التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

بمعنى الاستقبال ، كما أن (ما) لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال ، أي لا أعبد في المستقبل ما تعبدون من الأصنام في الحال.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولا تعبدون في المستقبل ما أعبد في الحال ، وهو الله تعالى وحده. (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي ولست أنا عابد في الحال أو في الماضي ما عبدتم فيما سلف. (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده ، ويجوز أن تكون الجملتان تأكيدين على طريقة أبلغ. والأدق أن يقال : إن الآيتين (٢ ، ٣) تدلان على الاختلاف في المعبود الذي يعبد ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبد الله ، وهم يعبدون الأصنام والأوثان. والآيتان (٤ ، ٥) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها ، فعبادة النبي عليه الصلاة والسلام عبادة خالصة لله لا يشوبها شرك ولا غفلة عن المعبود ، وعبادتهم كلها شرك وإشراك ، فلا يلتقيان.

(لَكُمْ دِينُكُمْ) وهو الشرك الذي أنتم عليه. (وَلِيَ دِينِ) وهو التوحيد أو الإسلام الذي أنا عليه ، لا أرفضه ، قال البيضاوي : فليس فيه إذن في الكفر ، ولا منع عن الجهاد ، ليكون منسوخا بآية القتال. وقال الزمخشري : والمعنى أني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا مني ، ولم تتبعوني فدعوني كفافا ، ولا تدعوني إلى الشرك.

التفسير والبيان :

هذه سورة البراءة من عمل المشركين ، وهي آمرة بالإخلاص في العبادة ، فقال تعالى :

(قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي قل أيها النبي لكفار قريش : يا أيها الكافرون ، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان ، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض. وفائدة كلمة (قُلْ) : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بالرفق واللين في جميع الأمور ، ومخاطبة الناس بالوجه الأحسن ، فلما كان الخطاب هنا غليظا أراد الله رفع الحرج عنه وبيان أنه مأمور بهذا الكلام ، لا أنه ذكره من عند نفسه.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولستم أنتم ما دمتم على شرككم وكفركم عابدين الله الذي أعبد ، فهو الله وحده لا شريك له.

٤٤١

وهاتان الآيتان (٢ ، ٣) تدلان على الاختلاف في المعبود ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبد الله وحده ، وهم يعبدون الأصنام والأوثان أو الأنداد والشفعاء ، أو أن المعنى دفعا للتكرار كما ذكر الزمخشري : لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال ، وعلامته (لا) التي هي للاستقبال ، بدليل أن (لن) للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد ، وأصله في رأي الخليل : لا أن. وما : للحال (١) ، وخلاصة المعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولا أعبد عبادتكم ، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها ، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، وأنتم لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته ، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم ، فعبادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه خالصة لله لا شرك فيها ولا غفلة عن المعبود ، وهم يعبدون الله بما شرعه ، ولهذا كانت كلمة الإسلام : «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» أي لا معبود إلا الله ، ولا طريق إليه في العبادة إلا بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن الله بها ، فكلها شرك وإشراك ، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.

فالآيتان (٤ ، ٥) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها. ويرى بعضهم كالزمخشري : وما كنت قط في الحال أو في الماضي عابدا ما عبدتم ، يعني لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام؟! وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.

وقيل : في الآيات تكرار ، والغرض التأكيد ، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.

__________________

(١) قد فهم بعضهم خطا ما أراده الزمخشري هنا وفي الآيتين بعدهما. فقلب الوضع ، وجعل الاستقبال محل الحال وبالعكس.

٤٤٢

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم شرككم أو كفركم ، ولي ديني وهو التوحيد والإخلاص أو الإسلام ، فدينكم الذي هو الإشراك ، لكم لا يتجاوزكم إليّ ، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني ، فيحصل لكم. وقيل : الدين : الجزاء ، والمضاف محذوف ، أي لكم جزاء دينكم ، ولي جزاء ديني. وقيل : الدين : العبادة.

وليست السورة منسوخة بآية القتال ، والمحققون على أنه لا نسخ ، بل المراد التهديد ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠].

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس ١٠ / ٤١] وقوله : (لَنا أَعْمالُنا ، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [القصص ٢٨ / ٥٥]. والمراد بذلك كله التهديد ، لا الرضا بدين الآخرين.

وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) على أن الكفر كله ملة واحدة ، فورّث اليهود من النصارى وبالعكس إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به ؛ لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان.

وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس ، لحديث أحمد وأبي داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتوارث أهل ملتين شتى».

قال الرازي : جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) عند المتاركة ، وذلك غير جائز ؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به ، بل ليتدبر فيه ، ثم يعمل بموجبه (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ١٤٨

٤٤٣

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت السورة على اختلاف المعبود واختلاف العبادة بين المسلمين وغيرهم ، وعلى أن الكفر ملة واحدة في مواجهة الإسلام ، وهذه العوامل الثلاثة تدل على أنه لالقاء بين الكفر والإيمان ، ولا بين أصحاب العداوة الدينية الحاقدة المتأصلة في النفس مع الإسلام وأهله.

أما اختلاف المعبود بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه المؤمنين وبين الكفار : فهو أن الفريق الأول يعبد الله وحده لا شريك له ، والفريق الثاني يعبد غير الله من الأصنام والأوثان والأنداد والشفعاء من البشر أو الملائكة أو الكوكب أو غير ذلك من أباطيل الملل والنحل.

وأما اختلاف العبادة فالمؤمنون يعبدون الله بإخلاص لا شرك فيه ولا غفلة عن المعبود ، وبما شرع الله لعباده من كيفية العبادة المرضية له ، وأما الكفار والمشركون فيعبدون معبوداتهم بكيفيات فيها الشرك والإشراك وبنحو اخترعوه لأنفسهم ، لا يرضى عنه ربهم.

وأما الكفر فكله ملة واحدة في مواجهة الإسلام ؛ لأن الدين الحق المقبول عند الله هو الإسلام وهو الإخلاص لله والتوحيد. وأما أنواع الكفر المعارضة لمبدأ التوحيد فتشترك في صلب الاعتقاد المنحرف عن أصل التوحيد.

٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النصر

مدنيّة ، وهي ثلاث آيات.

تسميتها :

سميت سورة النصر ؛ لافتتاحها بقول الله تبارك وتعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) أي الفتح الأكبر والنصر المؤزر الذي سمي فتح الفتوح وهو فتح مكة المكرمة. وتسمى أيضا سورة التوديع.

مناسبتها لما قبلها :

لما أخبر الله تعالى في آخر السورة المتقدمة باختلاف دين الإسلام الذي يدعو إليه الرسول عن دين الكفار ، أنبأه هنا بأن دينهم سيضمحل ويزول ، ودينه سيعلو وينتصر وقت مجيء الفتح والنصر ، حيث يصبح دين الأكثرين. وفي ذلك بيان فضل الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر والفتح ، وانتشار الإسلام ، وإقبال الناس أفواجا إلى دينه : دين الله ، كما أن فيه إشارة إلى دنو أجله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المدنية بالإجماع تشير إلى فتح مكة ، وانتصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المشركين ، وانتشار الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية ، وانحسار ظلمة الشرك والوثنية ، والإخبار بدنو أجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره بتسبيح ربه وحمده واستغفاره.

٤٤٥

فضلها :

تقدم في تفسير سورة الزلزال أنها في حديث الترمذي عن أنس بن مالك تعدل ربع القرآن ، و (إِذا زُلْزِلَتِ) تعدل ربع القرآن.

وأخرج النسائي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قال لي ابن عباس : يا ابن عتبة ، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت؟ قلت : نعم : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال : صدقت.

وروى الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي عن ابن عمر قال : أنزلت هذه السورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوسط أيام التشريق ، فعرف أنه الوداع ، فأمر براحلته القصواء فرحلت ، ثم قام ، فخطب الناس ، فذكر خطبته المشهورة ، أي خطبة حجة الوداع.

سبب نزولها :

أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : «كان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فدعاهم ذات يوم ، فأدخله معهم. قال ابن عباس : فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله عزوجل : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم ، فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا. فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه الله له ، قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامة أجلك ، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ، وَاسْتَغْفِرْهُ ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول».

٤٤٦

وقت نزول هذه السورة :

هناك قولان في ذلك :

أحدهما ـ أن فتح مكة كان سنة ثمان في رمضان ، ونزلت هذه السورة سنة عشر ، وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما ، وتوفي في ربيع الأول سنة عشر ، ولذلك سميت سورة التوديع.

