التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وهي أيضا كائنة في أعمدة ممددة طويلة موثّقة. قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ، ثم شدّت بأوتاد من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح.

والآية تفيد المبالغة في العذاب بقوله : (لَيُنْبَذَنَ) أي أنه موضع له قعر عميق جدا كالبئر ، وأن أبوابها لا تفتح ليزيد في حسرتهم ، وتغلق إغلاقا محكما للتيئيس من الخروج منها ، وممددة في أعمدة دائمة اللهب ، فلا أمل في إطفائها أو تخفيف شدة حرارتها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الخزي والعذاب والهلكة لكلّ مغتاب عيّاب طعّان للناس.

قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرار عباد الله تعالى المشاؤون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون البراء العيب» (١).

٢ ـ كأن سبب الهمز واللمز والترفع على الناس وازدرائهم هو المال وطول الأمل ، لأن الغنى يورث الإعجاب والكبر ، وعدّ المال من غير ضرورة دليل على المتعة النفسية والزخرفة الدنية ، والانشغال عن السعادة الباقية ، ولأن المال يطول الأمل ، ويمنّي بالأماني البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلة صاحب المال يحسب أن ماله يتركه خالدا في الدنيا.

٣ ـ ردع الله تعالى عن كل هذه المزاعم والتحسبات ، فالمال لا يرفع القدر ، ولا يقتضي الطعن بالآخرين ، وليس المال كما يظن مخلّدا في الدنيا ، بل المخلّد هو العلم والعمل ، كما قال علي رضي‌الله‌عنه : مات خزّان المال ، وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٨١

٤٠١

٤ ـ حدد الله تعالى عقاب الهمزة اللمزة جامع المال حبّا فيه لذاته ، وهو الطرح أو الإلقاء في نار جهنم التي تحطم كل ما يلقى فيها ، وهي نار الله الموقدة غير الخامدة ، التي أعدها الله للعصاة ، والتي تأكل جميع ما في الأجساد ، حتى تبلغ الفؤاد ، ثم يخلقون خلقا جديدا ، فترجع تأكلهم.

وهي مغلقة الأبواب ، مطبقة عليهم ، حال كونهم موثقين بأعمدة ، وهي في أعمدة طوال تلتف بهم من كل جانب.

روى خالد بن أبي عمران عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أن النار تأكل أهلها ، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم ـ أي تعلوها وتغلبها ـ انتهت ، ثم إذا صدروا تعود ، فذلك قوله تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)].

٤٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفيل

مكيّة ، وهي خمس آيات.

تسميتها :

سميت سورة الفيل لافتتاحها بالتذكير بقصة أصحاب الفيل : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ)؟ أي ألم تعلم علم اليقين ما ذا صنع ربّك العظيم القدير بأبرهة الحبشي قائد اليمن وأتباعه الذين أرادوا هدم البيت الحرام؟!

مناسبتها لما قبلها :

ذكر الله تعالى في السورة السابقة الهمزة حال الهمزة اللمزة الذي جمع مالا ، وتعزز بماله ، وأفاد تعالى أن المال لا يغني من الله شيئا ، ثم ذكر في هذه السورة الدليل على ذلك ، بإيراد قصة أصحاب الفيل الذين كانوا أشدّ منهم قوة ، وأكثر مالا ، وأعظم عتوا ، وقد أهلكهم الله بأصغر الطير وأضعفه ، ولم يغن عنهم مالهم ولا عددهم ولا قوتهم شيئا.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المكية مقصورة على بيان قصة أصحاب الفيل الذين اعتمدوا على قوتهم وما لهم وقدرتهم على البطش بجيش جرار لا يقهر ، ثم أبادهم الله عن بكرة أبيهم ، حينما أرادوا هدم الكعبة ، بقصف من الحجارة الربانية المعلقة بأرجل طير

٤٠٣

صغار ، وجعلهم كعصف مأكول ، أي كبقايا الزرع بعد الحصاد الذي تأكله الماشية ، وتعصف به الريح في كل مكان.

أضواء من التاريخ على قصة أصحاب الفيل :

كان على اليمن قائد من قبل أصحمة النجاشي (ملك الحبشة) واسمه أبرهة بن الصباح الأشرم جدّ النجاشي الذي عاصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بنى كنيسة عظيمة سمّاها «القلّيس» ليصرف إليها حج العرب ، فقام رجل من كنانة وتغوط فيها ليلا ، فأغضبه ذلك ، وأقسم ليهدمن الكعبة ، مستغلا هذا الحادث ، ومريدا في الواقع فتح مكة لربط اليمن ببلاد الشام ، وتوسيع بلاد النصرانية.

