المحكم في أصول الفقه - ج ٣

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٠

الفصل الخامس

في العلم الاجمالي

والكلام فيه ..

تارة : في كفايته في مقام وصول التكليف وتنجيزه.

واخرى : في الاكتفاء به في مقام الامتثال والفراغ عن التكليف بعد فرض تنجيزه بعلم وغيره.

فيقع الكلام في مقامين ..

المقام الأول : في كفايته في تنجيز التكليف

ووصوله.

والكلام فيه ..

تارة : في التنجيز بنحو يمنع من المخالفة القطعية.

واخرى : بنحو يلزم بالموافقة القطعية ، وعلى كلا التقديرين فهل هو لكون العلم الإجمالي علة تامة فيه ، أو لكونه مقتضيا له بنحو يقبل الردع الشرعي عنه؟.

هذا ، والمراد بالردع هو الحكم شرعا بعدم منجزية العلم الإجمالي بنحو يمنع من المخالفة القطعية ، أو بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، فيلزمه جريان الأصول في تمام الأطراف أو بعضها لو فرض عموم أدلتها لها ، لعدم المانع. فجريان الأصول في الأطراف ليس هو عبارة عن الردع ، بل هو أمر مترتب عليه بعد فرض عموم أدلتها لها.

نعم ، قد يستفاد الردع لو فرض إمكانه من عموم أدلة الأصول بالملازمة

١٠١

لو فرض توقف جريانها عليه ، كما قد يكون جريانها مبتنيا على أمر آخر غير الردع المذكور ، كجعل البدل الذي يمكن حتى مع فرض علية العلم الإجمالي التامة في المنجزية.

ومنه يظهر أن ما هو محل الكلام هنا من علّيّة العلم الإجمالي التامة في المنجزية واقتضائه لها ، وعدمهما لا دخل له بما يأتي الكلام فيه في مبحث الاشتغال من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي وعدمه.

فقد يذهب ذاهب إلى جريان الأصول في بعض الأطراف مع التزامه هنا بالعلية التامة ، لدعوى استفادة جعل البدل منها مثلا ، وقد يذهب آخر إلى عدم جريانها مع التزامه هنا بالاقتضاء وعدم العلية التامة ، لدعوى قصور أدلتها عن عموم الأطراف بنحو تكشف عن الردع عن منجزية العلم الإجمالي ، غاية الأمر أن محل الكلام هنا يكون من مباني الكلام هناك وينفع فيه في الجملة. فلاحظ.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه من كون القول بجريان الأصول في بعض الأطراف متفرعا على القول بالاقتضاء. وانه لا يجري مع البناء على عليّة العلم الإجمالي للموافقة القطعية.

ومثله ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه هنا من أن البحث في حرمة الموافقة القطعية مما يناسب مباحث العلم ، والبحث في وجوب الموافقة القطعية مما يناسب مباحث الشك ـ ومن ثمّ أوكله لمباحث الأصول العملية ، للإشكال فيه بأن وجوب الموافقة القطعية كحرمة المخالفة القطعية من شئون تنجز التكليف المترتب على العلم به ، فالمناسب التعرض له في مباحثه. وجريان الأصول في الأطراف وعدمه أمر آخر يتفرع على ذلك في الجملة ، كما أشرنا إليه ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا ، فلنرجع لما نحن بصدده من منجزية العلم الإجمالي بأحد

١٠٢

الوجوه المتقدمة وعدمها فنقول :

مما تقدم في وجه منجزية العلم ووجوب العمل عليه يظهر الوجه في منجزية العلم الإجمالي ووجوب العمل عليه ، لعدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في الجهة المتقدمة المقتضية للعمل من كونه عبارة عن الوصول للواقع والالتفات إليه الموجب للعمل بالوجه الذي يقتضيه الواقع المعلوم. وقد عرفت بذلك امتناع الردع الشرعي عن العمل على طبق العلم.

ولا يفترق العلم الإجمالي عن التفصيلي إلا بابتلائه بالجهل بالموضوع وتردده بين الأطراف ، ولا دخل لهذا في الوجه المتقدم المقتضي للعمل على طبق العلم.

