التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

عتوهم وتجبرهم. وقد تكرر الأمر باللين في هذه القصة في القرآن الكريم ، كما جاء في قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه ٢٠ / ٤٤].

والآية دليل على أن المقصود الأعظم من بعثة الرسل هداية الناس إلى معرفة الله ، وأن معرفة الله تستفاد من الهادي.

ثم أبان الله تعالى أن موسى أظهر لفرعون معجزته ، فقال :

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي فأظهر له العلامة والمعجزة الكبرى الدالة على صدق نبوته ، وهي انقلاب العصا حية أو اليد ، ومع ذلك كذّب وخالف ، كما قال تعالى :

(فَكَذَّبَ وَعَصى ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) أي فكذب فرعون بموسى وبما جاء به وبالحق ، وعصى الله عزوجل فلم يطعه ، وتولى وأعرض عن الإيمان ، وأخذ يسعى بالفساد في الأرض ، ويجتهد في مكايدة موسى ومعارضة ما جاء به.

والجمع بين (فَكَذَّبَ وَعَصى) للدلالة على أنه كذب بالقلب واللسان ، وعصى بأن أظهر التمرد والتجبر.

(فَحَشَرَ فَنادى ، فَقالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي فجمع جنوده للتشاور أو جمع السحرة للمعارضة ، ثم نادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه ، أو أمر مناديا ينادي قائلا : أنا الرّب الأعلى ، وصاحب السلطان المطلق ، الذي ليس لأحد سواي ولاية أمركم ، ولا ربّ فوقي ، فكان جزاؤه الإغراق مع جنوده ، كما قال تعالى :

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وانتقم منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله المتمردين في الدنيا ، ونكّل به نكال الآخرة وهو عذاب النار ، ونكال الأولى وهو

٤١

عذاب الدنيا بالغرق ، ليتعظ به من يسمع خبره ، وإن فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه ويتعظ وينزجر ، فينظر في أحداث الماضي ، ويقيس بها أحوال الحاضر والمستقبل. فقوله : (الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي الدنيا والآخرة ، وهو الصحيح في معنى الآية كما قال ابن كثير.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وجنوده عبرة لمن اعتبر ، وعظة لمن اتعظ ، فقد أرسله الله إليه ، وأيّده بالمعجزات ، ومع هذا استمر فرعون في كفره وطغيانه ، فانتقم الله منه انتقاما شديدا ، وأغرقه وجنوده في البحر الأحمر.

وفي القصة تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلاقيه من صدود قومه ، وتحذير للكفار المتمردين والعتاة المتجبرين بإنزال عقاب مماثل إن استمروا في كفرهم وعتوهم وإعراضهم عن قبول دعوة الإسلام.

فلقد كان فرعون أقوى من كفار أي عصر ، فإنه تجاوز الحدّ في العصيان ، وأبى قبول دعوة موسى إلى تطهير نفسه من الذنوب والمآثم والكفر ، ولم يقبل ما أرشده إليه من طاعة ربّه ، ولم يصدّق بمعجزته وهي انقلاب العصا حية ، أو اليد البيضاء تبرق كالشمس ، وكذّب نبوته وعصى ربّه عزوجل ، وولّى مدبرا معرضا عن الإيمان ، ساعيا في الأرض بالفساد ، وقال لقومه بصوت عال : أنا ربّكم الأعلى ، أي لا ربّ لكم فوقي.

ولكنه مع كل هذا لم يعجز الله القوي القادر القاهر ، فأهلكه الله في الدنيا مع جنوده بالغرق ، وسيعذبه في الآخرة بنار جهنم.

إن في هذه القصة ، وما أحل الله بفرعون من الخزي ، وتحقيق العلو والنصر لموسى عليه‌السلام ، لاعتبارا وعظة لمن يخاف الله عزوجل ، ففيها بيان العقاب العادل وأسبابه ومسوغاته ، وبها يتبين لكل عاقل ضرورة أن يدع التمرد على

٤٢

الله تعالى ، والتكذيب لأنبيائه ، خوفا من أن ينزل به ما نزل بفرعون وجنوده. كما عليه أن يعلم بأن الله تعالى ينصر أنبياءه ورسله.