فجهز جيشا عظيما ، مصحوبا بفيلة كثيرة قيل : اثنا عشر ، وقيل : ألف ، زيادة في الإرهاب والتخويف ، وسار حتى وصل إلى «المغمّس» موضع قرب مكة ، فأرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم ، وإنما جاء لهدم الكعبة ، فاستعظموا الأمر ، وفزعوا له ، وأرادوا محاربته ، فرأوا ألا طاقة لهم بأبرهة وجنوده ، واعتصموا بالجبال ينظرون ماذا يحدث ، واثقين بأن للبيت ربّا يحميه.

ولما اقترب الجيش من مكة أمر أبرهة بنهب أموال العرب ، وكان فيها إبل لعبد المطلب بن هاشم جدّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستاقها الجند ، وكان عددها مائتي بعير ، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وأمره أن يأتيه بأشرف قريش وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تصدّوه عن البيت ، فجاء حناطة ، فدلوه على عبد المطلب بن هاشم ، وبلّغه عن أبرهة ما قال ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلي بينه وبينه ، فو الله ما عندنا دفع عنه ، فقال له حناطة : فاذهب معي إليه ، فذهب معه ، فلما رآه أبرهة أجلّه ، وكان عبد المطلب رجلا جسيما حسن المنظر ، فنزل أبرهة عن سريره ،

٤٠٤

وأجلسه معه على البساط ، وسأله عن حاجته ، فقال : حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي.

فتعجب أبرهة ، وقال : أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه ، لا تكلمني فيه؟!

فقال له عبد المطلب : إني أنا ربّ الإبل ، وإن للبيت ربّا سيمنعه عنك ، قال : ما كان ليمتنع مني ، قال : أنت وذاك (١). وكان قد عرض عبد المطلب ومن معه من أشراف العرب على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت ، فأبى عليهم ، وردّ أبرهة على عبد المطلب إبله ، ثم رجع وأتى باب البيت ومعه نفر من قريش ، وأخذوا بحلقة باب الكعبة يدعون الله ، ويستنصرونه على أبرهة وجنده.

ثم زحف الجيش نحو البيت ودخلوا مكة ، وكان معه فيل عظيم اسمه «محمود» كلما وجهوه إلى جهة الحرم ، برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى جهة اليمن أو إلى سائر الجهات هرول.

وفي اليوم التالي وبينما عبد المطلب يدعو ، التفت ، فإذا هو بطير من نحو اليمن جهة البحر ، فقال : والله إنها لطير غريبة ، ما هي بنجدية ولا تهامية. وكان مع كل طائر أحجار تحملها بمناقيرها وأرجلها ، فألقتها عليهم ، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك. وفرّ الجيش هاربين نحو اليمن ، يتساقطون في الطريق ، وأصيب أبرهة في جسده ، وبدأت أنامله تسقط أنملة أنملة ، ولحمه يتساقط ، حتى قدموا به «صنعاء» فمات شرّ ميتة (٢).

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ١ / ٤٩ وما بعدها.

(٢) المرجع السابق : ١ / ٤٣ ـ ٥٧

٤٠٥

وكان لهذه الهزيمة أثر كبير في التاريخ وبين العرب ، فأعظموا قريشا ، وقالوا : هم أهل الله ، قاتل الله عنهم ، وكفاهم العدو ، وازدادوا تعظيما للبيت ، وإيمانا بمكانه عنه الله (١).

وأراد الله بهذا الحادث تعظيم بيته ، وإعلاء شأنه ، وتهيئة أمة العرب لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله.

وكان ذلك الحدث التاريخي المهم في عام ميلاد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سنة ٥٧٠ م ، أي كان بين عام الفيل ومبعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعون سنة. وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ، وقد بلغت حدّ التواتر حينئذ ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قصة أصحاب الفيل

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

الإعراب :

(أَلَمْ تَرَ) معناه الإيجاب أي قد علمت ؛ لأن همزة الاستفهام لما دخلت على (لَمْ) وهي حرف نفي ، والاستفهام كالنفي ، اجتمع نفيان ، فلما دخل النفي على النفي ، انقلبت إيجابا.