نعم ، قد يكون الإجمال موجبا لقصور الواقع المعلوم عن مقام العمل لمزاحمة كلفة الاحتياط له ، فإن الجهة المذكورة قد تكون مزاحمة للملاك الواقعي المقتضي للعمل على طبق الواقع ، فتمنع عن تأثيره ، فعدم العمل على طبق العلم ليس لقصور في العلم ، بل في المعلوم.

ولا مجال لذلك في محل الكلام. إذ الجهة المذكورة إن كانت مزاحمة لملاك التكليف ، بحيث تمنع من تأثيره التكليف شرعا ـ كما في موارد الحرج ـ فهي خارجة عن محل الكلام ، إذ الكلام في العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي.

وإن كانت مزاحمة لنفس التكليف بنحو تمنع من حكم العقل بوجوب إطاعته ، فهو ممتنع في الأحكام الشرعية ، لأن ضرر العصيان لما كان شديدا فلا يزاحمه شيء ، بخلاف الأضرار الأخر ، فإنها قد تزاحم بكلفة الاحتياط.

وأما حديث الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وعدم لزوم الموافقة القطعية ـ إما لعدم اقتضاء العلم لها ، أو لردع الشارع ، عنها بعد فرض عدم عليته التامة لها ـ فهو لو أمكن في العلم الإجمالي أمكن في العلم التفصيلي لعدم الفرق بينهما

١٠٣

في الجهة المقتضية للعمل كما ذكرنا.

والظاهر منهم عدم إمكانه ، لحكم العقل بأن التكليف اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وإن كان لا يخلو عن إشكال ، ويأتي الكلام فيه في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث الشك في التكليف.

وكيف كان ، فبناء على امتناعه في العلم التفصيلي ينبغي منعه في العلم الإجمالي لعدم الفرق. نعم ، للشارع أن يعبدنا بالامتثال ظاهرا ، ببعض طرق الإحراز ، كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك. وهو خارج عما نحن فيه.

وكأن وجه توهم الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية توهم أن المعلوم لما كان هو أحد الأطراف فلا يتنجز ما زاد عليه ، ولا يجب الفراغ الا عنه ، فالامتثال بأحد الأطراف إطاعة قطعية للتكليف المنجز وإن كان إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي.

مع الغافلة عن أن المعلوم ليس هو مفهوم أحدها ـ كما في الواجب التخييري ـ حتى يكفي في إحراز الفراغ عنه الإتيان بواحد ، بل هو أحدها المعين واقعا بخصوصيته على ترديده ، فلا بد من إحراز الخصوصية الواقعية في إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم ، وهو موقوف على الاحتياط التام.

ومما ذكرنا ظهر أنه لو فرض ظهور الأدلة الشرعية في جواز ارتكاب بعض الأطراف أو تمامها فلا بد إما من تنزيلها على كون العلم الإجمالي مانعا من فعلية التكليف المعلوم ـ كما تقدم نظيره في العلم التفصيلي الموضوعي ـ أو على تصرف الشارع في مقام إحراز الامتثال بجعل البدل الظاهري ـ كما في موارد القرعة ـ أو نحو ذلك مما يأتي الكلام فيه في محله ومما لا يلزم منه محذور مخالفة العلم. كما يلزم ذلك أيضا فيما لو كان ظاهر الأدلة جواز مخالفة

١٠٤

العلم التفصيلي.

وعلى ذلك يتعين توجيه الفروع التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه التي قد يظهر منها جواز مخالفة العلم التفصيلي ، فضلا عن الإجمالي. ولا مجال لإطالة الكلام فيها. فراجع.

كما ظهر حال ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من إمكان ردع الشارع الأقدس عن منجزية العلم الإجمالي ، وأنه ليس علة تامة للتنجز ، بل هو مقتض له يمكن رفع اليد عنه لمانع عقلي ـ كما في الشبهة غير المحصورة ـ أو ترخيص شرعي.

إذ يتضح الإشكال فيه بما سبق.

وعدم التنجز في الشبهة غير المحصورة ليس لقصور في منجزية العلم ، بل لقصور في التكليف المعلوم بسبب خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أو عن قدرة المكلف ، على ما يأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى. والترخيص الشرعي لا بد من توجيهه ، كما عرفت ، ويأتي الكلام في ذلك في مباحث الأصول العملية إن شاء الله تعالى.