والقول الثاني ـ أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينصره على أهل مكة ، وأن يفتحها عليه ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص ٢٨ / ٨٥]. وقوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) يقتضي الاستقبال ، إذ لا يقال فيما وقع : إذا جاء وإذا وقع.

وعلى هذا القول يكون الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه إخبارا بالغيب معجزا ، فهو من أعلام النبوة (١).

والظاهر القول الأول ، بدليل ما قال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجّة الوداع ، ثم نزلت (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٥ / ٣] فعاش بعدهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة (آخر سورة النساء) ، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة ٩ / ١٢٨] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما. ثم نزل : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة ٢ / ٢٨١] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما. وقال مقاتل : سبعة أيام (٢).

لكن قال الرازي : الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة (٣).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ١٥٥

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٣٣

(٣) تفسير الرازي : ٣٢ / ١٦٤

٤٤٧

فتح مكة

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ

أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

الإعراب :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) تقديره : إذا جاءك نصر الله ، فحذف الكاف التي هي المفعول.

وجواب (إِذا) إما قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ..) والفاء غير مانعة من هذا على ما عليه الجمهور ، أو محذوف تقديره : إذا جاءك نصر الله والفتح ، جاء أجلك ، وهو العامل في (إِذا).

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) يدخلون : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (النَّاسَ) وأفواجا : منصوب على الحال من واو (يَدْخُلُونَ).

البلاغة :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) خاص بعد عام ، فإن نصر الله يشمل جميع الفتوحات ، قال الرازي : وهو الغلبة على قريش أو على جميع العرب ، فعطف عليه فتح مكة تعظيما لشأنه.

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ) عام أريد به الخاص ، فلفظ الناس عام ، والمراد به العرب.

(دِينِ اللهِ) هو الإسلام ، وأضافه تعالى إليه تشريفا وتعظيما ، مثل : بيت الله ، وناقة الله. (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) تواب : صيغة مبالغة على وزن (فعّال).

المفردات اللغوية :

(نَصْرُ اللهِ) النصر : العون أو الإعانة على تحصيل المطلوب. (وَالْفَتْحُ) تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا أو موقوفا ، أو الفصل بين الفريقين المتحاربين بانتصار أحدهما على الآخر ، والمراد به هنا فتح مكة ، فالفرق بين النصر والفتح : أن النصر كالسبب للفتح ، فلهذا بدأ بذكر النصر ، وعطف الفتح عليه.

٤٤٨

(دِينِ اللهِ) أي الإسلام. (أَفْواجاً) جماعات كثيفة ، كأهل مكة والطائف واليمن والهوازن وسائر قبائل العرب ، جمع فوج : وهو الجماعة والطائفة. وقد دخلت الجماعات في الإسلام بعد ما كان الدخول فيه فرديا واحدا بعد الآخر ، وذلك بعد فتح مكة ، جاءه العرب من مختلف الأنحاء طائعين. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزّه الله وصل له حامدا على نعمه ، روي : أنه عليه‌السلام لما دخل مكة بدأ بالمسجد ، فدخل الكعبة ، وصلّى ثماني ركعات. وَاسْتَغْفِرْهُ) اسأله المغفرة لك ولمن اتبعك ، وطلب الاستغفار من النبي كان لترك الأفضل ، وليقتدي به غيره ، ولم يكن بسبب ارتكاب معصية أو ذنب. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه السورة يكثر من قول : «سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله وأتوب إليه». وعلم بذلك أنه قد اقترب أجله ، فتوفي بعد فتح مكة بعامين سنة عشر.

التفسير والبيان :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) أي إذا تحقق لك يا محمد نصر الله وعونه وتأييده على من عاداك وهم قريش ، وفتح عليك مكة ، وتحققت لك الغلبة ، وإعزاز أمرك ، فسبّح الله تعالى أي نزهه حامدا له جل وعلا زيادة في عبادته والثناء عليه لزيادة إنعامه عليك. وفائدة قوله : (نَصْرُ اللهِ) مع أن النصر لا يكون إلا من الله : هو أنه نصر لا يليق إلا بالله ، ولا يليق أن يفعله إلا الله ، أو لا يليق إلا بحكمته. والمراد تعظيم هذا النصر. وقوله : (جاءَ نَصْرُ اللهِ) مجاز ، أي وقع نصر الله.