و (كَيْفَ) : في موضع نصب بفعل بعده ، ولا يجوز أن يعمل فيه (تَرَ) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإنما يعمل فيه ما بعده. وجملة (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) سدت مسدّ مفعولي (تَرَ) لأنها من رؤية القلب بمعنى العلم ، نحو : رأيت الله غالبا. و (رَبُّكَ) : فاعل (فَعَلَ).

__________________

(١) المرجع السابق : ص ٥٧

٤٠٦

(طَيْراً أَبابِيلَ) إما جمع لا واحد له من لفظه كأساطير ، أو واحده «إبّيل» أو إبّول ، كعجاجيل وحدها عجّول.

(كَعَصْفٍ) في موضع نصب ، على أنه مفعول ثان ل (فَجَعَلَهُمْ) أي صيّرهم.

البلاغة :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ..) الاستفهام للتقرير والتعجيب ، أي أعجب.

(فَعَلَ رَبُّكَ) إشادة بقدرة الله تعالى ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (رَبُّكَ) تشريف له.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) تشبيه مرسل مجمل ، ذكرت الأداة ، وحذف وجه الشبه.

(الْفِيلِ) ، (تَضْلِيلٍ) ، (أَبابِيلَ) ، (سِجِّيلٍ) ، (مَأْكُولٍ) توافق الفواصل في الحرف الأخير.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) أي تعلم ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو إن لم يشهد تلك الواقعة ، لكنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر أخبارها ، فكأنه رآها ، فإنها من الإرهاصات ؛ لأنها وقعت في السنة التي ولد فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (بِأَصْحابِ الْفِيلِ) أصحاب الفيل العظيم الذي كان اسمه «محمود». وهم أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي ، وجيشه الذين أرادوا هدم الكعبة لصرف الحجاج العرب عن مكة إلى كنيسة بناها أبرهة بصنعاء ، وسماها «القلّيس». فحين توجهوا لهدم الكعبة ، أرسل الله عليهم ما قصه في هذه السورة.

(أَلَمْ يَجْعَلْ) أي جعل. (كَيْدَهُمْ) مكرهم وتدبيرهم بتخريب الكعبة وتعطيلها. (فِي تَضْلِيلٍ) تضييع وإبطال وهلاك وخسارة. (طَيْراً) ما طار في الهواء ، صغيرا أو كبيرا. (أَبابِيلَ) جماعات متفرقة. (سِجِّيلٍ) طين متحجر. (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) كورق زرع يبقى بعد الحصاد ، أكلته الدواب وداسته وأفنته ، أو كتبن أكلته الدواب وراثته.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) ألم تعلم علم اليقين ، وكأنك شاهدت الواقعة ، بما صنع ربّك العظيم القدير بأصحاب الفيل ، حيث دمرهم الله ، وحمى بيته الحرام ، أفلا يجدر بقومك أن يؤمنوا بالله؟! وقد شاهد أناس

٤٠٧

منهم الواقعة ، حيث أقبل قوم من النصارى الأحباش الذين ملكوا اليمن ، إلى الحجاز ، يريدون تخريب الكعبة ، فلما قربوا من مكة ، وأرادوا دخولها ، أرسل الله عليهم جماعات من الطيور محمّلة بحجارة ، ألقوها عليهم ، فأهلكتهم.

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) أي أفسد خطتهم ومؤامرتهم ، والمعنى : ألم تر أن ربك جعل مكرهم وتدبيرهم وسعيهم في تخريب الكعبة ، واستباحة أهلها ، في تضليل عما قصدوا إليه ، وفي ضياع وإبطال ، حتى لم يصلوا إلى البيت ، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم ، بل أهلكهم الله تعالى. والكيد : هو إرادة مضرة بالغير على الخفية.

وإذا علم قومك هذا الأمر ، فليخافوا أن يعاقبهم الله بعقوبة مماثلة ، ما داموا يصرون على الكفر بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه الكريم ، ويصدون الناس عن سبيل الإيمان الحق باللهعزوجل.

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي وبعث الله عليهم جماعات متفرقة من الطيور السود ، جاءت من قبل البحر فوجا فوجا ، مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، لا يصيب شيئا إلا دمره وهشمه.

وهي حجارة صغيرة من طين متحجر ، كالحمصة وفوق العدسة ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها ، خرج به الجدري أو الحصبة ، حتى هلكوا.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي فجعلهم فضلات وبقايا مثل ورق الزرع أو الشجر إذا أكلته الدواب ، ثم راثته ، فأهلكهم جميعا.

