الجعل الواقعي ، نظير اعتبار وصول التكليف في ترتب الأثر عليه ، وهو لزوم الاطاعة ، فان تمام المقتضي والموضوع للاطاعة بنظر العقل هو التكليف الواقعي بنفسه ، وليس وصوله إلا شرطا في ذلك ، لا أنه تمام المقتضي أو متمم له.

ويترتب على ذلك أنه لا يلغو قيام الطرق ولا جريان الأصول في الحجية إثباتا ونفيا ، لترتب العمل على مؤدى الطرق والأصول بعد كون تمام المقتضي للعمل هو الحجية.

ولا مجال معه للإشكال في استصحاب عدم الحجية بعدم ترتب الأثر عليه ، لأنه يكفي في عدم المعذرية والمنجزية المستتبعين للعمل الشك في الحجية الحاصل بالوجدان ، ولا يحتاج فيه لاحراز عدمها بالاستصحاب وغيره.

لاندفاعه : بأن عدم المعذرية والمنجزية وإن كان يترتب بمجرد الشك ، إلا أن ترتبه بملاك عدم حصول شرط المعذرية والمنجزية ، بخلاف ترتبه مع إحراز عدم الحجية ، فإنه بملاك عدم المقتضي لهما ، ومثل هذا الاختلاف كاف في الأثر المصحح لجريان استصحاب عدم الحجية.

ومن ثمّ جرى استصحاب عدم التكليف ، مع أن الشك في التكليف كاف في البراءة عنه وعدم وجوب العمل عليه عقلا.

وأما ما ذكره المحق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل من أن الحجية وعدمها لما كانا مما تناله يد الجعل الشرعي ، وتكون موردا لتصرف الشارع لم يتوقف جريان الاستصحاب فيهما على ترتب الأثر الشرعي ، وإنما يحتاج إلى ذلك في استصحاب الموضوعات الخارجية التي لا تنالها يد الجعل.

فهو لا يكفي في دفع الإشكال ، فإن استصحاب الأمور التي تنالها يد

١٤٩

الجعل وإن لم يحتج إلى أثر شرعي ، إلا أنه لا بد له من أثر عملي وإن كان عقليا ، كوجوب الإطاعة للتكليف ولزوم العمل بالحجة تبعا لمنجزيتها.

ومن ثمّ لا يصح استصحاب التكليف لو لم يكن موردا للعمل ، لأن الاستصحاب كسائر التعبدات الشرعية يلغو مع عدم ترتب العمل عليه.

فالأولى في الجواب ما ذكرنا.

بقي في المقام شيء ، وهو أنه ربما يتمسك لعدم حجية ما شك في حجيته بإطلاق ما دل على عدم الاعتماد على غير العلم ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(١) ، وما دل على عدم الاعتماد على الظن وأنه لا يغني عن الحق شيئا ونحو ذلك.

وعن بعض الأعاظم قدّس سرّه الإشكال فيه : بأن أدلة حجية الطرق حاكمة على الأدلة المانعة ، فإن دليل حجية خبر الثقة يخرجه عن موضوع دليل المنع ويجعله علما تعبدا ، فالشك في حجية شيء ملازم للشك في كونه علما ، فلا يجوز التمسك فيه بعموم عدم جواز التمسك بغير العلم ، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام ، الذي لا يجوز بلا كلام.

وأجاب عنه بعض مشايخنا : بأنه لا أثر للحجية ما لم تصل ، فالحكومة إنما هي بعد الوصول ، وخبر الثقة إنما يكون علما تعبديا بعد إحراز حجيته.

لكنه كما ترى! فإن الحجية وإن لم يترتب عليها العمل عقلا إلا بوصولها ، إلا أن ملاك الحكومة المدعى وهو كون الحجة علما شرعا تابع لوجودها الواقعي ، لأنه متقوم بالجعل الشرعي ، كسائر الأمور الجعلية ، كالملكية والحرية والولاية وغيرها.

فالأولى في الجواب عما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الحكومة عندهم

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

١٥٠

تخصيص بلسان رفع الموضوع تنزيلا ، فالشك فيها شك في التخصيص الذي يندفع بعموم العام بلا كلام.

