التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

الكافر المنكر الجزاء الأخروي والمنافق المرائي بعمله

وعقاب كل منهما

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

الإعراب :

(أَرَأَيْتَ) بالهمزة على الأصل ، وهو في الأظهر عند ابن الأنباري من رؤية العين ، لا من رؤية القلب ، فيتعدى إلى مفعول واحد ، وليس في الآية إلا مفعول واحد. وقرئ أرأيت بتخفيف الهمزة ، بجعلها بين الهمزة والألف ؛ لأن حركتها الفتح. وقرئ رأيت بحذف الهمزة الأولى للتخفيف ، كما حذف في المضارع ، نحو «يرى». وقال أبو حيان : الظاهر أن (أَرَأَيْتَ) هنا هي التي بمعنى أخبرني ، فتتعدى لاثنين ، أحدهما (الَّذِي) والآخر محذوف تقديره : أليس مستحقا عذاب الله؟ أو : من هو؟

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ فَوَيْلٌ) مبتدأ : و (لِلْمُصَلِّينَ) خبره. و (الَّذِينَ) صفة الخبر ، و (هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) صلته. ولم تحصل الفائدة بالخبر ، بل بما وقع صلة الصفة ، وهو قوله (ساهُونَ) وهذا يسمى الخبر الموطئ : وهو أن معتمد الفائدة إنما كان بصفة الخبر ، لا بالخبر. مثل قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ ، تَجْهَلُونَ) [النمل ٢٧ / ٥٥] فإن قوله : (أَنْتُمْ) مبتدأ ، و (قَوْمٌ) خبره ، ومعتمد الفائدة على صفة الخبر ، لا عليه ، لأن قوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ) لم تحصل به الفائدة ، للعلم بأنهم قوم ، وإنما حصلت الفائدة بقوله : (تَجْهَلُونَ).

البلاغة :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) استفهام يراد به تشويق السامع إلى الخبر والتعجيب منه.

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) إيجاز بالحذف ، حذف منه الشرط ، أي إن أردت أن تعرفه فذلك الذي يدعّ اليتيم.

٤٢١

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) ذم وتوبيخ ، ووضع الظاهر موضع الضمير ، والأصل (فَوَيْلٌ لَهُمْ) زيادة في التقبيح ؛ لأنهم مع التكذيب ساهون عن الصلاة.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) جناس ناقص.

(ساهُونَ يُراؤُنَ الْماعُونَ) : توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات ، وكذلك (بِالدِّينِ الْمِسْكِينِ لِلْمُصَلِّينَ).

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتَ) أي هل عرفت وعلمت؟ وهو استفهام معناه التعجب وتشويق السامع إلى معرفة ما يذكر بعده. (بِالدِّينِ) بالجزاء والحساب. والمعنى العام للدين : هو النظام الإلهي للحياة المشتمل على الخضوع لما وراء المحسوس بآثار الكون الدالة على وجود الله ووحدانيته ، وبعثة الرسل ، والتصديق بعالم الآخرة. (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه بعنف عن حقه ، ويزجره زجرا عنيفا ، كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور ٥٢ / ١٣].

(وَلا يَحُضُ) لا يحث نفسه وأهله وغيرهم من الناس. (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) إطعام. (فَوَيْلٌ) خزي وعذاب وهلاك. (ساهُونَ) غافلون عن الصلاة ، يؤخرونها عن وقتها. (يُراؤُنَ) في الصلاة وغيرها ، يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليها ، والرياء : المصانعة وفعل الشيء لغير وجه الله ، إرضاء للناس. (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) كل ما يستعان وينتفع به كالإبرة والفأس والقدر والقصعة.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(أَرَأَيْتَ) قال ابن عباس : نزلت في العاص بن وائل السّهمي وقال السّدّي : نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل : في أبي جهل ، كان وصيا ليتيم ، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه ، فدفعه. وقال ابن جريج : نزلت في أبي سفيان ، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا ، فطلب منه يتيم شيئا ، فقرعه بعصاه ؛ فأنزل الله هذه السورة.

