التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا) ظرف ، والعامل فيه وفي كل (إِذَا) بعدها قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ). و (الشَّمْسُ) فاعل لفعل مضمر يفسره (كُوِّرَتْ) كما ذكر الزمخشري ؛ لأن (إِذَا) لا تدخل إلا على فعل ، لما فيها من معنى الشرط.

البلاغة :

(كُوِّرَتْ انْكَدَرَتْ عُطِّلَتْ حُشِرَتْ سُجِّرَتْ زُوِّجَتْ سُئِلَتْ قُتِلَتْ نُشِرَتْ كُشِطَتْ سُعِّرَتْ أُزْلِفَتْ أَحْضَرَتْ) سجع مرصع وهو توافق الفواصل رعاية لرؤوس الآيات.

(الْجَحِيمُ) و (الْجَنَّةُ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(كُوِّرَتْ) لفّت وطويت وأزيل ضياؤها ونورها. (انْكَدَرَتْ) تساقطت وتهاوت على الأرض ومحي ضوؤها. (سُيِّرَتْ) أزيلت عن مواضعها بزلزلة الأرض ، وبددت في الجو ، فصارت هباء منبثا. (الْعِشارُ) النوق الحوامل التي مضى على حملها عشرة أشهر ، وهي كرائم أموال العرب جمع عشراء. (عُطِّلَتْ) تركت مهملة بلا راع وبلا حلب ، لما دهاهم من الأمر.

(الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) جمعت بعد البعث للاقتصاص من بعضها لبعض ، ثم تصير ترابا. (سُجِّرَتْ) أوقدت ، فصارت نارا تحترق ، بالبركان والزلزال. (زُوِّجَتْ) قرنت الأرواح بالأجساد. (الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) البنت التي تدفن حية خوف العار والحاجة ، وكان هذا عادة بعض العرب في الجاهلية. سئلت تبكيتا لقاتلها أو وائدها ، كتبكيت النصارى بقوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة ٥ / ١١٦]. (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) حكاية لما تخاطب به ، وجوابها أن تقول : قتلت بلا ذنب.

(الصُّحُفُ) صحف الأعمال. (نُشِرَتْ) فتحت وبسطت ، فهي تطوى عند الموت ، وتنشر وقت الحساب. (كُشِطَتْ) قلعت كما يقلع السقف ، وأزيلت عن أماكنها كما ينزع الجلد من الشاة. (وَإِذَا الْجَحِيمُ) النار. (سُعِّرَتْ) أججت وأوقدت إيقادا شديدا. (أُزْلِفَتْ) قرّبت وأدنيت لأهلها المتقين. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) جواب أول السورة ، وما عطف عليها وهو اثنتا عشرة خصلة ، ست منها في بدء قيام الساعة قبل فناء الدنيا ، وست بعده أي يوم القيامة. وكلمة (نَفْسٌ) في معنى العموم أي كل نفس ، و (ما أَحْضَرَتْ) أي ما قدمت من خير أو شر.

٨١

التفسير والبيان :

هذه أوصاف القيامة وأحداثها الجسام ، لتعظيمها وتخويف الناس بها :

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي إذا لفّت الشمس ، وجمعت ، بعضها على بعض كتكوير العمامة ، وجمع الثياب مع بعضها ، ثم رمى بها ، وذهب بضوئها ، إيذانا بخراب العالم ؛ وإذا انقضّت النجوم وتساقطت وتناثرت ، كما قال تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ٢] ؛ وإذا قلعت الجبال عن الأرض ، وسيّرت في الهواء حين زلزلة الأرض ، كما قال تعالى : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [السبأ ٧٨ / ٢٠] وقال سبحانه : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف ١٨ / ٤٧].

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي وإذا النوق الحوامل التي في بطونها أولادها ، وهي أنفس مال عند العرب وأعزّة عندهم ، تركت مهملة بلا راع ، لشدة الخطب ، وعظمة الهول ؛ وإذا الوحوش الدواب البرية غير الإنسانية بعثت حتى يقتص لبعضها من بعض ، وقيل : حشرها : موتها وهلاكها ؛ وإذا البحار أوقدت بالبراكين والزلازل فصارت نارا تضطرم ، بعد أن فاض بعضها إلى بعض ، وصارت شيئا واحدا ، كما قال تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ٣] وقال : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور ٥٢ / ٦] وحينئذ تصير البحار والأرض شيئا واحدا في غاية الحرارة والإحراق.