ثم إنه لا فرق في ما ذكرنا بين كون الإجمال لاشتباه الحكم مع تعيين المتعلق ـ كما لو علم بأن شيئا معينا إما واجب أو حرام ـ أو لاشتباه المتعلق مع تعيين الحكم ـ كما لو علم بوجوب القصر أو التمام ـ أو لاشتباههما معا ـ كما لو علمت المرأة المشتبهة الحيض إما بوجوب الصلاة أو حرمة المكث في المسجد عليها ـ إما من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية. ومن دون فرق بين رجوع الأطراف إلى خطاب واحد ورجوعه إلى خطابات متعددة ، كما لا فرق أيضا بين أسباب الاشتباه ، على ما تعرض له شيخنا الأعظم قدّس سرّه وأطال الكلام في بعض فروعه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

١٠٥

ولنقتصر في المقام الأول على هذا المقدار ، مع إيكال بعض المباحث المتعلقة به إلى مباحث الأصول العملية ، تبعا لما سلكه الأكابر.

المقام الثاني : في الاكتفاء بالعلم الإجمالي في مقام الامتثال.

ولا إشكال ظاهرا في الاكتفاء به مع تعذر الامتثال التفصيلي ولو في العباديات ، وكذا الاكتفاء به ولو مع التمكن منه في التوصليات ومنها المحرّمات.

وإنما يقع الكلام في الاكتفاء به في العباديات مع التمكن من الامتثال التفصيلي بالفحص وتعيين المعلوم بالإجمال.

وهو ... تارة : يكون في الواجبات الاستقلالية التي لا يتحقق الامتثال الإجمالي فيها إلا بالتكرار ، كما في الجمع بين القصر والتمام وتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين.

واخرى : في الواجبات الضمنية من الأجزاء والشرائط ، كما لو علم بوجوب إحدى سورتين في الصلاة فجمع بينهما في صلاة واحدة.

وينبغي أيضا الكلام ـ تبعا لغير واحد ـ في الاحتياط مع احتمال التكليف من دون علم إجمالي ، كما لو احتمل وجوب صلاة العيد فأتى بها من دون فحص يستكشف به الحال مع التمكن منه.

فيقع الكلام في المواضع الثلاثة ..

الأول : الاحتياط مع الاحتمال غير المقرون بعلم إجمالي. وقد اضطرب كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذلك كثيرا في مباحث القطع والانسداد والبراءة والاشتغال ، وقد مال في بعض كلماته إلى عدم مشروعية الاحتياط. بل نسب إلى المشهور عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد والتقليد بالاحتياط. وهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه. والمستفاد منهم في وجهه أمور ..

الأول : أنه يعتبر في العبادة الإتيان بها بنيّة الوجه الخاص من الوجوب أو

١٠٦

الندب ، فقد نقل شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه نقل غير واحد اتفاق المتكلمين على وجوب إتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجهها ، وأن السيد الرضي قدّس سرّه نقل إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ، وأن أخاه السيد المرتضى أقرّه على ذلك.

قال قدّس سرّه في خاتمة البراءة والاشتغال بعد نقل ذلك : «بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيان من أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة ، فضلا عن كونهما منشأ للشك الملزم للاحتياط ، كما ذكرنا».

لكن لم يتضح الوجه في اعتبار قصد الوجه في العبادة ، إذ لو اريد به أنه معتبر عند العقلاء في الإطاعة فقد تحقق في محله عدم اعتبار أصل قصد التقرب فيها عندهم فضلا عن قصد الوجه ، ولذا كان الأصل في الأوامر التوصلية.

كيف ولو كان معتبرا في أصل الإطاعة لزم تعذرها بتعذر الفحص وعدم مشروعية الاحتياط لا مع العلم الإجمالي ولا مع الشك البدوي ، مع مفروغيتهم عن مشروعيته حينئذ. والفرق بين صورتي التعذر وعدمه تحكّم تأباه المرتكزات العقلائية جدا.

ولعل مراد المتكلمين من دخل قصد الوجه في الإطاعة دخله في الإطاعة المستلزمة للمدح والثواب ، لا في الإطاعة التي يقتضيها الأمر وتكون مسقطة له ، التي هي محل الكلام.

وإن كان التحقيق عدم اعتبار قصد الوجه في الإطاعة حتى بالمعنى المذكور ، بل يكفي فيها الإتيان بداعي موافقة ملاك المحبوبية ، الأعم من الإيجابية والندبية وإن كانت محتملة ، في مقابل الإتيان به بدواع أخر لا دخل لها بالمولى.

