التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة النّبأ ، أو : عمّ

مكيّة ، وهي أربعون آية.

تسميتها :

تسمى سورة عم وسورة النبأ لافتتاحها بقول الله تبارك وتعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) وهو خبر القيامة والبعث الذي يهتم بشأنه ، ويسأل الناس عن وقت حدوثه.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي المرسلات من وجوه ثلاثة :

١ ـ تشابه السورتين في الكلام عن البعث وإثباته بالدليل ، وبيان قدرة الله عليه ، وتوبيخ الكفار المكذبين به ، ففي المرسلات : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) وفي هذه قال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ..) الآيات [٦ ـ ٦].

٢ ـ اشتراك السورتين في وصف الجنة والنار ، ونعيم المتقين وعذاب الكافرين ، ووصف يوم القيامة وأهواله.

٣ ـ فصّلت هذه السورة ما أجمل في السورة المتقدمة ، فقال تعالى في المرسلات : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) [١٢ ـ ١٤] وقال سبحانه في هذه السورة : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [١٧] إلى آخر السورة.

٥

ما اشتملت عليه السورة :

إن محور السور إثبات البعث بالأدلة المختلفة ، لذا ابتدأت السورة بوصف تساؤل المشركين عنه ، والإخبار عن يوم القيامة ، وما يتبعه من البعث والنشور والجزاء ، وأعقبته بتهديد المشركين على إنكارهم إياه : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ ..) [١ ـ ٥].

ثم أقامت الأدلة والبراهين على إمكان البعث ، بتعداد مظاهر قدرة الله على الخلق والإبداع وإيجاد مختلف عجائب الكون ، مما يدل على إمكان إعادة الناس بعد الموت : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ..) [٦ ـ ١٦].

ثم حددت السورة ميقات البعث وميعاده ، وهو يوم الفصل بين الخلائق الذي يجمع فيه الأولون والآخرون : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ..) [١٧ ـ ٢٠].

ثم وصفت ألوان عذاب الكافرين ، وأنواع نعيم المتقين ، بطريق المقابلة والموازنة ، والجمع بين الترغيب والترهيب : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ..) [٢١ ـ ٣٨].

وختمت السورة بالإخبار بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه ، وبإنذار الكفار بالعذاب الأليم القريب الذي يتمنون من شدته أن يعود ترابا.

والسورة كلها يشيع فيها جو التهويل والتخويف ، والتهديد والإنذار ، حتى لكأن التالي لها يكاد يلمس الصور الرهيبة لأحداث القيامة ، ويتملكه الذعر والخوف من شدائدها وأحوالها.

٦

الإخبار عن البعث وأدلة إثباته

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

الإعراب :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَمَ) أصله : عن ما ، إلا أنه لما دخلت على (ما) الاستفهامية ، حذفت ألفها للفرق بين الاستفهام والخبر.

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) إما بدل من (عَمَ) بإعادة الجار ، أو متعلق بفعل مقدر ، دل عليه (يَتَساءَلُونَ) ولا يكون بدلا ؛ لأنه لو كان بدلا ، لوجب أن تكرر «عما».

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي مختلفين ، حال من الكاف والميم في (خَلَقْناكُمْ).

(وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أَلْفافاً) صفة جنات ، وهو إما جمع لفّ مثل جذع وأجذاع ، أو جمع الجمع لكلمة «لف» جمع ألف ولفاء ، وفعل بضم الفاء يجمع على أفعال ، فيكون جمع الجمع. وقال أبو عبيدة : واحدها لفيف ، كشريف وأشراف.

البلاغة :

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) إيجاز بحذف الفعل ، لدلالة المتقدم عليه ، أي يتساءلون عن النبأ العظيم.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً) تشبيه بليغ ، أي جعلنا الأرض كالمهاد الذي

٧

يفترشه النائم ، والجبال كالأوتاد التي تثبت غيرها. ومثله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي كاللباس في الستر.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) بينهما مقابلة ، قابل بين الليل والنهار ، والراحة والعمل.

(أَوْتاداً أَزْواجاً سُباتاً لِباساً مَعاشاً شِداداً وَهَّاجاً ثَجَّاجاً نَباتاً أَلْفافاً) سجع مرصع.

