التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التكاثر

مكيّة ، وهي ثماني آيات.

تسميتها :

سميت سورة التكاثر ؛ لقوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد والأعوان.

مناسبتها لما قبلها :

أخبرت سورة القارعة عن بعض أهوال القيامة ، وجزاء السعداء والأشقياء ، ثم ذكر في هذه السورة علة استحقاق النار وهو الانشغال بالدنيا عن الدين ، واقتراف الآثام ، وهددت بالمسؤولية في الآخرة عن أعمال الدنيا.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة المكية ذم العمل للدنيا فقط ، والتحذير من ترك الاستعداد للآخرة. لذا تناولت مقاصد ثلاثة :

١ ـ بيان انشغال الناس بملذات الحياة ومغرياتها ، والغفلة حتى يأتي الموت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) [١ ـ ٢].

٢ ـ الإنذار بالسؤال عن جميع الأعمال في القيامة : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [٣ ـ ٤].

٣٨١

٣ ـ التهديد برؤية الجحيم يقينا ، ومجابهة أهوال النار ، والسؤال عن نعيم الدنيا : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ..) [٥ ـ ٨].

سبب نزول السورة :

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة في قوله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ، قال : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار ، في بني حارثة وبني الحارث ، تفاخروا وتكاثروا ، فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان بن فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك ، تفاخروا بالأحياء ، ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور ، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك ، فأنزل الله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل.

التفاخر في الدنيا والسؤال عن الأعمال

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

الإعراب :

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا) : حرف معناه الزجر والردع ، وليس اسما للفعل ، لتضمنه معنى ارتدع ، كما أن (صه) اسم فعل لدلالته على السكوت.

(لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَوْ) : حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره ، وجوابه محذوف ، وتقديره : لو علمتم لما ألهاكم ، و (عِلْمَ الْيَقِينِ) : منصوب على المصدر.

٣٨٢

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بفتح التاء ، فهو فعل ثلاثي ، عدّي إلى مفعول واحد وهو (الْجَحِيمَ). وقرئ بضم التاء ، فتكون الواو نائب فاعل ، و (الْجَحِيمَ) : مفعول به ثان ، وهو فعل رباعي ، عدّي بالهمزة إلى مفعولين ، وهو في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد ؛ لأنه من رؤية العين. و (عَيْنَ الْيَقِينِ) مصدر ؛ لأن رأى وعاين بمعنى واحد.

(لَتُسْئَلُنَ) حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين.

البلاغة :

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) خبر أريد به التذكير والتوبيخ واللوم.

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) التكرار للتهديد والإنذار ، وعطف ب (ثُمَ) للتنبيه على أن الثاني أبلغ من الأول.

(لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) حذف جواب (لَوْ) للتهويل والتفخيم ، أي لرأيتم ما يدهش ويفزع.

(لَتَرَوُنَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) إطناب بتكرار الفعل ، لبيان شدة الهول.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) كناية ، كنّى بزيارة القبور عن الموت ، أي حتى متّم.

(النَّعِيمِ الْجَحِيمَ) طباق.

(تَعْلَمُونَ) ، (الْيَقِينِ) توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات ، وكذا بين (الْجَحِيمَ) و (النَّعِيمِ).

المفردات اللغوية :

(أَلْهاكُمُ) شغلكم ، واللهو : الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى. (التَّكاثُرُ) التفاخر بالأموال والأولاد والرجال. (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي حتى متّم ودفنتم في القبور. (كَلَّا) ردع وزجر. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) سوء عاقبة تفاخركم عند النزع وفي القبر وفي الآخرة. (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) علم الأمر المتيقن ، أي لو علمتم يقينا عاقبة التفاخر ما اشتغلتم به. والعلم اليقيني : ما نشأ عن اعتقاد مطابق للواقع عن عيان أو دليل قطعي ثابت ، دل عليه العقل الصحيح أو النقل الثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) النار ، جواب قسم محذوف آكد به الوعيد ، للتفخيم. (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) تأكيد. (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي عيانا هي اليقين نفسه. (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ) في موقف الحساب ، و (ثُمَ) هنا للترتيب الإخباري. (عَنِ النَّعِيمِ) ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأم والطعام والشراب وغير ذلك.

