التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الإخلاص

مكيّة ، وهي أربع آيات.

تسميتها :

سميت بأسماء كثيرة أشهرها سورة الإخلاص ؛ لأنها تتحدث عن التوحيد الخالص لله عزوجل ، المنزه عن كل نقص ، المبرأ من كل شرك ، ولأنها تخلّص العبد من الشرك ، أو من النار. وسميت أيضا سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية ؛ لأن من قرأها صار من أولياء الله ، أو المعرفة ، وتسمى كذلك سورة الأساس ؛ لاشتمالها على أصول الدين.

مناسبتها لما قبلها :

المناسبة بينها وبين ما قبلها واضحة ، فسورة الكافرين للتبرؤ من جميع أنواع الكفر والشرك ، وهذه السورة لإثبات التوحيد لله تعالى ، المتميز بصفات الكمال ، المقصود على الدوام ، المنزه عن الشريك والشبيه ، ولذا قرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة ، كركعتي الفجر والطواف ، والضحى ، وسنة المغرب ، وصلاة المسافر.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة أهم أركان العقيدة والشريعة الإسلامية ، وهي توحيد الله وتنزيهه ، واتصافه بصفات الكمال ، ونفي الشركاء ، وفي هذا الرد على النصارى القائلين بالتثليث ، وعلى المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى.

٤٦١

فضلها :

وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة ، وأنها تعدل في ثواب قراءتها ثلث القرآن ؛ لأن كل ما جاء في القرآن بيان لما أجمل فيها ؛ ولأن الأصول العامة للشريعة ثلاثة : التوحيد ، وتقرير الحدود والأحكام ، وبيان الأعمال ، وقد تكفلت ببيان التوحيد والتقديس. أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري : «أن رجلا سمع رجلا يقرأ (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يرددها ، فلما أصبح ، جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر ذلك له ، وكأن الرجل يتقالّها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن».

وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي سعيد رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشقّ ذلك عليهم ، وقالوا : أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال : الله الواحد الصمد ثلث القرآن».

وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احشدوا ، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، فحشد من حشد ، ثم خرج نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثم دخل ، فقال بعضنا لبعض : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، إني لأرى هذا خبرا جاء من السماء ، ثم خرج نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني قلت : سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن».

وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ) في ليلة ، فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن».

٤٦٢

سبب نزول السورة :

أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن أبي بن كعب : أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

زاد ابن جرير والترمذي قال : «(الصَّمَدُ) الذي لم يلد ولم يولد ؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله عزوجل لا يموت ولا يورث. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ولم يكن له شبيه ولا عدل (١) ، وليس كمثله شيء».

وقال قتادة والضحاك ومقاتل : جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : صف لنا ربك ، فإن الله أنزل نعته في التوراة ، فأخبرنا من أي شيء هو؟ ومن أي جنس هو؟ أذهب هو أم نحاس أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممن ورث الدنيا ومن يورثها؟ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه السورة ، وهي نسبة الله خاصة (٢).

سورة التوحيد والتنزيه لله عزوجل

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

__________________

(١) قال الأخفش : العدل بالكسر المثل ، وقال الفراء : العدل بالفتح : ما عدل الشيء من غير جنسه ، والعدل بالكسر المثل.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٦٢

٤٦٣

الإعراب :

(قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ هُوَ) : ضمير الشأن والحديث ، مبتدأ ، و (اللهُ) : مبتدأ ثان ، و (أَحَدٌ) : خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول ، ولا حاجة لعائد يعود على المبتدأ الأول ؛ لأن ضمير الشأن إذا وقع مبتدأ ، لم يعد من الجملة التي وقعت خبرا عنه ضمير ؛ لأن الجملة بعده وقعت مفسرة له ، بدليل أنه لا يجوز تقديمها عليه.

(اللهُ الصَّمَدُ) مبتدأ وخبر.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لَمْ يَلِدْ) : أصله (يولد) فحذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، كيعد ، ويزن ، والأصل : يوعد ويوزن ، ولهذا لم تحذف في (يُولَدْ) لوقوعها بين ياء وفتحة. و (أَحَدٌ) : اسم (يَكُنْ) ، و (كُفُواً) : خبرها. و (لَهُ) : متعلق ب (كُفُواً) وقدم عليه للاهتمام به ؛ إذ فيه ضمير الباري تعالى ، والتقدير : ولم يكن أحد كفوا له ، أي مكافئه ، فهو في معنى المفعول ، متعلق ب (كُفُواً). وأخّر (أَحَدٌ) رعاية للفاصلة.