قال أبيّ بن كعب رضي‌الله‌عنه : ست آيات قبل يوم القيامة ، بينا الناس في أسواقهم ، إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت واختلطت ، ففزعت الجن إلى الإنس ، والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحوش ، فماجوا بعضهم في بعض. وقال

٨٢

ابن عباس في قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إلى قوله : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) اثنتا عشرة خصلة : ستة في الدنيا ، وستة في الآخرة. والستة الأولى بيناها بقول أبي بن كعب ، والستة الأخرى في الآيات التالية.

لذا ذكر الله تعالى ما يحدث بعدئذ من البعث ، فقال :

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) أي وإذا قرنت الأرواح بأجسادها حين النشأة الآخرة ، وإذا الفتاة المدفونة حية خوف العار أو الحاجة ، كما كان بعض قبائل العرب يفعل في الجاهلية ، سئلت لتوبيخ قاتلها أو وائدها ؛ لأنها قتلت بغير ذنب فعلته. فقد كان بعض أهل الجاهلية يدسونها في التراب ، كراهية البنات ، فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت ، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها ، فإنه إذا سئل المظلوم ، فما ظن الظالم إذن؟! وقال ابن عباس : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) : سألت. والوأد جريمة عظمي.

وهذا السؤال للموءودة لتوبيخ الفاعلين للوأد ؛ لأن سؤالها يؤول إلى سؤال الفاعلين(١).

أخرج الإمام أحمد عن خنساء ابنة معاوية الصريمية عن عمها قال : قلت : يا رسول الله من في الجنة؟ قال : «النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة».

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أي إذا عرضت ونشرت للحساب صحائف الأعمال ، في موقف الحساب ، فكل إنسان يعطى صحيفته بيمينه أو بشماله ، وإذا تشققت السماء وأزيلت ، فلم يبق لها وجود.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي وإذا أوقدت النار لأعداء

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٤٣٣

٨٣

الله إيقادا شديدا ، قال تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة ٢ / ٢٤] وإذا قربت الجنة وأدنيت لأهلها المتقين ، كما قال تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق ٥٠ / ٣١].

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) جواب إذا وما عطف عليها ، أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث ، ووقعت هذه الأمور ، علمت كل نفس ما أحضرته عند نشر الصحف ، وما عملت من خير أو شر ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران ٣ / ٣٠] وقال سبحانه : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة ٧٥ / ١٣]. والآيات من أول السورة إلى هنا شرط ، وجوابه : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ). وقال الحسن البصري : هذا قسم وجواب له. قال القرطبي : والقول الأول أصح.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه ظواهر تحدث قبل أو بعد البعث يوم القيامة ، فتملأ النفس رهبة ، وتثير الخوف والذعر بين الناس ، لتبدّل ما كانوا يألفون ويشاهدون ، والقصد من تعدادها تخويف البشر والإعداد ليوم القيامة بما يحقق لهم النجاة والأمن والسلامة.

فهو إنذار مسبق ، ولقد أعذر من أنذر ، ولقد تضمن الإنذار مواجهة اثنتى عشرة علامة للقيامة : وهي تكوير الشمس ، وانكدار النجوم ، وتسيير الجبال ، وتعطيل العشار ، وحشر الوحوش ، وتسجير البحار ، وتزويج النفوس ، وسؤال الموءودة ، ونشر صحف الأعمال ، وكشط السماء كما يكشف الإهاب (الجلد) عن الذبيحة ، وتسعير الجحيم (إيقادها) وإزلاف الجنة (إدناؤها). وأي رهبة تحدث حينما يذهب ضوء الشمس ، فيظلم الكون ، وتتهافت النجوم وتتساقط

٨٤

وتتناثر ، فتزول معالم الجمال ، وتقلع الجبال من الأرض وتسير في الهواء ، فتكون كثيبا مهيلا ، أي رملا سائلا ، وتصبح كالعهن ، وتكون هباء منثورا ، وسرابا لا حقيقة ولا وجود له ، كالسراب الذي ليس بشيء ، وتعود الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، أي ارتفاعا ، فتزول المتعة بها في عين الرائي.