٤٢٢

نزول الآية (٤):

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) : أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) قال : نزلت في المنافقين كانوا يراءون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا ، ويتركونها إذا غابوا ، ويمنعونهم العاريّة ، أي الشيء المستعار.

التفسير والبيان :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي أأبصرت يا محمد الذي يكذب بالحساب والجزاء؟ أو بالمعاد والجزاء والثواب. وقوله : (أَرَأَيْتَ) وإن كان في صورة استفهام ، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب. وهذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر.

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا ، ويزجره زجرا عنيفا ، ويظلمه حقه ولا يحسن إليه ، وقد كان عرب الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان.

ولا يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على إطعام المسكين المحتاج ، بخلا بالمال ، كما قال تعالى : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر ٨٩ / ١٧ ـ ١٨] أي الفقير الذي لا يملك شيئا ، أو لا يجد كفايته.

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي فخزي وعذاب للمنافقين الذي يؤدون الصلاة أحيانا تظاهرا ، والذين هم غافلون عنها ، غير مبالين بها ، لا يرجون بصلاتهم ثوابا إن صلوا ، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا ، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها ، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء ، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا.

ولم يقل : في صلاتهم ساهون ؛ لأن السهو في أثناء الصلاة مغتفر معفو عنه لأنه غير اختياري ، وإنما قال : عن صلاتهم ساهون بتأخيرها عن وقتها رأسا ، أو فعلها مع قلة مبالاة بها ، كقوله : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ،

٤٢٣

يُراؤُنَ النَّاسَ) [النساء ٤ / ١٤٢]. ويجوز أن يطلق لفظ «المصلين» على تاركي الصلاة ، بناء على أنهم من جملة المكلفين بالصلاة.

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أي إن أولئك الساهين عن صلاتهم هم الذين يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا ، أو يراءون الناس بكل ما عملوا من أعمال البر ، ليثنوا عليهم. قال الزمخشري : المراءاة : هي مفاعلة من الإراءة ؛ لأن المرائي يري الناس عمله ، وهم يرونه الثناء عليه ، والإعجاب به.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سمّع الناس بعمله ، سمّع الله به سامع خلقه ، وحقّره ، وصغّره».

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي يمنعون العارية وفعل الخير ، و (الْماعُونَ) اسم لكل ما يتعاوره الناس بينهم ، من الدّلو والفأس والقدّوم والقدر ومتاع البيت ، وما لا يمنع عادة ، كالماء والملح ، مما ينسب مانعة إلى الخسة ولؤم الطبع وسوء الخلق.

فهؤلاء المنافقون لا أحسنوا عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه ، حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به ، مع بقاء عينه ، ورجوعه إليهم ، وهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى.

روى النسائي وغيره عن عبد الله بن مسعود قال : كل معروف صدقة ، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارية الدّلو والقدر.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ ذم المكذب بالجزاء والحساب في الآخرة ، واللفظ عام لا يقتصر على من كان سبب نزول الآية.

٤٢٤

٢ ـ من صفات المكذب بالجزاء الأخروي وقبائحه : زجر اليتيم وطرده ودفعه عن حقه وظلمه وقهره ، وترك الخير وعدم الحث أو عدم الأمر على إطعام الفقير والمسكين ، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وليس الذم عاما ، حتى يتناول من تركه عجزا ، ولكنهم كانوا يبخلون مع الغنى ، ويعتذرون لأنفسهم.

٣ ـ الويل ، أي العذاب والتهديد العظيم لمن فعل ثلاثة أمور : أحدها ـ السهو عن الصلاة ، وثانيها ـ فعل المراءاة ، وثالثها ـ منع الماعون.

وقد جمع المنافقون الأوصاف الثلاثة : ترك الصلاة ، والرياء ، والبخل بالمال.

والسهو عن الصلاة : تركها رأسا ، أو فعلها مع قلة المبالاة بها كما تقدم.

أما السهو في الصلاة فهو أمر غير اختياري ، فلا يدخل تحت التكليف. وقد ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سها في الصلاة ، وشرع سجود السهو لمن سها. وكذلك سها الصحابة.

