المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

المقصد الأول

في مباحث الحجج

وقد سبق أن البحث فيه يكون في تشخيص الحجج وتعيينها والظاهر أن محل الكلام هو ما ثبت له الحجية شرعا الراجعة إلى تعبد الشارع الأقدس بمضمون الحجة ، تبعا لاعتباره حجيتها ولا معنى للحجية العقلية ، لما هو المرتكز من عدم كون الجعل والاعتبار من وظيفة العقل ، نعم له الحكم بحسن العقاب أو قبحه ، الراجعين الى منجزية احتمال التكليف بنظره وعدمه ، من دون توسط اعتبار الحجية ، وأما القطع فقد عرفت الإشكال في إطلاق الحجة عليه ، وإن صح العقاب معه.

وأما ما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن الظن على الحكومة حجة عقلية وإن لم يكن حجة ذاتية ، كالقطع ، لتوقفه على مقدمات الانسداد.

فلا يبعد أن يرجع إلى ما ذكرنا من كونه بنظر العقل منجزا للأحكام في ظرف الانسداد. ويأتي الكلام في ذلك في أواخر دليل الانسداد.

وكيف كان ، فالمناسب التعرض تمهيدا للكلام في تشخيص موارد الحجج غير العلمية لأمرين ..

الأول : إمكان التعبد بغير العلم عقلا ، إذ لو كان ممتنعا ثبوتا لم يبق مجال للنظر في أدلته إثباتا.

الثاني : تنقيح مقتضى الأصل عند عدم الدليل على الحجية ، ليرجع إليه لو فرض قصور الأدلة عن إثبات الحجية لشيء أو نفيها عنه.

١٢١

المقام الأول : في إمكان التعبد بغير العلم

المستفاد من كلماتهم أن الإمكان يطلق ويراد به ..

تارة : الإمكان الاحتمالي الذي هو بمعنى احتمال الوقوع ، في مقابل القطع بالعدم.

واخرى : الإمكان الذاتي المقابل لامتناع الشيء لذاته عقلا مع قطع النظر عما هو خارج عنها كاجتماع النقيضين.

وثالثة : الإمكان القياسي ، والمراد به هنا : المقابل لامتناع الشيء عقلا بلحاظ قيام الدليل على الامتناع عليه ، ولو بلحاظ لزوم محاذير منه خارجة عن ذاته أدركها العقل.

ورابعة : الإمكان الوقوعي ، المقابل لامتناعه مطلقا ولو بلحاظ ما هو خارج عن ذاته من المحاذير الواقعية حتى المغفول عنها ، فالممكن بهذا المعنى ما لا محذور فيه واقعا.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه ليس المراد بالإمكان هنا الإمكان الاحتمالي ، لأنه من الأمور الوجدانية غير القابلة للنزاع والبرهان. ولا الإمكان الذاتي ، لعدم وفائه بالغرض المشار إليه في المقام ، وهو فتح باب النظر في أدلة الوقوع ، إذ من الظاهر أنه لا يكفي في ذلك إمكان الشيء ذاتا ، بل لا بد من إمكان وقوعه ، لعدم لزوم محذور منه ، كما لا يخفى.

ومن ثمّ كان ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره إرادة الإمكان الوقوعي. وحينئذ يقع الكلام في الاستدلال عليه في المقام.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «واستدل المشهور على الإمكان بأنا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال. وفي هذا التقرير نظر ، إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقول بجميع الجهات المحسنة والمقبحة وعلمها بانتفائها ، وهو غير حاصل في ما نحن فيه. فالأولى أن يقرر هكذا : أنا لا نجد في

١٢٢

عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة. وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان».

والأولى أن يقال : إنه يكفي في ترتب الغرض الذي أشرنا إليه ـ وهو النظر في أدلة الجعل ـ ونحوه من اللوازم المذكورة للإمكان عدم قيام الدليل على امتناع الجعل ، فلا يجوز بنظر العقل إهمال الأدلة الدالة على ثبوت الشيء ، بمجرد احتمال امتناعه ولزوم محذور منه مغفول عنه ، بل هو من سنخ احتمال المزاحم لا يعتني به العقل ما لم يثبت بالدليل.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره شيخنا الاعظم قدّس سرّه من دعوى حكم العقلاء بالإمكان الوقوعي بمجرد عدم الدليل على الامتناع ، فإنه إذا كان يكفي بنظر العقل في ترتيب الآثار عدم الدليل على الامتناع لم يحتج إلى إحراز الإمكان ولم يتعلق به غرض للعقلاء حتى يمكن دعوى حكمهم به بالوجه المذكور.

والحاصل : أن الإمكان الوقوعي لا طريق لإثباته ، كما لا حاجة له ، بل يكفي عدم الدليل على الامتناع الذي هو عبارة عن الإمكان القياسي.

ومن ثمّ ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه أن النزاع في المقام إنما هو فيه لا في الإمكان الوقوعي.

وإن كان يشكل بأنه خلاف ظاهر كلامهم ، لأن الإمكان بالمعنى المذكور لا يحتاج إلى الاثبات ، بل يكفي فيه إبطال دليل المانع ، مع أن ظاهر ما نقله شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن المشهور أنهم بصدد إثباته ، وهو ظاهر في إرادة الإمكان الوقوعي ، الذي عرفت أن ما ذكره المشهور وشيخنا الأعظم قدّس سرّه لا ينهض بإثباته.

نعم ، ذكر في الكفاية أن أدلة وقوع التعبد بالطرق شرعا كافية في إثبات الإمكان الوقوعي ، لملازمة فعلية الشيء لإمكانه بالمعنى المذكور ، ومع قطع النظر عن أدلة وقوع التعبد لا أثر للنزاع في الإمكان حتى يحتاج إلى إثبات بطريق آخر.