١٠٧

بل قد يظهر من بعض كلماتهم أن ذلك مرادهم من قصد الوجه ، قال في محكي التجريد : «ويستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح والإخلال به بشرط فعل الواجب لوجوبه والمندوب كذلك ..» ، وعن العلامة في شرحه : «واعلم أنه يشترط في استحقاق الفاعل المدح والثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه ، وكذا المندوب بفعله لندبه أو لوجه ندبه».

وإن أريد أنه معتبر شرعا في خصوص العبادات مع التمكن منه ، فهو محتاج إلى دليل مفقود ، بل إهمال الشارع له مع غفلة العقلاء والمتشرعة عنه موجب للقطع بعدم اعتباره ، بل قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث الانسداد : «إن معرفة الوجه مما يمكن للمتأمل في الأدلة وفي إطلاقات العبادة وفي سيرة المسلمين وسيرة النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام مع الناس الجزم بعدم اعتبارها حتى مع التمكن من المعرفة العملية. ولذا ذكر المحقق قدّس سرّه ـ كما في المدارك في باب الوضوء ـ : أن ما حققه المتكلمون من وجوب إيقاع الفعل لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعري».

وأما دعوى الإجماع المتقدمة عن الرضي قدّس سرّه فالظاهر أنها أجنبية عما نحن فيه ، وأن مراده قدّس سرّه الإجماع على بطلان عمل الجاهل المعتقد لخلاف الواقع إذا عمل على طبق اعتقاده ، خلافا لما عن المصوبة من صحة عمله وانقلاب الواقع في حقه.

فعن الذكرى والروض في مسألة اجتزاء المسافر بصلاته لو أتم جاهلا بوجوب القصر عليه : «ان الرضي سأل أخاه المرتضى رحمه الله فقال : الإجماع واقع على أن من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل باحكامها ، فلا تكون مجزية. فأجاب المرتضى عنه بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور ..» وأين هذا مما نحن

١٠٨

فيه ، وهو ما إذا كان عمل الجاهل مطابقا للواقع ، وقد جاء به برجاء إصابته.

وأما دعوى : أن حسن الأفعال وقبحها إنما يكون بالعناوين القصدية وربما يتوقف حسن العبادة على قصد خصوص بعض العناوين غير المعلومة لنا تفصيلا ، فلا بد من قصدها إجمالا بقصد الوجه الذي تكون عليه العبادة من الوجوب او الاستحباب ، لأن قصده قصد لها إجمالا من حيث أخذها في موضوعه.

فمندفعة : بأن إطلاق الأمر ظاهر في عدم دخل عنوان زائد على الذات في حسن الفعل المأمور به ، كما يكون إطلاق النهي ظاهرا في عدم دخله في قبح الفعل المنهي عنه. مع أن العناوين القصدية الدخيلة في الحسن عرفا ـ كالتعظيم الدخيل في حسن القيام ـ يكفي عند العرف قصدها بنحو الاحتمال لا الجزم.

ثم إن هذا الوجه ـ لو تم ـ لا ينهض بإثبات لزوم قصد خصوصية الوجوب أو الاستحباب ، بل يكفي فيه قصد الأمر على إجماله ، كما يكفي فيه قصد الأمر عنوانا وصفيا ، لا داعيا وغاية ، وهو خلاف ظاهر المحكي عن القائلين باعتبار قصد الوجه.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن مراتب الامتثال عند العقل أربعة مترتبة ، لا يجوز العدول إلى اللاحقة مع التمكن من السابقة ، وهي الامتثال التفصيلي بالعلم الوجداني أو الطرق والأصول المعتبرة ، ثم الامتثال الإجمالي ، ثم الظني ، ثم الاحتمالي.

ففي المقام إن كانت الشبهة موضوعية يحسن الاحتياط مطلقا ولو قبل الفحص ، لعدم وجوب الفحص فيها ، فلا تكون منجزة.

وإن كانت حكمية لم يحسن الاحتياط إلا بعد الفحص والعجز عن معرفة الحكم ، لتنجز التكليف فيها بمجرد الاحتمال بتمام ما يعتبر فيه ، وحيث كان

١٠٩

الامتثال التفصيلي معتبرا فيه مع التمكن منه كان هو المتعين ، ولم يحسن الانتقال منه إلى الامتثال الاحتمالي.