وتهمل النوق الحوامل التي في بطونها أولادها ، بعد العناية بها ؛ لأنها أعز ما تكون على العرب ، وهذا على وجه المثل ؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء ، ولكن أراد به المثل ، أن هول يوم القيامة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.

وتحشر الوحوش ، أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض ، فيقتصّ للجمّاء من القرناء ، ثم يقال لها : كوني ترابا ، وهذا هو المعنى الأصح ، وقيل : حشرها : موتها وهلاكها ، وعلى كل حال ، تتعاظم المخاوف من رؤية ما يحدث.

وتسجّر البحار ، أي توقد إيقادا شديدا ، وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا ، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال ، فتزول صورة جمال البحر في مشهد الطبيعة.

ويحدث البعث ، فتقرن الأرواح بالأجساد ، وتسأل البنت المدفونة حية عن سبب وأدها وقتلها ، لتوبيخ الفاعل ، ولومه على فعله مخافة الحاجة والإملاق (الفقر) أو السبي والاسترقاق ولإلحاق البنات بالملائكة ؛ لأنهم كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، وكل ذلك غير مقبول ، فإنها قتلت بغير ذنب ، وعقاب القاتل النار.

وتنشر صحائف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشرّ ، تطوى بالموت ، وتنشر في يوم القيامة ، فيقف كل إنسان على صحيفته ،

٨٥

فيعلم ما فيها ، فيقول : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف ١٨ / ٤٩].

وتكشط السماء كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره ، وفي هذا غاية الرهبة.

وتوقد النار للكفار ويزداد في إحمائها ، وتدنى الجنة وتقرب من المتقين ، فيتحدد مصير الخلائق.

حين حدوث هذه الوقائع الجسام ، تعلم كل نفس علم اليقين ما عملت من خير وشرّ ، وتعرف مصيرها. جاء في الصحيحين عن عديّ بن حاتم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد إلا وسيكلّمه الله ، ما بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه ، فلا يرى إلا ما قدّمه ، وينظر أشأم منه ، فلا يرى إلا ما قدّم بين يديه ، فتستقبله النار ، فمن استطاع منكم أن يتّقي النار ، ولو بشقّ تمرة ، فليفعل».

الحلف لإثبات صدق الوحي القرآني ونبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

الإعراب :

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) جواب القسم ؛ لأن معنى (فَلا أُقْسِمُ ..) أقسم.

٨٦

(وَما صاحِبُكُمْ) عطف على جواب القسم. (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ عِنْدَ) : متعلق ب (مَكِينٍ).

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) عطف أيضا على جواب القسم.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) تقديره : إلى أين تذهبون؟ إلا أنه حذف حرف الجر كما حذف من قولهم : ذهبت الشام ، أي إلى الشام.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِمَنْ) : بدل من قوله (الْعالَمِينَ) بدل بعض من كل.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي ببخيل ، وقرئ «بظنين» بالظاء ، أي بمتهم.

البلاغة :

(بِالْخُنَّسِ) و (الْكُنَّسِ) بينهما جناس ناقص.

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) استعارة تصريحية ، شبه إقبال النهار وانتشار الضياء بنسمات

الهواء العليل ، واستعار لفظ التنفس لإقبال النهار بعد الظلام الدامس.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) كناية ، كنى عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ (صاحِبُكُمْ).

(أَمِينٍ) و (مَكِينٍ) بينهما جناس ناقص غير تام.

(بِالْخُنَّسِ) ، و (الْكُنَّسِ) ، و (عَسْعَسَ) ، و (تَنَفَّسَ) إلخ سجع مرصع وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(فَلا أُقْسِمُ) أي أقسم ، و (فَلا) : لتأكيد الخبر. (بِالْخُنَّسِ) بالكواكب الرواجع ، من خنس يخنس : إذا تأخر ، وواحدها : خانس : أي منقبض مستخفي ، فهي التي ترجع في مجراها وراء الشمس ، وهي عند الجمهور : الكواكب السيارة كالشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري. الجواري السيارة التي تجري مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس. (الْكُنَّسِ) التي تكنس في أبراجها ، أي تستتر ، فهي تختفي تحت ضوء الشمس ، من كنس الظبي أو الوحش : إذا دخل كناسة ، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر ، وقيل : المراد الكواكب الخمسة السيارة ، فخنوسها : رجوعها إلى أول البرج ، وكنوسها : اختفاؤها نهارا تحت ضوء الشمس ، وغيبتها في المواضع التي تغيب فيها عن البصر نهارا ثم تظهر ليلا. والخلاصة : أن (بِالْخُنَّسِ) على الأرجح : هي جميع الكواكب ، كما جاء في الصحاح ؛ لأنها تخنس (تختفي) نهارا ، وتختفي عن البصر في المغيب ، وتظهر ليلا ، ثم تكنس وتستتر في مغيبها تحت الأفق ، كما تكنس