١٢٣

وما ذكره قدّس سرّه متين جدا في مثل المقام مما انحصر دليل الإثبات بالادلة القطعية ، لما هو المعلوم من لزوم انتهاء أدلة التعبد بغير العلم إلى القطع ، فإن الأدلة المذكورة توجب القطع بالإمكان بالمعنى المذكور.

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من الإشكال فيه ..

تارة : بأن النزاع في الإمكان في رتبة سابقة على النزاع في الوقوع.

واخرى : بأن النزاع المذكور من قبيل النزاع في أمر عقلي ، فلا يصح الاستدلال عليه بدليل الوقوع ، الذي هو من سنخ الدليل السمعي.

وثالثة : بأن عدم الأثر للنزاع في الإمكان مع قطع النظر عن أدلة الوقوع لا يمنع من صحة النزاع ، ويكون النزاع حينئذ علميا محضا ، لا عمليا ، كما هو الحال في كثير من نزاعاتهم.

فهو كما ترى! لاندفاع الأول : بأن سبق النزاع في الإمكان رتبة لا ينافي الاستدلال عليه بدليل الوقوع.

والثاني : بأنه لا مانع من إثبات الأمر العقلي بالدليل السمعي إذا كان موجبا لليقين به ، بل هو أولى من الأدلة العقلية ، لرجوعه إلى مقدمات حسية بديهية لا مجال لردها بالبراهين العقلية التي قد يستدل بها على الامتناع ، بل تكون شبهة في مقابل البديهة ، ولعله لذا أمر قدّس سرّه في هذا الوجه بالتأمل.

نعم ، لو لم تكن أدلة الوقوع قطعية ، بل قابلة للرد أو التأويل كان النزاع في الإمكان مهما ، إذ معه لا حاجة للتأويل ، وبدونه يحتاج له. لكنه لا مجال له في المقام.

والثالث : بأن النزاعات العملية المحضة إنما تحسن مع توقع الأثر العملي منها ولو على بعض مباني المسألة ، لا مع عدم الأثر مطلقا كما في المقام.

والحاصل : أن ما ذكره في الكفاية متين جدا. لكنه راجع إلى عدم الاثر للنزاع في الإمكان ، بل يلزم النظر في أدلة الوقوع ابتداء.

١٢٤

وعليه ينبغي أن يكون الغرض الأصلي من الاستدلال على الامتناع نفي الوقوع ، وإبطال أدلته ، لا نفي الإمكان ، والغرض من إبطال دليل الامتناع رفع المنافي لأدلة الوقوع ، ليتسنى إثباته بها ، لا إثبات الإمكان. فلاحظ.

وكيف كان ، فقد نسب لابن قبة دعوى امتناع التعبد بخبر الواحد عقلا ، ودليله لو تم جار في مطلق الامارة غير العملية ، بل في مطلق التعبد بغير العلم ولو كان مفاد الأصل. إذ عمدة دليله ـ على ما قرره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وحكي عن القوانين ـ أنه يلزم منه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما وبالعكس.

هذا ، والمحتمل بدوا رجوع الوجه المذكور إلى أحد محاذير ثلاثة ..

الأول : أن تحليل الحرام وتحريم الحلال مستلزم لتفويت ملاكهما وتضييعه ، وهو قبيح ، بل هو مستلزم لنقض الغرض ، لفرض تعلق الغرض بمقتضى الحكم الواقعي ، فجعل الطريق الموصل لما يخالفه مانع من الجري عليه وموجب لنقض الغرض المذكور.

ومنه يظهر أن لزوم المحذور المذكور لا يتوقف على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، لامتناع نقض الغرض مطلقا.

الثاني : أنه مستلزم لاجتماع الحكمين المتضادين أو المتناقضين ، وهو محال.

الثالث : أنه مستلزم للتشريع القبيح ، لما يستلزمه التعبد المذكور من إدخال ما ليس من الدين في الدين ، ونسبته ما لم يصدر من الشارع الأقدس له.

هذا ، ولم أعثر على من حمله على الوجه الثالث أو احتمله فيه ، إلا أن ما سبق عنه لا يأباه.

وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ بل صرح به بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ من حمله على خصوص الأول ، فلا وجه له. بل لا يناسبه ما ذكره من لزوم تحريم

١٢٥

الحلال ، لما هو المعلوم من أن تحريم الحلال لا يستلزم تفويت ملاكه.

نعم ، بناء على ما يظهر من الفصول في تقريره للمحذور المذكور من ترتبه على العمل بالطريق ، يتم ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه لظهور أن المحذورين الأخيرين لا يتوقفان على العمل بالطرق ، بل يكفي في لزوم الثاني التعبد بها من الشارع ، وفي لزوم الثالث بناء المكلف على مؤداها والالتزام به ولو مع عدم العمل.

وكيف كان ، فالمحذور الثالث ظاهر الدفع ، إما لأن التعبد الشرعي رافع لقبح نسبة ما لم يصدر من الشارع له ومخرج له عن التشريع ، لاختصاص القبح الواقعي بما إذا كانت النسبة من غير حجة ، ولذا لو فرض استنادها للقطع المخالف للواقع فلا قبح واقعا.

أو لأن الالتزام بمؤدى الطريق والأصل لا يقتضي الالتزام بأنه الحكم الشرعي الثابت واقعا ، ليلزم نسبة ما لم يصدر من الشارع له ، بل الالتزام بأنه الحكم الذي قامت عليه الحجة الشرعية أو اقتضته الوظيفة العملية ، وهو مطابق للواقع. ويأتي في المقام الثاني عند الكلام في الأصل المعول عليه عند الشك في الحجية توضيح ذلك.