وفيه .. أولا : أنه لا أصل لما ذكره من الترتب بين الوجوه المذكورة ، لأن الترتب المذكور إن كان بحكم العقل لكونه من شئون الإطاعة اللازمة للتكليف لم يفرق فيه بين التوصليات والتعبديات ، مع أنه لا إشكال في التخيير بين الوجوه المذكورة في التوصليات مطلقا ولو مع التمكن من الفحص واستعلام الحال.

وإن كان بحكم الشارع لدخله في غرضه في خصوص العبادات كقصد التقرب ، كان محتاجا للدليل ، كأصل العبادية ، كما تقدم نظيره في قصد الوجه.

بل لازم ما ذكره أنه مع اليأس عن تحصيل العلم أو الحجة واحتمال التمكن من تقوية الاحتمال بجعله ظنا بواسطة الفحص أنه لا يشرع الاحتياط الا بعد الفحص المذكور ، ولا يظن منه قدّس سرّه الالتزام به.

نعم ، لا إشكال في عدم اكتفاء العقل بالإطاعة الظنية أو الاحتمالية مع إحراز الأمر أو تنجزه بحيث لا يعلم بالفراغ عنه ، بل لا بد من تحصيل الإطاعة العلمية واحراز الفراغ عن التكليف مع التمكن من ذلك ، لما هو المعلوم من أن التكليف اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وكأن هذا هو مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الإطاعة الظنية والاحتمالية عند تعرضه للمراتب الأربعة المذكورة في المقدمة الرابعة من مقدمات دليل الانسداد ، وهو لا ينافي صحة العمل مع الإطاعة الظنية أو الاحتمالية لو صادف الواقع ووقوع الامتثال والفراغ عن التكليف به.

كما أنه أجنبي عما نحن فيه ، حيث ينشأ الظن بالاطاعة أو احتمالها هنا من الظن بأصل التكليف أو احتماله ، بحيث يعلم بتحقق الإطاعة وحصول الفراغ

١١٠

عن التكليف على تقدير ثبوته.

وبالجملة : إن كان المدعى عدم الاكتفاء ظاهرا بالاطاعة الاحتمالية وإن سقط بها التكليف واقعا لو كان المأتي به مطابقا له ـ كما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ فهو مسلم ، لكنه أجنبي عما نحن فيه ، حيث كان الشك هنا في أصل التكليف مع العلم بمطابقة المأتي به له لو فرض ثبوته.

وإن كان المدعى عدم الاكتفاء واقعا بموافقة الأمر المحتمل ، وأن التكليف لا يسقط إلا بموافقته في ظرف العلم به ـ كما هو صريح بعض الأعاظم قدّس سرّه ، وهو الذي ينفع في ما نحن فيه ـ فهو في غاية المنع.

وثانيا : أنه لو تم أخذ الإطاعة العملية في العباديات لم يفرق فيه بين الشبهة الموضوعية والحكمية. ومجرد عدم تنجز التكاليف في الشبهة الموضوعية إنما يقتضي عدم لزوم التعرض لامتثالها ، لا الاكتفاء في امتثالها بالوجه الاحتمالي وسقوط غرضها به ، بل هو كامتثالها بوجه غير عبادي لا يسقط الغرض ولا يتحقق به الامتثال ، فاللازم الالتزام بتخيير المكلف بين إهمالها والفحص عنها ثم امتثالها بوجه علمي تفصيلي.

الثالث : أنه لما كان المعتبر في العبادة الإتيان بها بداعي الأمر لزم إحراز الأمر حتى يمكن جعله داعيا ، ولا يمكن جعله داعيا بمجرد احتمال وجوده.

نعم ، لازم ذلك الاكتفاء بالأمر المردد بين الوجوب والاستحباب ، ولا يعتبر إحراز أحدهما بخصوصيته إلا بناء على اعتبار قصد الوجه الذي سبق الكلام فيه.

وفيه : أن المعتبر في العبادة على التحقيق ليس إلا الإتيان بها بوجه قربي ، ولا خصوصيّة لقصد الأمر إلا من حيث ملازمته لذلك ، وحيث كان الإتيان بها بداعي امتثال الأمر المحتمل من وجوه المقربية تعين الاجتزاء به ولا موجب

١١١

لإحراز الأمر.