المفردات اللغوية :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أي عن أي شيء يسأل بعض أهل مكة بعضا ، ومعنى الاستفهام : تفخيم شأن ما يتساءلون عنه ، كأنه لفخامته خفي جنسه ، فسئل عنه. وقد كان التساؤل من أهل مكة عن البعث فيما بينهم ، أو يسألون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين عنه استهزاء. (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) عن خبر يوم البعث المهم ، وهو بيان شأن المفخم. (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) يترددون فيه بين الإقرار والإنكار أو بين الإثبات والنفي.

(كَلَّا) ردع لهم وزجر ، لرد الكلام المتقدم ونفيه ، والردع عن التساؤل والوعيد عليه. (سَيَعْلَمُونَ) ما يحل بهم على إنكارهم للبعث. (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) تأكيد وتكرير للمبالغة ، وجيء بكلمة (ثُمَ) للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد من الأول.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) ممهدة مذللة فراشا ، كالمهد في قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) [طه ٢٠ / ٥٣]. والاستفهام للتقرير ، وهذا بدء ببيان القدرة على البعث بالتذكير ببعض عجائب الكون التي أبدعها الله. (أَوْتاداً) لتثبيت الأرض ، كما تثبت الخيام بالأوتاد : جمع وتد : وهو ما يدق في الأرض لربط حبال الخيمة التي تشد بها. (أَزْواجاً) ذكورا وإناثا. (سُباتاً) راحة لأبدانكم بقطع الحركة وإيقافها. (لِباساً) كاللباس في الستر ، وهو ما يلبسه الإنسان لستر جسمه ، أي أنه تعالى جعل الليل غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء.

(مَعاشاً) وقتا لتحصيل أسباب المعاش أو المعايش. (سَبْعاً) سبع سموات. (شِداداً) أي سبع سموات قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان ، ولا تصدع فيها. (سِراجاً) ما يضيء وينير. (وَهَّاجاً) وقادا متلألئا ، والمراد به الشمس.

و (الْمُعْصِراتِ) السحب والغيوم التي حان لها أن تعصر الماء ، فيسقط منها. (ثَجَّاجاً) أي مطرا صبابا كثير الهطول ، جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن عمر: «أفضل الحج العجّ والثجّ» العج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة دم الهدي. (حَبًّا) ما يقتات به الإنسان

٨

كالحنطة والشعير والذرة. (وَنَباتاً) ما تقتات به الدواب من التبن والحشيش. (وَجَنَّاتٍ) بساتين وحدائق ، جمع جنة. (أَلْفافاً) ملتفة الأشجار والأغصان ، يلتف بعضها ببعض.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلوا يتساءلون بينهم ، فنزلت : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ).

التفسير والبيان :

ينكر الله تعالى على المشركين تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارا لوقوعها ، فيقول : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) أي عن أي شيء يتساءل المشركون من أهل مكة وغيرهم فيما بينهم؟ ثم أجاب الله تعالى عن هذا السؤال بقوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) أي عن الخبر المهم الهائل ، العظيم الشأن الذي اختلفوا في أمره ، بين مكذّب ومصدّق ، وكافر ومؤمن به ، ومنكر ومقرّ ، وشاكّ ومثبت ، وهو يوم البعث بعد الموت ، كما حكى الله عنهم بقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ، نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [المؤمنون ٢٣ / ٣٧] وقوله : ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية ٤٥ / ٣٢].

وقال مجاهد في تفسير النبأ العظيم : هو القرآن ، قال ابن كثير : والأظهر الأول أي أنه البعث بعد الموت ؛ لقوله تعالى : (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) وقال الرازي : إنه يوم القيامة ، وهو الأقرب.

والمراد من الاستفهام تفخيم الأمر وتعظيمه وتعجيب السامعين من أمر

٩

المشركين. وإيراد الكلام في صورة السؤال والجواب ، أقرب ـ كما قال الرازي ـ إلى التفهيم والإيضاح ، وتثبيت الجواب في نفوس الناس السائلين ، كما في قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر ٤٠ / ١٦].