فالعمدة النظر في المحذورين الأولين ، حيث أطال الأصحاب الكلام في دفعهما.

ومن الظاهر أنهما مبنيان على ما هو الحق من التخطئة ، ولا موضوع لهما على التصويب ، لعدم بقاء الحكم الواقعي على خلاف الطرق الشرعية حتى يلزم من جعلها تفويت ملاكه ، أو جعل حكم آخر مضاد له ، ليلزم اجتماع الضدين.

من دون فرق بين التصويب المنسوب للاشاعرة الراجع إلى عدم جعل حكم واقعي غير مؤدى الطريق ، والتصويب المنسوب للمعتزلة ، المبني على جعل الأحكام الواقعية مع قطع النظر عن الطرق مع كون قيام الطرق المخالفة لها

١٢٦

رافعا لها ، لحدوث الملاك المزاحم لملاكاتها الرافع لها والموجب لجعل الحكم على طبق الطريق.

فما يظهر من غير واحد في دفع المحذور المذكور بما يناسب الوجه الثاني من التصويب في غير محله ، لأنه خروج عما هو مفروض الكلام ويظهر التسالم عليه بيننا من بطلان التصويب بكلا وجهيه.

وإذا عرفت هذا يقع الكلام في المحذورين معا ، فنقول :

أما الأول : فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره أنه لا يلزم مع فرض انسداد باب العلم بالاحكام الشرعية ، إذ معه يكون الموجب لفوات الملاكات ، وهو الانسداد لا جعل الطرق ، بل يكون جعلها سببا لتحصيل بعض ما يفوت من الملاكات بسبب الانسداد بعد فرض عدم وجوب الاحتياط ولو لتعذره.

هذا ، وقد زاد بعض الأعاظم قدّس سرّه : أن المحذور المذكور لا يلزم مع انفتاح باب العلم أيضا لو فرض اطلاع الشارع على كون الطرق المجعولة أقل خطأ من العلم الحاصل للمكلف أو مساوية له ، إذ المراد بانفتاح باب العلم انفتاح باب القطع ولو خطأ ، لا فعلية العلم المصيب دائما ، لعدم إمكان إحراز ذلك. وقد سبقه إلى ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلا أنه الحقه بفرض الانسداد وألحقه بعض الأعاظم قدّس سرّه بفرض الانفتاح.

وقد استشكل فيه بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه : بأن ضياع الملاك مع خطأ القطع قهري ، لعدم التفات القاطع إلى خطأ قطعه ، بخلاف التعبد بالطريق مع الخطأ ، فإنه تفويت اختياري مستند للشارع فيقبح منه.

وهو كما ترى! إذ لا معنى لفرض كون التفويت اختياريا مستندا للشارع مع فرض تحققه على كل حال حتى مع عدم نصبه للطريق. فما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في محله.

نعم ، ذكر قدّس سرّه أن الطرق المبحوث عنها من هذا القبيل ، لأنها ليست

١٢٧

اختراعية للشارع ، بل هي طرق عرفية عقلائية ، وهي عندهم كالعلم من حيث الإتقان والاستحكام والإصابة والخطأ ، فلا قبح في جعل الشارع لها بناء على ما تقدم.

وفيه .. أولا : أن الكلام لا يختص بالطرق العرفية ، بل يجري في غيرها مما ثبت جعله ـ كيد المسلم التي هي أمارة على التذكية ولو مع استحلاله للميتة ـ أو لم يثبت ، لما هو المعلوم من عدم الفرق بين الطرق العرفية وغيرها في الإمكان والامتناع.

وثانيا : أنه لا مجال لدعوى بناء العقلاء على كون الطرق المذكورة كالعلم في الاستحكام والإصابة ، كيف وظهور الخطأ فيها لا يحصى؟! ولا سيما مثل اليد ، وأصالتي الصحة والطهارة ، خصوصا مع عموم حجيتها لصورة إمكان الفحص ، الذي لا إشكال في كونه عندهم أوصل منها.

وثالثا : أن الكلام لا يختص بالطرق ، بل يجري في الأصول التي يجوز الرجوع لها مع التمكن من الفحص واستعلام الحال في الشبهات الموضوعية كأصالة الطهارة ، بل مع حكم العقل بلزوم الاحتياط وتحصيل العلم لولاها ، كما في موارد قاعدة الصحة والتجاوز ، فإن الرجوع حينئذ لها موجب لتفويت الملاك الواقعي كثيرا مع إمكان تحصيله بالفحص أو الاحتياط اللازم عقلا.

فالإنصاف أنه لا مجال لدفع المحذور المذكور بذلك ، بل لا بد من التماس طريق آخر.

وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره أنه يمكن الالتزام بتدارك الملاكات الفائتة بمصلحة متابعة الطرق ، فقيام الطرق لا يوجب تبدل الملاكات الواقعية الثابتة لأفعال المكلفين ليوجب تبدل أحكامها الواقعية ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني للتصويب ـ بل هو موجب لحدوث مصلحة في نفس سلوك الطرق ومتابعتها يكون بها تدارك ما فات من تلك الملاكات بسبب خطأ الطرق وعمل

١٢٨

المكلف عليها ، ولو لا التدارك لكان تفويت الملاكات الواقعية قبيحا كما ذكر في تقرير المحذور.

لكن لا يخفى أنه لا ملزم بالتدارك كما ذكره غير واحد ، إذ مع فرض كون مصلحة الطرق أهم من الملاكات الواقعية الفائتة لا قبح في تفويت الملاكات ولا يلزم معه تداركها ، ومع فرض عدم أهميتها يقبح تفويت الملاكات لأجلها ، ولا ينفع فيه التدارك بها.