٣٨٣

سبب النزول :

تقدم سبب نزول السورة عن ابن أبي حاتم. وأخرج ابن جرير عن علي قال : كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) إلى (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في عذاب القبر.

وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الشّخّير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقول : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت».

وقال مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول العبد : مالي مالي ، وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تصدق فأمضى ، وما سوى ذلك فذاهب ، وتاركه للناس».

التفسير والبيان :

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي شغلكم التفاخر والتباهي بالأموال والأولاد والأعوان ، والاعتناء بكثرتها وتحصيلها ، شغلكم عن طاعة الله والعمل للآخرة ، حتى أدرككم الموت ، وأنتم على تلك الحال.

أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يتبع الميت ثلاثة ، فيرجع اثنان ، ويبقى معه واحد : يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ، ويبقى عمله».

وأخرج أحمد وصاحبا الصحيحين عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يهرم ابن آدم ، ويبقى معه اثنتان : الحرص والأمل».

٣٨٤

أما زيارة القبور ، فمباحة بالآداب الشرعية ، بأن يبدأ الزائر السلام على صاحب القبر عند رأسه ، ثم يتجه إلى القبلة ويدعو الله عزوجل بالرحمة والمغفرة للميت ولنفسه وللمسلمين ، أخرج ابن ماجه عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهّد في الدنيا ، وتذكّر الآخرة» وهو صحيح ، وأخرج الحاكم في صحيحة عن أنس رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها ، فإنها ترقّ القلب ، وتدمع العين ، وتذكّر الآخرة ، ولا تقولوا هجرا». وهذا دليل على أنها تمنع إذا كانت مصحوبة بمنكرات ، كالاختلاط والفتن والنواح.

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي ردعا وزجرا لكم عن هذا التكاثر المقيت الذي يؤدي إلى التقاطع والتدابر والأحقاد والضغائن ، وإهمال العمل للآخرة ، وخير الأمة ، وتصحيح السلوك والأخلاق. وستعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة. قال الزمخشري : (لَّا) ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ، ولا يهتم بدينه.

والجملة الثانية كررت للتأكيد والتغليظ والوعيد والزجر.

(كَلَّا ، لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي ارتدعوا عن هذا اللهو بالدنيا ، فإنكم لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينا ، لانشغلتم عن التكاثر والتفاخر ، ولبادرتم إلى صالح الأعمال ، ولما ألهاكم التباهي عن أمر الآخرة العظيم والإعداد لها. وجواب (لَوْ) محذوف ، أي لو علمتم لما ألهاكم.

وهذا زيادة في الزجر واللوم عن الانهماك في الدنيا ، والاغترار بمظاهر الحياة الفارغة الزائلة. وليس الكلام مجرد وعظ ، وإنما الخطر الداهم يقتضي عمق التأمل والتفكر في مستقبل الآخرة ، وذلك لا يتوافر عادة بغير إيمان قوي ، وقلب واع سليم. وتكرار لفظ (كَلَّا) المفيدة للزجر ، للدلالة على استحقاق ضرر آخر

٣٨٥

غير العذاب. وقال الحسن : (كَلَّا) بمعنى حقا كأنه قيل : حقا لو تعلمون علم اليقين.

ثم فسر الوعيد فقال :

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أي لتشاهدن النار في الآخرة ، والمراد ذوق عذابها وهذا جواب قسم محذوف. وهو توعد بحال رؤية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة ، خرّ كل ملك مقرّب ، ونبي مرسل ، على ركبتيه من المهابة ، والعظمة ، ومعاينة الأهوال الجسام.