البلاغة :

(قُلْ : هُوَ) ذكر الاسم الجليل بضمير الشأن للتعظيم والإجلال.

(اللهُ الصَّمَدُ) تعريف كل منهما لإفادة التخصيص.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) جناس ناقص ، لتغير الشّكل وبعض الحروف.

(قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يقتضي نفي الكفء والولد ، وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) هو تخصيص بعد تعميم ، زيادة في الإيضاح والبيان ، وتقرير ما يسمى التجريد أو التفريد.

(أَحَدٌ) ، (الصَّمَدُ) ، (لَمْ يُولَدْ) ، (أَحَدٌ) سجع مرصع.

المفردات اللغوية :

(أَحَدٌ) أي واحد في ذاته ، لم يتركب من جواهر مادية ولا من أصول غير مادية ، وهو أيضا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. (الصَّمَدُ) المقصود في جميع الحوائج على الدوام. (لَمْ يَلِدْ) لأنه لم يفتقر إلى ما يعينه ، ولأنه لا مجانسة بينه وبين غيره فهذا نفي للشبه والمجانسة. (وَلَمْ يُولَدْ) لأنه قديم أولي غير محدث ، انتفى الحدوث عنه ، فهو وصف بالقدم والأولية. (كُفُواً) أي مكافئا ومماثلا. والكف والمكافئ : النظير والمثيل ، والمراد أنه لم يكن أحد يكافئه ، في يماثله من صاحبه وغيرها.

٤٦٤

التفسير والبيان :

(قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أي قل أيها الرسول لمن سألك عن صفة ربك ونسبته : هو الله أحد ، أي واحد في ذاته وصفاته ، لا شريك له ، ولا نظير ولا عديل. وهذا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. والمعنى : هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم ، وهو واحد متوحد بالألوهية ، لا يشارك فيها. وهذا نفي لتعدد الذات.

(اللهُ الصَّمَدُ) أي الذي يصمد إليه في الحاجات ، أي يقصد ، فهو المقصود في جميع الحاجات ؛ لأنه القادر على تحقيقها ، والمعنى : هو الله الذي يقصد إليه كل مخلوق ، لا يستغني عنه أحد ، وهو الغني عنهم. وهذا إبطال لاعتقاد مشركي العرب وأمثالهم بوجود الوسائط والشفعاء.

قال ابن عباس في تفسير الصمد : يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم ، وهو السيد الذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والعليم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه ، هذه صفته ، لا تنبغي إلا له ، ليس له كفء ، وليس كمثله شيء ، سبحان الله الواحد القهار.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أي لم يصدر عنه ولد ، ولم يصدر هو عن شيء ؛ لأنه لا يجانسه شيء ، ولأنه قديم غير محدث ، لا أول لوجوده ، وليس بجسم وهذا نفي للشبه والمجانسة ، ووصف بالقدم والأولية ، ونفي الحدوث.

وفي الجملة الأولى نفي لوجود الولد لله ، ورد على المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله ، وعلى اليهود القائلين : عزير ابن الله ، وعلى النصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله ، وفي الجملة الثانية نفي لوجود الوالد ، وسبق العدم.

٤٦٥

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس لله أحد يساويه ، ولا يماثله ، ولا يشاركه في شيء. وهذا نفي لوجود الصاحبة ، وإبطال لما يعتقد به المشركون العرب من أن لله ندّا في أفعاله ، حيث جعلوا الملائكة شركاء لله ، والأصنام والأوثان أندادا لله تعالى.

وللسورة نظائر في آيات أخرى ، مثل قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الأنعام ٦ / ١٠١] أي هو مالك كل شيء وخالقه ، فكيف له من خلقه نظير؟ ، وقوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم ١٩ / ٩٢ ـ ٩٥] وقوله : (وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧].

جاء في صحيح البخاري : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم». وروى البخاري أيضا وعبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : كذّبني ابن آدم ، ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لي كفوا أحد».

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ تضمنت هذه السورة الموجزة إثباتا ونفيا في آن واحد.

فقد أبانت أن الله تعالى واحد في ذاته وحقيقته ، منزه عن جميع أنحاء التركيب ، ونفت عنه كل أنواع الكثرة بقوله : (اللهُ أَحَدٌ).