كيف! ولازم ذلك انسداد باب الاحتياط حتى مع تعذر الفحص ، مع أنه لا ينبغي الإشكال في إمكانه بعد التأمل في مرتكزات العرف والمتشرعة والرجوع لسيرتهم ، وقد اعترف شيخنا الأعظم قدس سرّه باستقرار سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على إعادة العبادات لمجرد الخروج عن مخالفة النصوص غير المعتبرة والفتاوى النادرة.

والفرق بين صورتي القدرة على الفحص وتعذره تحكّم لا شاهد له ، بل تأباه المرتكزات جدا.

الرابع : أنه لو فرض قصور الوجوه المتقدمة عن إثبات لزوم الفحص مع القدرة عليه وعدم مشروعية الاحتياط بدونه فلا أقل من كونها موجبة للشك الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال بالتكليف ـ كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سرّه في ذيل كلامه المتقدم في الوجه الأول وصرح به في غير مقام ـ لأن هذا الشرط ليس على حدّ سائر الشروط المعتبرة في الواجب داخلا في حيّز الأمر وقيدا في المأمور به ليرجع مع الشك فيه لأصالة البراءة ، لامتناع أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه ، بل هو كقصد التقرب من الأمور المعتبرة في تحقق الإطاعة التي يسقط بها الأمر ويتحصل بها الغرض ، فمع احتمال دخله فيها يشك في تحققها وسقوط الأمر بدونه ، ومقتضى قاعدة الاشتغال بالتكليف لزوم إحراز الفراغ عنه بالإتيان بجميع ما يحتمل دخله في الإطاعة المسقطة له.

وفيه : أن الإطاعة من مختصات العقل التي لا تصرّف للشارع الأقدس فيها وهي عبارة عن الإتيان بما يطابق المأمور به بأي وجه اتفق ، كما في التوصليات ، وكل ما يعتبر زائدا على ذلك من قصد التقرب وغيره لا بد من رجوعه لبا إلى المأمور به ، ولا بد في إثباته من قيام الدليل عليه الكاشف عن

١١٢

أخذه في المأمور به ولو بنحو نتيجة التقييد ، وبدونه يرجع لإطلاق الأمر.

ولو غض النظر عن ذلك أمكن التمسك بالإطلاقات المقامية بعد كون الأمور المذكورة مما لا يرى العرف دخلها في الإطاعة ، فعدم تنبيه الشارع الأقدس عليها كاشف عن عدم تصرفه في كيفية الإطاعة وإيكالها إلى طريقة العرف.

ولو غض النظر عن ذلك أيضا أمكن الرجوع لأصالة البراءة ، إما لما عرفت من رجوع الشك في ذلك إلى الشك في قيد المأمور به الداخل في حيز الأمر ، فيكون كسائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، أو لحكم العقل بعدم تنجز الغرض الواقعي من التكليف إلا بالمقدار الذي قامت عليه الحجة ، كما ذكر ذلك أيضا في مبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين. وتمام الكلام في مبحث التعبدي والتوصلي.

هذا تمام ما ذكر في المقام ، وقد عرفت عدم نهوض شيء مما ذكروه بالمنع عن الاحتياط في محل الكلام. فلا بد من البناء على جوازه ، كما هو المطابق لمرتكزات العرف والمتشرعة.

بل لعله المستفاد من نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الظاهرة في المفروغية عن مشروعية الاحتياط والحث عليه. فإن تقييدها بصورة تعذر الفحص بعيد جدا بعد ظهورها في الحث عليه بمجرد البلوغ. وأبعد منه تقييدها بالتوصليات ، لأن العبادات المعروفة هي المتيقن من مورد النصوص ، لكونها الفرد الشائع المألوف للمتشرعة من العمل الذي يترتب عليه الثواب.

بل إهمال الشارع للتنبيه على امتناع الاحتياط في محل الكلام ـ مع كونه مما يغافل عنه العرف بل المتشرعة ، لما عرفت من سيرتهم ومرتكزاتهم ـ قد يوجب القطع بمشروعية الاحتياط ، فلا يحتاج مع ذلك للرجوع للأدلة فضلا

١١٣

عن الأصول ، كما اعترف به في الجملة شيخنا الأعظم قدّس سرّه في غير موضع من كلامه.