ثم أكد ذلك بقوله :

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين ، وهي المشاهدة والرؤية بأعينكم ، فإياكم الوقوع فيما يؤدي إلى النار من اقتراف المعاصي والسيئات ، وارتكاب الموبقات والمنكرات.

ثم أكد السؤال عن الأعمال للتحذير فقال :

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي إنكم سوف تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة ، وتسألون عن أنواع نعيم الدنيا من أمن وصحة وفراغ ومأكول ومشروب ومسكن وغير ذلك من النعم ، قال الزمخشري : (عَنِ النَّعِيمِ) عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. وقال الرازي : والأظهر أن الذي يسأل عن النعيم هم الكفار ، وفي قول آخر : أنه عام في حق المؤمن والكافر ، واحتجوا بأحاديث منها : روي عن عمر أنه قال : «أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله ، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد ، والماء البارد في اليوم الحار».

٣٨٦

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن محمود بن لبيد قال : «لما نزلت (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) فقرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قالوا : يا رسول الله ، أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسوان : الماء والتمر ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدو حاضر ، فعن أي نعيم نسأل؟ قال : أما إن ذلك سيكون».

وثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ». أي أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين ، لا يقومون بواجبهما ، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه ، فهو مغبون. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي برزة : «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به».

وأخرج البخاري في الأدب والترمذي وابن ماجه عن عبيد الله بن محصن : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أصبح منكم آمنا في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».

وأخرج ابن جرير ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «بينما أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما أجلسكما هاهنا؟ قالا : والذي بعثك بالحق ، ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع ، قال : والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره ، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار (١) ، فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أين فلان؟ فقالت : ذهب يستعذب لنا ماء ، فجاء صاحبهم يحمل قربته ، فقال : مرحبا ما زار العباد شيء أفضل من نبي ، زارني اليوم ، فعلق قربته بكرب نخلة ، وانطلق فجاءهم بعذق ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا كنت اجتنيت؟ فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم ، ثم أخذ الشفرة ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إياك والحلوب ، فذبح لهم يومئذ فأكلوا ، فقال لهما

__________________

(١) هو مالك بن التّيّهان الأنصاري ، أبو الهيثم.

٣٨٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لتسألن عن هذا يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، فلم ترجعوا حتى أصبتم ، هذا ، فهذا من النعيم».

والظاهر أن السؤال عن النعيم للعموم لأجل لام الجنس إلا أن سؤال الكافر للتوبيخ ؛ لأنه عصى وكفر ، وسؤال المؤمن للتشريف ، فإنه أطاع وشكر. والظاهر أن هذا السؤال في موقف الحساب ، وهو متقدم على مشاهدة جهنم ، ومعنى (ثُمَ) الترتيب في الأخبار ، ثم أخبركم أنكم تسألون.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ يحذر الله تعالى من ترك العمل الصالح والاستعداد للآخرة ، ويوبخ الذين تشغلهم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله ، حتى يموتوا ويدفنوا في المقابر.

والتوبيخ عام يشمل التفاخر بكل شيء من الأموال والأولاد ، والقبائل والعشائر ، والسلطة والجاه ، والرجال والأعوان ، فهو يتضمن التفاخر بالنفس وهي العلوم والأخلاق الفاضلة ، والتفاخر بالبدن وهو الصحة والجمال ، والتفاخر بالأمور الخارجية وهي المال والجاه والأعوان والأقرباء والأصدقاء.

٢ ـ لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة ، وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي ؛ لأنها تذكّر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها ، كما تقدم في الأحاديث الثابتة. وجاء في الترمذي عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن زوّارات القبور. ورأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زيارة القبور ، فلما رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنساء ، لقلة صبرهن ، وكثرة جزعهن.

٣٨٨

والخلاصة : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء ، أما الشوابّ فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد الكبيرات فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال. وإذا حدثت فتنة من اجتماع الرجال والنساء ، فلا يحل ولا يجوز.