٨٧

الظباء في المغار ، فكل من (بِالْخُنَّسِ) و (الْكُنَّسِ) يختفي بعد ظهوره. والأصح أن معناها النجوم ، لذكر الليل والصبح بعد هذا.

(عَسْعَسَ) أقبل بظلامه ، أو أدبر ، فهو من ألفاظ الأضداد. (تَنَفَّسَ) أضاء وظهر نوره. (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي إن هذا المقسم عليه وهو القرآن لقول منقول نازل من رسول كريم عزيز على الله تعالى وهو جبريل عليه‌السلام ، أضيف القول إليه ، لنزوله به ، وقوله عن الله تعالى. (ذِي قُوَّةٍ) شديد القوى ، حافظ. (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) الله تعالى. (مَكِينٍ) ذي مكانة وجاه عند ربّه ، يعطيه ما سأل. (مُطاعٍ) تطيعه ملائكة السماء. (ثَمَ) هنالك. (أَمِينٍ) على الوحي والرسالة.

(وَما صاحِبُكُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (بِمَجْنُونٍ) كما زعمتم. (وَلَقَدْ رَآهُ) رأي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها. (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) الأفق الواضح ، وهو مطلع الشمس الأعلى. (وَما هُوَ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (الْغَيْبِ) الوحي وخبر السماء. (بِضَنِينٍ) ببخيل مقصر بالتعليم والتبليغ ، فينتقص منه شيئا ، وقرئ : «بظنين» ، أي بمتهم. (وَما هُوَ بِقَوْلِ) أي القرآن. (شَيْطانٍ) مسترق السمع. (رَجِيمٍ) مرجوم ملعون مطرود من رحمة الله. (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أيّ طريق تسلكون بعد إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه ، وقد قامت الحجة عليكم؟ (إِنْ هُوَ) ما هو. (إِلَّا ذِكْرٌ) عظة وعبرة. (لِلْعالَمِينَ) الإنس والجن. (أَنْ يَسْتَقِيمَ) على الطريق الواضح باتباع الحق. (وَما تَشاؤُنَ) الاستقامة على الحق. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إلا وقت أن يشاء الله استقامتكم. (رَبُّ الْعالَمِينَ) مالك الخلق كلهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٩):

(وَما تَشاؤُنَ ..) : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى قال : لما أنزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل : ذاك إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

التفسير والبيان :

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي أقسم بجميع الكواكب التي

٨٨

تخنس أي تختفي بالنهار تحت ضوء الشمس ، والتي تجري في أفلاكها ، وتكنس بالليل ، أي تظهر بالليل في أماكنها ، كما تظهر الظباء من كنسها ، أي بيوتها ، وهي جمع كناس : وهو الذي يختفي فيه الوحش. وقوله : (فَلا أُقْسِمُ) يراد بها القسم في أسلوب العرب ، ويراد بها تأكيد الخبر ، كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم. وإنما أقسم سبحانه بهذه الكواكب ، لما في تبدل أحوالها من الظهور والخفاء من الدلالة على قدرة مبدعها ومصرّفها.

ويرى الجمهور : أن المراد بها الكواكب السيارة كلها ، ويرى بعضهم أنها ما عدا الشمس والقمر.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي والليل إذا أقبل بظلامه ، لما فيه من الرهبة ، وهذا هو الأولى ، أو أدبر وولى ، لما في إدباره من كشف الغمة. والصبح إذا اقبل وأضاء بنوره الأفق ؛ لأنه يقبل بروح نشطة ونسيم عليل.