ولا يتم ما ذكره قدّس سرّه إلا على القول بالورود الذي هو رفع حقيقي لموضوع العام بسبب التعبد الشرعي.

وهو محل إشكال ، بل منع ، كما يظهر بمراجعة ما تقدم في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي من الكلام في مفاد أدلة جعل الطرق.

نعم ، يشكل أصل الاستدلال بعدم وضوح الدليل على العموم المذكور ، فإن الآية المتقدمة لم يتضح ورودها لبيان عدم الاعتماد في مقام العمل على غير العلم ، بل لعل المراد بها بيان حرمة التعبد والتدين والفتوى من غير علم تكليفا ، كما يناسبه ذيلها ـ بناء على سوقه مساق التعليل ، وليس استئنافا ـ ويشهد له ما في خبر علي بن جعفر : «ليس لك أن تتكلم بما شئت ، لأن الله عزّ وجل يقول : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)» (١). وحينئذ فالاستدلال بها مبني على ملازمة الحجية لجواز الفتوى والتعبد بمؤدى الحجة ، بحيث يستدل بدليل تحريمهما على عدم الحجية ، وهو محل إشكال كما يأتي عند الكلام في الأثر الثاني للحجية.

على أنها لو دلت على ذلك فهي ككثير من الأخبار المتضمنة أنه لا عمل إلا بعلم ، وأن من عمل على غير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه ، منصرفة إلى خصوص من لا يعلم لا بالواقع ولا بالحجة ، ولو لأنه مقتضى الجمع بينه وبين ما دل على حجية كثير مما لا يفيد العلم ، فإن الجمع بذلك أولى من الجمع بتخصيص العموم المذكور ، لأنه آب عن التخصيص عرفا ، لانصرافه إلى بيان معنى ارتكازي ، فهو نظير ما ورد من أن العامل على غير بصيرة كسائر على غير

__________________

(١) يراجع الخبر المذكور وبقية أخبار المقام في الوسائل ج ١٨ : ٩ ، الباب : ٤ من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.

١٥١

الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا. وحينئذ فلا يدل إلا على عدم صحة الاعتماد على ما لم يعلم حجيته ، فيطابق مفاد الأصل العقلي المتقدم ويكون إرشادا له ، ولا يكون دليلا على عدم جعل الحجية واقعا لكل ما لا يفيد العلم ، ليمكن الاستدلال بعمومه مع الشك في الحجية.

وأما ما دل على عدم الاعتماد على الظن ، فهو وإن كان ظاهرا في عدم حجيته في مقام العمل ، إلا أنه إنما يدل على عدم حجية الظن من حيث هو ظن ، ولا ينافي حجية بعض ما يوجب الظن نوعا بخصوصيته ، كخبر الثقة وغيره.

مع أنه ظاهر في الإشارة إلى أمر ارتكازي عقلائي ، لا تأسيسي للشارع تعبدي ، ولذا ورد مورد الذم والتبكيت والاحتجاج على الكفار ، ولا يحسن الاحتجاج عليهم بالقضايا التعبدية الصرفة. وحينئذ فهو مختص بالظنون غير المعتمدة عند العقلاء ، ولا يشمل ما يحسن الاعتماد عليه عندهم ، كخبر الثقة ، وقول أهل الخبرة وغيرهما.

نعم ، قد يستدل بإطلاق أدلة الأصول ، فان مقتضى جعل الغاية فيها هو العلم عدم ترتب العمل على غير العلم ، بل لزوم العمل معه بمقتضى الأصل ، وهو ملازم لعدم حجيته في مقام العمل.

لكن الظاهر أنه يكفي في العمل بالأصل عدم إحراز حجية ما خالفه ، ولا يعتبر إحراز عدم حجيته ، ليكون إطلاق دليل الأصل دالا على عدم حجية غير العلم. وهو مبني على كيفية الجمع بين الطرق والأصول ، وله مقام آخر.