ثم رد الله تعالى عليهم متوعدا إنكارهم القيامة بقوله :

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) أي لا ينبغي لهم أن يختلفوا في شأن البعث ، فهو حق لا ريب فيه ، وسيعلم الذين يكفرون به عاقبة تكذيبهم. وكلمة (كَلَّا) ردع لهم وزجر ، ثم كرر الردع والزجر بالجملة الثانية ، أي فليزدجروا عما هم فيه من الكفر والتكذيب ، فإنهم سيعلمون قريبا حقيقة الأمر إذا حل بهم العذاب.

وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، قال أهل المعاني : تكرير الردع مع الوعيد دليل على غاية التهديد. وفي (ثُمَ) إشارة إلى أن الوعيد الثاني أبلغ من الأول.

ثم أورد الله تعالى بعض مظاهر قدرته العظيمة على خلق الأشياء العجيبة الدالة على قدرته على أمر المعاد وغيره. فقال معددا تسعة أشياء تثبت صحة البعث والحشر الذي أنكروه ، وتدل على قدرته على جميع الممكنات وعلمه بجميع المعلومات :

١ ـ ٢ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي كيف تنكرون البعث ، وقد عاينتم أدلة قدرة الله التامة ، من جعل الأرض ممهدة مذللة للخلائق ، كالمهد للصبي : وهو ما يمهد له من الفراش ، فينوّم عليه ، وجعل الجبال الراسيات كالأوتاد للأرض ، لتسكن ولا تتحرك ، وتهدأ ولا تضطرب بأهلها ، كما قال تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات ٧٩ / ٣٢].

٣ ـ (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي وأوجدناكم أصنافا : ذكورا وإناثا ، للإنس

١٠

والتعاون والحفاظ على النوع البشري ، كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم ٣٠ / ٢١].

٤ ـ ٥ ـ (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي وجعلنا نومكم راحة لأبدانكم وقطعا للحركة ولأعمالكم المتعبة في النهار ، فبالنوم تتجدد القوى ، وينشط العقل والجسم ، والسبات : أن ينقطع عن الحركة ، والروح في بدنه. وجعلنا الليل سكنا وكاللباس الذي يغطي بظلامه الأشياء والأجسام ، فكما أن اللباس يغطي الجسد ويقيه من الحر والبرد ، ويستر العورات ، كذلك الليل يستتر فيه من أراد الاختفاء لقضاء مصالح وتحقيق فوائد لا تتيسر في النهار ، كالاستتار من العدو وقضاء بعض الحوائج.

٦ ـ (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي وجعلنا وقت النهار مشرقا مضيئا ليتمكن الناس من تحصيل أسباب المعايش والتكسب والتجارة والزراعة والصناعة ونحو ذلك من موارد الرزق.

٧ ـ ٨ ـ (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) أي وبنينا فوقكم سبع سموات قوية الخلق ، محكمة البناء ، متقنة الصنع ، مزينة بالكواكب الثوابت والسيارات ، وجعلنا الشمس سراجا منيرا على جميع العالم ، يستضاء به ، ويستنار بنوره ، ويشع بحرارته ، فإن الوهج يجمع النور والحرارة ، وبهما تستفيد جميع الكائنات الحية.

٩ ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً ، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي وأنزلنا من السحب والغيوم التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد مطرا منصبا بكثرة ، كثير السيلان ، لنخرج بذلك الماء الكثير الطيب النافع حبا يقتات به الناس ، كالحبوب المختلفة من قمح وشعير وذرة وأرز ، ونباتا تأكله

١١

الدواب من التبن والحشيش وسائر النبات ، وبساتين وحدائق ذات بهجة وأغصان ملتفة على بعضها وثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذلك في بقعة واحدة ، كما قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد ١٣ / ٤].

والثج : الصب الكثير المتتابع ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الترمذي عن ابن عمر : «أفضل الحج : العجّ والثجّ» أي رفع الصوت بالتلبية ، وصب دماء البدن أو الهدي وإراقتها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تفخيم شأن البعث وتهويله وتعظيم أمره ، وتأكيد وقوعه وأنه حق ثابت لا ريب فيه.

٢ ـ سيعلم الكفار المكذّبون صدق ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت ، حين يحل بهم العذاب والنكال. وفيه وعيد بعد وعيد.