٣ ـ قال العلماء : ينبغي لعلاج القلب ثلاثة أمور : طاعة الله ، والإكثار من ذكر الموت (هاذم اللذات) وزيارة قبور أموات المسلمين.

٤ ـ كرر الله تعالى في هذه السورة الوعيد بعد الوعيد ، للتأكيد والتغليظ على ثبوت عذاب القبر وعذاب الآخرة ، وأن ما وعدنا به من البعث وتوابعه حق وصدق. ثم أعاد تعالى الزجر والتنبيه على أنه إن لم يفعل الناس العمل الصالح ، وترك التفاخر بالأموال والأولاد والرجال ، يندمون ، ويستوجبون العقاب.

٥ ـ أتى الله تعالى بوعيد آخر بقسم محذوف : والله لترون الجحيم في الآخرة ، وهذا خطاب للكفار الذين وجبت لهم النار ، وقيل : الخطاب عام ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم ١٩ / ٧١] فهي للكفار دار ، وللمؤمنين ممر. ثم أخبر تعالى عن رؤية الجحيم رؤية مشاهدة بالأعين ، وبعيون القلوب والأفئدة.

٦ ـ يسأل الناس يوم القيامة عن ألوان النعيم في الدنيا ، من ظلال المساكن والأشجار ، وطيب الحياة والرفاهية ، والصحة والفراغ ، والأمن والستر ونحو ذلك. والكل يسألون ، ولكن سؤال الكفار توبيخ ؛ لأنه قد ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف ؛ لأنه شكر ، وهذا النعيم في كل نعمة. ويكون السؤال في موقف الحساب ، وقيل : بعد الدخول في النار توبيخا لهم ، والأول هو الظاهر.

__________________

(١) هو مالک بن التهان الأنصاري ، أبو الهيثم.

٣٨٩

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العصر

مكيّة ، وهي ثلاث آيات.

تسميتها :

سميت سورة العصر لقسم الله به في مطلعها بقوله : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ وَالْعَصْرِ) : الدهر ، لاشتماله على الأعاجيب ، من سرّاء وضرّاء ، وصحة وسقم ، وغنى وفقر ، وعز وذل ، وانقسامه إلى أجزاء : سنة وشهر ويوم وساعة ودقيقة وثانية.

مناسبتها لما قبلها :

لما بيّن في السورة المتقدمة أن الاشتغال بأمور الدنيا والتهالك عليها مذموم ، أراد أن يبين في هذه السورة ما يجب الاشتغال به من الإيمان والأعمال الصالحات ، وهو ما يعود إلى النفس ، ومن التواصي بالخيرات وكفّ النفس عن المناهي أو المعاصي ، وهو ما يعود إلى المجتمع. والخلاصة : بعد أن قال : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) وهدد بتكرار : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) بيّن حال المؤمن والكافر.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المكية الموجزة توضح أصول الإسلام الكبرى ، ودستور الحياة الإنسانية.

فقد أقسم الله تعالى بالعصر الذي هو الدهر أو الزمان المشتمل على العجائب

٣٩٠

والدال على قدرة الله وحكمته البالغة على خسارة الإنسان إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي مع الآخرين بالحق ، والتواصي بالصبر والمصابرة.

فضلها :

ذكر الرواة أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب ، وذلك بعد ما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبل أن يسلم عمرو ، فقال له مسيلمة : ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟! فقال : لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة ، فقال : وما هي؟ فقال : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) ففكر مسيلمة هنيهة ، ثم قال : وقد أنزل علي مثلها ، فقال له عمرو : وما هو؟ فقال :

يا وبر يا وبر (١) ، وإنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حفر نقر.

ثم قال كيف ترى يا عمرو : فقال له عمرو : والله لتعلم أني أعلم أنك تكذب.

وذكر الطبراني عن عبيد الله بن حفص قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا التقيا لم يفترقا ، إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ، إلى آخرها ، ثم يسلم أحدهما على الآخر. وأخرجه البيهقي عن أبي حذيفة.

وقال الشافعي رحمه‌الله : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.