روى الإمام أحمد والبيهقي والنسائي عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعيت إلي نفسي» فإنه مقبوض في تلك السنة.

خير ، وأنا وأصحابي خير» ، وقال فيما رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن عباس : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية». وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم الفتح : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا».

٤٤٩

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي أبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به ، جماعات فوجا بعد فوج ، بعد أن كانوا في بادئ الأمر يدخلون واحدا واحدا ، واثنين اثنين ، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي إذا فتحت مكة وانتشر الإسلام ، فاشكر الله على نعمه ، بالصلاة له ، وبتنزيهه عن كل ما لا يليق به ، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به بالنصر ، واقرن الحمد بالتسبيح ، أي اجمع بينهما ، فإن ذلك النصر والفتح يقتضي الحمد لله على عظيم منّته وفضله ، وما منحك من الخير.

واطلب أيضا من الله المغفرة لك تواضعا لله ، واستقصارا لعملك ، وتعليما لأمتك ، وكذا اسأله المغفرة لمن تبعك من المؤمنين ما كان منهم من القلق والخوف لتأخر النصر ، فإن الله سبحانه من شأنه التوبة على المستغفرين له ، يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم ، وهو كثير القبول لتوبة عباده ، حتى لا ييأسوا ويرجعوا بعد الخطأ.

روى الأئمة ـ واللفظ للبخاري ـ عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : «ما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلا يقول : سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي». وعنها قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك الله ربّنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت السورة على ما يأتي :

١ ـ كل نعمة من الله تعالى تستوجب الشكر والحمد والثناء على الله بما هو

٤٥٠

أهل له ، ومن أجلّ النّعم على نبي الله وأمته تحقيق النصر والغلبة على الأعداء ، وفتح مكة عاصمة العرب والإسلام ، ومقر البيت الحرام أو الكعبة المشرفة قبلة المسلمين.

وتوج الله سبحانه هذه النعمة العظمى بنعمة كبري أخرى هي دخول العرب وغيرهم في دين الإسلام جماعات ، فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة ، قالت العرب : أمّا إذا ظفر محمد بأهل الحرم ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان ، أي طاقة. فكانوا يسلمون أفواجا : أمّة أمّة.

٢ ـ لهذا ختم الله هذه السورة بأمر الله نبيه بالإكثار من الصلاة ، والتسبيح لله ، أي تنزيه الله عن كل ما لا يليق به ولا يجوز عليه ، والحمد لله على ما آتاه من الظفر والفتح ، وسؤال الله الغفران مع مداومة الذكر ، والله كثير القبول للتوبة على المسبّحين والمستغفرين ، يتوب عليهم ويرحمهم ، ويقبل توبتهم.

والأمة أولى بذلك ، فإذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معصوم ، يؤمر بالاستغفار ، فما الظن بغيره؟

روى مسلم عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، أراك تكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ، وأتوب إليه؟ فقال : خبّرني ربي أني سأرى علامة في أمتي ، فإذا رأيتها أكثرت من قول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ـ فتح مكة ـ (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ، وَاسْتَغْفِرْهُ ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

٣ ـ دين الله هو الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران ٣ / ١٩] وقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران ٣ / ٨٥].

٤٥١

٤ ـ قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين : إن إيمان المقلّد صحيح ؛ لأنه تعالى حكم بصحة وإيمان أولئك الأفواج ، وجعله من أعظم المنن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو لم يكن إيمانهم صحيحا ، لما ذكره في هذا المجال.

٥ ـ أمر الله تعالى بالتسبيح أولا ثم بالحمد ثم بالاستغفار ؛ لأنه قدم الاشتغال بما يلزم للخالق وهو التسبيح والتحميد على الاشتغال بالنفس. وقدم الأمر بالتسبيح حتى لا يتبادر إلى الذهن أن تأخير النصر سنين لإهمال مثلا ، فالله ينزّه ويقدّس عن إهمال الحق. وأتى بالاستغفار حتى لا يفكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاشتغال بالانتقام ممن آذاه.

٦ ـ الآية تدل على فضل التسبيح والتحميد ، حيث جعل كافيا في أداء ما وجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته من شكر نعمة النصر والفتح.