ولا سيما مع كون عدم التدارك هو المناسب لمرتكزات المتشرعة ، لما هو المرتكز عندهم من أن الجهل بالواقع موجب لتفويته ، وأن ما فعله الظالمون مما سبب تضييع الأحكام كان سببا لخسارة الناس وحرمانهم من بركاتها ، وربما يستظهر ذلك من بعض الأخبار.

اللهم إلا أن يكون المراد بتدارك ما فات مجرد وجود المزاحم المصحح لتفويته. لكنه خلاف ظاهر كلماتهم خصوصا شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وكيف كان ، فهذا الوجه وإن دفع المحذور المذكور ، إلا أنه لا ينفع في ما نحن فيه ، إذ مرجعه إلى كون ملاك سلوك الطرق مزاحما للملاكات الواقعية ، لمنافاته لها عملا ، ومن الظاهر أنه مع تزاحم الملاكات يكون التأثير للأقوى منها ، ويسقط الأضعف عن تأثير الحكم الذي يقتضيه ، ولازم ذلك في المقام سقوط الأحكام الواقعية ، ولزوم سلوك الطرق ، وهو راجع إلى الوجه الثاني من التصويب ، لعدم توقف التصويب على كون قيام الطرق موجبا لتغير الملاك الواقعي الثابت للفعل بعنوانه الأولي ، بل يكفي تغير ملاكه بعنوان ثانوي طارئ عليه ، كعنوان سلوك الطرق ومتابعتها ، الذي هو من عناوين فعل المكلف الثانوية الطارئة عليه بسبب قيام الطرق ، كما لا يخفى.

نعم ، هذا الوجه لا يقتضي الإجزاء مع إمكان التدارك بمثل الإعادة والقضاء ، لعدم منافاته للفوت ، فإن وجود المصحح لتفويت الملاكات في

١٢٩

الوقت لا ينافي إمكان تداركها بعد ذلك ، نظير ترك الصلاة أو الصوم لمزاحم أهم ، ولا يبعد كون مبنى القائلين بالتصويب على الاجزاء ، لعدم تحقق الفوت بسبب تبدل الملاك ، وهو ـ لو تم ـ كاشف عن ابتناء التصويب عندهم على تبدل ملاك الفعل بنفسه ، لا من جهة المزاحم.

لكن هذا لا ينافي بطلان هذا الوجه وخروجه عن محل الكلام ، كالتصويب بالمعنى المذكور ، لرجوعه إلى عدم فعلية الأحكام الواقعية ولو من جهة المزاحمة ، وهو خلاف ما ادعاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من تواتر الأخبار باشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بها ، كما لا يخفى.

وبالجملة : حيث فرض فعلية الأحكام الواقعية تبعا لفعلية ملاكاتها تعين الالتزام بعدم طروء المزاحم لتلك الملاكات بسبب قيام الطرق ، وهو مصلحة السلوك المشار إليها.

وقد حاول المحقق الخراساني قدّس سرّه وغيره دفع محذور تفويت الملاكات الواقعية بوجه آخر لا يبتني على المصلحة السلوكية ، فقد ذكر أن المصحح لتفويت الملاكات الواقعية هو المصلحة الملزمة بنصب الطرق والتعبد بها ، نظير مصلحة التسهيل النوعي ، فنصب الطرق لا يقتضي المصلحة في سلوكها الذي هو من عناوين فعل المكلف الثانوية ، ليزاحم الملاكات الواقعية ويمنع من فعلية أحكامها ، بل هو نفسه مشتمل على المصلحة الملزمة المصححة لتفويت الملاكات الواقعية ، والرافعة لقبحها.

وعن بعض الأعاظم قدّس سرّه أنه لا بد حينئذ من تدارك ما فات من الملاكات الواقعية بسبب الجعل.

وهو غير ظاهر ، إذ لا موجب للتدارك مع فرض أهمية مصلحة الجعل ، لعدم قبح تفويت المهم لأجل الأهم عقلا ولو لم يتدارك ، كما هو ظاهر.

نعم ، قد يستشكل في ذلك أيضا ـ كما يستفاد من بعض الأعيان

١٣٠

المحققين قدّس سرّه : بأنه راجع إلى فرض التزاحم بين ملاكات الأحكام الواقعية وملاك نصب الطرق ، لامتناع استيفاء كلا الملاكين ، بل استيفاء الثاني مانع من استيفاء الأول ، فإن فرض أهمية الملاكات الواقعية تعلّق الفرض الفعلي للمولى بجعل الأحكام الواقعية على طبقها وامتنع نصب الطرق المخالفة لها ، لما فيه من تفويت تلك الملاكات ونقض الغرض الفعلي ، وإن فرض أهمية ملاك نصب الطرق لزم رفع اليد عن الملاكات الواقعية وسقوط أحكامها ، وهو خلاف فرض فعلية الأحكام الواقعية وتعلق الغرض بها.

وبالجملة : تعلق الغرض والإرادة الفعليين على طبق الأحكام الواقعية ينافي نصب الطرق المؤدية إلى خلافها بعين التنافي بين إرادة الشيء وإرادة ما يمنع عنه ، كما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

ومن الغريب ما ذكره بعض مشايخنا من تنظير مصلحة التسهيل النوعية في المقام بحق الشفعة الذي ثبت للشريك ، لأنه ربما يتضرر من اشتراكه مع الشريك اللاحق ، وبطهارة الحديد ، وعدم وجوب السواك ، ونحو ذلك.

إذ فيه : أن تقديم الملاك النوعي في هذه الموارد موجب لعدم تأثير الملاك المزاحم بها في الحكم الفعلي ، وليس الحكم الفعلي إلا على طبقها ، بخلاف المقام حيث فرض فيه كون الحكم المخالف لمؤدى الأمارة فعليا ، لفعلية ملاكه.