أخرج البخاري أنه : «لما أطل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش ، بركت ناقته ، فزجروها ، فألحت ، فقالوا : خلأت

٤٠٨

القصواء ، أي حرنت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل». ثم قال : والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها ، ثم زجرها ، فقامت».

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم فتح مكة : «إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فيبلّغ الشاهد الغائب».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ هذا الخطاب ، وإن كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه عام ، أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ أي قد رأيتم ذلك ، وعرفتم موضع منتي عليكم ، فما لكم لا تؤمنون؟!

٢ ـ دلت الواقعة على قدرة الله الصانع وعلمه وحكمته ، وعلى شرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة ، تأسيسا لنبوتهم ، وإرهاصا لها ، ولذلك قالوا : كانت الغمامة تظله (١). قال أبو حيان : كان صرف ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إرهاصا بنبوته ؛ إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول من خوارق العادات ، والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقد ظلل (أحبط) كيدهم ، وأهلكهم بأضعف جنوده ، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل (٢).

٣ ـ دلت القصة أيضا على تكريم الله للكعبة ، وإنعامه على قريش بدفع

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٩٧

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٥١٢

٤٠٩

العدو عنهم ، فكان يجب عليهم المبادرة إلى الإيمان برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبادة الله ، وشكره على نعمائه.

٤ ـ كان إرسال الطير عليهم إرهاصا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما بعد تقرير نبوته فلم يكن هناك حاجة إلى الإرهاص ، لذا لم يعذب الحجّاج بتخريب البيت ، ولأنه لم يكن قاصدا التخريب ، وإنما أراد شيئا آخر ، وهو قتل ابن الزبير.

٥ ـ شبه تدميرهم وإهلاكهم وصيرورتهم بعد قصف الطير بالحجارة بصورة قبيحة حقيرة ، تدل على حقارة كفرهم ، وصغار نفوسهم ، وهوانهم على الله ، وتلك الصورة ورق يابس أو تبن تعصف به الريح ، أكلته الدواب وراثته ، أي كفضلات البهائم ، وذلك يدل أيضا على فنائهم التام ؛ لأنه أراد تشبيه تقطيع أوصالهم بتفريق أجزاء الروث.

إلا أن هذا التشبيه جاء على منهج القرآن في أدبه الرفيع ، مثل قوله تعالى في تشبيه عيسى وأمه : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة ٥ / ٧٥].

وإنما سلط الله العذاب على أصحاب الفيل ، ولم يسلطه على كفار قريش الذين ملؤوا الكعبة أوثانا ؛ لأن أصحاب الفيل قصدوا التخريب ، وهذا تعد على حق العباد ، ووضع الأوثان فيها قصدوا به التقرب إلى الله ، وهو مع ذلك تعدّ على حق الله تعالى ، وحق العباد مقدّم على حق الله تعالى.

٦ ـ قال ابن مسعود : لما رمت الطير بالحجارة ، بعث الله ريحا ، فضربت الحجارة فزادتها شدّة ، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك ، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة ، فقال :

فإنك لو رأيت ولم تريه

لدى جنب المغمّس ما لقينا

خشيت الله إذ قد بث طيرا

وظلّ سحابة مرّت علينا

وباتت كلّها تدعو بحق

كأن لها على الحبشان دينا

٤١٠

ويروى أنها لم تصبهم كلهم ، لكنها أصابت من شاء الله منهم. وقد تقدم في القصة التاريخية أن أميرهم أبرهة رجع وشرذمة قليلة معه ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وذلك للعبرة والعظة.

٧ ـ قال ابن إسحاق : لما ردّ الله الحبشة عن مكة ، عظّمت العرب قريشا وقالوا : أهل الله ، قاتل عنهم ، وكفاهم مؤونة عدوهم ؛ فكان ذلك نعمة من الله عليهم.

٤١١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة قريش

مكيّة ، وهي أربع آيات.

تسميتها :

سميت سورة قريش تذكيرا لهم بنعم الله عليهم في مطلع السورة : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ..).

