التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وهو جزاء دقيق عادل ؛ فإن الله تعالى عالم بأفعالهم علما لا يزول ولا يتبدل ، وقد أحصاها عليهم ، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة ، كما أن الحفظة الملائكة الموكلين بأمر العباد كتبوا كل شيء عليهم بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة ، بدليل قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار ٨٢ / ١٠ ـ ١١] وقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) دليل على كونه تعالى عالما بالجزئيات.

٧ ـ في قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أظهر الله تعالى غاية السخط بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، والتعقيب بفاء الجزاء الدال على أن العقاب سبب عن كفرهم بالحسنات ، وتكذيبهم بالآيات.

وزيادة العذاب : إما لازدياد كفرهم وعتوهم حينا بعد حين ، كقوله تعالى : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة ٩ / ١٢٥] وإما لأن زيادة العذاب عبارة عن استمراره نفسه ؛ لأنه يتزايد بمرور الزمان. والمراد : إنا لن نخلصكم من العذاب إلى خلافه ، وإن عذاب أهل النار دائم غير متناه ، وإنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبدا.

وهذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه :

أحدها ـ قوله : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ) وكلمة «لن» للتأكيد في النفي.

وثانيها ـ أنه في قوله : (كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) ذكرهم بالغيبة ، وفي قوله : (فَذُوقُوا) ذكرهم على سبيل المشافهة ، وهذا يدل على كمال الغضب ، كما ذكرت.

وثالثها ـ أنه تعالى عدد وجوه العقاب ، ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ، ثم عدد فضائحهم ، ثم قال : (فَذُوقُوا) فكأنه تعالى أفتى ، وأقام الدلائل ، ثم أعاد تلك الفتوى بعينها ، وذلك يدل على المبالغة في التعذيب (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١٩

٢١

أحوال السعداء

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦))

الإعراب :

(حَدائِقَ) بدل من (مَفازاً) أو عطف بيان له. (وَأَعْناباً) عطف على (مَفازاً).

(عَطاءً) بدل من (جَزاءً) و (جَزاءً) و (عَطاءً) و (حِساباً) منصوبات على المصدر.

المفردات اللغوية :

(مَفازاً) فوزا وظفرا ، أو مكان فوز في الجنة. (حَدائِقَ) بساتين مثمرة ومشجرة. (وَكَواعِبَ) جواري في مقتبل العمر ، جمع كاعب : وهي الفتاة التي تكعّب واستدار ثديها. (أَتْراباً) من كن في سن واحدة كاللّدات ، جمع ترب : وهي التي تماثل في سنها سن صاحبتها. (وَكَأْساً) إناء من الزجاج للشرب فيه. (دِهاقاً) ممتلئة. والمراد خمرا مالئة الأوعية. (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنة عند شرب الخمر وغيرها من الأحوال. (لَغْواً) باطلا من القول أو الكلام. (كِذَّاباً) تكذيبا لبعضهم بعضا ، خلافا لما يحدث في مجالس شرب الخمر في الدنيا. ويقرأ بالتخفيف (كِذَّاباً) أي كذبا. (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي جزاهم الله بذلك جزاء ، بمقتضى وعده. (عَطاءً) فضلا منه وإحسانا. (حِساباً) كافيا لهم ، تقول : أعطاني فأحسبني ، أي أكثر علي ، حتى قلت : حسبي ، أي كفاني. ومنه قول الله تعالى : (حَسْبِيَ اللهُ) أي الله كافيّ.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى شيئا من أحوال الأشقياء أهل النار ، ذكر ما لأهل الجنة السعداء من موضع فوز وظفر ، حيث زحزحوا عن النار ، وأدخلوا الجنة ، وأبان أن ذلك تفضل من الله وإحسان ، وفي إيراد أحوال الأسعداء والأشقياء مجال للتأمل والمقارنة ، وترغيب بالطاعة ، المؤدية إلى الجنة ، وترهيب من

٢٢

المعصية والكفر وتكذيب الرسل المؤدي إلى النار. والخلاصة : أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار ، أتبعه بوعد الأخيار.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن السعداء وما أعد لهم من الكرامة والنعيم المقيم ، فيقول : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ، حَدائِقَ وَأَعْناباً ، وَكَواعِبَ أَتْراباً ، وَكَأْساً دِهاقاً) أي إن للذين اتقوا ربهم بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه فوزا وظفرا بالمطلوب ، ونجاة من النار ، بالاستمتاع بالبساتين ذات الأشجار والأثمار والأعناب اللذيذة الطعم ، وبالنساء الحور الكواعب ذوات الأثداء القائمة على صدورهن لم تتكسر ولم تتدلّ ، المتساويات في السن ، وبتناول الكؤوس المترعة المملوءة بالخمر غير المسكرة.