وحقيقة الرياء : طلب ما في الدنيا بالعبادة ، وطلب المنزلة في قلوب الناس ، وللرياء أنواع ، وأولها : تحسين السّمت (الهيئة) مع إرادة الجاه وثناء الناس. وثانيها : لبس الثياب القصار أو الخشنة ، ليأخذ بذلك هيبة الزهد في الدنيا. وثالثها : الرياء بالقول بإظهار السخط على أهل الدنيا ، وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوته من فعل الخير والطاعة.

ورابعها : إظهار الصلاة والصدقة ، أو تحسين الصلاة لأجل رؤية الناس له (١).

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٩٧٢ ، تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢١٢ ـ ٢١٣

٤٢٥

والفرق بين المنافق والمرائي : أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر ، والمرائي : المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين (١).

وقال العلماء : لا بأس بالإراءة إذا كان الغرض الاقتداء ، أو نفي التهمة. واجتناب الرياء صعب إلا على من راض نفسه ، وحملها على الإخلاص. ومن هنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء ، في الليلة المظلمة ، على المسح الأسود» (٢) أي البلاس المصنوع من الشعر.

والماعون عند أكثر المفسرين : اسم جامع لما لا يمنع في العادة ، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال ، ولا ينسب سائله إلى لؤم ، بل ينسب مانعة إلى اللؤم والبخل ، كالفأس والقدر والدّلو والمقدحة والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الماء والملح والنار ، لما روى ابن ماجه عن أبي هريرة : «ثلاثة لا يمنعن : الماء والنار والملح». ومن ذلك أن يلتمس جارك الخبز من تنورك ، أو أن يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم (٣). وقيل : منع الماعون : منع زكاة أموالهم.

وبالرغم من أن هذه الأوصاف واضحة في المنافقين ، فإن بعضها قد يوجد في المسلم الصادق الإسلام ، وحينئذ يلحقه جزء من التوبيخ ، كالصلاة إذا تركها ، ومنع الماعون إذا تعين ، ويكون منعا قبيحا مخلّا بالمروءة في غير حال الضرورة.

٤ ـ في الآيتين حول السهو عن الصلاة ومنع الماعون إشارة إلى أن الصلاة لله عزوجل ، والماعون للخلق أو للناس ، فمن ترك الصلاة لم يراع جانب تعظيم أمر الله ، ومن منع الماعون لم يراع جانب الشفقة على خلق الله ، وهذا كمال الشقاوة ، نعوذ بالله منها.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ١١٥

(٢) تفسير الكشاف : ٣ / ٣٦٢

(٣) غرائب القرآن : ٣٠ / ١٩١

٤٢٦

والخلاصة : وصف الله الكفار والمنافقين في هذه السورة بأربع صفات : البخل ، وترك الصلاة ، والرياء فيها ، ومنع الزكاة والخير.

٤٢٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الكوثر

مكيّة ، وهي ثلاث آيات.

مكيتها أو مدنيتها :

هذه السورة مكية في المشهور وقول الجمهور ، وقال الحسن وعكرمة وقتادة : مدنية ، وهو رأي ابن كثير.

تسميتها :

سميت سورة الكوثر لافتتاحها بقول الله تعالى مخاطبا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة ، ومنه : نهر الكوثر في الجنة.

مناسبتها لما قبلها :

وصف الله الكفار والمنافقين الذين يكذبون بالدين أي بالجزاء الأخروي بأربع صفات : البخل في قوله : (يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) وترك الصلاة في قوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ). والرياء أو المراءاة في الصلاة في قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) ومنع الخير والزكاة في قوله : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ).

وذكر الله تعالى في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر أنه أعطاه الكوثر في مقابلة البخل في قوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي الخير الكثير الدائم ، فأعط أنت الكثير ولا تبخل ، وأمره بالمواظبة على الصلاة : (فَصَلِ) أي دم على الصلاة في مقابلة ترك الصلاة ، وأمره

٤٢٨

بالإخلاص في الصلاة في قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أي لرضا ربك ، لا لمراءاة الناس ، في مقابلة المراءاة في الصلاة ، وأمره بالتصدق بلحم الأضاحي على الفقراء ، في مقابلة منع الماعون (١).