٤٦٦

وأوضحت أن الله غني بذاته كريم رحيم ، تحتاج إليه جميع الخلائق في قضاء الحوائج ، متصف بجميع صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، ونفت عنه كل أنواع الاحتياج إلى الآخرين بقوله : (اللهُ الصَّمَدُ).

وقررت أن الله أحد فرد ، ليس له شيء من جنسه ، ولم يلد أحدا ، وليس له لاحق يماثله ، ونفت عن نفسه المجانسة والمشابهة بقوله : (لَمْ يَلِدْ).

وكذلك هو قديم أولي أزلي غير مسبوق بالعدم ، فلا والد له ، ولا سابق له ، ونفت عنه الحدوث والأولية بقوله : (وَلَمْ يُولَدْ).

وهو سبحانه أيضا لا مقارن له في الوجود ، ولا شبيه له ولا نظير ولا صاحبة ولا نديد ، ونفى عن ذاته العلية الأنداد والأشباه بقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

وكل إثبات تقرير لعقيدة الإسلام القائمة على التوحيد والتنزيه والتقديس ، وكل نفي رد على أصحاب العقائد الباطلة كالثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم وهما النور والظلمة ، والنصارى القائلين بالتثليث ، والصابئة القائلين بعبادة الأفلاك والنجوم ، واليهود الذين يقولون : عزير ابن الله ، والمشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله.

فقوله : (أَحَدٌ) يبطل مذهب الثنوية ، وقوله : (اللهُ الصَّمَدُ) تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى الله ؛ لأنه لو وجد خالق آخر ، لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) يبطل مذهب اليهود في عزير ، والنصارى في المسيح ، والمشركين في أن الملائكة بنات الله. وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) يبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء لله وشركاء.

٤٦٧

٢ ـ قال العلماء : هذه السورة في حق الله تعالى ، مثل سورة الكوثر في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن الطعن في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بسبب أنهم قالوا : إنه أبتر لا ولد له ، وهنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا لله ولدا ؛ لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب ، ووجود الولد عيب في حق الله تعالى ، ولهذا السبب قال هنا : (قُلْ) ليدفع عن الله ، وفي سورة إنا أعطيناك لم يقل (قل) وإنما قال الله ذلك مباشرة ، حتى يدفع بنفسه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٢ / ١٨٥

٤٦٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفلق

مكيّة ، وهي خمس آيات.

مكيتها أو مدنيتها :

هذه السورة وسورة الناس مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر وهو رأي الأكثرين ، ومدنية في رواية عن ابن عباس وقتادة وجماعة ، قيل : وهو الصحيح.

تسميتها :

سميت هذه السورة سورة الفلق ، لافتتاحها بقوله تعالى : (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (الْفَلَقِ) الشق وفصل الشيء عن بعضه ، وهو يشمل كل ما انفلق من حب ونوى ونبات عن الأرض ، وعيون ماء عن الجبال ، ومطر عن السحاب ، وولد عن الأرحام ، ومنه : (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام ٦ / ٩٦] ، و (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام ٦ / ٩٥].

مناسبتها لما قبلها :

لما أبان الله تعالى أمر الألوهية في سورة الإخلاص لتنزيه الله عما لا يليق به في ذاته وصفاته ، أبان في هذه السورة وما بعدها وهما المعوذتان ما يستعاذ منه بالله من الشر الذي في العالم ، ومراتب مخلوقاته الذين يصدون عن توحيد الله ، كالمشركين وسائر شياطين الإنس والجن ، وقد ابتدأ في هذه السورة بالاستعاذة من

٤٦٩

شر المخلوقات ، وظلمة الليل ، والسحرة ، والحسّاد ، ثم ذكر في سورة الناس الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن ؛ لذا سميت السور الثلاثة (الإخلاص وما بعدها) في الحديث بالمعوّذات. وقدمت الفلق على الناس لمناسبة الوزان في اللفظ لفواصل الإخلاص مع مقطع (تَبَّتْ).

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت السورة الاستعاذة من شر المخلوقات ، وبخاصة ظلمة الليل ، والسواحر والنمامين ، والحسدة ، وهي درس بليغ وتعليم نافع عظيم لحماية الناس بعضهم من بعض بسبب أمراض النفوس ، وحمايتهم من شر ذوات السموم ، وشر الليل إذا أظلم ، لما فيه من مخاوف ومفاجات ، وبخاصة في البراري والكهوف.