وعطف الأعناب على الحدائق من عطف الخاص على العام ، الذي يدل على تعظيم حال تلك الأعناب. وفسر ابن عباس (مَفازاً) بقوله : متنزها ، ورجحه ابن كثير ؛ لأنه تعالى قال بعده : (حَدائِقَ) والحدائق : البساتين من النخيل وغيرها.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) أي لا يسمعون في الجنة الباطل من الكلام ، ولا يكذب بعضهم بعضا كقوله تعالى : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) [الطور ٥٢ / ٢٣] ، وهذا دليل على نظافة البيئة وسموها الأدبي ، مما ترتاح له النفوس ، خلافا لحال الدنيا حيث يسمع فيها الإنسان المؤمن ما يجرح الشعور ويؤلم النفس ، فليس في الجنة كلام لاغ ساقط عار عن الفائدة ، ولا إثم كذب ، بل هي دار السلام ، وكل ما فيها سالم من النقص.

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جازاهم الله تعالى على إيمانهم وصالح أعمالهم ، وأعطاهم ذلك عطاء تفضلا منه وإحسانا ، كافيا وافيا شاملا كثيرا ، حسبما وعدهم به من مضاعفة أجر الحسنات وتكفير السيئات.

٢٣

فقه الحياة أو الأحكام :

وعد الله تعالى المتقين الذين اتقوا مخالفة أمر الله بخمسة أمور :

١ ـ الفوز والنجاة والخلاص مما فيه أهل النار.

٢ ـ التمتع بالرياض الغناء والحدائق أو البساتين المتنوعة الأشجار والأثمار ، وهذا هو الأمن الغذائي.

٣ ـ الاستمتاع بالحور الكواعب ذوات النواهد التي تكعبت أثداؤهن ، اللدات الأقران في السن ، وهذا هو الإشباع الجنسي أو الغريزي.

٤ ـ تناول الكؤوس المترعة الملأى بالخمور غير المسكرة ، كما وصفها الله تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة ٥٦ / ١٩]. وهذه متعة اللهو المباح.

٥ ـ الأمن النفسي في الجنة ، حيث لا يسمع أهلها باطلا من الكلام ، ولا تكذيبا لبعضهم بعضا في مجالس الشراب والمتعة ؛ لأن أهل الشراب في الدنيا يسكرون ويتكلمون بالباطل ، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم ، ولم يتكلموا بلغو.

وبعد تعداد أنواع نعيم أهل الجنة ، توّجوا بالمنحة الربانية ، وأخبروا بأن الله جزاهم بما تقدم جزاء منه ، وأعطاهم عطاء كثيرا كافيا وافيا.

٢٤

عظمة الله ورحمته وتأكيد وقوع يوم القيامة

وتهديد الكافرين المعاندين

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

الإعراب :

(رَبِّ السَّماواتِ) بالجر : بدل من (رَبِّكَ) المتقدم ، وبالرفع : على تقدير مبتدأ محذوف ، تقديره : هو رب السموات. و (الرَّحْمنِ) بالجر صفة (رَبِ) وبالرفع : إما مبتدأ ، و (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ) الخبر ، وذلك حسن لوجود الهاء في (مِنْهُ) وإما خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو الرحمن.

(يَوْمَ يَقُومُ) يوم ظرف لقوله : (لا يَمْلِكُونَ). (صَفًّا) حال ، أي : مصطفين.

(إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ مَنْ) في موضع رفع على البدل من واو (يَتَكَلَّمُونَ) ويجوز أن يكون في موضع نصب على الأصل في الاستثناء. والرفع على البدل أوجه.

(يَوْمَ يَنْظُرُ يَوْمَ) ظرف لقوله : (عَذاباً).

البلاغة :

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) عطف عام على خاص ؛ لأن الروح هو جبريل عليه‌السلام ، وهو من الملائكة ، وأفرد بالذكر تنويها بقدره.