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة المكية الحديث عن مقاصد ثلاثة هي :

١ ـ بيان فضل الله الكريم وامتنانه على نبيه الرحيم بإعطائه الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومنه نهر الكوثر في الجنة.

٢ ـ أمر النبي وكذا أمته بالمواظبة على الصلاة ، والإخلاص فيها ، ونحر الأضاحي شكرا لله تعالى.

٣ ـ بشارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنصره على أعدائه ، وبخزيهم وإذلالهم وحقارتهم ، بسبب انقطاعهم عن كل خير في الدنيا والآخرة.

فضلها :

أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : «أغفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسما ، إما قال لهم وإما قالوا له : لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه أنزلت علي آنفا سورة ، فقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) حتى ختمها ، فقال : أتدرون ما الكوثر؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هو نهر أعطانيه ربي عزوجل في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب ، يختلج العبد منهم ، فأقول : يا رب ، إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

وأخرج مسلم ـ واللفظ له ـ وأبو داود والنسائي عن أنس قال : «بينا

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ١١٧

٤٢٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا في المسجد ، إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه مبتسما ، قلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : لقد أنزلت علي آنفا سورة ، فقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ثم قال : أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عزوجل ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم في السماء ، فيختلج (١) العبد منهم ، فأقول : رب إنه من أمتي ، فيقول : إنك لا تدري ما أحدث بعدك».

سبب نزول السورة :

أخرج البزار وغيره بسند صحيح عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة ، فقالت له قريش : أنت سيدهم ، ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السقاية ، وأهل السدانة! قال : أنتم خير منه ، فنزلت : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن عكرمة قال : لما أوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت قريش : بتر محمد منا ، فنزلت : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال : كانت قريش تقول إذا مات ذكور الرجل : بتر فلان ، فلما مات ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال العاصي بن وائل : بتر محمد ، فنزلت. وأخرج البيهقي في الدلائل مثله عن محمد بن علي ، وسمى الولد : القاسم ، وأخرج عن مجاهد قال : نزلت في العاصي بن وائل ، وذلك أنه قال : أنا شانئ محمد.

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قالت : نزلت يوم الحديبية ، أتاه جبريل ، فقال : انحر واركع ، فقام ، وخطب

__________________

(١) أي ينتزع ويقتطع.

٤٣٠

خطبة الفطر والنحر ، ثم ركع ركعتين ، ثم انصرف إلى البدن ، فنحرها. لكن فيه غرابة شديدة كما قال السيوطي.

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : بلغني أن إبراهيم ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مات ، قالت قريش : أصبح محمدا بترا ، فغاظه ذلك ، فنزلت : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) تعزية له.

والخلاصة : كان سبب نزول هذه السورة هو استضعاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستصغار أتباعه ، والشماتة بموت أولاده الذكور ، ابنه القاسم بمكة ، وإبراهيم بالمدينة ، والفرح بوقوع شدة أو محنة بالمؤمنين ، فنزلت هذه السورة إعلاما بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوي منتصر ، وأتباعه هم الغالبون ، وأن موت أبناء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يضعف من شأنه ، وأن مبغضيه هم المنقطعون الذين لن يبقى لهم ذكر وسمعة ، البعيدون عن كل خير.

المنح المعطاة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

الإعراب :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إِنَّا) أصله : إننا ، فحذفت إحدى النونات استثقالا لاجتماع الأمثال ، وذهب الأكثرون إلى أن المحذوفة هي الوسطى.

والكوثر : فوعل من الكثرة ، والواو فيه زائدة ، وهو نهر في الجنة ، وسمي كوثرا لكثرة مائه ، ورجل كوثر : كثير العطايا والخير.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ هُوَ) إما ضمير فصل لا موضع له من الإعراب ، و (الْأَبْتَرُ) خبر (إِنَ) ، أو مبتدأ ، و (الْأَبْتَرُ) خبره ، والمبتدأ والخبر : خبر (إِنَ).