فمن ارتكب ما يوجب العقاب من مثل ذلك قولا وفعلا ، اشترك في العقاب نفسه في الدنيا والآخرة.

إثبات البعث بخلق السموات والأرض والجبال

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

الإعراب :

(بَناها) الجملة صفة للسماء.

(أَخْرَجَ مِنْها) الجملة حال بإضمار (قد) أي مخرجا.

(مَتاعاً لَكُمْ) مفعول لأجله ، لفعل مقدر ، أي فعل ذلك متعة ، أو منصوب على المصدر ، أي تميعا.

البلاغة :

(أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) بينهما مقابلة.

(السَّماءُ) و (الْأَرْضَ) بينهما طباق.

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) استعارة تصريحية في كلمة (مَرْعاها) أي نباتها ، شبه أكل الناس برعي الأنعام ، وأستعير الرعي للإنسان ، بجامع الأكل. فإطلاق المرعى على ما يأكله الناس استعارة.

٤٣

(ضُحاها) ، (دَحاها) ، (مَرْعاها) ، (أَرْساها) سجع مرصع وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير.

المفردات اللغوية :

(أَشَدُّ خَلْقاً) أصعب خلقا. (أَمِ السَّماءُ) أشد خلقا. (بَناها) بيان لكيفية خلقها ، والمسؤول يجيب ، ولا بد أن يكون الجواب : السماء ، لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثرها. (رَفَعَ سَمْكَها) تفسير لكيفية البناء ، والسمك أو السمت : مقدار الارتفاع من الأسفل إلى الأعلى ، والمعنى : جعل الله مقدار ارتفاعها من الأرض وسماكتها باتجاه العلو رفيعا ثخينا. (فَسَوَّاها) جعلها مستوية الخلق معدلة محكمة بلا عيب ، بحيث جعل كل جزء في موضعه.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أظلمه. (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أبرز نور شمسها ، والمراد بالضحى: النهار ، كقوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) أي النهار. (دَحاها) بسطها ومهّدها للإنسان ، وجعلها كالبيضة ليست تامة الكروية ، كما هو معروف ، فهي مفلطحة من جانبها. (أَخْرَجَ مِنْها) أي أخرج مخرجا منها. (ماءَها) بتفجير العيون. (وَمَرْعاها) نباتها ، وهو يشمل ما ترعاه الأنعام من الشجر والعشب ، وما يأكله الناس من الأقوات والثمار. (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم ، أو تمتيعا لكم ولمواشيكم ، والأنعام : جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم.

المناسبة :

بعد بيان قصة موسى وفرعون ، عاد إلى مخاطبة منكري البعث محتجا عليهم ببدء الخلق على إعادته ، فإنه تعالى خلق السموات البديعة ، والأرض الوسيعة المعدّة للاستقرار والحياة عليها بإعداد وسائل المعيشة فيها ، وخلق الجبال الرواسي لإرساء الأرض وتثبيتها.

التفسير والبيان :

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها؟) أي هل أنتم أيها الناس أصعب خلقا بعد الموت ، وبعثكم أشدّ عندكم وفي تقديركم من خلق السماء؟ لا شك بأن السماء أشدّ خلقا ، كما قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر ٤٠ / ٥٧] وقال سبحانه : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

٤٤

وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس ٣٦ / ٨١]. فمن قدر على خلق السماء ذات الأجرام العظيمة التي يتحدث عنها علماء الفلك والفضاء بدهشة ، وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو واضح ، كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أول مرة؟!