فضل المعوذتين :

روى مسلم في صحيحة وأحمد والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط : (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)».

وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر قال : «أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقرأ بالمعوّذات في دبر كل صلاة».

وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عقبة بن عامر قال : «بينا أنا أقود برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي : يا عقبة ألا تركب! قال : فأشفقت أن تكون معصية ، قال : فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وركبت هنية ثم ركب ، ثم قال : يا عقب (١) ، ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قلت : بلى ، يا رسول الله ، فأقرأني (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ

__________________

(١) عقب : منادى مرخم من عقبة ، مثل أفاطم من فاطمة.

٤٧٠

النَّاسِ) ثم أقيمت الصلاة ، فتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ بهما ثم مرّ بي ، فقال : كيف رأيت يا عقب ، اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت».

وروى النسائي عن أبي عبد الله بن عابس الجهني : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا ابن عابس ألا أدلك ـ أو ألا أخبرك ـ بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، هاتان السورتان».

وأورد ابن كثير أحاديث كثيرة في معناها ثم قال : فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه ، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث.

وفي حديث صديّ بن عجلان : «ألا أعلمك ثلاث سور ، لم ينزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلهن : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)».

وروى البخاري وأهل السنن في الاستشفاء بهذه السور الثلاث (المعوذات) عن عائشة: أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة ، جمع كفيه ، ثم نفث فيهما وقرأ فيهما : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات.

سبب نزول المعوذتين :

السبب : قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاء في الصحيحين عن عائشة ، فإنه سحره في جفّ (قشر الطلع) فيه مشاطة رأسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسنان مشطه ، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر ، فأنزلت عليه المعوذتان ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه

٤٧١

خفّة ، حتى انحلت العقدة الأخيرة ، فقام ، فكأنما نشط من عقال (١). وجعل جبريل يرقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول : «باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من شر حاسد وعين ، والله يشفيك».

الاستعاذة من شرّ المخلوقات

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣)

وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

الإعراب :

(قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أَعُوذُ) : فعل معتل ، ويسمى «أجوف» وأصله : أعوذ على وزن أفعل ، إلا أنه استثقلت الضمة على الواو لأنه حرف علة ، فنقلت من العين التي هي الواو إلى ما قبلها.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ شَرِّ) بعير تنوين على الإضافة في القراءة المشهورة ، و (ما) : مصدرية ، وتقديره : من شرّ خلقه. وقرئ «من شرّ ما خلق» بتنوين (شَرِّ) وهي قراءة مروية عن أبي حنيفة ، و (ما) : فيها أيضا مصدرية ، في موضع جر على البدل من (شَرِّ) أي من خلقه.

البلاغة :

(الْفَلَقِ) و (خَلَقَ) بينهما جناس ناقص.

(شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ) تكرار كلمة (شَرِّ) مرات إطناب ، للتنبيه على قبح وشناعة هذه الأوصاف.

(شَرِّ غاسِقٍ شَرِّ النَّفَّاثاتِ شَرِّ حاسِدٍ) خاص بعد عام وهو (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ).

(حاسِدٍ) و (حَسَدَ) جناس اشتقاق.

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٥٣٠

٤٧٢

(الْفَلَقِ خَلَقَ) ، (الْعُقَدِ حَسَدَ) توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(أَعُوذُ) ألجأ. (الْفَلَقِ) شق الشيء وفصل بعضه عن بعض ، ومنه (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام ٦ / ٩٦] ، و (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام ٦ / ٩٥] ، و (الْفَلَقِ) يشمل كل ما يفلقه الله عن غيره ، كفلق ظلمة الليل بالصبح ، وفلق العيون والأمطار والنبات والأولاد ، ويخص الفلق عرفا بالصبح ، ولذلك فسّر به ، وتخصيصه لما فيه من تغير الحال ، وتبدل وحشة الليل بسرور النور ، والإشعار بأن من قدر أن يزيل ظلمة الليل عن هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ إليه ما يخافه. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه ؛ لأن الإعاذة من المضارّ تربية وعناية.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) من شرّ المخلوقات كلها ، وخصّ عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشرّ فيه ، وهو يشمل الحيوان والإنسان والجماد كالسم وغيره. (غاسِقٍ) ليل اشتد ظلامه. (وَقَبَ) دخل ظلامه وتخصيصه لأن المضار تكثر فيه ويعسر الدفع. (النَّفَّاثاتِ) السواحر من النفوس أو النساء تنفث. (فِي الْعُقَدِ) التي تعقدها في الخيط ، والنفث : النفخ مع ريق يخرج من الفم ، و (الْعُقَدِ) جمع عقدة : وهي ما يعقد من حبل أو خيط ونحوهما. (حاسِدٍ) هو الذي يتمنى زوال نعمة المحسود. وخصّ الحاسد بالذكر ؛ لأنه العمدة في الظاهر والسبب في إضرار الإنسان والحيوان وغيرهما. وذكر هذه الأصناف الثلاثة بعد التعميم الشامل لها (ما خَلَقَ) لشدة شرّها.