٤٣١

البلاغة :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ إِنَّا) بصيغة الجمع الدالة على التعظيم. وفيه تصدير الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم ؛ لأن أصلها : إن ونحن. وعبر بصيغة الماضي المفيدة للوقوع. (أَعْطَيْناكَ) ولم يقل : سنعطيك ، للدلالة على تحقق وقوع الوعد مبالغة ، كأنه حدث ووقع.

(الْكَوْثَرَ) : مبالغة.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ) الإضافة للتكريم والتشريف.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) إفادة الحصر.

(الْكَوْثَرَ هُوَ الْأَبْتَرُ) مطابقة أو طباق ؛ لأن (الْكَوْثَرَ) الخير الكثير ، و (الْأَبْتَرُ) المنقطع عن كل خير.

المفردات اللغوية :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ) يا محمد وقرئ (أنطيناك) (الْكَوْثَرَ) المفرط في كثرة الخير من العلم والعمل وشرف الدارين بالنبوة والقرآن والدين الحق والشفاعة ونحوها ، ومنه نهر في الجنة كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الإمام أحمد ومسلم ومن معهما في الحديث المتقدم عن أنس : أنه «نهر في الجنة ، وعدنيه ربي ، فيه خير كثير ، أحلى من العسل ، وأبيض من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزّبد ، حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة ، لا يظمأ من شرب منه» وقيل : حوض في الجنة.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أي داوم على الصلاة ، خالصا لوجه الله ، شكرا لإنعامه ، وقيل : المراد صلاة عيد النحر. (وَانْحَرْ) النّسك أو الهدي أو الأضحية ، وتصدق على المحاويج (المحتاجين). (شانِئَكَ) مبغضك. (هُوَ الْأَبْتَرُ) المنقطع عن كل خير ، أو المنقطع العقب ، أي الذي لا عقب له ، إذ لا يبقى له نسل ، ولا حسن ذكر ، وأما أنت فتبقى ذرّيتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ، ولك في الآخرة مالا يوصف.

التفسير والبيان :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي منحناك الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى النهاية أو الغاية ، ومنه نهر في الجنة ، جعله الله كرامة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته. وهذا رد على الأعداء الذين استخفوا به واستقلوه ، ووصف مناقض لما عليه أهل الكفر والنفاق من البخل.

٤٣٢

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك نهر الكوثر ، فداوم على صلاتك المفروضة والنافلة ، وأدّها خالصة لوجه ربك ، وانحر ذبيحتك وأضحيتك وما هو نسك لك وهو الهدي (شاة أو بعير مقدّم للحرم) وغير ذلك من الذبائح لله تعالى وعلى اسم الله وحده لا شريك له ، فإنه هو الذي تعهدك بالتربية وأسبغ عليك نعمه دون سواه ، كما جاء في آية أخرى آمرا له : (قُلْ : إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام ٦ / ١٦٢ ـ ١٦٣].

وهذا على نقيض فعل المشركين الذين كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ، فأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكون صلاته ونحره له ، وهو أيضا نقيض فعل المنافقين المراءين.

وقال قتادة وعطاء وعكرمة : المراد صلاة العيد ، ونحر الأضحية.

قال ابن كثير : الصحيح أن المراد بالنحر ذبح المناسك ، ولهذا جاء ففي حديث البراء بن عازب عند البخاري ومسلم : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي العيد ، ثم ينحر نسكه ، ويقول : من صلّى صلاتنا ، ونسك ونسكنا ، فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له» فقام أبو بردة بن نيار ، فقال : يا رسول الله ، إني نسكت شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهي فيه اللحم قال : شاتك شاة لحم ، قال : فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين ، أفتجزئ عني؟ قال : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك».

وقال ابن جرير في تفسير الآية : والصواب قول من قال : إن معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك ، خالصا دون ما سواه ، من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك ، اجعله له دون الأوثان ، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفاء له ، وخصك به.