ثم إن هذا الإشكال لو تم لا نفتح به أبواب من الإشكال لا مجال للالتزام بها ، فان تعلق الغرض والإرادة الفعليين بحفظ الملاك الواقعي الفعلي كما يمنع من إرادة ما ينافيه ـ وهو نصب الطرق المؤدية لخلافه ـ كذلك يقتضي جعل ما يكون سببا في حفظه ، كنصب الطرق المؤدية له المأمون منها الخطأ ، وإيجاب الاحتياط لو فرض تعذرها وانسداد باب العلم ، بل يلزم النهي عن سلوك الطرق المؤدية للقطع إذا كانت بنظر المولى معرضة للخطإ وموجبة لفوت الملاك الواقعي ولا يمكن الالتزام بشيء من ذلك ، لما هو المعلوم من كثرة فوت الواقع

١٣١

بسبب خطأ القطع وعدم نصب الشارع لطرق مأمونة الخطأ ، وعدم وجوب الاحتياط شرعا في أكثر موارد الشك ، بل يجوز الرجوع لمقتضى البراءة ولو بحكم العقل ، فلا بد إما من دفع هذه الشبهة في هذه الموارد ، فتندفع في ما نحن فيه ، لأنه من سنخها ، أو إهمالها فيها ، لأنها من سنخ الشبهة في مقابل البديهة ، فتهمل في ما نحن فيه أيضا.

وقد تصدّى بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه لدفع الشبهة من أساسها بنحو ـ لو تم ـ ينفع على جميع مباني المسألة. إلا أنه لطوله وكثرة مقدماته لا يسعنا استقصاؤه ، وقد لخصه سيدنا الأعظم قدّس سرّه واقتصر منه على ما يناسب القول بجعل الطرق لمحض الطريقية ، وهو يبتني على أمرين.

الأول : أن منشأ تضاد الأحكام هو تنافي الإرادة والكراهة والرضا التي هي المعيار في كون الحكم حقيقيا ، وتنافيها ناشئ من تنافي مباديها وهي ترجح الوجود على العدم ، وترجح العدم على الوجود ، وتساويهما في نظر المولى ، لاستحالة اجتماع هذه الأمور في شيء واحد.

إلا أن يكون للشيء الواحد جهات من الوجود ، فيمكن اتصافه بكل من هذه الأمور بلحاظ كل جهة من جهاته ، فيكون وجوده أرجح من عدمه بلحاظ جهة وعدمه أرجح من وجوده بلحاظ جهة اخرى ، وعليه فالوجود الواحد إذا كان له مقدمات متعددة تتعدد جهاته بتعدد تلك المقدمات ، فكما يمكن أن يكون وجوده أرجح من عدمه من جميع الجهات الموجب لإيجاده بإيجاد جميع مقدماته ، كذلك يمكن أن يكون وجوده أرجح من عدمه بلحاظ بعض جهاته ، فيتعلق الغرض بإيجاده من تلك الجهة دون بقية الجهات ، وهو يقتضي إيجاد المقدمة المتعلقة بالجهة المرادة دون بقية المقدمات ، بل قد يكون عدمها أرجح من وجودها ، فتتعلق الكراهة بالفعل من جهتها ، كما تعلقت الإرادة به من الجهة الاولى ، ولا محذور حينئذ في اجتماع الضدين في الشيء الواحد

١٣٢

لتعدد الجهة.

كما أن الحال كذلك في المركب الذي تتعدد جهاته بتعدد أجزائه ، فقد يتعلق به الغرض من جميع الجهات ، فيوجد بتمام أجزائه ، وقد يتعلق به الغرض من بعض جهاته ، فلا يوجد إلا بعض أجزائه.

الثاني : أن الإرادة التشريعية التي هي المناط في الأحكام من سنخ الإرادة التكوينية ، بل هي مرتبة منها ، وليس الفرق بينهما إلا في كيفية التعلق بالمراد ، فإن لوجود الفعل من المكلف مقدمات ، بعضها يتعلق بالعبد ، وبعضها يتعلق بالمولى ، وهي جعل الحكم ، وتنجيزه على المكلف ـ بإيصاله أو بإيجاب الاحتياط فيه ـ وحدوث الداعي العقلي له إلى الإطاعة ، كالخوف من المولى ، او الرجاء له وغيرهما.

فإن تعلّقت إرادة المولى بالفعل من جميع الجهات لاقتضاء ملاكه لذلك كانت تلك الإرادة تكوينية ، وامتنع تخلفها عن المراد ـ مع قدرة المولى ـ والإرادة المذكورة تستتبع إرادات غيرية لتمام المقدمات الموصلة له ، فيجعل المولى الحكم وينجزه على المكلف ـ بإيصاله أو إيجاب الاحتياط عليه فيه ، ويهدده ويخوفه ، إلى أن يختار الامتثال ويحقق المراد.

وإن تعلقت به من جهة تشريع الحكم فقط لعدم اقتضاء ملاكه إلا ذلك كانت الإرادة تشريعية ، وهي لا تقتضي إلا تشريع الحكم وجعله ، ولا تقتضي تنجيزه ولا غير من المقدمات ، بل يتوقف ذلك على إرادة اخرى تقتضي الوجود من تلك الجهات ، وذلك تابع لغرض المولى التابع لمقدار الملاك الملحوظ له.

وبالجملة : الإرادة التشريعية مرتبة من الإرادة التكوينية تقتضي وجود فعل المكلف من حيث تشريع الحكم لا غير ، ولذا أمكن تخلف المراد عنها.