ثم بيّن الله تعالى صفة خلق السموات ، وأنه بناها بضم أجزائها بعضها إلى بعض ، مع ربطها بما يمسكها حتى صارت بناء واحدا ، ورفع ثخانتها في الجو ، وجعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض بدون أعمدة ، وجعلها عالية البناء ، مستوية الخلق ، معدّلة الشكل ، لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ، ولا فطور ولا شقوق ، بان أبدع في خلق الكواكب العديدة التي تفوق الملايين ، وجعل لكل كوكب حجما معينا ، ومدارا يسير فيه دون تصادم مع غيره ، حتى صار من مجموعها ما يسمى بالسماء ، وما يشبه البناء.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي جعل ليل السماء مظلما ، وأبرز وأنار نهارها المضيء بإضاءة الشمس ، وجعل تعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول مناخا صالحا للعيش والسكنى.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بسط الأرض ومهدها وجعلها مفلطحة كالبيضة بعد خلق السماء ، إلا أنها كانت مخلوقة غير مدحوة قبل خلق السماء ، ثم دحيت بعد خلق السماء ، كما جاء في سورة السجدة (فصّلت) : (قُلْ : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ، وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) [٩ ـ ١١] فهذه الآية دليل على أن خلق السموات كان بعد خلق الأرض ، إلا أن دحو الأرض وتمهيدها كان بعد خلق السموات (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٦٨

٤٥

ثم أوضح ما تم في أثناء الدحو من إعداد وسائل الحياة والعيش ، فقال :

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها ، وَالْجِبالَ أَرْساها ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي فجّر من الأرض الأنهار والبحار والعيون والينابيع ، وأنبت فيها النبات لبني آدم قوتا كالحبوب والثمار ، وللأنعام مرعى كالأعشاب والحشائش ، وجعل الجبال كالأوتاد للأرض لئلا تميد بأهلها ، وقررها وثبّتها في أماكنها.

وجعل تعالى كل ذلك منفعة وفائدة أو تمتيعا لكم أيها الناس ، ولأنعامكم أكلا وركوبا وهي الإبل والبقر والغنم ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل ١٦ / ١٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أثبت الله تعالى لمنكري البعث قدرته على إعادة الخلق والمعاد ، بقدرته على بدء الخلق ، وقدرته على خلق السموات العظيمة ، المحكمة البناء ، والتي جعل فيها الليل والنهار ، وخلق الأرض التي دحاها وبسطها ومهدها بعد خلق السموات ، وفجر منها الأنهار والينابيع ، وأرسى الجبال في أماكنها ، كل ذلك لتحقيق المنفعة للإنسان ودوابه التي يأكل منها ويركب عليها. ومعنى الكلام التقريع والتوبيخ.

فمن قدر على السماء قدر على الإعادة ، وإذا كان الله قادرا على إنشاء العالم الأكبر ، يكون على خلق العالم الأصغر ، بل على إعادته أقدر.

٢ ـ نبّه الله تعالى بهذا الدليل على أمر معلوم بالمشاهدة ، وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ في القدرة.

٣ ـ أشار الله تعالى إلى كيفية خلق السماء بقوله : (بَناها) وفيه تصوير

٤٦

للأمر المعقول ، وهو الإبداع والاختراع ، بالأمر المحسوس وهو البناء.

ثم ذكر هيئة البناء بقوله : (رَفَعَ سَمْكَها) وهو الامتداد القائم من السفل إلى العلو ، وعكسه يسمى عمقا.

٤ ـ دل قوله تعالى : (فَسَوَّاها) على أن الأرض كروية ، كما دل قوله تعالى : (دَحاها) على أن كروية الأرض ليست تامة ، بل هي مفلطحة كالبيضة. ودحو الأرض لا ينافي تقدم خلق الأرض على السماء في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة ٢ / ٢٩].

٥ ـ إنما نسب الله تعالى الليل والنهار إلى السماء ؛ لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها ، وهذان إنما يحصلان بسبب حركة الفلك.

٦ ـ وصف الله تعالى كيفية خلق الأرض بعد وصف كيفية خلق السماء ، وذكر صفات ثلاثا : هي دحو الأرض ، أي بسطها وتمهيدها الذي حصل بعد خلق السماء ، وإخراج الماء والمرعى من الأرض ، والمرعى : يشمل جميع ما يأكله الناس والأنعام ، وإرساء الجبال وتثبيتها في أماكنها. قال القتبي : دل الماء والمرعى على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح ؛ لأن النار من العيدان ، والملح من الماء.

٧ ـ امتن الله تعالى على خلقه بأنه إنما خلق هذه الأشياء في السماء والأرض متعة ومنفعة لهم ولأنعامهم ، أو تمتيعا لهم ولأنعامهم.