التفسير والبيان :

(قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي قل أيها النبي : ألجأ إلى الله ، وأستعيذ بربّ الصبح ؛ لأن الليل ينفلق عنه ، أو بربّ كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله ، من الحيوان ، والصبح ، والحبّ ، والنوى ، وكل شيء من نبات وغيره ، أعوذ بالله خالق الكائنات من شرّ كل ما خلقه الله سبحانه من جميع مخلوقاته. وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد.

أخرج الترمذي وحسنه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري ، قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوّذ من عين الجان ، ومن عين الإنس ، فلما نزلت سورتا المعوذتين ، أخذ بهما ، وترك ما سوى ذلك».

٤٧٣

وأخرج مالك في الموطأ عن عائشة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى ، يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، فلما اشتد وجعه ، كنت أقرأ عليه ، وأمسح بيده عليه ، رجاء بركتهما».

وبعد أن عمم الاستعاذة من جميع المخلوقات ، خصص بالذكر ثلاثة أصناف تنبيها على أنها أعظم الشرور ، وأهم شيء يستعاذ منه ، وهي :

١ ـ (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أي وأعوذ بالله من شرّ الليل إذا أقبل ؛ لأن في الليل مخاوف ومخاطر من سباع البهائم ، وهوام الأرض ، وأهل الشرّ والفسق والفساد.

٢ ـ (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) أي وأعوذ بالله من شرّ النفوس أو النساء الساحرات ؛ لأنهن كنّ ينفثن (أي ينفخن مع ريق الفم) في عقد الخيوط ، حين يسحرن بها. والنّفث : النفخ بريق ، وقيل : النفخ فقط. قال أبو عبيدة : إنهن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي اللاتي سحرن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) أي وأعوذ بالله من شرّ كل حاسد إذا حسد : وهو الذي يتمنى زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ دلت السورة الكريمة على تعليم الناس كيفية الاستعاذة من كل شرّ في الدنيا والآخرة ، من شر الإنس والجن والشياطين وشرّ السباع والهوام وشرّ النار وشرّ الذنوب ، والهوى ، وشرّ العمل ، وغير ذلك من سائر المخلوقات ، حتى المستعيذ نفسه.

٢ ـ لا مانع يمنع من نزول السورة ليستعيذ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحديث صحيح ، ولا يتنافى مع النص القرآني ، واقتصر فعل السحر بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مجرد

٤٧٤

كونه قد صار في بعض أمور الدنيا في حالة صداع خفيف ، وهو معنى التخيل في الحديث ، وقد يحدث تخيل في اليقظة كالمنام ، ولم يؤثر في ملكاته العقلية على الإطلاق ، كما لم يؤثر فيما يتعلق بالوحي والرسالة ؛ لأن الله عصمه من أي سوء ، أو اختلاط فكري ، أو اضطراب عصبي ، كما قال تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧] (١).

٣ ـ خصص الله تعالى في إرشادنا وتعليمنا الاستعاذة من أصناف ثلاثة : هي أولا الليل إذا عظم ظلامه ؛ لأن في الليل كما ذكر الرازي تخرج السباع من آجامها ، والهوام من مكانها ، ويهجم السارق والمكابر ، ويقع الحريق ، ويقل فيه الغوث ، وينبعث أهل الشرّ على الفساد.

وثانيا ـ الساحرات اللائي ينفثن (ينفخن) في عقد الخيط حين يرقين عليها ، شبه النفخ كما يعمل من يرقي.

وثالثا ـ الحاسد الذي يحسد غيره ، أي يتمنى زوال نعمة المحسود ، وإن لم يصرّ للحاسد مثلها. وهذا مذموم ، أما الغبطة أو المنافسة فهي مباحة ؛ لأنها تمني مثل النعمة وإن لم تزل عن صاحبها ؛ روي أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد» (٢). وفي الصحيحين : «لا حسد إلا في اثنتين» أي لا غبطة.