إذا عرفت هذا ، ظهر أن جعل الحكم لا ينافي جعل الطرق المخالفة له ،

١٣٣

كما لا يقتضي تيسير طريق الوصول له أو حفظه بإيجاب الاحتياط ونحوه ، لأن جعل الحكم تابع للإرادة التشريعية ، وهي إرادة فعل المكلف من حيث جعل الحكم ، وهو لا يستلزم إرادته من بقية الجهات ـ كتنجيزه وغيره ـ لما عرفت من إمكان التفكيك في الإرادة بين جهات الوجود ومقدماته ، فيترجح الوجود على العدم من بعضها ، ويترجح العدم على الوجود من بعضها الآخر. كما لا محذور في تفويت الملاك حينئذ في مرحلة تنجيز الحكم ، إذ لا اقتضاء في الملاك للتحصيل إلا من حيث جعل الحكم ، فلا يقبح تفويته من الجهات الأخر بجعل الطريق المنافي له.

نعم ، لو فرض تعلق الإرادة بفعل المكلف من جهة تنجيز التكليف به أيضا لاقتضاء ملاكه لذلك امتنع نصب الطريق المخالف له ، بل لا بد من تنجيزه ولو بجعل الاحتياط لئلا يلزم نقض الغرض وتفويت الملاك اللازم التحصيل.

لكن هذا خروج عن الفرض ، إذ الكلام في منافاة نصب الطريق لأصل الجعل ، واستلزامه تفويت الملاك الموجب له لا غير.

كما ظهر ـ أيضا ـ عدم لزوم محذور اجتماع الحكمين المتضادين لو كان مؤدّى الطريق مخالفا للأحكام الواقعية ، فإن التعبد بالطريق وإن كان حاكيا عن الترخيص في مخالفة الأحكام الواقعية ، إلا أن الترخيص قد تعلق بحيثية إيصال الحكم وتنجيزه ، فلا ينافي الحكم الواقعي الناشئ عن الإرادة التشريعية المتعلقة بحيثية جعل الحكم ، لاختلاف الجهة الرافع لمحذور اجتماع الحكمين المتضادين ، كما عرفت. وقد أطال قدّس سرّه ـ تبعا لشيخه المذكور قدّس سرّه ـ في توضيح ذلك وتنقيحه ، كما يظهر بمراجعة كلامهما.

لكن ما ذكره من إمكان التفكيك في إرادة الشيء بين جهات وجوده من حيثية الأجزاء والمقدمات مما تأباه المرتكزات العرفية جدا ـ كما ذكرناه عند الكلام في حقيقة الإرادة التشريعية ـ لان الإرادة الغيرية لما كانت في طول الإرادة

١٣٤

النفسية وكان الغرض الموجب لها هو الوصول للمراد النفسي فلا بد من الارتباطية بين الإرادات الغيرية المتعلقة بجميع المقدمات وامتنع التفكيك بينها ، فإرادة ذي المقدمة تستلزم إرادة جميع مقدماته ، ومع عدم إرادة بعضها وعدم السعي له المستلزم لعدم حصول المراد النفسي يمتنع تعلق الإرادة النفسية به ، فيمتنع معه إرادة بعض المقدمات غيريا.

وكذا الحال في المركب ذي الأجزاء ، ضرورة الارتباطية أيضا بين الإرادات الضمنية التي تنحل إليها الإرادة الاستقلالية المتعلقة بالمركب.

نعم ، قد يتعلق الغرض الاستقلالي بالمقدمة أو الجزء ، فيكون مرادا نفسيا أو استقلاليا. من دون أن تتعلق الإرادة بذي المقدمة ولا بالمركب ؛ وهو خارج عن محل الكلام ، حيث فرض فيه كون متعلق التكليف بنفسه مرادا للمولى وفرض توقف وجوده على المقدمات المذكورة في كلامه قدّس سرّه ، لا أن الإرادة قد تعلقت بجعل التكليف من دون أن تتعلق بالمكلف به.

وحينئذ يعود المحذور المتقدم ، إذ مع فرض فعلية الملاك على طبق الحكم الواقعي المستلزم لتعلق الغرض والإرادة بمتعلق الحكم لا بد من حفظ المولى لمراده بفعل تمام مقدماته ومنها تنجيز التكليف ، ولا يكتفي بجعل الحكم. كما يعود محذور لزوم اجتماع الضدين ، لأن تعدد الجهة لا يجدي مع الارتباطية بين الجهات في تعلق الإرادة والغرض ، كما لعله ظاهر.

هذا ، والظاهر اندفاع المحذور المذكور بناء على ما هو الظاهر في حقيقة الإرادة التشريعية التي هي الملاك في ثبوت الأحكام الشرعية ، فقد ذكرنا في محله أنها ليست من سنخ الإرادة التكوينية ، ولا ملازمة لها ، بل هي متقومة بالجعل والخطاب بداعي جعل السبيل على المكلف ، وهي ..

تارة : تصدر عن إرادة تكوينية للفعل ، وهي حينئذ غير قابلة للتخلف مع فرض قدرة المريد ، فلا بد له من تحقيق تمام ما له الدخل في وقوع المراد مما

١٣٥

يحمل المكلف على الامتثال ، من تنجيز الحكم على المكلف ، وإقداره على امتثاله ، واحداث الداعي في نفسه بالتخويف والتهديد والهداية وغير ذلك ، لئلا يلزم نقض الغرض.