__________________

(١) الوبر : دويبة تشبه الهر ، أعظم شيء فيه أذناه وصدره ، وباقيه دميم ، فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن ، فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان (تفسير ابن كثير ٤ / ٥٤٧).

٣٩١

رسالة الحياة أو حال المؤمن والكافر

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

الإعراب :

(وَالْعَصْرِ) قسم ، وجوابه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) والمراد بالإنسان : الجنس ، ولهذا استثنى منه : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

(وَتَواصَوْا) أصله «تواصيوا» إلا أنه تحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فانقلبت ألفا ، فاجتمع ساكنان : الألف والواو بعدها ، فحذفوا الألف لالتقاء الساكنين.

البلاغة :

(إِنَّ الْإِنْسانَ) أي الناس بدليل الاستثناء ، فهو إطلاق البعض وإرادة الكل.

(لَفِي خُسْرٍ) التنكير للتعظيم ، أي في خسر عظيم.

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) إطناب بتكرار الفعل ، لزيادة العناية به.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) بعد قوله : (بِالْحَقِ) خاص بعد عام ، فإن الصبر داخل في عموم الحق ، إلا أنه خصصه بالذكر للاهتمام به بعينه.

(الْعَصْرِ) ، (بِالصَّبْرِ) ، (خُسْرٍ) سجع عفوي غير متكلف ، وهو من المحسنات البديعية.

المفردات اللغوية :

(وَالْعَصْرِ) والدهر ، أقسم الله به لاشتماله على الأعاجيب ، وقيل : صلاة العصر ، أو وقت العصر من بعد الزوال إلى الغروب. (إِنَّ الْإِنْسانَ) جنس الإنسان فالتعريف للجنس. (خُسْرٍ) خسارة أو خسران في تجارته ، والتنكير للتعظيم. والخسارة : النقصان وضياع رأس المال. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة الدائمة ، فليسوا في خسران.

٣٩٢

(بِالْحَقِ) وهو الشيء الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل ، أو هو ما أرشد إليه دليل قاطع ، أو عيان ومشاهدة ، أو شرع صحيح جاء به نبي معصوم.

والتواصي بالحق : أن يوصي الناس بعضهم بعضا بما لا مجال لإنكاره من إيمان وخير وفضيلة. (بِالصَّبْرِ) قوة في النفس تدعو إلى احتمال المشقة في العمل. والتواصي بالصبر : أن يوصي الناس بعضهم بعضا به ، ويحث الواحد غيره عليه.

وقد اكتفى سبحانه ببيان سبب الربح دون الخسران لأنه المقصود ، وما عداه يؤدي إلى الخسران والنقص.

التفسير والبيان :

(وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي قسما بالعصر وهو الدهر أو الزمان الذي يمر به الناس ؛ لما فيه من العبر وتقلبات الليل والنهار ، وتعاقب الظلام والضياء ، وتبدل الأحداث والدول ، والأحوال والمصالح ، مما يدل على وجود الصانع عزوجل وعلى توحيده وكمال قدرته ، أقسم بذلك على أن الإنسان في خسارة وهلاك ونقص وضلال عن الحق ، في المتاجر والمساعي ، وصرف الأعمال في أعمال الدنيا ، إلا من استثناهم الله فيما يأتي. وإقسام الله بالدهر دليل على شرفه وأهميته ، لذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة : «لا تسبّوا الدهر ، فإن الله هو الدهر». والآية كما ذكر الرازي كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة.

وقيل : المراد بالعصر : صلاة العصر ، أو وقتها تعظيما لها ، ولشرفها وفضلها ، ولهذا فسّر بها الصلاة الوسطى عند كثير من العلماء. وفيه إشارة إلى أن عمر الدنيا الباقي هو ما بين العصر إلى المغرب ، فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خسران فيها ، فإن الوقت قد ضاق ، وقد لا يمكن تدارك ما فات.