مناسبتها لما قبلها :

ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ كلتا السورتين تذكير بنعم الله على أهل مكة ، فسورة الفيل تشتمل على إهلاك عدوهم الذي جاء لهدم البيت الحرام أساس مجدهم وعزهم ، وهذه السورة تذكر نعمة أخرى اجتماعية واقتصادية ، حيث حقق الله بينهم الألفة واجتماع الكلمة ، وأكرمهم بنعمة الأمن والاستقرار ، ونعمة الغنى واليسار والإمساك بزمام الاقتصاد التجاري في الحجاز ، بالقيام برحلتين صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن.

٢ ـ هذه السورة شديدة الاتصال بما قبلها ، لتعلق الجار والمجرور في أولها بآخر السورة المتقدمة : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ..) أي لإلف قريش أي أهلك الله أصحاب الفيل ، لتبقى قريش ، ولذا كانتا في مصحف أبيّ سورة واحدة. ولكن في المصحف الإمام فصلت هذه السورة عن التي قبلها ، وكتب بينهما : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

٤١٢

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة المكية تعداد نعم الله العظمى على قريش أهل مكة ، حيث جمع الله كلمتهم ، وحقق الألفة والتئام الشمل بينهم : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ومكّنهم من التنقل وحرية التجارة إلى اليمن شتاء ، وإلى الشام صيفا ، لتوفير الثروة والغنى : (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ).

وهيّأ لهم في البلد الآمن الحرام نعمة الأمن والاطمئنان والاستقرار دون نزاع من أحد : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

فضلها :

روى البيهقي في كتاب الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضّل الله قريشا بسبع خلال : أني منهم ، وأن النبوة فيهم ، والحجابة والسقاية فيهم ، وأن الله نصرهم على الفيل ، وأنهم عبدوا الله عزوجل عشر سنين لا يعبده غيرهم ، وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)». قال ابن كثير : وهو حديث غريب.

التذكير بنعم الله على قريش

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

٤١٣

الإعراب :

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) اللام في «إيلاف» إما متعلقة بفعل مقدر ، تقديره : اعجبوا لإيلاف قريش ، أو متعلقة بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي لأجل هذا ، أو متعلقة بقوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) آخر سورة الفيل. و (إِيلافِهِمْ) : مجرور على البدل من «إيلاف» الأولى ، و «إيلاف» مصدر رباعي ، وهو ألف يؤلف إيلافا. وقرئ «إلا فهم» على أنه مصدر فعل ثلاثي ، وهو (ألف يألف إلافا). و (قُرَيْشٍ) إن أردت به الحي صرفته ، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه.

و (رِحْلَةَ) منصوب ؛ لأنه معمول المصدر المضاف وهو إيلافهم ، مثل (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) [البقرة ٢ / ٢٥١] [الحج ٢٢ / ٤٠].

البلاغة :

(الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) بينهما طباق ، وكذلك بين (جُوعٍ) و (خَوْفٍ).

(رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) الإضافة للتكريم والتشريف.

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) وقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) تقديم ما حقه التأخير ، والأصل : ليعبدوا ربّ هذا البيت ، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فقدم الإيلاف تذكيرا بالنعمة.

(جُوعٍ خَوْفٍ) التنكير لبيان شدتهما ، أي جوع وخوف شديدين.

المفردات اللغوية :

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) يقال : آلف الشيء إيلافا ، وألف إلافا وإلفا ، أي لزمه وعكف عليه ، مع الأنس به وعدم النفور منه ، قال الزمخشري : متعلق بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين ، ودخلت الفاء على (فَلْيَعْبُدُوا) لما في الكلام من معنى الشرط ؛ إذ المعنى : أن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لأجله. و (قُرَيْشٍ) مجموعة القبائل من ولد النضر بن كنانة. منقول من تصغير قرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، شبهوا بها ؛ لأنها تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، وصغر الاسم للتعظيم. وقال أبو حيان : سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق ، جمعهم قصي بن كلاب في الحرم ، والتقريش : التجمع والالتئام.

(إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) أي بسبب إلفهم الارتحال إلى اليمن في الشتاء ، وإلى الشام في الصيف كل عام ، يستعينون بالرحلتين للتجارة على المقام بمكة ، لخدمة البيت الذي هو فخرهم

٤١٤

ومجدهم. والرحلة : ارتحال القوم ، بشد الرحال للمسير. (الْبَيْتِ) الكعبة. (أَطْعَمَهُمْ) وسّع لهم في الرزق. (مِنْ جُوعٍ مِنْ خَوْفٍ) أي من أجل جوع وخوف. (وَآمَنَهُمْ) جعلهم في أمن وسلامة في الأموال والأنفس. (مِنْ خَوْفٍ) خوف أصحاب الفيل ، أو التخطف في بلدهم ومسايرهم. وكان يصيبهم الجوع لعدم الزرع بمكة ، وخافوا جيش الفيل.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

أخرج الحاكم وغيره عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضّل الله قريشا بسبع خصال» الحديث المتقدم ، وفيه : نزلت فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ).