٧ ـ اتفق الصحابة على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روي أنه لما نزلت هذه السورة خطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «إن عبدا خيره الله بين الدنيا ، وبين لقائه والآخرة ، فاختار لقاء الله» (١). وقد عرفوا ذلك ؛ لأن الأمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا دليل على أن أمر تبليغ الدعوة قد تم وكمل ، وذلك يوجب الموت ؛ لأنه لو بقي بعد ذلك ، لكان كالمعزول عن الرسالة ، وهو غير جائز. ثم إن الأمر بالاستغفار تنبيه على قرب الأجل.

__________________

(١) تفسير الكشاف : ٣ / ٣٦٥

٤٥٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المسد ، أو : اللهب

مكيّة ، وهي خمس آيات.

تسميتها :

سميت سورة المسد ؛ لقوله تعالى في آخرها : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي في عنق أم جميل زوجة أبي لهب حبل مفتول من ليف. وسميت أيضا سورة (تَبَّتْ) لقوله تعالى في مطلعها : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) أي هلكت وخسرت يدا أبي لهب ، كما سميت سورة أبي لهب ، أو سورة اللهب.

مناسبتها لما قبلها :

هناك تقابل بين هذه السورة والسورة التي قبلها ، ففي السورة السابقة النصر ذكر الله تعالى أن جزاء المطيع حصول النصر والفتح في الدنيا ، والثواب الجزيل في الآخرة ، وفي هذه السورة ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا والعقاب في الآخرة أو العقبى.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة المكية بالإجماع الكلام عن مصير أبي لهب عبد العزّى بن عبد المطلب ، عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومصير زوجته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية ، أخت أبي سفيان ، وهو هلاك أبي لهب عدو الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا ، ودخوله نار جهنم ؛ لشدة إيذائه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعاداته له ، وصدّه الناس عن الإيمان به.

٤٥٣

وكذلك زوجته شريكة معه في هذا العقاب ؛ لأنها كانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده ، فتكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم.

سبب نزول السورة :

ثبت في الصحيحين وغيرهما ـ واللفظ لمسلم ـ عن ابن عباس قال : «لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٤] ورهطك منهم المخلصين ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صعد الصّفا ، فهتف : يا صباحاه! فقالوا : من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد. فاجتمعوا إليه ، فقال : يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني عبد مناف ، يا بني عبد المطلب! فاجتمعوا إليه ، فقال :

«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدّقي؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبّا لك! أما جمعتنا إلا لهذا (١)! ثم قام ، فنزلت هذه السورة : «تبّت يدا أبي لهب ، وقد تبّ» كذا قرأ الأعمش وعبد الله وأبي إلى آخر السورة. وقراءة حفص : وتب أي الأول دعاء عليه ، والثاني خبر عنه.

وعن طارق المحاربي قال : «بينا أنا بسوق ذي المجاز ، إذ أنا بشاب حديث السن يقول : أيها الناس ، قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، وإذا رجل خلفه يرميه ، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ـ مؤخر القدم ـ ويقول : يا أيها الناس ، إنه كذاب فلا تصدقوه ، فقلت : من هذا؟ فقالوا : محمد ، زعم أنه نبي ، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب (٢)».

__________________

(١) وفي رواية البخاري : ألهذا جمعتنا؟

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٣٦

٤٥٤

جزاء أبي لهب وامرأته

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى

ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

الإعراب :

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ما) : إما استفهامية في موضع نصب ب (أَغْنى) أو نافية ، ومفعول (أَغْنى) محذوف ، وتقديره : ما أغنى عنه ماله شيئا.

(وَما كَسَبَ ما) : إما مصدرية ، أي وكسبه ، أو اسم موصول ، أي الذي كسبه ، فحذف العائد تخفيفا.

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ امْرَأَتُهُ) : إما معطوف على ضمير (سَيَصْلى) أي سيصلى هو وامرأته ، وجاز العطف على الضمير المرفوع ؛ لوجود الفصل ؛ لأنه يقوم مقام التأكيد في جواز العطف. وإما أنه مبتدأ مرفوع ، و (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) خبره ، على قراءة الرفع. ومن قرأ بالنصب (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) فهو منصوب على الذم ، وتقديره : أذمّ حمالة الحطب.

(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فِي جِيدِها) : حال من (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أو خبر مبتدأ مقدر.