هذا كله في الواجبات الاستقلالية ، وأما الواجبات الضمنية فقد يقال بأنها أولى بجواز الاحتياط. ويأتي في الموضع الثالث الكلام في وجهه.

الموضع الثاني : الاحتياط بالتكرار في موارد العلم الإجمالي بالتكليف الاستقلالي

، وقد اضطرب فيه كلام شيخنا الاعظم قدّس سرّه ، بل مال هنا للمنع ، وحكى عن بعض الاتفاق عليه ، واصرّ عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه ، بل استظهر شيخنا الاعظم قدّس سرّه استمرار سيرة العلماء على عدم التكرار مع ثبوت الطريق الشرعي إلى الحكم ولو كان هو الظن المطلق ـ لو فرض تمامية مقدمات الانسداد ـ فضلا عما لو أمكن الوصول للحكم الشرعي بالعلم أو الظن الخاص.

وقد يستدل عليه ..

تارة : بما تقدم من دعوى اعتبار نية الوجه أو كون الإطاعة التفصيلية مقدمة على الاجمالية. وقد عرفت الجواب عن ذلك.

وأما ما تقدم أيضا من اعتبار الجزم بالأمر في التقرب المعتبر في العبادة ، فلا مجال للتمسك به في المقام ، للعلم بتحقق الأمر فيه وإن لم يعلم حين العمل بانطباقه على المأتي به. ولذا ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في كيفية النية مع التكرار عند تعذر الفحص أنه يجب أن ينوي بكل من الأطراف حصول الواجب به أو بصاحبه تقربا إلى الله تعالى. واعتبار العلم بتحقق الامتثال حين العمل وتمييز الواجب عن غيره حينه لا دليل عليه.

واخرى : بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في خصوص المقام من أن التكرار أجنبي عن سيرة العلماء والمتشرعة وأنه مستلزم للّعب بأمر المولى.

قال قدّس سرّه : «من أتى بصلوات غير محصورة لإحراز شروط صلاة واحدة ـ

١١٤

بأن صلّى في موضع تردد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة ـ يعد في العرف والشرع لاعبا بأمر المولى. والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصل».

وفيه : أن مجانبة المتشرعة للتكرار لعلها ناشئة من صعوبته لا من ارتكاز عدم مشروعيته عندهم. ولذا قد يقدمون عليه مع صعوبة الفحص من دون استنكار ، فلا تكون سيرتهم دليلا على المنع.

وأما لزوم اللعب فان اريد به ما يساوق الاستهانة بالأمر ، فهو ممنوع جدا ، وإن اريد به ما يساوق عدم الغرض العقلائي المصحح للعمل ، فهو ليس محذورا.

على أنه لا يلزم فيما لو كان له غرض عقلائي مصحح للتكرار ، كصعوبة الفحص ، أو إصابة الواقع ، كما في غالب الشبهات الحكمية ، حيث إن الفحص فيها لا يوجب اليقين بالواقع غالبا ، وإن أمكن به معرفة مؤدى الحجة ، وكذا بعض الشبهات الموضوعية.

ومنه يظهر الفرق بين الصلاتين ومائة صلاة ، فإن صعوبة المائة لا تصحح الإقدام عليها عند العقلاء الا لغرض مهم ، وسهولة الصلاتين تصحح الإقدام عليهما لأدنى غرض.

وأما الإجماع فهو ـ مع عدم ثبوته بنحو معتدّ به ـ لم يتضح كونه إجماعا تعبديا لقرب استناده إلى بعض الوجوه المتقدمة التي عرفت وهنها. فلا مجال لرفع اليد به عن مقتضى الإطلاقات اللفظية أو المقامية والأصل على ما تقدم تفصيله في الموضع الأول.

١١٥

لكن ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الأصل في المقام يقتضي الاحتياط لرجوعه إلى الدوران بين التعيين والتخيير ، للشك في التخيير بين الامتثال التفصيلي والإجمالي أو تعيين التفصيلي.

وفيه : أنه لا مجال للتخيير شرعا بين الامتثال التفصيلي والإجمالي ، لعدم تصرف الشارع في مقام الامتثال.