قال ابن كثير : (عَسْعَسَ) : أقبل ، وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضا ، لكن الإقبال هاهنا أنسب ، كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل ، وبالفجر وضيائه إذا أشرق ، كما قال تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل ٩٢ / ١ ـ ٢] وقال تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى ٩٣ / ١ ـ ٢] وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام ٦ / ٩٦] ، وغير ذلك من الآيات.

وقال كثير من علماء الأصول : إن لفظة (عَسْعَسَ) تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك ، فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما ، والله أعلم (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٧٩

٨٩

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هذا هو المقسم عليه ، أي إن القرآن تبليغ رسول كريم ، ومقول قاله جبريل عليه‌السلام الشريف الكريم العزيز عند الله ، ونزل به من جهة الله سبحانه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس القرآن من كلام البشر ، وإنما وصل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبريل الذي تلقاه عن ربّه عزوجل.

(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) هذه أوصاف أربعة أخرى لجبريل عليه‌السلام ، فهو شديد القوى في الحفظ التام والتبليغ الكامل ، وذو رفعة عالية ، ومكانة سامية عند الله سبحانه ، ومطاع بين الملائكة ، يرجعون إليه ويطيعونه ، فهو من السادة الأشراف ، مؤتمن على الوحي والرسالة من ربّه ، وعلى غير ذلك. وإنما قال : (ثَمَ) أي عند الله ، وقرئ «ثم» تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.

ووصف جبريل بالأمين تزكية عظيمة من الله لرسوله الملكي وعبده جبريل ، كما زكى عبده ورسوله البشرى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).

وبعد بيان أوصاف الرسول الملك ، ذكر تعالى وصف المرسل إليه ، فقال : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي وليس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أهل مكة بمجنون ، كما تزعمون. وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره ، وبأنه أعقل الناس وأكملهم.

ونظير الآية قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الأعراف ٧ / ١٨٤] ، وقوله : (قُلْ : إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ ٣٤ / ٤٦] ، وقوله : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ، وَقالُوا : مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) [الدخان ٤٤ / ١٣ ـ ١٤].

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي قد رأى محمد جبريل على صورته الأصلية ، له ست مائة جناح ، في مطلع أو أفق الشمس الأعلى من قبل المشرق ، بحيث

٩٠

حصل له علم ضروري (بدهي) بأنه ملك مقرب يطمأن لنزوله بالوحي عليه ، لا شيطان رجيم. وهذا كما جاء في سورة النجم : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) [١١ ـ ١٤]. وهذه الرؤية بعد رؤيته في بدء الوحي عند غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته ، له ست مائة جناح. وقيل : هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى ، وسمي ذلك الموضع أفقا مجازا ، وقد كانت له عليه‌السلام رؤية ثانية بالمدينة ، وليست هذه (١).

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي ليس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما أنزله الله عليه من الوحي وخبر السماء ببخيل مقصر في التعليم والتبليغ ، بل يعلّم الخلق كلام الله وأحكامه دون أي انتقاص ، وهو ثقة مؤتمن لا يأتي بشيء من عند نفسه ، ولا يبدل ولا يغير أي حرف أو معنى فيه.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما القرآن بقول شيطان يسترق السمع ، مرجوم بالشهب ، فالقرآن ليس بشعر ولا كهانة ، كما قالت قريش ، وهذا كقوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٠ ـ ٢١٢].

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي : أيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بيّنت لكم؟ وأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقا من عند الله تعالى؟

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين ، وتذكير لهم بما ينفعهم ، وتحذير لهم عما يضرهم ، لمن

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥

٩١

أراد من البشر أن يستقيم على الحق والإيمان والطاعة ، فمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن ، فإنه مناجاة له وهداية ، ولا هداية فيما سواه.

قال الزمخشري : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من (لِلْعالَمِينَ) وإنما أبدلوا منهم ؛ لأن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، وإن كانوا موعوظين جميعا.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي وما تشاؤون الاستقامة ولا تقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه ، فليست المشيئة موكولة إليكم ، فمن شاء اهتدى ، ومن شاء ضل ، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى ربّ الإنس والجن والعالم كله. آمنت بالله وبما يشاء ، فلا يقدر أحد على شيء إلا بما يخلق فيه من قوة ، وبما يودع الله فيه من قدرة يتمكن من توجيهها نحو الإيمان والخير أو نحو الكفر والشر ، وهذا يعني أن الله أودع في الناس قدرة الاختيار ، بدليل الآيات الأخرى التي تنفي الإجبار والإكراه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد ، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك ، كما قال القرطبي (١).