وأما الثاني : وهو جواز نسبة مؤدى الحجة للمولى والتدين به ، فهو ليس من الآثار المهمة في المقام ، لعدم دخله بمقام العمل بالحجة. بل هو حكم فرعي خارج عن محل الكلام.

نعم ، قد يدعى أن الحجية ملازمة لجواز نسبة مؤدى الحجة للمولى ، فيمكن الاستدلال على عدم الحجية في مشكوكها بما يدل على عدم جواز

١٥٢

النسبة والتدين اعتمادا على مشكوك الحجية ، فينفع ذلك في محل الكلام وإن كان أجنبيا عنه.

وربما قيل : أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه قد جرى على ذلك ، حيث استدل على الأصل في المقام بما دل على حرمة التعبد مع عدم العلم من جهة التشريع.

بل هو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بدعوى : أن معنى جعل الطريق حجة هو كونه وسطا لإثبات متعلقة وإحراز مؤداه ، فيكون حاله حال العلم ، فكما لا يمكن المنع عن التعبد بمتعلق العلم لا يمكن المنع عن التعبد بمؤدى الحجة.

وقد ردّ بذلك على ما نسبه للمحقق الخراساني قدّس سرّه من عدم الملازمة بين الحجية وجواز النسبة والتدين ، وأنه يمكن عدم جواز التعبد بمؤدى الحجة ، كما في الظن الانسدادي على الحكومة.

واستشكل بعض الأعاظم قدّس سرّه وغيره في التنظير : بأن الظن الانسدادي على الحكومة ليس حجة مثبتا لمتعلقه ، إذ ليس شأن العقل تشريع الحجية ، بل ليس منه الا الحكم بالاكتفاء بالإطاعة الظنية بعد فرض تنجز الأحكام بالعلم الإجمالي السابق على الظن.

أقول : إن اريد بالاستدلال المذكور إثبات عدم الاكتفاء بمشكوك الحجية في مقام العمل ، لعدم جواز التعبد بمضمونه ، فقد عرفت آنفا أنه مقطوع به من العقل فلا يحتاج إلى الاستدلال. بل لا معنى لفرض الملازمة المذكورة ، بل هما حكمان لا دخل لأحدهما بالآخر وإن تقارنا في مورد واحد.

وإن اريد بالاستدلال المذكور إثبات عدم حجية مشكوك الحجية واقعا ، لأن ملازمة الحجية لجواز التعبد تقتضي العلم بعدمها عند عدمه ، كما قد يظهر من كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه.

فهو لا يخلو عن إشكال ، لأن ملازمة الحجية لجواز التدين والتعبد ـ لو تمت ـ مشروطة بوصول الحجية ، إذ لا إشكال في حرمة التدين واقعا تبعا لما لا

١٥٣

يعلم حجيته وإن كان حجة واقعا ، فالملازمة لو تمّت انما هي بين العلم بالحجية وجواز التعبد ، فعدم جوازه مستلزم لعدم العلم بالحجية ، لا لعدمها واقعا ، ليصح الاستدلال به عليه.

نعم ، لو ورد من الشارع الأقدس النهي عن التعبد في خصوص طريق بعنوانه ـ كاجتهاد الرأي ـ كان ظاهرا في عدم حجيته واقعا بناء على الملازمة المذكورة ، لأن ظاهر أخذ عنوان الطريق في موضوع الحكم كونه موضوعا للنهي من حيث عدم حجيته الذي هو من الأمور الواقعية التي يرجع فيها للشارع ويكون من شأنه بيانها ، لا من حيث كونه مشكوك الحجية ، إذ ليس من وظيفة الشارع إبقاء الشك في الحجية ، بل من شأنه رفع الشك المذكور ببيان الحكم الواقعي ، كما هو الحال في جميع موارد الشك في الأحكام الواقعية.

بل لعله مقتضى الإطلاق ، إذ لو كان ملاك حرمة التعبد به الشك في حجيته لجاز التعبد به مع ارتفاع الشك بقيام الدليل على الحجية ، وهو خلاف الاطلاق. فلاحظ.