٣ ـ رد الله تعالى على المشركين منكري البعث ، وأثبت لهم قدرته على البعث والمعاد والحشر والنشر من خلال الإتيان بما هو مشاهد معاين لهم وهو إيجاد عجائب المخلوقات ، والقدرة على إيجاد هذه الأمور أعظم من القدرة على الإعادة.

٤ ـ ذكر الله تعالى من عجائب مخلوقاته الدالة على كمال القدرة وتمام العلم والحكمة أمورا تسعة : هي جعل الأرض ممهدة مذللة كالمهد للصبي ، وهو ما يمهد له فينوّم عليه ، وجعل الجبال للأرض كالأوتاد التي تشدّ بها حبال الخيام ، لتسكن

١٢

وتثبت ولا تميل بأهلها ، وخلق الناس أصنافا : ذكورا وإناثا وأضدادا متقابلين حسنا وقبحا وطولا وقصرا ليكتمل الكون ، ويزهو بالجمال والانس ، ويتيسر التعاون ، ويستمر بقاء النوع الإنساني.

وتصيير النوم راحة للأبدان وقطعا للحركة والأعمال التي يكابد بها الإنسان طوال النهار ، فتتجدد قواه ، ويستعيد نشاطه ، فالنوم يزيل التعب عن الإنسان.

وجعل الليل بظلمته كاللباس ساترا ، أو سكنا للناس ، فظلمة الليل تستر الإنسان عن العيوب إذا أراد هربا من عدو ، أو بياتا له ، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه ، وأيضا فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته ، ويندفع عنه أذى الحر والبرد ، فكذا لباس الليل ، بسبب ما يحصل فيه من النوم ، يزيد في جمال الإنسان ، وفي طراوة أعضائه ، وفي تكامل قواه الحسية والحركية ، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني ، وأذى الوساوس والأفكار الموحشة.

وجعل النهار وقت معاش ، يتردد فيه الناس لطلب معايشهم : وهي كل ما يعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك.

وبناء سبع سموات محكمات ، محكمة الخلق ، وثيقة البنيان ، وجعل الشمس سراجا منيرا مضيئا وقادا متلألئا ، وفي كل ذلك خير ونفع للإنسان. وإنزال الأمطار من السحب المحفلة بالماء ، فيحدث منها الغيث الذي يحيي الأرض بعد جدبها ، وينعش النفوس والأجسام بعد عنائها وتكدرها ، ويخرج به الحب للإنسان كالحنطة والشعير وغير ذلك ، والنبات للحيوان وهو ما تأكله الدواب من الحشيش ، وتوجد به البساتين والحدائق الغناء التي تلتف أغصانها بعضها ببعض لكثرة تشعبها ، وتزهو بالخضرة والنضرة والجمال ، والثمار والألوان ، والطعوم والروائح.

١٣

وهذه الأمور التسعة نظرا لحدوثها وإمكانها وتجددها تدل على وجود الفاعل المختار ، كما يدل ما فيها من الإتقان والإحكام على كمال العلم والحكمة الذاتية ، وإذا ثبت كمال الله تعالى في هذه الأوصاف ، ثبت قطعا إمكان الحشر دون أي شك ، ثم في إخراج النبات بعد جفافه ويبسه دليل ظاهر حسي قريب للأذهان على إمكان إخراج الموتى من القبور ، وبعثهم بعد الموت أحياء.

وفضلا عن ذلك ، فإن كل أمر من الأمور التسعة نعمة عظمي ، يجب أن تشكر بالتوفر على الطاعة ، ولا تكفر بالإقدام على المعصية (١).

٥ ـ آية (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) تشمل كل أنواع النبات الثلاثة التي تنبت من الأرض : وهي ما له أكمام وهو الحب ، وما لا يكون له أكمام وهو الحشيش ، وهذان النوعان لا ساق لهما ، والنوع الثالث : هو ما له ساق وهو الشجر ، فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة (٢).