التفسير والبيان :

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي فلتعبد قريش ربها ، شكرا له ، لأجل إيلافهم (أي جعلهم يألفون ، ويسّر لهم ذلك) رحلتين : رحلة إلى اليمن شتاء لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج ، وكونها في الشتاء ؛ لأنها بلاد حارّة ، ورحلة إلى الشام في الصيف ، لجلب الحبوب الزراعية ، وكونها في الصيف ؛ لأنها بلاد باردة ، وكانت قريش في مكة تعيش بالتجارة ، ولولا هاتان الرحلتان لم يتمكنوا من المقام بها ، ولولا الأمن بجوار البيت ، لم يقدروا على التصرف ، وكانوا لا يغار عليهم ؛ لأن العرب يقولون : قريش أهل بيت الله عزوجل. وكل هذا الاحترام والإجلال لقريش أهل مكة من الله عزوجل الذي هيأه لهم بواسطة البيت الحرام ، فكان عليهم الإقرار بهذه النعمة ، وإفراد الله بالعبادة والتعظيم.

وصريح محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه السورة متعلقة

٤١٥

بما قبلها ؛ لأن المعنى عندهما : حبسنا عن مكة الفيل ، وأهلكنا أهله لإيلاف قريش ، أي لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين.

وعلى كل حال فهاتان نعمتان : نعمة صد أصحاب الفيل ، ونعمة جوار البيت الحرام والائتلاف فيه ، فإن لم يعبدوا الله لسائر نعمه ، فليعبدوه لهاتين النعمتين. وقد عرّفهم سبحانه بأنه ربّ هذا البيت ، بالرغم من أوثانهم التي يعبدونها حول الكعبة ، فميّز نفسه عنها ، وبالبيت تشرفوا على سائر العرب ، وهم يدركون هذا ويقرّون به. وكانت الإشارة إلى البيت في السورة لإفادة التعظيم.

قال الرازي رحمه‌الله عند قوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) : اعلم أن الإنعام على قسمين : أحدهما ـ دفع الضرر ، والثاني ـ جلب النفع ، والأول أهم وأقدم ، ولذلك قالوا : دفع الضرر عن النفس واجب ، أما جلب النفع ، فإنه غير واجب ، فلهذا السبب بيّن الله تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ، ونعمة جلب النفع في هذه السورة ، ونظرا لهاتين النعمتين العظيمتين أمرهم ربهم بعبادته والعبودية له وأداء الشكر على ذلك : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) (١).

والعبادة : هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون ، وهي تحقق معنى العبودية.

ثم ذكر الله تعالى نعما أخرى على قريش ، وصف بهما رب هذا البيت ، فقال :

ـ (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي هو ربّ البيت ، وهو الذي أطعمهم من جوع ووسّع لهم في الرزق ويسّر لهم سبيله ، بسبب هاتين الرحلتين ، فخلّصهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ١٠٧

٤١٦

ـ (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي وتفضل عليهم بالأمن والاستقرار ، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا ، قال ابن كثير : ولهذا من استجاب لهذا الأمر ، جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة. ومن عصاه سلبهما منه ، كما قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ، يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ ، فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ، فَكَذَّبُوهُ ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) [النحل ١٦ / ١١٢ ـ ١١٣] (١).

وكانت العرب يغير بعضها على بعض ، ويسبي بعضها بعضا ، فأمنت قريش كما تقدم من ذلك لمكان الحرم ، كما آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل ؛ قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)؟

[العنكبوت ٢٩ / ٦٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

أمر الله تعالى في هذه السورة قريشا وهم أولاد النضر بن كنانة بعبادة وتوحيد ربهم الذي أنعم عليهم بهذه النعم الكثيرة ومنها :

١ ـ إهلاك أصحاب الفيل وصدهم عن مكة ، كما أهلكوا أيضا لأجل كفرهم ، وفي هذا دفع لضرر عظيم مؤكد الحصول لولا عناية الله وحمايته ، وتوفير أيضا للأمن والسلامة والاطمئنان بجوار البيت الحرام.