والمراد بالإنسان : الجنس ، واللام لام الجنس وهو الراجح. وقيل : اللام في الإنسان لمعهود معين ، كما روي عن ابن عباس أنه أراد جماعة من المشركين

٣٩٣

كالوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطّلب. قال أبو حيان : والعصر ، والإنسان : اسم جنس يعم ، ولذلك صح الاستثناء منه.

ثم استثنى من جنس الإنسان عن الخسران ما يأتي :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي إن الإنسان لفي خسارة وضياع ونقصان وهلاك إلا الذين جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح ، فإنهم في ربح ، لا في خسر ؛ لأنهم عملوا للآخرة ، ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها ، فآمنوا بقلوبهم ، وعملوا بجوارحهم (أعضائهم).

وإلا الذين وصّى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره : وهو الإيمان بالله والتوحيد ، والقيام بما شرعه الله ، واجتناب ما نهى عنه. والحق خلاف الباطل ، ويشمل جميع الخيرات وما يلزم فعله ، أو هو أداء الطاعات ، وترك المحرّمات. قال الزمخشري : وهو الخير كله ، من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة.

وإلا الذين أوصى بعضهم بعضا بالصبر على فرائض الله ، وعن معاصي الله ، وعلى أقداره وبلاياه. والصبر يشمل احتمال الطاعات ، واجتناب المنكرات ، وتحمل المصائب والأقدار ، وأذي الذي يأمرونه بالمعروف ، وينهونه عن المنكر.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت السورة على ما يأتي :

١ ـ الإنسان وإن ربح الثورة الكبيرة والمال الوفير ، فهو في خسارة محققة ، إن لم يعمل للآخرة عملا طيبا صحيحا.

٢ ـ أقسم الله تعالى على هذا الحكم بأي عصر أو زمان ، لما فيه من التنبيه

٣٩٤

بتصرف الأحوال وتبدّلها ، وما فيها من الدلالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته ومزيد حكمته التي تظهر أحيانا بعد مرور الزمان.

والعصر في الحلف بالأيمان مختلف في تقديره عند الفقهاء ، فقال مالك : من حلف ألا يكلم رجلا عصرا ، يحمل على السنة ؛ لأنه أكثر ما قيل فيه ، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان.

وقال الشافعي : يبرّ بساعة ، إلا أن تكون له نية ، أو يفسره بما يحتمله ، وذلك حملا على الأقل المتيقن المراد بالعصر.

٣ ـ حكم الله تعالى بالوعيد الشديد ؛ لأنه حكم بالخسارة على جميع الناس إلا من كان آتيا بأشياء أربعة أو متصفا بصفات أربع ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر.

فدلّ ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور ، وعناصر الإيمان ستة : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره. والعمل الصالح : أداء الفرائض واجتناب المعاصي ، وفعل الخير. والتواصي بالحق : أن يوصي بعضهم بعضا بالأمر الثابت ، ويحث بعضهم بعضا على توحيد الله ، والعمل بالقرآن ، والدعوة إلى الدين والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه. قال عمر رضي‌الله‌عنه : رحم الله من أهدى إلي عيوبي.

والتواصي بالصبر : أن يوصي الناس بعضهم بعضا على طاعة الله عزوجل ، والصبر عن معاصيه ، والرضا بالقضاء والقدر في المصائب والمحن.

٤ ـ قال الإمام الرازي رحمه‌الله : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه ، فلذلك قرن به التواصي (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٩٠

٣٩٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الهمزة

مكيّة ، وهي تسع آيات.

تسميتها :

سميت سورة الهمزة لبدئها بقول الله تبارك وتعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) والهمزة : الذي يغتاب الناس ويطعن بهم بقول أو فعل أو إشارة ، واللمزة : الذي يعيب الناس بإشارة الحاجب والعين. قال ابن عباس : الهمزة : المغتاب ، واللمزة : العياب.