أوصاف يوم القيامة وأماراته ونوع عذابه

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

__________________

(١) غرائب القرآن : ٣٠ / ٧

(٢) تفسير الرازي : ٣١ / ٩

١٤

الإعراب :

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يَوْمَ) منصوب على البدل من يوم في قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ). (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً لابِثِينَ) حال مقدر ، أي مقدّرين اللبث ، و (أَحْقاباً) منصوب على الظرف ، وعامله (لابِثِينَ). وذكر (أَحْقاباً) للكثرة ، لا لتجديد اللبث ، كقولك : أقمت سنين وأعواما.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً ، جَزاءً وِفاقاً لا يَذُوقُونَ) جملة في موضع نصب صفة ل (لابِثِينَ) ، أو حال من ضمير (لابِثِينَ). و (حَمِيماً وَغَسَّاقاً) بدل منصوب من (بَرْداً وَلا شَراباً). والحميم : يطلق على الحار والبارد من البرودة. فإن كان بمعنى النوم فهو استثناء منقطع ، و (جَزاءً) منصوب على المصدر. والخلاصة : (إِلَّا حَمِيماً ..) استثناء منقطع في قول من جعل البرد : النوم ، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه.

(كِذَّاباً) منصوب على المصدر ل «كذّب» وزيدت الألف في (كِذَّاباً) كما زيدت الهمزة في «أحسن إحسانا ، وأجمل إجمالا».

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً كِتاباً) منصوب على المصدر ، وعامله إما (أَحْصَيْناهُ) بمعنى كتبنا ، وإما فعل مقدر من لفظه دل عليه. (أَحْصَيْناهُ) أي كتبناه كتابا.

البلاغة :

(فَكانَتْ أَبْواباً) تشبيه بليغ ، أي كالأبواب في التشقق والتصدع ، فحذفت الأداة ووجه الشبه. (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أمر يراد به الإهانة والتحقير ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب زيادة في التوبيخ. (بَرْداً) و (حَمِيماً) بينهما طباق.

(أَفْواجاً أَبْواباً سَراباً مَآباً أَحْقاباً شَراباً حِساباً) سجع مرصع.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) هو يوم القيامة ، وسمي بذلك ؛ لأن الله يفصل فيه بحكمه بين الخلائق. (كانَ) أي في علم الله ، أو في حكمه. (مِيقاتاً) وقتا للثواب والعقاب ، وحدا تنتهي عنده الدنيا. (الصُّورِ) البوق الذي ينفخ فيه ، فيخرج منه صوت شديد ، والنافخ فيه : هو إسرافيل عليه‌السلام. (فَتَأْتُونَ) من قبوركم إلى الموقف. (أَفْواجاً) جماعات مختلفة ، جمع فوج : أي جماعة.

١٥

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) شققت وصدّعت. (فَكانَتْ أَبْواباً) ذات أبواب ، أو صارت من كثرة الشقوق كأنها أبواب. (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أزيلت عن أماكنها ، وأصبحت في الهواء كالهباء. (سَراباً) مثل السراب ، إذ ترى على صورة الجبال وليست جبالا في الحقيقة بل غبارا. (مِرْصاداً) موضع رصد ، يرصد فيه خزنة النار الكفار (لِلطَّاغِينَ) الكافرين ، الذين طغوا بمخالفة أوامر ربهم. (مَآباً) مرجعا ومأوى. (لابِثِينَ) مقيمين. (أَحْقاباً) دهورا لا نهاية لها ، جمع حقب ، وواحدها حقبة ، وهي مدة مبهمة من الزمان.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) برودة الهواء ، ويطلق أيضا على النوم. (وَلا شَراباً) أي ما يشرب تلذذا لتسكين العطش. (إِلَّا حَمِيماً) الحميم : الماء الحارّ الشديد الغليان. (وَغَسَّاقاً) قيح وصديد أهل النار الدائم السيلان من أجسادهم. (جَزاءً وِفاقاً) أي جوزوا بذلك جزاء موافقا لأعمالهم وكفرهم ، فلا ذنب أعظم من الكفر ، ولا عذاب أعظم من النار. (لا يَرْجُونَ) لا يخافون أو لا يتوقعون. (حِساباً) محاسبة على أعمالهم ؛ لإنكارهم البعث. (بِآياتِنا) القرآن. (كِذَّاباً) تكذيبا كثيرا. (وَكُلَّ شَيْءٍ) أي من الأعمال. (أَحْصَيْناهُ) ضبطناه. (كِتاباً) أي ضبطناه بالكتابة. (فَذُوقُوا) أي فيقال لهم في الآخرة عند وقوع العذاب عليهم : ذوقوا جزاءكم. (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي فوق عذابكم.