أما شيخنا الأعظم قدّس سرّه فالظاهر أنه في مقام الاستدلال على أصالة حرمة التعبد بغير العلم بالأدلة المذكورة ، وليس في مقام الاستدلال على عدم الحجية بأدلة حرمة التعبد ، ليبتني على الملازمة المذكورة. نعم كلامه خارج عما هو المهم في المقام ، لما سبق.

وأما المحقق الخراساني قدّس سرّه فلا يظهر منه في حاشية الرسائل التفكيك بين الحجية وجواز التعبد ، بل التفكيك بين العمل بالظن والتعبد به ، وأن العمل به إنما هو بمعنى الاستناد إليه وإن لم يبتن على التعبد ، كما في العمل به في العرفيات أو في الشرعيات في حال الانسداد بناء على الحكومة ، خلافا لما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الملازمة بين العمل بالظن والتعبد به ، وأن الموافقة له من دون تعبد لا يصدق عليها العمل به.

١٥٤

وأما في الكفاية فهو وإن صرح بعدم ملازمة الحجية لجواز التعبد ، إلا أن مراده من الحجية مطلق لزوم المتابعة ولو عقلا ، لا خصوص الحجية الشرعية ليتوجه عليه ما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه من ملازمة جعل الحجية لجواز التعبد.

وبعبارة اخرى : لا يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه التفكيك بين الحجية الشرعية وجواز النسبة الذي هو محل كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه ، بل صرح في الحاشية بتبعية جواز التعبد للحجية الشرعية ، وأن الأصل الجاري فيها سببي بالإضافة إلى الأصل الجاري فيه. فراجع وتأمل جيدا.

بقي في المقام أمور متعلقة بالأثر المذكور للحجية ..

الأول : عرفت من بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ وقد يظهر من غيره ـ دعوى الملازمة بين الحجية وجواز التعبد بمؤدى الحجة والتدين به ونسبته للمولى. وظاهره جواز التعبد به على أنه الحكم الواقعي ، كما في صورة العلم به.

وهو لا يخلو عن إشكال ، لانصراف دليل الحجية إلى خصوص مقام العمل بالحجة ، لأنه الغرض المهم منها ، لا إلى جواز نسبة المؤدّى مع فرض عدم العلم به.

ورجوع حجية الطريق إلى كونه وسطا في إثبات مؤدّاه ـ لو تم ـ فلا يراد إلا إثباته من حيث العمل ، فالحجة كالعلم من حيث وجوب العمل بالمؤدى عقلا ، لا بلحاظ جميع الآثار التي منها جواز النسبة شرعا. ولا سيما مع كون غالب الطرق عقلائية ، وظاهر أدلتها إمضاء طريقة العقلاء في العمل بها ، لوضوح عدم بناء العقلاء على ترتيب غير العمل عليها.

فلا مخرج عما دل على عدم جواز النسبة والتعبد والفتوى بما لا يعلم. على ما سيأتي التعرض له.

ولو فرض القول بجواز النسبة والتعبد اعتمادا على الحجة فلا بد له من دليل آخر غير دليل الحجية ، كما قد يدعى ورود النصوص به ، وإن كان هو

١٥٥

خلاف الظاهر. وللكلام مقام آخر.

نعم ، لا إشكال في جواز التعبد والتدين به على أنه الحكم الظاهري الذي أذن الشارع بالعمل عليه ، فإنه معلوم بالوجدان بسبب العلم بحجية الطريق ، فالقول به قول عن علم. وربما يكون هذا هو مراد كثير ممن ذكر أن جواز التعبد من لوازم الحجية.

وعلى ما ذكرنا يتضح الوجه في عدم جواز التعبد استنادا إلى مشكوك الحجية ، وحرمة الفتوى اعتمادا عليه فإن التعبد به على أنه الحكم الواقعي أو الظاهري تعبد بما لم يعلم ، الذي تظافرت الأدلة بحرمته.

فمن الكتاب قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، بناء على ما سبق ، وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٢).

ومن السنة ما تضمّن عدّ القاضي بما لا يعلم في عداد القضاة الذين في النار ، وما تضمّن النهي عن التدين والفتوى بغير علم ، والتوعيد عليه وغير ذلك من النصوص الكثيرة ، المعتضدة بالمرتكزات القطعية الشرعية والعقلائية على استنكار ذلك.