مناسبتها لما قبلها :

بعد أن ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة أن جنس الإنسان في خسران ونقص وهلكة ، أبان في هذه السورة حال الخاسر وأراد به تبيان الخسران بمثال واحد.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المكية في علاج مشكلة خلقية مستعصية بين الناس وهي الطعن في الآخرين بالغيبة أثناء غيابهم ، أو بالعيب حال حضورهم.

وقد بدأت بالإخبار عن العذاب الشديد لكل عيّاب طعّان للناس ، ينتقص الآخرين ويزدريهم ويسخر بهم : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [١].

ثم ذمّت السورة الذين يحصرون على جمع الأموال في الدنيا ، كأنهم مخلدون فيها : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ ...) [٢ ـ ٣].

٣٩٦

وختمت بردع الفريقين السابقين ، وأنبأتهم بمصيرهم الأسود وهو النبذ في الحطمة : نار جهنم.

سبب نزولها :

قال عطاء والكلبي والسّدي : نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ويغتابهم ، وبخاصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ورائه ، ويطعن عليه في وجهه. وروي أيضا أن أمية بن خلف كان يفعل ذلك.

وقال محمد بن إسحاق والسهيلي : ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف (١). وقد روى ذلك ابن جرير عن عثمان وابن عمر.

قال أبو حيان : ونزلت في الأخنس بن شريق ، أو العاص بن وائل ، أو جميل بن معمر ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف : أقوال ، ويمكن أن تكون نزلت في الجميع ، وهي مع ذلك عامة فيمن اتصف بهذه الأوصاف (٢).

وعلى هذا فاللفظ عام ، وإن كان في الأصل يشير إلى شخص معين ، وكذلك قوله تعالى في سورة ن : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ..) [١٠ ـ ١٥] ، فإنه سبحانه تابع في سرد الصفات حتى علم أنه يريد في الأصل إنسانا بعينه.

والقاعدة العامة عند المحققين والأصوليين : أن خصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ.

وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن ، وهو حكاية أقوال الجاحدين.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٩١

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٥١٠

٣٩٧

الطعّان العيّاب للناس وجزاؤه

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

الإعراب :

(الَّذِي جَمَعَ مالاً .. الَّذِي) : إما في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : وهو الذي ، أو في موضع نصب بفعل مقدر ، أي أعني ، أو في موضع على البدل من «كل».

(لَيُنْبَذَنَ) بفتح الذال ، أراد به : الذي جمع ، والأصل في الذال أن تكون ساكنة لبناء الفعل المضارع ، لدخول نون التوكيد ، إلا أنه حركت الذال لالتقاء الساكنين ، وكان الفتح أولى لأنه أخف الحركات. ومن قرأ بضم الذال ، أراد به : المال والهمزة واللمزة. وقرئ : «لينبذان» بألف التثنية ، وأراد به المال وصاحبه. وهو جواب قسم محذوف ، أي ليطرحن.

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ عَمَدٍ) : بفتح العين والدال ، أراد به اسم الجمع ، وقرئ «عمد» بضمتين ، وأراد به جمع عمود ، كرسول ورسل.

البلاغة :

(هُمَزَةٍ ، لُمَزَةٍ) من صيغ المبالغة ، على وزن : فعلة ، كنومة ، وعيبة وسحرة وضحكة.

(جَمَعَ مالاً) تنكير (مالاً) للتفخيم ، أي جمع مالا كثيرا.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) الاستفهام للتفخيم والتهويل لنار جهنم ، و (الْحُطَمَةِ) : من صيغ المبالغة.

(هُمَزَةٍ) ، (لُمَزَةٍ) جناس ناقص أو غير تام.

(عَدَّدَهُ) ، (أَخْلَدَهُ) ، (الْمُوقَدَةُ) ، (مُمَدَّدَةٍ) سجع مرصع ، لتوافق الفواصل.