واخرى : لا تصدر عن إرادة تكوينية ، بل لدواع أخر ، فلا يلزم تهيئة ما يتوقف عليه الامتثال مما تقدم ، بل يمكن حينئذ تهيئة ما يمنع عنه ، من نصب الطرق المؤدية لخلاف الواقع ، أو تعجيز المكلف عن الوصول إليه ومعرفته بنحو لا يتسنى الاحتياط كما في الدوران بين المحذورين أو إيجاد أسباب العصيان له ، كإثارة الدواعي الشهوية ، وتمكين الشيطان منه ، وحرمانه من فيض الهداية الربانية ، ولا يلزم من ذلك نقض الغرض بوجه.

نعم ، لا إشكال في أن التكاليف الشرعية تابعة للملاكات الفعلية ، إلا أن فعلية الملاكات لا تقتضي عقلا حفظها من جميع الجهات ، بل تقتضي حفظها في مقام التشريع بالوجه الذي لا يلزم منه محذور أهم ، فإذا فرض لزوم المحذور ـ كالحرج النوعي ـ لم يقبح عقلا تفويتها ـ بجعل الطرق المخالفة أو بعدم إيجاب الاحتياط أو بغيرهما ـ ولا ينافي ذلك فعليتها ، إذ ليس المراد بفعلية الملاك المستتبعة لفعلية الحكم إلا كونه بنحو يقتضي رجحان الفعل أو الترك ، بحيث يقتضي العمل لو تنجز في حق المكلف ، وجواز تفويته من قبل الشارع بجعل ما يمنع من تنجيزه ـ كالطرق المخالفة له ـ لمصلحة في جعله لا ينافي فعليته بهذا المعنى ، ولا يلزم منه التصويب.

وبعبارة اخرى : بطلان التصويب إنما يقتضي فعلية الأحكام ـ تبعا لملاكاتها ـ في حق المكلف ، بحيث يكون عمل المكلف واجدا للملاك المقتضي للحكم من دون مزاحم ، وهو لا يستلزم فعلية الملاك في حق المولى بنحو يلزمه استيفاؤه تشريعا حتى بإيصاله للمكلف ، بل يمكن عروض ما يقتضي تفويته وعدم تنجيزه من المزاحمات ، فلا يقبح منه حينئذ تفويته وإن كان

١٣٦

تاما مقتضيا للعمل من المكلف لو لا عدم التنجيز.

وهذا بخلاف ما إذا كان نصب الطريق موجبا لحدوث ملاك في نفس الفعل يقتضي متابعة الطريق ـ كما هو مبنى المصلحة السلوكية ـ فإن الملاك الواقعي يكون مزاحما قاصرا عن تأثير الحكم الفعلي مع قطع النظر عن عدم تنجيزه ، ومن ثمّ كان نحوا من التصويب ، كما سبق.

هذا ، مضافا إلى أن امتناع الجمع بين الغرضين واستيفائهما معا في الخارج إنما يمنع من فعليتهما ، معا في حق الشخص الواحد ، ويستلزم سقوط أحدهما أو كليهما عن الفعلية فيما إذا كانا معا راجعين إلى مقام الثبوت أو إلى مقام الاثبات ، كما إذا تعذر الجمع بين حفظ المال وحفظ الصحة ، أو بين حفظ كرامة الشاهد المقتضي لقبول شهادته والاهتمام بالواقع المشهود به المقتضي لعدم الاكتفاء فيه بغير العلم ، أما اذا كان أحدهما راجعا إلى مقام الثبوت والآخر راجعا إلى مقام الإثبات فلا مانع من فعليتهما معا بنحو ينبغي العمل عليهما معا ، كما لو لم يزاحم بالآخر ، من دون أن يكون تفويت الملاك الراجع إلى مقام الثبوت لأجل الملاك الراجع إلى مقام الاثبات منافيا لفعليته بنحو ينبغي حصوله.

مثلا : اذا اقتضى علاج المرض استعمال الدواء على رأس كل ساعة ، ولم يمكن احراز ذلك كاملا إلا بشراء المنبّه ، وكان شراؤه مجحفا بالمريض ، فقد يكون العلاج المذكور من الأهمية بنحو يلزم بتحمّل الاجحاف المالي ، وقد لا يكون كذلك ، إما لعدم أهمية المرض ، أو لعدم استلزام الاخلال بالموعد في بعض الوقائع بسبب عدم المنبّه تعذّر العلاج رأسا ، بل عدم كمال العلاج وبلوغه المرتبة التامة ، وحينئذ لا يقدم المريض على شراء المنبه دفعا للضرر المجحف به وان استلزم الإخلال بالموعد في بعض الوقائع ، من دون أن يخرج الحفاظ عن الموعد فيها عن الفعلية ، ولذا لو حصل صدفة بلا علم بالوقت كان وافيا بالغرض الفعلي ، كما لو حصل عن علم بالوقت. وهذا بخلاف ما لو كان الحفاظ

١٣٧

على الموعد في بعض الوقائع مستلزما لمحاذير ثبوتية ، كالتعرض للبرد المضر بالبدن من جهة اخرى غير المرض المعالج ، أو الضرر المالي المجحف في نفس العلاج ، كغلاء الدواء ، ونحوهما مما يمنع من فعلية الغرض فيه ثبوتا ، بحيث لو وقع لم يكن مطابقا للغرض الفعلي على نحو غيرها من الوقائع غير المزاحمة من تلك الجهة.

وبما ذكرنا ظهر أن ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من كون المصلحة المقتضية لنصب الطرق في نفس التعبد بالطرق وجعلها من قبل الشارع ، لا في متابعة المكلف للطرق ـ كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ واف بدفع محذور تفويت الملاكات الواقعية.

ولا يتوجه عليه محذور نقض الغرض ، لتوقفه على كون التكاليف الفعلية ناشئة عن الإرادة التكوينية.