بل استنكار مطلق القول بغير علم وإن لم يكن في الشرعيات المبنية على التدين ، فاستنكاره عندهم بملاك استنكار الكذب.

وقد يشهد به ما تضمن أن الكذب المفترع أن يحدثك شخص بحديث عن آخر ، فتحدث به عمن حدثك عنه ، وما تضمن النهي عن الظن ، لانه أكذب الكذب وغير ذلك مما ذكره في الوسائل في أوائل كتاب القضاء.

نعم ، يزيد الكذب في الشرعيات باستلزامه الكذب على الله وخلفائه

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

(٢) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

١٥٦

الذي هو أشد تحريما من سائر أفراد الكذب.

كما أن التدين يحرم بحيثية اخرى ارتكازا ، من حيث كونه تصرفا في ما هو من وظيفة الشارع وتحكما عليه.

وبالجملة : وضوح حرمة الفتوى والتعبد والتدين بغير العلم يغني عن تجشم الاستدلال عليها وإطالة الكلام فيها.

هذا ، ولو فرض جواز التعبد بالحجة على أنه الواقع ـ خلافا لما سبق منا ـ فلا بد من القطع بالحجية ، ولا يجدي احتمالها ، بدعوى : أنه معه لا يعلم بالحرمة ، لاحتمال وجود المسوغ ، وهو الحجة الواقعية التي فرض كونها كالعلم.

وذلك لعموم ما تقدم من المرتكزات الشرعية والعقلائية ، فكما لا يجدي عندهم ثبوت الشيء واقعا في جواز البناء عليه والتعبد والفتوى به ، بل لا بد فيها من العلم ، كذلك لا يجدي قيام الحجة عليه واقعا ما لم يعلم بذلك.

بل هذا هو المنصرف من الأدلة النقلية المتقدمة ، فإنه لو فرض كون قيام الحجة بمنزلة العلم فلا بد من تنزيل الأدلة المتقدمة ولو بقرينة المرتكزات المذكورة على بيان لزوم انتهاء التعبد والتدين والفتوى إلى العلم ولو بالحجية ، لا أن ثبوت الحجية واقعا كالعلم مسوغ لها.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن التشريع المحرم بالأدلة اللفظية واللبية كما يعم التعبد بما لم يعلم ثبوته مما هو ثابت واقعا ، كذلك يعمّ ما لم يعلم قيام الحجة عليه ، وإن قامت عليه واقعا ، بل قيام الحجة على الشيء كوجوده واقعا لا يجدي ما لم يعلم.

الثاني : الظاهر أن تمام الموضوع الواقعي والمقتضي للحرمة هو عدم العلم بجعل الواقع المتعبد به أو بجعل الحجة عليه. كما أن تمام الموضوع للجواز هو العلم بذلك ، وليس لجعل الحكم الواقعي المتعبد به أو لجعل الحجة عليه أو عدمهما دخل في ذلك.

١٥٧

ولا مجال لدعوى : أن تمام الموضوع الواقعي لجواز التعبد هو الجعل الواقعي للحكم المتعبد به أو للحجة عليه ، إلا أن ترتيب الأثر ظاهرا مشروط بالعلم به ووصوله ، لوجوب الاحتياط فيه مع الشك ، أو لأصالة عدمه ، بحيث لو كان الأمر المتعبد به مجعولا في الواقع أو كانت الحجة عليه مجعولة ولم يعلم بهما جاز التعبد واقعا وإن حرم ظاهرا.

لاندفاعها : بظهور أدلة التحريم المتقدمة في الحرمة الواقعية ، وأن العقاب بملاك المعصية لا بملاك التجري ، وهو المطابق للمرتكزات العقلائية والمتشرعية ، الصالحة لتفسير الادلة لو فرض إجمالها.

كما أن الظاهر أن العلم تمام المقتضي للحكم ، لا أنه شرط فيه مع كون المقتضي هو الجعل الواقعي ، نظير ما تقدم في الأثر الأول للحجية. لأن المرتكز عند العقلاء والمتشرعة كون تمام منشأ القبح هو عدم الاعتماد في التعبد والفتوى على ما ينبغي الاعتماد عليه ، وهو الظاهر من الأدلة النقلية أيضا.