المناسبة :

بعد إثبات قدرة الله تعالى على تخريب الدنيا ، وإيجاد عالم آخر ، بإثبات إمكان الحشر وعموم القدرة والعلم ، أخبر تعالى عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معلوم لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عزوجل ، ثم ذكر علامات ذلك اليوم من نفخ الصور ، وتصدع السماء ، وتسيير الجبال عن أماكنها وصيرورتها هباء كالهواء ، ثم أوضح أن جهنم مرصد للطغاة وهم الكافرون المكذبون بآيات الله ، الذين أحصى الله عليهم كل شيء من أعمالهم ، وسيلقون جزاء ما صنعوا.

التفسير والبيان :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) أي إن يوم القيامة وقت ومجمع وميعاد

١٦

للأولين والآخرين ، ينالون فيه ما وعدوا به من الثواب والعقاب. وسمي يوم الفصل ؛ لأن الله تعالى يفصل فيه بحكمه بين خلقه.

ثم ذكر الله تعالى علامات ثلاثا لهذا اليوم ، فقال :

١ ـ (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي إن يوم الفصل هو اليوم الذي ينفخ فيه إسرافيل بالبوق أو القرن ، فتأتون أيها الخلائق من قبوركم إلى موضع العرض زمرا زمرا ، وجماعات جماعات ، تأتي فيه كل أمة مع رسولها ، كما قال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء ١٧ / ٧١].

٢ ـ (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أي وتصدعت السماء وشقت ، فصارت ذات أبواب كثيرة وطرقا ومسالك لنزول الملائكة ، ونظير الآية كثير ، مثل : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق ٨٤ / ١]. (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ١]. (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٥]. وهذا يعني تبدل نظام الكون ، وذهاب التماسك بين أجزائه.

٣ ـ (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي وأزيلت الجبال عن أماكنها ، وبددت في الهواء ، فكانت هباء منبثا ، يظن الناظر أنها سراب ، وتبدأ أولا بالدكّ كما قال تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة ٦٩ / ١٤] ثم تصير كالعهن أو الصوف المنفوش كما قال : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة ١٠١ / ٥] ثم تتقطع وتتبدد وتصير كالهباء ، كما قال : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة ٥٦ / ٤ ـ ٦] ثم تنسف عن الأرض بالرياح ، كما جاء في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه ٢٠ / ١٠٥] وقوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل ٢٧ / ٨٨] (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١١ ـ ١٢

١٧

ثم ذكر الله تعالى ما يلاقيه المكذبون الضالون الأشقياء يومئذ بقوله :

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ، لِلطَّاغِينَ مَآباً ، لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي إن نار جهنم كانت في حكم الله وقضائه مرصدة معدّة للطغاة المتجبرين المتكبرين وهم المردة العصاة المخالفون للرسل ، ومرجعا ومصيرا ونزلا لهم ، حالة كونهم ماكثين فيها ما دامت الدهور. والأحقاب جمع حقب ومفردها حقبة : وهي المدة الطويلة من الزمان ، إذا مضى حقب دخل آخر ، وهكذا إلى الأبد. والمرصاد : إما اسم للمكان الذي يرصد فيه ، وإما صفة بمعنى أنها ترصد أعداء الله.

والآية دليل على أن جهنم كانت مخلوقة ؛ لأن قوله : (مِرْصاداً) أي معدّة ، ومثلها الجنة أيضا إذ لا فرق بينهما.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً) (١) (وَغَسَّاقاً ، جَزاءً وِفاقاً) أي لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا ينفعهم من حرها ، ولا شرابا ينفعهم من عطشها إلا الحميم : وهو الماء الحار الشديد الغليان ، والغساق : وهو صديد أهل النار ، وهذا العذاب موافق الذنب العظيم الذي ارتكبوه نوعا ومقدارا ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار ، وقد كانت أعمالهم سيئة ، فجوزوا بمثلها ، كما قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠]. وقيل : البرد : النعاس والنوم. ويلاحظ أنه تعالى بعد أن شرح أنواع عقوبة الكفار ، بين أنه جزاء حق وعدل موافق لأعمالهم.