٨ ـ دل مجموع الآيات هنا ، وفي سورة السجدة (فصلت) وسورة البقرة وغيرها ، على أن الله تعالى خلق الأرض أولا ، ثم خلق السماء ثانيا ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ثالثا ؛ لأنها كانت أولا كالكرة المجتمعة ، ثم إن الله تعالى مدها وبسطها.

٤٧

جزاء فريقي الناس في الآخرة وتفويض علم الساعة لله تعالى

وقصر مدة الدنيا

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

الإعراب :

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى يَوْمَ) : بدل من قوله : (فَإِذا جاءَتِ ..) وما : موصولة أو مصدرية.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى ..) الفاء في (فَأَمَّا) : جواب إذا في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) وهي المأوى له ؛ لأنه لا بد من ضمير يعود من الجملة إلى المبتدأ. وذهب الكوفيون إلى أن الألف واللام عوض عن الضمير العائد ، والتقدير فيه : مأواه. ويصح أن يكون جواب (فَإِذا جاءَتِ) محذوفا ، دل عليه : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) أو ما بعده من التفصيل.

(هِيَ الْمَأْوى) هي إما ضمير فصل أو مبتدأ.

البلاغة :

(فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا .. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ..) بينهما مقابلة.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) تشبيه مرسل مجمل.

(عَشِيَّةً) و (ضُحاها) بينهما طباق.

٤٨

المفردات اللغوية :

(الطَّامَّةُ الْكُبْرى) الداهية العظمى وهي القيامة ، التي تطمّ ، أي تعلو على سائر الدواهي ، والتي هي أكبر الطامات ، أو النفخة الثانية التي يكون معها البعث ، أو ساعة سوق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار. (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) بأن يراه مدونا في صحيفته ، وكان قد نسيه من فرط الغفلة أو طول المدة ، والمراد : كل ما عمل في الدنيا من خير أو شر. (وَبُرِّزَتِ) أظهرت. (الْجَحِيمُ) النار المحرقة. (لِمَنْ يَرى) لكل راء ، بحيث لا تخفى على أحد.

(طَغى) تكبر وتجاوز الحد ، حتى كفر. (وَآثَرَ) قدّم وفضل. (الْحَياةَ الدُّنْيا) باتباع الشهوات ، ولم يستعد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس. (الْمَأْوى) المستقر ، أي مأواه ، واللام فيه سادّة مسدّ الإضافة ، للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي. (مَقامَ رَبِّهِ) مقامه بين يدي ربّه لعلمه بالمبدأ والمعاد ، أو جلاله وعظمته. (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) زجرها وكفّها عن هواها المردي باتباع الشهوات. (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ليس له سواها مأوى. والحاصل أن العاصي في النار والمطيع في الجنة.

(يَسْئَلُونَكَ) أي كفار مكة. (أَيَّانَ مُرْساها) متى إرساؤها أي وقوعها وقيامها.

(فِيمَ) أي في أي شيء. (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي ما أنت من ذكراها لهم ، والمراد : ليس عندك علمها حتى تذكرها. (مُنْتَهاها) منتهى علمها ، لا يعلمه غيره. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ) إنما ينفع إنذارك. (مَنْ يَخْشاها) يخافها ، أي إنما بعثت لإنذار من يخاف هولها ، وهو لا يناسب تعيين الوقت. وأما تخصيص (من يخشى) فلأنه المنتفع بالإنذار. (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا أو في القبور. (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي عشية يوم أو ضحاه ، كقوله تعالى : (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٥]. وإنما أضاف الضحى إلى العشية ؛ لأنهما من يوم واحد.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٢):

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ..) : أخرج الحاكم وابن جرير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن الساعة ، حتى أنزل عليه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن مشركي أهل مكة سألوا

٤٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : متى تقوم الساعة؟ استهزاء منهم ، فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) إلى آخر السورة.

وأخرج الطبراني وابن جرير عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها). وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة مثله (١).

المناسبة :

بعد بيان أدلة القدرة الإلهية على البعث والحشر والنشر ، من خلق السماء والأرض ، وإثبات إمكان الحشر عقلا ، أخبر الله تعالى بعد ذلك عن وقوعه فعلا ، وما يصحبه من أهوال ، وما يترتب عليه من انقسام الناس إلى فريقين : فريق في الجنة وفريق في السعير.