ومنه يظهر أنه لا مجال لاستصحاب عدم الحكم أو عدم قيام الحجة عليه بلحاظ حرمة التعبد به. لأنه يكفي في الحرمة الشك وعدم العلم الذي هو سابق رتبة على الاستصحاب ، وليس من آثار الأمر المستصحب حتى يحرز بالاستصحاب.

كما أنه لو فرض عدم الأثر العملي لاستصحاب نفس الحكم فلا مجال لاستصحابه بلحاظ جواز التعبد بثبوته ، لأن جواز التعبد ليس من آثار الحكم حتى يحرز باستصحابه ، بل من آثار ثبوته ، وثبوته ظاهرا بالاستصحاب مشروط بالأثر العملي الرافع للغويته ، فمع عدمه لا يجري استصحابه ، ولا يثبت ظاهرا حتى يتعبد به.

ومما ذكرنا يظهر الفرق بين أثري الحجية في تصحيح الاستصحاب ، فالاثر الأول مصحح له دون الثاني.

١٥٨

الثالث : ذهب المحقق الخراساني قدّس سرّه إلى أن التشريع ليس محرما شرعا ، بل هو قبيح عقلا ، نظير قبح المعصية والتجري ، لما فيه من هتك لحرمة المولى ، فالعقل يحكم باستحقاق العقاب معه من دون توسط حكم شرعي. وظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ حيث استدل عليه بالأدلة الشرعية ـ خلافه ، وقواه بعض الأعاظم قدّس سرّه ، لأن الأحكام العقلية التي لا تستتبع الخطابات المولوية هي الواقعة في سلسلة معلولات التكاليف ، كقبح المعصية والتجري وحسن الطاعة ، دون غيرها مما يكون ناشئا عن إدراك المصالح والمفاسد ، فإنه يستكشف بها الحكم الشرعي ، بناء على قاعدة الملازمة ، فالمقام نظير الكذب القبيح عقلا المحرم شرعا.

وما ذكره قدّس سرّه متين جدا.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من كون التشريع بنفسه هتكا للمولى ، فهو بنفسه ـ لو تم ـ لا يمنع من التكليف المولوي ، نظير حرمة سبّ المولى ومعاداة أوليائه ، وموالاة أعدائه ، ولذا يمكن عقلا إباحة المولى له لبعض المزاحمات ، وليس كقبح المعصية. فتأمل جيدا.

الرابع : الظاهر بعد التأمل في المرتكزات والرجوع للأدلة المتقدمة أن المحرم هو نفس التعبد والتدين بما هو أمر قلبي ، كما صرح به المحقق الخراساني قدّس سرّه ، لا العمل المترتب عليه ، بل هو باق على حكمه الواقعي من دون أن يطرأ عليه ما يوجب تبدل حكمه. خلافا لما استظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ونسب لبعض الأعاظم قدّس سرّه.

نعم ، لو اضيف إلى التعبد والتدين بالحكم إسناده للمولى قولا والفتوى به كان محرما أيضا بملاك حرمة الكذب على المولى.

وكذا لو اضيف إليه القضاء به ، فإنه يحرم بمقتضى ما دل على حرمة القضاء من غير علم.

١٥٩

لكنه أجنبي عن حرمة نفس العمل المأتي به بقصد التشريع.

فلا وجه لما نسب لبعض الأعاظم قدّس سرّه من الاستدلال على حرمة العمل بظاهر قوله عليه السّلام في تعداد القضاة الذين في النار : «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم».

نعم ، لا يبعد كون التشريع مانعا من التقرب بالفعل ، نظير الاتيان بالواجب مع اعتقاد ترتب الحرام عليه ، فلا يصح لو كان عبادة في الواقع. فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في الحجية. فنشرع في ما هو المقصود بالكلام وهو تشخيص موارد الحجج.

وتفصيل ذلك في ضمن فصول ..

١٦٠