قال العلماء : الحاسد لا يضرّ إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود ، فيتبع مساوئه ، ويطلب عثراته. والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ، فحسد إبليس آدم ، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون.

وقال العلماء أيضا : لا يضرّ السحر والعين والحسد ونحو ذلك بذاته ، وإنما

__________________

(١) انظر تفسير الألوسي : ٣٠ / ٢٨٣

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٥٩

٤٧٥

بفعل الله وتأثيره ، وينسب الأثر إلى هذه الأشياء في الظاهر فقط ، قال الله تعالى عن السحر : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة ٢ / ١٠٢] ، وبالرغم من انعدام تأثير هذه الأشياء في الحقيقة ومنها الأمراض المعدية كالطاعون والسل ، فإنه يطلب شرعا الحذر والاحتياط وتجنب هذه الأسباب الظاهرية بقدر الإمكان ، عملا بفعل عمر والصحابة في طاعون عمواس ، والأمر باتقاء العين ، والفرار من المجذوم.

٤ ـ أجاز أكثر العلماء الاستعانة بالرّقى أو الرّقية ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتكى ، فرقاه جبريل عليه‌السلام ، وقال : «بسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، والله يشفيك» كما تقدم. وقال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء : «بسم الله الكريم ، أعوذ بالله العظيم من شرّ كل عرق نعار ، ومن شرّ حرّ النار».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دخل على مريض لم يحضر أجله ، فقال : أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يشفيك ـ سبع مرات ، شفي». وعن علي رضي‌الله‌عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل على مريض قال : «أذهب البأس ربّ الناس ، اشف أنت الشافي ، لا شافي إلا أنت».

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوّذ الحسن والحسين يقول : «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ، ومن كل عين لامّة».

وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبي وجع قد كاد يبطلني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعل يدك اليمنى عليه ، وقل : بسم الله ، أعوذ بعزة الله وقدرته من شرّ ما أجد» سبع مرات ، ففعلت ذلك ، فشفاني الله.

٤٧٦

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سافر ، فنزل منزلا يقول : «يا أرض ، ربّي وربّك الله ، أعوذ بالله من شرّك وشرّ ما فيك ، وشرّ ما يخرج منك ، وشرّ ما يدبّ عليك ، وأعوذ بالله من أسد وأسود ، وحية وعقرب ، ومن شرّ ساكني البلد ووالد وما ولد».

وقالت عائشة في الحديث المتقدم : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا اشتكى شيئا من جسده قرأ (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والمعوذتين ، في كفه اليمنى ، ومسح بها المكان الذي يشتكي (١).

والأصح جواز النّفث عند الرّقى ، بدليل ما روى الأئمة عن عائشة : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينفث في الرّقية. وأجاز الإمام الباقر تعليق التعويذ على الصبيان.

وأما النهي عن الرّقى فهو وارد على الرّقى المجهولة التي لا يفهم معناها.

__________________

(١) انظر هذه الأحاديث والأدلة الثمانية في تفسير الرازي : ٣٢ / ١٨٩ ـ ١٩٠

٤٧٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الناس

مدنيّة ، وهي ست آيات.

تسميتها :

سميت سورة الناس ؛ لافتتاحها بقول الله تبارك وتعالى : (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ..) وتكررت كلمة (النَّاسِ) فيها خمس مرات. وقد نزلت مع ما قبلها ، وهي مكية عند الأكثر ، وقيل : مدنية كما تقدم. وعرفنا وجه مناسبتها لما سبقها.

وهي آخر سورة في القرآن ، وقد بدئ بالفاتحة التي هي استعانة بالله وحمد له ، وختم بالمعوذتين للاستعانة بالله أيضا.

ما اشتملت عليه السورة :

اشتملت هذه السورة ، وهي ثاني المعوذتين على الاستعاذة بالله تعالى والالتجاء إلى ربّ الناس الملك الإله الحق من شرّ إبليس وجنوده الذين يغوون الناس بوسوستهم.

وقد عرفنا أن هذه السورة وسورة الفلق والإخلاص تعوذ بهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سحر اليهود. وقيل : إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان ، أي تبرئان من النفاق.