٢ ـ أقسم الله تعالى بجميع الكواكب التي تخنس (تختفي) بالنهار وعند غروبها ، وخنوسها : غيبتها عن البصر بالنهار ، والتي تجري في أفلاكها ، وتكنس ، وكنوسها : ظهورها للبصر في الليل ، كما يظهر الظبي أو الوحش من كناسه ، ثم تغيب وتستتر في مغيبها تحت الأفق ، لما في تحركها وظهورها مرة ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٣٧

٩٢

واختفائها مرة أخرى من الدليل على قدرة خالقها ومصرّفها.

وأقسم الله أيضا بالليل إذا أقبل بظلامه لما فيه من السكون والرهبة ، وبالصبح إذا أضاء وامتد حتى يصير نهارا واضحا ، لما فيه من التفتح والبهجة.

والمقسم المحلوف عليه هو أن القرآن الكريم نزل به جبريل : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الواقعة ٥٦ / ٨٠]. وإنما نسب الكلام إلى جبريل عليه‌السلام باعتبار أنه الواسطة بين الله وبين أنبيائه ورسله.

٣ ـ وصف الله تعالى جبريل عليه‌السلام بخمسة أوصاف ، هي : كريم عزيز على الله ، ذو قوة في الحفظ وأداء ، طاعة الله ومعرفته وترك الإخلال بها ، وذو مكانة وجاه عند ربّ العرش ، ومطاع بين الملائكة فهو من السادة الأشراف ، وأمين على وحي الله ورسالاته ، قد عصمه الله من الخيانة والزلل.

وقوله : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ..) هذه العندية ليست عندية المكان ، كقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأنبياء ٢١ / ١٩] وليست عندية الجهة ، بدليل قوله في الحديث : «أنا عند المنكسرة قلوبهم» بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم(١).

٤ ـ ردّ الله تعالى على المشركين المتقولين بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمجنون كما زعموا ، بأنهم أعلم الناس بأمره ، وبأنه أعقل الناس وأكملهم.

٥ ـ رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام في صورته الحقيقية ، له ست مائة جناح بالأفق المبين ، أي بمطلع الشمس من قبل المشرق ، فهو مبين ؛ لأنه ترى الأشياء من جهته ، وذلك ليتأكد ويطمئن بأنه ملك مقرب ، لا شيطان رجيم.

٦ ـ أخبر الله تعالى عن نبيّه بأنه لا يضنّ بشيء من الغيب أي الوحي وخبر

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ٧٣

٩٣

السماء على أحد ، وإنما يقوم بتعليمه وتبليغه دون انتقاص شيء منه ، قال مجاهد : لا يضنّ عليكم بما يعلم ، بل يعلّم الخلق كلام الله وأحكامه.

٧ ـ بعد وصف كل من الرسول الوسيط جبريل والمرسل إليه بالأمانة في تبليغ الوحي ، حسم الأمر في شأن القرآن ، فأعلن بأن القرآن ليس بقول شيطان مرجوم ملعون ، كما قالت قريش ، ولا بقول كاهن ولا مجنون ، وإنما هو موعظة وبيان وهداية للخلق أجمعين ، لمن أراد أن يستقيم أي يتبع الحق ويقيم عليه.

٨ ـ حكم الله بعد هذا الوصف على قريش بالضلال والضياع بقوله : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأيّ طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيّنت لكم ، أو بعد هذه البيانات التي أوضحتها لكم.

٩ ـ لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله ، ولا شرا إلا بخذلانه ، وليس للإنسان مشيئة إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة ، وفعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة. والله هدى بالإسلام ، وأضل بالكفر.

والاستقامة : هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. قال الحسن البصري : والله هدى بالإسلام ، وأضل بالكفر.

والاستقامة : هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. قال الحسن البصري : والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها.

قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ٦ / ١١١] ، وقال سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [يونس : ١٠ / ١٠٠] ، وقال عزوجل : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ٢٨ / ٥٦].