المفردات اللغوية :

(لا يَمْلِكُونَ) أي العباد. (مِنْهُ) من الله تعالى. (خِطاباً) مخاطبة ومكالمة ، أي لا يقدر أحد أن يخاطبه خوفا منه. (الرُّوحُ) جبريل عليه‌السلام. (صَفًّا) مصطفين.

٢٥

(لا يَتَكَلَّمُونَ) أي العباد ، وهو تقرير وتوكيد لقوله : (لا يَمْلِكُونَ) قال البيضاوي : فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم إلى الله ، إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صوابا ، كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه ، فكيف يملكه غيرهم؟

(إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في الكلام. (وَقالَ صَواباً) أي وقال قولا صائبا من المؤمنين والملائكة ، كأن يشفعوا لمن ارتضى. (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الثابت وقوعه ، الكائن لا محالة ، وهو يوم القيامة. (إِلى رَبِّهِ) إلى ثوابه. (مَآباً) مرجعا ، أي رجع إلى الله بالإيمان والطاعة ، ليسلم من العذاب فيه. (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) يا كفار مكة وأمثالكم ، والإنذار : التحذير من المكروه قبل وقوعه. (عَذاباً قَرِيباً) عذاب يوم القيامة الآتي ، وكل آت قريب. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) حين يرى كل امرئ ما قدمه من خير أو شر ، والمرء عام ، يشمل الذكر والأنثى ، والمؤمن والكافر. (وَيَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي فلا أعذب ، يقول ذلك عند ما يحشر الله البهائم للاقتصاص من بعضها لبعض ، ثم تردّ ترابا ، فيود الكافر حالها.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى وعيد الكفار ووعد المتقين ، ختم الكلام بالإخبار عن عظمته وجلاله وشمول رحمته وعلى التخصيص يوم القيامة ، وأردفه ببيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه ، وأن الناس فيه فريقان : فريق بعيد من الله ، ومصيره إلى النار ، وفريق قريب من الله ، وتكريمه وثوابه ، ومرجعه إلى الجنة ، ثم عاد إلى تهديد الكفار المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم وكفرهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن عظمته وجلاله وشمول رحمته كل شيء ، فيقول :

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ، لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي إن الجزاء الحسن والعطاء الكافي الوافي لأهل الإيمان والطاعة هو ممن اتصف بالعظمة والجلال ، ورب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، والرحمن الذي شملت رحمته كل شيء ، والذي لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه ، لهيبته وتعاليه ، ثم أكد هذا وقرره بقوله :

٢٦

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) أي إن عظمة الله تتجلى في يوم القيامة وتظهر عيانا للخلائق ، حتى إن جبريل عليه‌السلام وجميع الملائكة المصطفين ، مع رفعة أقدارهم ودرجاتهم ؛ لأنهم أعظم المخلوقات قدرا ورتبة لا يتكلمون في يوم القيامة الرهيب إلا بشرطين :

أحدهما ـ الإذن من الله بالشفاعة ، كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ٢ / ٢٥٥] وقوله سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود ١١ / ١٠٥] وقوله عزوجل : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه ٢٠ / ١٠٩].

والثاني ـ أن يقول صوابا : أي أن يقول حقا وصدقا إذا كان الإذن للشافع ، وأن يكون ذلك الشخص المشفوع له ممن قال في الدنيا صوابا ، أي شهد بالتوحيد بأن قال : لا إله إلا الله ، إذا كان الإذن للمشفوع.

والروح : هو جبريل عليه‌السلام في رأي الأكثرين ؛ لقوله عزوجل : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤]. وقال ابن عباس : هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا. وقال ابن مسعود : إنه ملك أعظم من السموات والأرض.

وفي الآية دلالة على أن الملائكة وجبريل عليهم‌السلام أعظم المخلوقات قدرا ومكانة ، وعلى عظمة يوم القيامة ورهبته.

ثم أخبر الله تعالى بأن يوم القيامة حق لا ريب فيه ، فقال :

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي إن ذلك اليوم الذي تقوم فيه الملائكة على تلك الصفة هو اليوم الثابت ، الكائن الواقع المتحقق الذي لا ريب فيه ، فمن أراد النجاة فيه ، اتخذ إلى ثواب ربّه مرجعا وطريقا يهتدي

٢٧

إليه ، ويقرّبه منه ، ويدنيه من كرامته ، ويباعده عن عقابه ، بالإيمان الحق والعمل الصالح.