٢ ـ نعمة الرزق وتوفير الحاجة والكفاية بسبب ارتحالهم إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا لجلب مختلف أنواع التجارات من الأطعمة والثياب ، مع أمنهم من إغارة العرب عليهم ؛ لأنهم أهل بيت الله وجبرانه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٥٣

٤١٧

٣ ـ نعمة الأمن من المخاوف ، سواء في داخل مكة حيث جعل الله لهم مكة بلدا آمنا ، ويتخطف الناس من حولهم ، أو في خارجها عند ما يتنقلون للتجارة والكسب. والكسب.

٤ ـ نعمة وجود البيت الحرام أو الكعبة المشرفة محل التعظيم والتقديس من العرب ، وأساس مجدهم وعزهم ، فإنهم شرّفوا بالبيت على سائر العرب ، فذكّرهم الله بهذه النعمة.

والخلاصة : إن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة وهي إيلافهم رحلتين.

روى ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن أم سلمة الأنصارية ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ويل لكم قريش : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)». وروى عنها أيضا : قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ)ويحكم يا معشر قريش ، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع ، وآمنكم من خوف».

واستدل الإمام مالك بالسورة على أن الزمان قسمان : شتاء وصيف ، ولم يجعل لهما ثالثا ، فالشتاء نصف السنة ، والصيف نصفها.

واستدل العلماء بهذا أيضا على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلّين ، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر ، كالجلوس في المجلس البحري في الصيف ، وفي القبلي في الشتاء ، وفي اتخاذ أدوات التبريد صيفا ، ووسائل الدفء شتاء. شتاء.

٤١٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الماعون

مكيّة ، وهي سبع آيات.

مكيتها أو مدنيتها :

هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن عباس وقتادة ، وقال هبة الله المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل ، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق.

تسميتها :

سميت سورة الماعون ، لأن الله تعالى ذم في نهايتها المدنية الذين يمنعون الماعون : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) [٧] كالساهين عن الصلاة ، والمنافقين. والماعون : ما يستعيره الجار من جاره من أدوات الطبخ ، كالقدر والملح والماء ، وآلات الحراثة والزرع ، كالفأس والدلو ، ووسائل الخياطة كالإبرة والخيط ونحو ذلك من كل ما يستعان وينتفع به من المنافع السريعة. وتسمى أيضا سورة الدّين للنعي في مطلعها المكي على الذي يكذب بالدّين ، أي الجزاء الأخروي.

مناسبتها لما قبلها :

ترتبط السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ ذم الله في السورة السابقة سورة قريش الجاحدين لنعمة الله

٤١٩

الذين (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) وذم في هذه السورة من لم يحضّ على طعام المسكين.

٢ ـ أمر الله في السورة المتقدمة بعبادته وحده وتوحيده : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) وذم في هذه السورة الذين هم عن صلاتهم ساهون ، وينهون عن الصلاة.

٣ ـ عدّد الله تعالى في السورة الأولى نعمه على قريش ، وهم مع ذلك ينكرون البعث ، ويجحدون الجزاء في الآخرة ، وأتبعه هنا بتهديدهم وتخويفهم من عذابه لإنكار الدّين ، أي الجزاء الأخروي.

ما اشتملت عليه السورة :

تحدثت هذه السورة المكية في مطلعها عن الكافر ، وفي نهايتها المدنية عن المنافق.

أما مطلعها فهو في ذمّ الكافر المكذب بيوم الحساب والجزاء : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) ووصفته بصفتين : الأولى ـ انتهاره وزجره وطرده اليتيم ، والثانية ـ عدم الحض أو الحث على إطعام المسكين ، فلم يحسن في عبادة ربه ، ولم يفعل الخير لغيره.

وأما خاتمتها فهي في ذم المنافق الذي أظهر الإسلام وأخفى الكفر ، ووصفته بصفات ثلاث : الأولى ـ الغفلة عن الصلاة ، والثانية ـ مراءاته الناس بعمله ، والثالثة ـ منعه الماعون الذي يستعان وينتفع به بين الجيران ، فهو لا يعمل لله ، بل يرائي في عمله وصلاته.

وتوعدت الفريقين بالخزي والعذاب والهلاك ، ولفتت الأنظار إليهم بأسلوب الاستهجان والاستغراب والتعجيب من صنيعهم.

٤٢٠