وبعد بيان البرهان العقلي على إمكان القيامة ، والإخبار عن وقوعها ، وذكر أحوالها العامة وأحوال الأشقياء والسعداء فيها ، أجاب الله تعالى عن تساؤل المشركين استهزاء وعنادا عن وقت حدوثها ، وأوضح أن علمها مفوض إلى الله تعالى ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث للإنذار فقط ، وأن ما أنكروه سيرونه ، حتى كأنهم أبدا فيه ، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار ، ثم مضت.

التفسير والبيان :

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) أي إذا حان وقت مجيئ الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات ، وهي يوم القيامة أو النفخة الثانية التي يكون معها البعث أو تسليم أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، وينسى الإنسان كل شيء قبلها في

__________________

(١) أسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين.

٥٠

جنبها ، فصل الله تعالى بين الخلائق ، فمنهم شقي وسعيد ، فجواب (إذا) محذوف وهو : فصل الله ..

ولذلك اليوم صفتان : إنه حين يتذكر الإنسان جميع ما عمله من خير أو شر ؛ لأنه يشاهده مدونا في صحائف عمله ، كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر ٨٩ / ٢٣] وقال سبحانه : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة ٥٨ / ٦]. وفيه تظهر نار جهنم المحرقة إظهارا لا يخفى على أحد. سواء أكان مؤمنا أم كافرا ، كما قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٩١]. قال مقاتل : «يكشف عنها الغطاء ، فينظر إليها الخلق» فأما المؤمن : فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها ، وأما الكافر : فيزداد غما إلى غمه ، وحسرة إلى حسرته.

ثم فصّل الله تعالى ما يحكم به بين الخلائق ، فقال :

(فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (١) أي فأما من تكبر وتمرد ، وتجاوز الحد في الكفر والمعاصي ، وقدّم الحياة الدنيا على أمر الدين والآخرة ، ولم يستعد لها ، ولا عمل عملها ، فالنار المحرقة هي مأواه ومثواه ومستقره ؛ لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. قيل : نزلت الآية في النضر وابنه الحارث ، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي وأما من خاف القيام بين يدي الله عزوجل وخاف حكم الله فيه يوم القيامة ، وأدرك عظمة الله وجلاله ، ونهى نفسه عن هواها ، وزجرها عن المعاصي والمحارم التي تشتهيها ، وردها إلى طاعة مولاها ، فالجنة مكانه الذي يأوي

__________________

(١) اللام : للعهد الذهني ، أي مأواه اللائق به ، ولهذا استغنى عن العائد ، ولا حاجة إلى تكلف أن الألف واللام بدل من الإضافة.

٥١

إليه ، ومستقره ومقامه ، لا غيرها. والآية نزلت في مصعب بن عمير وأخيه عمار بن عمير ، وهي عامة في كل مؤمن خاف الله ، ولم يتبع هواه.

وهذان الوصفان مضادان للوصفين اللذين وصف الله بهما أهل النار ، فقوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) ضد (فَأَمَّا مَنْ طَغى) وقوله : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) ضد قوله : (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا).

والخوف من الله لا بد وأن يكون مسبوقا بالعلم بالله ، على ما قال الله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر ٣٥ / ٢٨]. ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى ، لذا قدمه على قوله : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) (١).

ثم ذكر الله تعالى تساؤل المشركين على سبيل الاستهزاء عن ميعاد القيامة ، فقال :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي يسألك أيها النبي المشركون المكذّبون بالبعث عن وقت إرساء القيامة وميعاد وقوعها ، متى يقيمها الله ويوجدها ، أو ما منتهاها ومستقرها كرسوّ السفينة؟ وذلك حين كانوا يسمعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر القيامة بأوصافها الهائلة. مثل الطامة والصاخة والازفة والحاقة والقارعة ، فقالوا على سبيل الاستهزاء : (أَيَّانَ مُرْساها) أي زمان إرسائها.