٤٣٣

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي إن مبغضك يا محمد ، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع عن خيري الدنيا والآخرة ، والذي لا يبقى ذكره بعد موته. وهذا رد على ما قال بعض المشركين وهو العاص بن وائل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مات ابنه عبد الله من خديجة : إنه أبتر ، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير. والأبتر من الرجال : الذي لا ولد له. وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل. وهذا يعم جميع من اتصف بعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن ذكر في سبب النزول وغيرهم. قال الحسن البصري رحمه‌الله : عنى المشركون بكونه أبتر : أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه ، والله بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت السورة على ما يأتي :

١ ـ أعطى الله عزوجل نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناقب كثيرة ، وخيرا كثيرا عظيما بالغا حد النهاية ، ومنه نهر في الجنة ، كما روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي عن أنس.

وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك. وماؤه أحلى من العسل ، وأبيض من الثلج» وقال : هذا حديث حسن صحيح.

وقيل : إنه حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف ، كما جاء في حديث مسلم المتقدم عن أنس.

وهذان القولان هما أصح الأقوال ، فيكون الكوثر شاملا نهرا في الجنة ، وحوضا ترد عليه أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة.

٤٣٤

٢ ـ أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بأداء الصلوات المفروضة والنوافل خالصة لوجه الله تعالى ، دون مشاركة أحد سواه ، وأمرهم أيضا بذبح المناسك مما يهدى إلى الحرم والأضاحي وجميع الذبائح لله تعالى ، وعلى اسم الله وحده لا شريك له.

٣ ـ إن مبغضي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من شرع ربه هم المنقطعون عن خيري الدنيا والآخرة ، والذين لا يبقى لهم ذكر مسموع بعد موتهم ؛ لأنهم لم يؤمنوا برسالة الحق ، ولم يعملوا من أجل الحق والخير المحض لله سبحانه وتعالى.

هذا .. وقد ذكر الرازي رحمه‌الله أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور ، وكالأصل لما بعدها من السور ، وأورد ما شرف الله به نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته من الفضائل والمزايا والمناقب في سورة الأضحى والانشراح والتين والعلق والقدر والبينة والزلزال والعاديات والقارعة والتكاثر والعصر والهمزة والفيل وقريش ، ثم الكوثر ، فليرجع إليه ، فإنه كلام رائع (١).

وروي عن علي رضي‌الله‌عنه فيما خرّجه الدارقطني في قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة. وقد اختلف المالكية في هذه الهيئة ، والصحيح كما قال القرطبي أن المصلي يفعل ذلك في الفريضة والنافلة ؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضع يده اليمنى على اليسرى ، من حديث وائل بن حجر وغيره. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق والشافعي وأصحاب الرأي. واستحب جماعة إرسال اليد (٢).

والموضع الذي توضع عليه اليد مختلف فيه ، فروي عن علي بن أبي طالب أنه وضعهما على الصدر. وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل : فوق السّرّة ، وقال : لا بأس إن كانت تحت السرة.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ١١٨ ـ ١١٩

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٢٠ وما بعدها.

٤٣٥

وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والسجود فمختلف فيه أيضا. والصواب ما في الصحيحين من حديث ابن عمر ، قال : «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه ، حتى تكونا حذو منكبيه ، ثم يكبر ، وكان يفعل ذلك حين يكبّر للركوع ، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع ، ويقول : سمع الله لمن حمده ، ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود». قال ابن المنذر : وهذا قول الليث بن سعد ، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول ، وبه أقول ؛ لأنه الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقالت طائفة : يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة ، ولا يرفع فيما سوى ذلك. هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي (١).

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.

٤٣٦

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الكافرون

مكيّة ، وهي ست آيات.

تسميتها :

سميت سورة الكافرون لأن الله تعالى أمر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد ما يعبدون من الأصنام والأوثان : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ). وتسمى أيضا سورة المنابذة ، وسورة الإخلاص ، والمقشقشة.

مناسبتها لما قبلها :

أمر الله نبيه في السورة السابقة بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وفي هذه السورة سورة التوحيد والبراءة من الشرك تصريح باستقلال عبادته عن عبادة الكفار ، فهو لا يعبد إلا ربه ، ولا يعبد ما يعبدون من الأوثان والأصنام ، وبالغ في ذلك فكرّره وأكّده ، وانتهى إلى أن له دينه ، ولهم دينهم.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المكية ـ سورة البراءة من عمل المشركين والإخلاص في العمل لله تعالى ، وضعت الحد الفاصل النهائي بين الإيمان والكفر ، وبين أهل الإيمان وعبدة الأوثان ، فحينما طلب المشركون المهادنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يعبد آلهتهم سنة ، ويعبدوا إلهه سنة ، نزلت السورة تقطع أطماع الكفار الرخيصة ، وتفصل النزاع بين فريقي المؤمنين والكافرين إلى الأبد.