٩٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الانفطار

مكيّة ، وهي تسع عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة (الانفطار) ، لافتتاحها بقوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت ، كما قال سبحانه : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل ٧٣ / ١٨].

مناسبتها لما قبلها :

هذه السورة وما قبلها وسورة الانشقاق في وصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ، كما تقدم.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المكية كغيرها من السور المكية تتحدث عن أمور في العقيدة ، وهي هنا بعض أمارات القيامة وما يصحبها من تبدل في الكون ، ووقوع أحداث جسام ، ووصف أحوال الأبرار والفجار يوم البعث ، كالسورة المتقدمة.

ابتدأت بوصف الأحداث الكونية التي ترى في القيامة وهي انشقاق السماء ، وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار ، وبعثرة القبور ، ثم الإخبار عن علم كل نفس بما قدّمت وأخّرت : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ..) [الآيات : ١ ـ ٥].

ثم ندّدت بجحود الإنسان نعم ربّه ، وبتقصيره في مقابلة الإحسان بالشكر والعرفان : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ..) [الآيات : ٦ ـ ٨].

٩٥

ثم ذكرت سبب هذا الجحود وهو إنكار البعث ، وبيّنت أن أعمال الإنسان كلها محفوظة مسجلة عليه ، يقوم برصدها ملائكة كرام كاتبون : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ..) [الآيات : ٩ ـ ١٢].

وأردفت ذلك ببيان مصير الناس وانقسامهم إلى فريقين : أبرار وفجّار ، وأيلولتهم إلى نعيم أو جحيم : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ..) [الآيات : ١٣ ـ ١٦].

وختمت السورة بالتحذير من يوم الدّين ، أي الجزاء والقيامة ، واستقلال كل إنسان بالمسؤولية عن نفسه ، وتفرد الله بالحكم والأمر : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ..) [الآيات : ١٧ ـ ١٩].

والخلاصة : أن الله تعالى ذكر في هذه السورة السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه.

فضلها :

أخرج الإمام أحمد كما تقدم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من سرّه أن ينظر إلى القيامة رأي العين ، فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)».

وأخرج النسائي ، وأصل الحديث في الصحيحين عن جابر قال : قام معاذ ، فصلى العشاء الآخرة فطوّل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفتّان أنت يا معاذ؟ أين كنت عن (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (وَالضُّحى) و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ)»؟!

٩٦

أمارات القيامة والجزاء على العمل وتوبيخ الإنسان على جحود النعم

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨))

الإعراب :

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ السَّماءُ) فاعل لفعل مقدر يفسره (انْفَطَرَتْ) ؛ لأن (إِذَا) لا تدخل إلا على الفعل.

(ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ ما) : استفهامية في موضع رفع ، مبتدأ ، و (غَرَّكَ) : خبره.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) : (ما) : إما زائدة لتفخيم المعنى وتعظيمه ، و (فِي) تتعلق ب (رَكَّبَكَ) أي ركّبك في أى صورة شاء ، فحذف : ما ، أو شرطية ، و (شاءَ) : فعل الشرط المجزوم ب (ما) ، و (رَكَّبَكَ) : جواب الشرط ، و (فِي) حينئذ متعلقة بعامل مقدر ؛ لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله ، وتقديره : كوّنك في أي صورة. ولا يكون متعلقا ب «عدلك» ؛ لأن الاستفهام لا يتعلق بما قبله.

البلاغة :

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) سجع مرصّع.

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) استعارة مكنية ، شبّه الكواكب بجواهر متناثرة متفرقة ، وحذف المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه ، وهو الانتثار على طريق الاستعارة المكنية.

(ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) استفهام يراد به التوبيخ والإنكار.

٩٧

المفردات اللغوية :

(انْفَطَرَتْ) انشقت. (انْتَثَرَتْ) تساقطت متفرقة. (فُجِّرَتْ) شقّقت جوانبها ، فصارت بحرا واحدا. (بُعْثِرَتْ) قلب ترابها الذي وضع على موتاها ، وبعث موتاها. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) جواب (إِذَا) وما عطف عليها ، أي علمت نفس وقت حدوث هذه الأمور ، وهو يوم القيامة ما قدمت من الأعمال ، وما أخرت منها فلم تعمله بسبب الكسل.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) جنس الإنسان. (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ما خدعك وأي شيء جرّأك على عصيانه ، و (الْكَرِيمِ) العلي العظيم ، وذكر للمبالغة في المنع عن الاغترار. (فَسَوَّاكَ) جعل أعضاءك سوية سليمة معدّة لمنافعها. (فَعَدَلَكَ) جعلك معتدلا متناسب الخلق والأعضاء ، فلا تجد تنافرا بينها ولا عيبا فيها ، فليست يد أو رجل أطول من الأخرى. (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركّبك وكوّنك في أي صورة هي من أعجب الصور وأحكمها.