عن عائشة رضي‌الله‌عنها ـ كما تقدم ـ : لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها ، حتى نزلت ، فلما نزلت هذه الآية انتهى. وقال ابن عباس : سأل مشركو مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متى تكون الساعة ، استهزاء؟ فانزل الله عزوجل الآية.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ٥١

٥٢

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي : في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ أو في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها ، أي لست من ذلك في شيء (١). وهذا تعجب من كثرة ذكره لها ، كأنه قيل : في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها ، حرصا على جوابهم. والمعنى ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق ، بل مردها ومرجعها ومنتهى علمها إلى الله عزوجل ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين ، ولا يوجد علمها عند غيره ، فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها؟ وهم يسألونك عنها ، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.

ونظير الآية : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ، قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) [الأعراف ٧ / ١٨٧] وقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان ٣١ / ٣٤]. ولهذا لما سأل جبريل عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت الساعة قال فيما أخرجه مسلم عن عمر : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟».

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه ، وما أنت إلا مخوّف لمن يخشى قيام الساعة ، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده ، اتّبعك فأفلح ونجا ، ومن كذب بالساعة وخالفك ، خسر وخاب ، فدع علم ما لم تكلف به ، واعمل بما أمرت به من إنذار. وخص الإنذار بأهل الخشية ؛ لأنهم المنتفعون بذلك.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي إن هذا اليوم الذي يسألون عنه واقع حتما ، وكأنهم فيه ، فإنهم إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر ، ورأوا الساعة (القيامة) استقصروا مدة الحياة الدنيا ، ورأوا كأنها ساعة من نهار ، أو عشية من يوم أو ضحى من يوم. والمراد تقليل مدة الدنيا في نفوسهم إذا رأوا

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٤٢٤

٥٣

أهوال القيامة. وقال ابن عباس : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل : لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها ، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ ليس هناك تصوير أوقع لحال تفاعل النفس وانفعالها بمشهد خطير ، مثل هذا التصوير لعلاقة النفس الإنسانية بقيام القيامة.

فإنه إذا وقعت الواقعة ، وأتت الداهية العظمى ، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث ، كما قال ابن عباس ، تذكّر الإنسان ما عمل من خير أو شر ، وشاهد الجحيم النار المحرقة التي تبرز عيانا لكل إنسان مؤمن أو كافر. قال ابن عباس : «يكشف عنها ، فتراها تتلظى كل ذي بصر» يراها الكافر بما فيها من أصناف العذاب ، ويراها المؤمن ليعرف قدر النعمة التي أنعم الله بها عليه ، ويشاهد الكافر الذي يصلى النار.

٢ ـ الناس يوم القيامة والبعث فريقان : السعداء والأشقياء. فأما من عتا وتمرد ، وتكبر وتجاوز الحد في الكفر والعصيان ، وقدّم الحياة الدنيا على الآخرة ، فمأواه ومستقرّه النار.

وأما من حذر مقامه بين يدي ربه ، وزجر نفسه عن المعاصي والمحارم ، فمثواه ومستقره الجنة. قال سهل : ترك الهوى مفتاح الجنة ؛ لقوله عزوجل : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى).

٣ ـ أدّى تساؤل المشركين عن وقت قيام الساعة استهزاء إلى كثرة سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، حرصا على جوابهم. ولكن الله جلّت حكمته اختص بعلم

٥٤

الساعة ، ولم يطلع أحدا عليها ؛ لأن الإنذار والتخويف إنما يتمان إذا لم يكن العلم بوقت قيام القيامة حاصلا ، فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها ، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها ، بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقتها كالموت.

٤ ـ حجب الله نبيه عن السؤال عن الساعة ، وأعلمه بأن علمها إلى الله وحده ، ووجّهه للعناية والقيام بمهمته الأصلية : وهي الإنذار والتخويف لمن يخشى مقام الله ؛ لأنهم المنتفعون به ، وإن كان منذرا لكل مكلف ، وهو كقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس ٣٦ / ١١].