البلاغة :

(يَدا أَبِي لَهَبٍ) مجاز مرسل ، أطلق الجزء وأراد الكل ، أي هلك.

(أَبِي لَهَبٍ ناراً ذاتَ لَهَبٍ) بينهما جناس ، فالأول كنية له ، والثاني وصف للنار. والجناس : أن يتشابه اللفظان في النطق ، ويختلفا في المعنى ، وهو نوعان : تام ، وغير تام.

(أَبِي لَهَبٍ) كنية للتصغير والتحقير ، كأبي جهل.

(حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) استعارة ، أستعير هذا التعبير للنميمة بين الناس.

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) منصوب على الذم ، أي أخص بالذم حمالة الحطب.

(وَتَبَ) ، (كَسَبَ) ، (لَهَبٍ) ، (الْحَطَبِ) توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

٤٥٥

المفردات اللغوية :

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) أي هلك وخسر ، قال تعالى : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) [غافر ٤٠ / ٣٧] وهذه الجملة دعاء عليه ، وأبو لهب : أحد أعمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسمه : عبد العزّى بن عبد المطلب ، وكنيته : أبو عتيبة ، وإنما كني أبا لهب لحمرة وجهه. (وَتَبَ) أي قد خسر ، وهذا خبر بعد الدعاء عليه ، كقولهم : أهلكه الله وقد هلك ، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه. (وَما كَسَبَ) أي وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح ، وقوله : (ما أَغْنى) أي يغني.

(سَيَصْلى ناراً) سيجد حرها ويذوق وبالها. (ذاتَ لَهَبٍ) لهب النار : ما يسطع منها عند اشتعالها ، وذات لهب : أي تلهب وتوقد ، وهي مناسبة لكنيته بأبي لهب : أي تلهب وجهه إشراقا وحمرة. (وَامْرَأَتُهُ) هي من سادات قريش ، وكنيتها : أم جميل ، واسمها : أروى بنت حرب بن أمية ، وهي أخت أبي سفيان. (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي تحمله حقيقة ، فتحمل حزمة الشوك والحسك ، وتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو تحمل حطب جهنم ؛ لأنها تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحمل زوجها على إيذائه. أو أن التعبير كناية عن النميمة التي توقد الخصومة بين الناس.

(فِي جِيدِها) في عنقها. (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) حبل مفتول من ليف ، أي مما مسّد أي فتل وربط الحبل على هذه الصورة : تصوير لها بصورة الحطّابة التي تحمل الحزمة ، وتربطها في عنقها ، تحقيرا لشأنها ، أو بيانا لحالها في نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع ، وفي جيدها سلسلة من النار.

التفسير والبيان :

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ، وَتَبَ) (١) أي هلكت يداه وخسرت وخابت ، وهو مجاز عن جملته ، أي هلك وخسر ، وهذا دعاء عليه بالهلاك والخسران. ثم قال : (وَتَبَ) أي وقد وقع فعلا هلاكه ، وهذا خبر من الله عنه ، فقد خسر الدنيا والآخرة. وأبو لهب : عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب ، وقد كان كثير الأذى والبغض والازدراء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولدينه.

__________________

(١) لم يقل في أول هذه السورة قل كما في سورة الكافرين ، حتى لا يشافه عمه بما يزيد في غضبه ، رعاية للحرمة ، وتحقيقا لمبدأ الرحمة.

٤٥٦

ثم أخبر الله تعالى عن حال أبي لهب في الماضي ، فقال :

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي لم يدفع عنه يوم القيامة ما جمع من المال ، ولا ما كسب من الأرباح والجاه والولد ، ولم يفده ذلك في دفع ما يحل به من الهلاك ، وما ينزل به من عذاب الله ، بسبب شدة معاداته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدّه الناس عن الإيمان به ، فإنه كان يسير وراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا قال شيئا كذّبه.

روى الإمام أحمد عن ربيعة بن عبّاد من بني الدّيل ، وكان جاهليا فأسلم ، قال : «رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز ، وهو يقول : يا أيها الناس ، قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، والناس مجتمعون عليه ، ووراءه رجل وضيء الوجه ، أحول ، ذو غديرتين يقول : إنه صابئ كاذب ، يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه ، فقالوا : هذا عمه أبو لهب». والفرق بين المال والكسب : أن الأول رأس المال ، والثاني هو الربح.