سبب النزول :

نزول الآية (٦):

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) : أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ ..) الآية قال : نزلت في أبيّ بن خلف. وقيل : نزلت في أبي الأشدّ بن كلدة الجمحيّ ، وقال ابن عباس : الإنسان هنا الوليد بن المغيرة.

وروى غالب الحنفي قال : لما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) قال : «غرّه الجهل».

التفسير والبيان :

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي إذا انشقت السماء ، كما قال تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل ٧٢ / ١٨] ، وقال سبحانه : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان ٢٥ / ٢٥] ، وقال عزوجل : (فَإِذَا انْشَقَّتِ

٩٨

السَّماءُ ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن ٥٥ / ٣٧] ، وقال عزّ من قائل : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ ٧٨ / ١٩].

وإذا تساقطت الكواكب وتفرقت ، وذلك بعد تشقق السماء.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي فجّر الله بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا ، ثم تسجّر أي توقد فتصير نارا تضطرم ، كما قال تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير ٨١ / ٦].

وإذا قلب تراب القبور ، وأخرج موتاها ، وصار باطنها ظاهرها.

وإذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة ، فهناك يحصل الحشر والنشر ، وبما أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم ، وفناء الدنيا ، فإنه يلاحظ الترتيب ، فيبدأ أولا بتخريب السماء التي هي كالسقف ، ويلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب ، ثم يخرب ما على وجه الأرض التي هي كالبناء ، وهو تفجير البحار ، ثم تقلب الأرض ظهرا لبطن ، وبطنا لظهر ، وهو بعثرة القبور.

وجواب الشرط قوله تعالى :

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) أي إذا حدثت الأمور المتقدمة ، علمت كل نفس عند نشر الصحف ما قدمت من عمل خير أو شر ، وما أخّرت من الأعمال بسبب التكاسل والإهمال ، كما قال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة ٧٥ / ١٣].

وبما أن المراد بهذه الأمور يوم القيامة ، فيكون المقصود بالآية الأخيرة في الأصح الزجر عن المعصية ، والترغيب في الطاعة.

٩٩

وبعد بيان تبدل نظام العالم ، والإخبار عن وقوع الحشر والنشر ، وبّخ الله تعالى الإنسان على تقصيره في عمل الخير ، وجحوده النعم ، بأن لم يطع أوامر الله شكرا على النعمة ، فقال :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي يا أيها الإنسان المدرك نهاية العالم ما الذي خدعك وجرأك على عصيان ربّك الكريم الذي أنعم عليك في الدنيا ، حيث خلقك من نطفة بعد العدم ، وجعلك سويا مستقيما ، معتدل القامة في أحسن هيئة وشكل ، متناسب الأعضاء ، لا تفاوت فيها ، مزوّدا بالحواس من السمع والبصر ، وطاقة العقل والفهم.

والأصح أن الآية تتناول جميع العصاة ؛ لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله.

وقد وصف الله تعالى نفسه في هذا المقام بالكرم ، وهذا الوصف يقتضي الاغترار به ، حتى قالت العقلاء : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. فكان الكرم سبب الاغترار ، وإنما وقع الإنكار عليه ؛ لأن الإنسان لم يدرك أن كرمه صادر عن الحكمة ، وهي تقتضي ألا يهمل وإن أمهل ، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين ، وقيل : غرّه ، جهله ، وقيل: غرّه عدوه المسلّط عليه ، وهو الشيطان ، وقيل : غرّه عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أول مرة.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركّبك في أي صورة شاءها من أبهى الصور وأجملها ، وأنت لم تختر صورة نفسك ، كما قال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين ٩٥ / ٤].

١٠٠