٥ ـ كل ما هو في حكم الواقع واقع حتما ، فكأن الكفار والمشركين الذين يتساءلون عن القيامة استهزاء وتهكما واقعون فيها ، قائمون في ساحاتها ، وهم حين يرونها وما فيها من أهوال تشيب لها الولدان ، يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا ، ويقدّرون أنها قدر عشية من ليل أو ضحى من نهار يتبع تلك العشية ، والمراد تقليل مدة الدنيا ، كما قال تعالى : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٥].

٥٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة عبس

مكيّة. وهي اثنتان وأربعون اية.

تسميتها :

سميت سورة (عبس) لافتتاحها بهذا الوصف البشري المعتاد الذي تقتضيه الجبلّة الإنسانية ، ويغلب على الإنسان حينما يكون مشغولا بأمر مهم ، ثم يطرأ عليه أمر آخر لصرفه عن الأمر السابق ، ومع ذلك عوتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبوسه تساميا لقدره ، وارتفاعا بمنزلته النبوية.

مناسبتها لما قبلها :

لهذه السورة تعلق بما قبلها وهي النازعات ؛ لأنه تعالى ذكر هناك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذر من يخشى الساعة ، وهنا ذكر من ينفعه الإنذار ، وهم الذين كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناجيهم في أمر الإسلام ويدعوهم إليه وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة. كما أن بينهما تشابها في موضوع الحديث عن يوم القيامة وأهوالها ، وإثبات البعث بمخلوقات الله في الإنسان والكون ، فهناك وصفت القيامة بقوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) [٣٤] وهنا وصفت بقوله سبحانه : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) [٣٣] وهما من أسماء يوم القيامة. وهناك أثبت الله البعث بخلق السماء والأرض والجبال ، وهنا أثبته بخلق الإنسان والنبات والطعام.

٥٦

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع السورة كسائر موضوعات السور المكية التي تعنى بالعقيدة والرسالة والأخلاق التي قوامها في الإسلام المساواة بين الناس ، دون تفرقة بين غني وفقير.

ابتدأت السورة بذكر قصة الأعمى عبد الله بن أم مكتوم ابن خال خديجة بنت خويلد الذي قدم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتعلم ، في وقت كان فيه مشغولا مع جماعة من صناديد قريش يدعوهم إلى الإيمان ، فعبس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجهه وأعرض عنه ، فعاتبه الله بقوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى ..) [الآيات ١ ـ ١٦] وأبانت أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبر.

ثم نددت بجحود الإنسان وكفره بنعم ربه وإعراضه عن هداية الله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ..) [الآيات ١٧ ـ ٢٣].

وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على قدرة الله ووحدانيته بخلق الإنسان والنبات وتيسير طعام ابن آدم وشرابه ، لإثبات القدرة على البعث : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ..) [الآيات ٢٤ ـ ٣٢].

وختمت السورة بوصف أهوال يوم القيامة ، وفرار الإنسان من أقرب الناس إليه ، وبيان حال المؤمنين السعداء والكافرين الأشقياء في هذا اليوم : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ..) [الآيات في ٣٣ ـ ٤٢].

سبب نزول السورة :

نزلت هذه السورة في شأن عبد الله بن أم مكتوم ابن خال خديجة رضي‌الله‌عنها. ويقال : عمرو بن قيس بن زائدة ، وهذا أشهر وأكثر كما في جامع الأصول ، واسم أم مكتوم : عاتكة بنت عامر بن مخزوم.

وذلك أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده صناديد قريش : عبتة وشيبة ابنا

٥٧

ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، يدعوهم إلى الإسلام ، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلّمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، وهو لا يعلم شغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يكرمه ويقول إذا رآه : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ، ويقول له : هل لك من حاجة؟». واستخلفه على المدينة واليا مرتين في غزوتين غزاهما (١).

قال أنس : فرأيته يوم القادسية راكبا ، وعليه درع ، ومعه راية سوداء. ويروى : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قط ، ولا تصدّى لغني.

وعلّق القرطبي على أسماء الصناديد المذكورين بقوله : وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة ، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين ، أحدهما قبل الهجرة ، والآخر ببدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر عنده مفردا ، ولا مع أحد (٢).