٣٩٨

المفردات اللغوية :

(وَيْلٌ) خزي وعذاب شديد ، ويراد به الندم والتقبيح. (هُمَزَةٍ) مغتاب طعّان في أعراض الناس وكراماتهم. (لُمَزَةٍ) عيّاب يعيب عادة بالحاجب أو العين أو اليد أو الرأس تحقيرا للناس وترفعا عليهم. (عَدَّدَهُ) عدّه مرة بعد أخرى تلذذا به ، أو جعله عدّة للنوازل وحوادث الدهر.

(يَحْسَبُ) يظن لجهله. (أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) جعله خالدا في الدنيا ، لا يموت. (كَلَّا) ردع وزجر. (لَيُنْبَذَنَ) ليطرحنّ وليرمين بإهانة وتحقير ، وهو جواب قسم محذوف. (فِي الْحُطَمَةِ) نار جهنم ، سميت لذلك ؛ لأنها تحطم كل ما ألقي فيها ، من الحطم : وهو الكسر. (الْمُوقَدَةُ) المسعّرة. (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) تعلو أوساط القلوب ، وتحيط بها ، وخصت الأفئدة بالذكر ؛ لأنها محل العقائد الزائغة ومنشأ الأعمال الفاسدة القبيحة. (مُؤْصَدَةٌ) مطبقة مغلقة عليهم ، من أوصدت الباب : إذا أغلقته. (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) في أعمدة طويلة ، فتكون النار داخل العمد ، جمع عمود.

التفسير والبيان :

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي خزي وعذاب شديد لكل من يغتاب الناس ويطعن بهم أو يعيبهم في حضورهم ، قال مقاتل : إن الهمزة : الذي يغتاب بالغيبة ، واللمزة : الذي يغتاب في الوجه. وقال ابن عباس : (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) طعان معياب.

ثم ذكر أوصافا أخرى له :

(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) أي أن ذلك الهمزة اللمزة الذي يزدري الناس ويحتقرهم ويترفع عليهم بسبب إعجابه بما جمع من المال وأحصاه ، وظن أن له به الفضل على غيره ، كقوله تعالى : (جَمَعَ فَأَوْعى) [المعارج ٧٠ / ١٨].

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن أن ماله يضمن له الخلود ويتركه حيّا مخلدا لا يموت ؛ لشدة إعجابه بما يجمعه من المال ، فلا يعود يفكر بما بعد الموت.

٣٩٩

ثم ردّ الله عليه أوهامه وزجره على مزاعمه ، فقال :

(كَلَّا ، لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) أي زجرا له وردعا ، فليس الأمر كما زعم ولا كما حسب ، بل ليلقين ويطرحن هذا الذي جمع ماله هو وماله في النار التي تحطم أو تهشم كل ما يلقى فيها.

ثم هوّل عليه شأن النار وعرفها له ، فقال :

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ، نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) أي وما أعلمك ما هذه النار ، وأي شيء هي؟ فكأنها لا تدركها العقول ، هي نار الله الموقدة المستقرة بأمر الله سبحانه ، التي لا تخمد أبدا.

وفائدة وصف جهنم بالحطمة مناسبتها لحال المتكبر المتجبر بماله ، المترفع على غيره ، فهي تكسر كسرا كل ما يلقى فيها ، لا تبقي ولا تذر.

وإضافة (نارُ اللهِ) للتفخيم ، أي هي نار ، لا كسائر النيران.

ثم وصف النار بأوصاف ثلاثة هي :

(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) أي التي تعلو القلوب وتغشاها بحرها الشديد ، وتحرقهم وهم أحياء. والقلوب أشد أجزاء البدن تألما ، وخصت بالذكر لأنها محل العقائد الزائغة ، والنيات الخبيثة ، وسوء الأخلاق من الكبر واحتقار الناس ، والأعمال القبيحة.

وهي عليهم مطبقة ، مغلقة عليهم أبوابها جميعا ، فلا منافذ ، ولا يستطيعون الخروج منها ، كما قال تعالى : (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) [البلد ٩٠ / ٢٠] ، وقال سبحانه : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ ، أُعِيدُوا فِيها ..) [الحج ٢٢ / ٢٢].

٤٠٠