ثم عدد الله تعالى أنواع جرائمهم ، فقال :

__________________

(١) قال أبو حيان في البحر المحيط (٨ / ٤١٤) : والذي يظهر أن قوله : لا يَذُوقُونَ كلام مستأنف ، وليس في موضع الحال ، وإِلَّا حَمِيماً استثناء متصل من قوله : وَلا شَراباً وأن أَحْقاباً منصوب على الظرف ، حملا على المشهور من لغة العرب ، لا منصوب على الحال.

١٨

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً ، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي إنهم اقترفوا الأعمال السيئة والقبائح المنكرة ؛ لأنهم لا يطمعون في ثواب ، ولا يخافون من حساب ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث. فقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي لا يخافون أو لا يتوقعون حسابا : علة التأبيد في العذاب.

وكذبوا بالآيات القرآنية وبالبراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد تكذيبا شديدا. وهذا إشارة إلى فساد عقائدهم ، حتى جحدوا الحق وكذبوا الرسل. ثم أخبر الله تعالى عن إحصاء جميع أعمالهم بقوله :

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي إننا علمنا جميع أعمال العباد ، وكتبناها عليهم ، وكتبها الحفظة كتابة تامة شاملة ، وسنجزيهم على ذلك ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وقوله (كِتاباً) مصدر في موضع إحصاء ، أو أن «أحصينا» في معنى كتبنا ، لالتقاء الإحصاء والكتابة في معنى الضبط والتحصيل (١).

ثم ذكر ما يقال لهم في التعذيب تقريعا وتوبيخا لهم :

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي يقال لأهل النار لكفرهم ، وتكذيبهم بالآيات ، وقبح أفعالهم : ذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم ، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه. قال عبد الله بن عمرو : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) فهم في مزيد من العذاب أبدا.

__________________

(١) قال أبو حيان في البحر المحيط (٨ / ٤١٥) : وَكُلَّ شَيْءٍ : عام مخصوص أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب ، من جملة اعتراض معترضة.

١٩

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي :

١ ـ إن يوم القيامة الذي يفصل الله فيه بين الخلائق وقت ، ومجمع ، وميعاد للأولين والآخرين ، لما وعد الله من الجزاء والثواب.

٢ ـ تحدث في بداية يوم القيامة ظواهر خطيرة ثلاث : هي نفخ إسرافيل في الصور (القرن) فيأتي الناس من قبورهم زمرا وجماعات ، وتفتّح وتشقّق أو تفطر السماء ، فتصير كلها كأنها أبواب ، وتسيير الجبال وإزالتها من أماكنها الأصلية.

٣ ـ أخبر الله تعالى عن حال الأشقياء ، وقدم ذكرهم على السعداء ؛ لأن الكلام في السورة بنى على التهديد ، وهو أن جهنم تكون مكانا مرصدا للطغاة الذين طغوا في دينهم بالكفر ، وفي الدنيا بالظلم ، أو أنها ترصد أعداء الله وتراقبهم حتى ينزلوا فيها ، وتكون المرجع الذي يرجعون فيه إليها.

٤ ـ كيفية استقرارهم في النار : هي أنهم يكونون ماكثين في نار جهنم إلى الأبد ما دامت الأحقاب تتوالى ، وهي لا تنقطع ، فكلما مضى حقب جاء حقب ، والحقب : الدهر ، والأحقاب : الدهور ، والحقبة : السنة.

٥ ـ لا يذوق الطغاة في جهنم أو في الأحقاب بردا يخفف الحر أو نوما ، ولا شرابا يروي من العطش إلا الماء الحار والغساق : صديد أهل النار.

٦ ـ لا ظلم في هذا الجزاء ، وإنما هو موافق لأعمالهم ، فإنهم كانوا لا يخافون محاسبة على أعمالهم ؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، وكذّبوا بما جاءت به الأنبياء تكذيبا شديدا. وهذا دليل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن.

٢٠