ثم علّق أبو حيان على ذلك بقوله : والغلط من القرطبي ، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما ، وهو وهم منه ، وكلهم من قريش ، وكان ابن أم مكتوم منها ، والسورة كلها مكية بالإجماع ، وابن أم مكتوم كان أولا بمكة ، ثم هاجر إلى المدينة ، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية ، وابن أم مكتوم ، هو عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي القرشي ، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة ، وهو ابن خال خديجةرضي‌الله‌عنها (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢١٢ ، عرائب القرآن : ٣٠ / ٢٧ ، تفسير الرازي : ٣١ / ٥٤

(٢) تفسير القرطبي ، المكار السابق.

(٣) البحر المحيط : ٨ / ٤٢٧

٥٨

المساواة في الإسلام

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠))

الإعراب :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أَنْ جاءَهُ) : في موضع نصب ؛ لأنه مفعول لأجله ، وتقديره : لأن جاءه ، فحذف اللام فاتصل الفعل به. ومنهم من جعله في موضع جر ، بإعمال حرف الجر مع الحذف ، لكثرة حذفها معها ، وهي وحرف الجر في موضع نصب بالفعل قبلها.

(فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى فَتَنْفَعَهُ) : بالنصب على جواب الترجي : (لعل) بالفاء بتقدير (أن). وبالرفع بالعطف على (يَذَّكَّرُ).

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يَسْعى) : حال من فاعل : جاء. (وَهُوَ يَخْشى) حال من فاعل : يسعى ، وهو الأعمى.

البلاغة :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى ..) ثم قال : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) التفات من الغيبة إلى الخطاب دلالة على مزيد الإنكار ، وزيادة في العتاب ، وتنبيها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العناية بشأن الأعمى ، كمن يشكو جانيا بطريق الغيبة ، وهو حاضر ، ثم يقبل على الجاني مواجها بالتوبيخ. وفي ذكر الأعمى إنكار أيضا ؛ لأن العمى يوجب العطف والرأفة عند ذوي الآداب غالبا ، لا التولي والعبوس.

(يَذَّكَّرُ) و (الذِّكْرى) جناس اشتقاق.

(عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) سجع مرصع.

(تَصَدَّى تَلَهَّى) بينهما طباق.

٥٩

المفردات اللغوية :

(عَبَسَ) قطّب وجهه. (وَتَوَلَّى) أعرض. (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) لأجل أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم ، فقطعه عما هو مشغول به من محاولة هداية أشراف قريش إلى الإسلام. وقد أطبق المفسرون على أن الذي عبس هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأعمى : هو ابن أم مكتوم ، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الزهري. وقد عاتب الله نبيه على عبوسه في وجه الأعمى ، حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة ؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني ، وأن النظر إلى المؤمن أولى وأصلح ، وإن كان فقيرا ، من النظر إلى غيره ، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم ، وإن كان فيه نوع من المصلحة أيضا (١).

(وَما يُدْرِيكَ) أي : أيّ شيء يعلمك ويعرّفك حال هذا الأعمى؟ (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) يتطهر من الذنوب بما يسمع منك وبما يتعرف عليه من الشرائع ، وفيه إيماء بأن إعراضه كان لتزكية غيره. (أَوْ يَذَّكَّرُ) يتعظ ، أصله يتذكر ، فأدغم التاء في الذال. (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) العظة المسموعة منك.

(اسْتَغْنى) بالمال والجاه والقوة عن سماع القرآن. (تَصَدَّى) تقبل وتعرض ، وقرئ : (تَصَدَّى) وأصله : تتصدى. فأدغم التاء الثانية بالصاد. (أَلَّا يَزَّكَّى) يتطهر ويؤمن ، أي ليس عليك بأس في ألا يتزكى بالإسلام ، حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم ، إن عليك إلا البلاغ. (وَهُوَ يَخْشى) أي يخاف الله ، وهو الأعمى. (تَلَهَّى) تتشاغل ، وأصله تتلهى ، فحذفت التاء الأخرى.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(عَبَسَ) : أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : أنزل (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل يقول : يا رسول الله ، أرشدني ، وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، فيقول له : أترى بما أقول بأسا؟ فيقول : لا ، فنزلت : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى). وأخرج أبو يعلى مثله عن أنس.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢١٣

٦٠