روى الترمذي كما تقدم عن عقبة بن عامر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد أنزل الله

٤٧٨

علي آيات لم ير مثلهن : (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) إلى آخر السورة ، و (قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) إلى آخر السورة.

وقال : هذا حديث حسن صحيح ، ورواه مسلم أيضا.

الاستعاذة من شرّ الشياطين

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ

النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ

فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

الإعراب :

(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) إما بدل من (شَرِّ الْوَسْواسِ) وتقديره : أعوذ بربّ الناس من شرّ الجنّة والناس ، وإما متعلق بمحذوف تقديره : الكائن من الجنة والناس ، الذي يوسوس في صدور الناس. وفي (يُوَسْوِسُ) ضمير الجنّة ، وذكّره ؛ لأنه بمعنى الجنّ ، وكنى عنه مع التأخير ؛ لأنه في تقدير التقديم ، كقوله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه ٢٠ / ٦٧] فتقدم الضمير ؛ لأن موسى في تقدير التقديم ، والضمير في تقدير التأخير.

البلاغة :

(أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) وما بعدها : الإضافة للتشريف والتكريم والاستعانة ، فقد أضيف الرّب إلى الناس ؛ لأن الاستعاذة من شرّ الموسوس في صدورهم ، استعاذوا بربّهم مالكهم وإلههم ، كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر. قال أبو حيان : والظاهر أن (مَلِكِ النَّاسِ) ، (إِلهِ النَّاسِ) صفتان. وقال الزمخشري : عطف بيان للرّب ، فإن الرّب قد لا يكون ملكا ، والملك قد لا يكون إليها.

(بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ) إطناب بتكرار الاسم ، زيادة في التكريم والعون ، ومزيد البيان ، والإشعار بشرف الإنسان.

٤٧٩

(الْجِنَّةِ .. وَالنَّاسِ) بينهما طباق.

(يُوَسْوِسُ) و (الْوَسْواسِ) بينهما جناس اشتقاق.

ويلاحظ أن الفواصل منتهية بالسين الذي فيه جرس خافت ومهيب وله وقع في النفوس.

المفردات اللغوية :

(أَعُوذُ) ألتجئ وأحتمي. (بِرَبِّ النَّاسِ) مربّيهم ومعتني بشؤونهم ، قال البيضاوي: لما كانت الاستعاذة في السورة المتقدمة من المضارّ البدنية ، وهي تعمّ الإنسان وغيره ، والاستعاذة في هذه السورة من المضارّ التي تعرض للنفوس البشرية ، وتخصها ، عمم الإضافة ثمة ، وخصصها بالناس هاهنا ، فكأنه قيل : أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربّهم الذي يملك أمورهم ، ويستحق عبادتهم.

(مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ) صفتان تدلان على أنه تعالى حقيق بالإعاذة ، قادر عليها ، غير ممنوع عنها. (الْوَسْواسِ) الموسوس الذي يلقي في النفوس خواطر الشرّ والسوء. ويصح أن يراد به المصدر أي الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة. (الْخَنَّاسِ) صيغة مبالغة ، أي من عادته أن يخنس ، أي يتأخر بذكر الله ، والخنوس : الرجوع والتأخر. (مِنَ الْجِنَّةِ) بيان للوسواس ، جمع جني كإنسي وإنس ، والجن : خلق مستتر لا يعلم به أحد إلا الله تعالى.

التفسير والبيان :

(قُلْ : أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ) أي قل أيها الرسول : ألجأ وأستعين بالله مربي الناس ومتعهدهم بعنايته ورعايته ، وخالقهم ومدبر أمرهم ومصلح أحوالهم ، وله الملك التام والسلطان القاهر ، وهو الإله المعبود الذي يعبده الناس ، واسم الإله خاص بالله لا يشاركه فيه أحد ، أما الملك فقد يكون إلها وقد لا يكون.

وهذه صفات ثلاث لله عزوجل : الربوبية ، والملك ، والألوهية ، فهو ربّ كل شيء ، ومليكه ، وإلهه ، فجميع الأشياء مخلوقة له ، مملوكة ، عبيد له. وإنما قدم الربوبية لمناسبتها للاستعاذة ، فهي تتضمن نعمة الصون والحماية والرعاية ، ثم ذكر الملكية ؛ لأن المستعيذ لا يجد عونا له ولا غوثا إلا مالكه ، ثم ذكر الألوهية ؛ لبيان أنه المستحق للشكر والعبادة دون سواه.

٤٨٠