مضافا إلى القطع بأن بعض أطراف الامتثال الإجمالي خارج عن مطلوب المولى غير دخيل في غرضه ، فلا معنى لتخييره بينه وبين الامتثال التفصيلي ، بل التخيير بينهما على تقديره عقلي ، ومرجع الشك في المقام إلى الشك في أخذ خصوصية في الواجب زائدة على ذاته موقوفة على الامتثال التفصيلي وعدمه ، وفي مثله تجري البراءة عنده قدّس سرّه ، ولذا التزم بجريانها لدفع احتمال اعتبار قصد الوجه. فتأمل جيدا.

الموضع الثالث : الاحتياط بالتكرار في موارد العلم الإجمالي بالتكليف الضمني.

ولا ينبغي الإشكال فيه في الشروط ، لعدم قصد التقرب بها ، بل بالشروط في ظرف تحققها ، فالجمع بينها لا يمنع من قصد الوجه فيه ، ولا من تحقق الامتثال التفصيلي ولا غيرهما مما قيل باعتباره في المقام.

وأما الأجزاء فكذلك بناء على ما عرفت منّا في الواجبات الاستقلالية.

بل صرح بعض الأعاظم قدّس سرّه بجوازه فيها مع منعه منه في التكاليف الاستقلالية ، بدعوى : أنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك.

لكنه يشكل : بأن التفكيك بين الأجزاء وتمام العمل في اعتبار الاطاعة التفصيلية فيه دونها لا يرجع إلى محصل ، بعد اتحاده معها خارجا ، فما يعتبر في

١١٦

تمام العمل من القصود يعتبر فيها بحسب المرتكزات العقلائية والمتشرعية. نعم يمكن ذلك ببيان خاص من الشارع ، ومن الظاهر عدمه.

هذا ، وذكر بعض مشايخنا أن المانع من التكرار لو كان هو اعتبار قصد الوجه لم يجر في الأجزاء ، لاختصاص دليله بالواجبات الاستقلالية ، لانحصاره بأمرين ..

الأول : الإجماع المنقول ، وهو لا يشمل الأجزاء ، لذهاب المشهور إلى جواز الاحتياط فيها.

الثاني : ما تقدم من أن حسن الأفعال أو قبحها إنما يكون بالعناوين القصدية التي لا يتسنى قصدها إلا بقصد الوجه ، وهو لا يجري في الأجزاء أيضا ، لأن قصد وجوب مجموع العمل والأمر المتعلق بالكل يكفي في قصد العنوان الحسن إجمالا ، فلا حاجة إلى قصد الوجه في كل جزء بنفسه ، وليس لكل جزء حسن مستقل ليقصد وجهه.

لكن عهدة ما ذكره ـ من قصور الإجماع المنقول ـ عليه ، ولا يسعني عاجلا تحقيقه.

وأما الوجه الآخر فالظاهر أنه يجري في الأجزاء ولا يختص بالكل ، لأن قصد العنوان الحسن المتعلق بالكل إنما يكون بقصده من كل جزء بنفسه لوضوح اتحاد الكل مع الأجزاء ، فلا معنى لقصد العنوان فيه دونها ، وحينئذ فلا بد من إحراز دخول كل جزء في ضمن الكل الذي هو موضوع الأمر حتى يقصد العنوان الحسن المأخوذ في الكل حين الإتيان به ، كما لعله ظاهر.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني ، وقد تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره هنا للكلام في تأخر الاحتياط مرتبة عن الظن الخاص والمطلق ، كما تعرض قدّس سرّه في مبحث الشبهة الوجوبية المحصورة لبعض الفروع المترتبة على عدم جواز

١١٧

الاحتياط مع التمكن من الفحص ، ولا حاجة لإطالة الكلام في ذلك بعد ما عرفت.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في أحكام القطع وآثاره تبعا للأكابر في المقام.

ولا يخفى أن بعض ما تقدم لا يختص بالقطع ، بل يجري نظيره في الحجج المعتبرة بل الأصول ، كمبحث التجري ، والقطع الموضوعي ، والعلم الإجمالي وغير ذلك مما يظهر للمتأمل. والله سبحانه العالم العاصم ، وهو ولي التوفيق ، والحمد لله رب العالمين.

انتهى تسويده في ٢٢ شوال ، سنة ١٣٩٢ هجرية ، وانتهى تبييضه في ٣٠ شوال سنة ١٣٩٢ هجرية.

١١٨

المقصد الأوّل

مباحث الحجج

١١٩
١٢٠