ثم ذكر الله تعالى عقابه في المستقبل ، فقال :

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي سيذوق حرّ نار جهنم ذات اللهب المشتعل المتوقد ، أو سوف يعذب في النار الملتهبة التي تحرق جلده ، وهي نار جهنم. قال أبو حيان : والسين للاستقبال ، وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة ، وإن تراخى وقته (١).

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي وتصلى امرأته أيضا نارا ذات لهب ، وهي أم جميل ، أروى بنت حرب ، أخت أبي سفيان ، كانت تحمل الشوك والغضى ، وتطرحه بالليل على طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : المراد أنها كانت تمشي بالنميمة ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٥٢٦

٤٥٧

فيقال للمشاء بالنمائم ، المفسد بين الناس : يحمل الحطب بينهم ، أي يوقد بينهم النائرة ، ويورّث الشر ، وهذا رأي الكثيرين.

قال أبو حيان : والظاهر أنها كانت تحمل الحطب ، أي ما فيه شوك ، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، لتعقرهم ، فذمت بذلك ، وسميت حمالة الحطب.

(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي في عنقها حبل مفتول من الليف ، من مسد النار ، أي مما مسّد من حبالها أي فتل من سلاسل النار. وقد صورها الله في حالة العذاب بنار جهنم بصورة حالتها في الدنيا عند النميمة ، وحينما كانت تحمل حزمة الشوك وتربطها في جيدها ، ثم تلقيها في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن كل مجرم يعذب بما يجانس حاله في جرمه. وقيل : صورها الله في الدنيا بصورة حطّابة ممتهنة احتقارا لها ، وإيذاء لها ولزوجها.

ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر ، وهو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ، وبيدها فهر (حجر) فقالت : بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلنّ وأفعلنّ ، وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال لها : هل تري معي أحدا؟ فقالت : أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك (١).

والظاهر هو المعنى الأول ؛ قال سعيد بن المسيّب : كانت لأم جميل قلادة فاخرة ، فقالت : واللات والعزّى لأنفقنّها في عداوة محمد ، فأعقبها الله حبلا في جيدها من مسد النار.

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٥٢٦ وما بعدها ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٦٤ وما بعدها.

٤٥٨

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ أوضحت السورة نوع عذاب أبي لهب وزوجته أم جميل ، ومآلهما في الدارين ؛ لشدة عداوتهما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما الآيات الأولى في أبي لهب فقد تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه :

أحدها ـ الإخبار عنه بالتباب والخسار ، وبوقوع ذلك فعلا.

وثانيها ـ الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده ، وبوقوع ذلك فعلا.

وثالثها ـ الإخبار عنه بأنه من أهل النار ، وقد كان كذلك ؛ لأنه مات على الكفر.

وتكليف أبي لهب بالإيمان في حد ذاته لا مانع منه ، وإن كان الله قد علم أنه لا يؤمن ، وأخبر أيضا أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار ، قال الآمدي : أجمع الكل على جواز التكليف بما علم الله أنه لا يكون عقلا ، وعلى وقوعه شرعا ، كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل (١). وأيد ذلك الرازي في تفسيره (٢). والخلاصة : أنه كلف بتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، لا تصديقه وعدم تصديقه ، حتى يجتمع النقيضان (٣).

وأما الآيتان الأخيرتان : فتصفان عذاب أم جميل بأنها مع زوجها تصلى نار جهنم وتذوق حرها وتتلظى بلهبها ، وأنها هالكة في الدنيا ، ومعذبة في الآخرة بحبل من نار ، وسلاسل من نار جهنم تطوقها ، لإيذائها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنها كانت في غاية العداوة له ، ولإفسادها بين الناس بالنميمة وتأجيج نار العداوة بينهم.

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ٧٣

(٢) تفسير الرازي : ٣٢ / ١٧١

(٣) غرائب القرآن : ٣٠ / ٢١٤.

٤٥٩

قال الضحاك وغيره : كانت تعيّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، وهي تحتطب في حبل ، تجعله في جيدها من ليف ، فخنقها الله جل وعزّ به في الدنيا ، فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار.

٢ ـ قال العلماء : في هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ، لم يقيض لهما أن يؤمنا ، ولا واحد منهما ، لا ظاهرا ولا باطنا ، ولا سرا ولا علنا ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٦٥

٤٦٠