٤٣٧

فضلها :

ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهذه السورة وب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في ركعتي الطواف.

وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وروي هذا أيضا عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقدم تقدم في سورة الزلزال في حديث ابن عباس عند الترمذي أنها تعدل ربع القرآن ، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن.

وروى أبو القاسم الطبراني عن جبلة بن حارثة ـ وهو أخو زيد بن حارثة ـ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، حتى تمر بآخرها ، فإنها براءة من الشرك». وروى الإمام أحمد مثل ذلك عن الحارث بن جبلة. والخلاصة : ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهذه السورة ، وب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في ركعتي الطواف ، وفي ركعتي الفجر ، والركعتين بعد المغرب ، ويوتر بسبح ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

سبب نزولها :

أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس : «أن قريشا دعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن يعطوه مالا ، فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء ، فقالوا : هذا لك يا محمد ، وتكفّ عن شتم آلهتنا ، ولا تذكرها بسوء ، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة ، قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي ، فأنزل الله : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخر السورة ، وأنزل : (قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر ٣٩ / ٦٤]».

٤٣٨

وأخرج عبد الرزاق عن وهب قال : قالت كفار قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن سرّك أن تتبعنا عاما ، ونرجع إلى دينك عاما ، فأنزل الله : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخر السورة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن ميناء قال : لقي الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأمية بن خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا محمد ، هلمّ فلتعبد ما نعبد ، ونعبد ما تعبد ، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فأنزل الله : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ).

ويؤيد هذا ما ذكره النيسابوري : أنها نزلت في رهط من قريش ، قالوا : يا محمد ، هلمّ ، اتبع ديننا ونتّبع دينك ، تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيرا مما في أيدينا قد شرّكناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يدك ، قد شركت في أمرنا ، وأخذت بحظك ، فقال : معاذ الله أن أشرك به غيره ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخر السورة ، فغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد الحرام ، وفيه الملأ من قريش ، فقرأها عليهم حتى فرغ من السورة ، فأيسوا منه عند ذلك (١).

وذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس : أن سبب نزولها «أن الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ؛ لقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا محمد ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله ؛ فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا ، كنا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك ، كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فأنزل الله عزوجل : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (٢)».

__________________

(١) أسباب النزول للنيسابوري الواحدي : ص ٢٦١

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٢٥

٤٣٩

سورة البراءة من الشرك والكفر وأعمال المشركين

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

الإعراب :

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ما) بمعنى الذي في موضع نصب ب (أَعْبُدُ) و (تَعْبُدُونَ) صلة (الذي) والعائد محذوف ، تقديره : ما تعبدونه. ويجوز أن تكون (ما) مصدرية ، فلا تفتقر إلى عائد.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) قال : (ما أَعْبُدُ) ولم يقل (من) لمطابقة ما قبله وما بعده. وقيل : (ما) بمعنى (من).

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ما) في الوضعين في موضع نصب ؛ لأنها مفعول ما قبلها ، وهما إما موصولة أو مصدرية مثل (ما) الأولى.

البلاغة :

(يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) خطاب بالوصف للتوبيخ والتشنيع.

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) طباق السلب ، فالأول نفي والثاني إثبات.

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) و (لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) مقابلة بين الجملتين في الاستقبال.

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) مقابلة بين الجملتين في الحال أو الماضي.

وفي هذه المقابلة نفي لعبادة الأصنام في الحال والاستقبال.

(يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) توافق الفواصل في الحرف الأخير.

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) يعني كفرة مخصوصين قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون ، وهم زعماء الشرك في مكة. (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي في المستقبل ، فإن (لا) لا تدخل إلا على مضارع

٤٤٠