كما لا يتوجه عليه محذور عدم فعلية الملاكات ولا الأحكام التابعة لها ، لما عرفت من أن وجود ما يمنع من تنجيز المولى للحكم لا ينافي فعليته في حق المكلف ، بمعنى كون ملاكه مقتضيا للفعل ـ لو فرض تنجّزه ـ غير مزاحم بما يمنع من تأثيره.

هذا ما تيسر لنا في دفع محذور لزوم تفويت الملاكات الواقعية ونقض الغرض من جعل الطرق غير العلمية. والله سبحانه ولي التوفيق.

وأما المحذور الثاني : ـ وهو محذور اجتماع الحكمين المتضادين ـ فقد يدعى عدم اختصاصه بصورة المخالفة ، بل يجري نظيره في صورة الموافقة ، حيث يلزم حينئذ اجتماع المثلين.

وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن ذلك ليس محذورا ، إذ يمكن حينئذ الالتزام بالتأكد بين الحكمين ، فيكون في المورد حكم واحد بمرتبة شديدة.

وفيه .. أولا : أن الحكم الواقعي إن كان منجزا في صورة إصابة الطريق له

١٣٨

بحيث يكون منشأ لاستحقاق العقاب والثواب لزم تأكد العقاب والثواب وشدتهما ، بحيث يكون العقاب والثواب على الحكم الذي أصابه الطريق أشد من العقاب والثواب على الحكم الذي يصيبه المكلف بالقطع ، حيث لا يكون القطع مستتبعا لحكم يؤكد الحكم الواقعي ، بخلاف الطريق. وإن لم يكن منجزا صالحا لان يعاقب ويثاب عليه ـ لفرض عدم العلم به ـ لزم كون العقاب على الحكم الظاهري لا الواقعي ، وكلا الأمرين لا يمكن الالتزام به.

وثانيا : أن الحكم الظاهري إذا كان من سنخ الحكم الواقعي بحيث يؤكده في صورة الموافقة يلزم في صورة المخالفة جريان أحكام اجتماع الحكمين بعنوانين في مورد واحد ، فيقدم الالزامي على غيره ، والاقتضائي على غيره ، ويتزاحمان لو كانا اقتضائيين إلزاميين أو غير إلزاميين ، فيسقطان لو كانا متساويين ملاكا ، ويقدم الأقوى منهما مع عدم التساوي. ومن الظاهر عدم الالتزام بذلك.

فالتحقيق : أن الحكم الظاهري مباين سنخا للحكم الواقعي ، فلا يتأكد أحدهما بالآخر مع تماثلهما ، ولا يتزاحمان مع تضادهما ، فلا بد من النظر في حالهما وفي كيفية الجمع بينهما مع التماثل والتضاد.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه ربما يدفع المحذور المذكور بوجوه ..

الأول : ما تقدم من سيدنا الأعظم وشيخه (قدس سرهما) من اختلاف الجهة ، فإنه رافع لمحذور اجتماع الضدين والمثلين. وقد سبق الإشكال في الوجه المذكور.

الثاني : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في أول مباحث الشك ، ومباحث التعادل والتراجيح من أن الحكم الظاهري متأخر رتبة عن الحكم الواقعي ، لأن موضوعه الشك فيه.

وهو وإن ذكر ذلك في مفاد الأصول ، إلا أنه قد يتوجه نظيره في مفاد

١٣٩

الطريق ، فإن قيام الطريق على الحكم الواقعي لما كان متأخرا عنه رتبة تأخّر الكاشف عن المنكشف كان الحكم الظاهري المترتب عليه متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين.

وحينئذ فقد يدعى أن اختلاف الرتبة رافع لمحذور اجتماع المثلين والضدين ، كما يرفع محذور اجتماع النقيضين ، حيث يجوز اجتماعهما في زمان واحد وموضوع واحد مع اختلاف الرتبة ، فالمعلول في زمان وجود العلة معدوم في مرتبة وجود العلة وموجود في المرتبة الثانية.

وقد أجاب عنه سيدنا الأعظم قدّس سرّه بمنع كفاية اختلاف الرتبة في جواز اجتماع المتضادين ، إذ لا يجوز بالضرورة أن يكوم مقطوع المحبوبية بما هو كذلك مبغوضا ، مع أن المبغوضية متأخرة عن المحبوبية بمرتبتين ، كتأخر الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي.

أقول : اعترف قدّس سرّه في تقرير هذا الوجه بكفاية اختلاف الرتبة في جواز اجتماع النقيضين ، كما ذكرنا ، ومن الظاهر أنه ليس أهون من اجتماع الضدين ، وكما يمكن تصوير اجتماع النقيضين مع اختلاف الرتبة بما تقدم يمكن تصوير اجتماع الضدين فيما لو طرأ على أحد الضدين علة ضده الآخر الرافعة له ، فإن الضدين موجودان في زمان وجود العلة وإن اختلفا بالرتبة ، حيث يكون الأول موجودا في مرتبة حدوث العلة الرافعة له ، والثاني موجودا في المرتبة الثانية.

ولعل الأولى في الجواب أن يقال : ان الاجتماع الحقيقي بين النقيضين أو الضدين في زمان واحد محال ، ولا يصححه اختلاف الرتبة ، ولا اجتماع حقيقي في ما تقدم ، بل ليس إلّا صحة نسبة كل منهما إلى العلة نحو نسبة توهم الاجتماع بينهما ، وبسبب تفرع المعلول على العلة وتأخره عنها رتبة ولحاظا ، ولا يعقل فرض ان واحد يتحقق فيه كلا الضدين والنقيضين ، ولذا كان الاجتماع المزعوم بنحو لا يقبل الاستمرار والاستقرار ، بل من حين نهاية أحدهما يبدأ الآخر. وهذا

١٤٠