ثم عاد الله تعالى إلى تهديد الكفار وتحذيرهم وتخويفهم من ذلك اليوم ، فقال :

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ، وَيَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي إننا يا أهل مكة وأمثالكم من الكفار حذّرناكم وخوّفناكم عذابا قريب الوقوع وهو يوم القيامة ؛ فإنه لتأكد وقوعه صار قريبا ، ولأن كل ما هو آت قريب ، كما قال تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات ٧٩ / ٤٦]. وفي هذا اليوم القريب ينظر كل امرئ ما قدّم من خير أو شرّ في حياته الأولى في الدنيا ، كما جاء في قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران ٣ / ٣٠].

ويقول الكافر من شدة ما يعانيه من أنواع الأهوال والعذاب ، مثل أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط وأبي جهل وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي : ليتني كنت ترابا ، فهو يتمنى إن لم يكن إنسانا يبعث ، وإنما كان ترابا ، ويتمنى أن يصير ترابا كالحيوانات بعد الاقتصاص من بعضها لبعض ، وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور ، وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما ، كما ذكر ابن كثير ، ومضمون تلك الأخبار : أن البهائم تحشر ، فيقتصّ للجمّاء من القرناء ، ثم تردّ ترابا ، فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب.

والآيتان الأخيرتان تدلان على أن الناس يكونون يوم القيامة فريقين : فريق المؤمنين المقربين من ثواب الله وكرامته ورضاه ، وفريق الكافرين الجاحدين البعيدين من رحمة الله ، الواقعين في صنوف العذاب.

٢٨

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لله تعالى في الدنيا والآخرة صفتان عظيمتان : هما العظمة والجلال فهو ربّ السموات والأرض والكون ، والرحمة الشاملة لكل شيء ، فهو الرحمن الرحيم.

٢ ـ اقتضت عظمة الله ألا يقدر أحد على مخاطبته يوم القيامة إلا لمن أذن له بالشفاعة.

٣ ـ لا يتكلم جبريل والملائكة في موقف القيامة إجلالا لربّهم وخوفا منه وخضوعا له ، فكيف يكون حال غيرهم؟

٤ ـ إن يوم القيامة كائن واقع حتما لا شك فيه ، فالسعيد من اتّخذ فيه إلى ربّه مرجعا بالإيمان والعمل الصالح.

٥ ـ إن يوم القيامة وما فيه من العذاب قريب الوقوع ؛ لأن كل آت قريب ، وفيه يجد كل إنسان ما قدم من خير أو شر.

٦ ـ يتمنى الكافر يوم القيامة لما يرى من أنواع العذاب أن يكون ترابا أو حيوانا غير مكلف بشيء.

٢٩

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النازعات

مكيّة ، وهي ست وأربعون آية.

تسميتها :

سميت سورة النازعات ؛ لافتتاحها بالقسم الإلهي بالنازعات وهم الملائكة الذين ينزعون أرواح بني آدم ، إما بيسر وسهولة وهم المؤمنون ، وإما بعسر وشدة وهم الكفار.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ تشابه الموضوع : فكلتا السورتين تتحدثان عن القيامة وأحوالها ، وعن مآل المتقين ، ومرجع المجرمين.

٢ ـ تشابه المطلع والخاتمة : فإن مطلع السورتين في الحديث عن البعث والقيامة ، الأولى تؤكد وجود البعث وما فيه من أهوال وحساب وجزاء ، والثانية افتتحت بالقسم على وقوع القيامة لتحقيق ما في آخر عم. والأولى اختتمت بالإنذار بالعذاب القريب يوم القيامة ، والثانية ختمت بالكلام عما في أولها من إثبات الحشر والبعث ، وتأكد حدوث القيامة ، فكان ذلك كالدليل والبرهان على مجيء القيامة وأهوالها.

٣٠

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع السورة كما أشرنا كسائر موضوعات السور المكية ، التي تهتم بأصول العقيدة من التوحيد ، والنبوة ، والبعث.

شرعت السورة بالقسم بالملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد لإثبات البعث : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ..) [الآيات : ١ ـ ٥] والمقسم عليه محذوف وهو «لتبعثن» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة ، وهو : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [٦ ـ ٧] ، أو بدليل إنكارهم للبعث في قوله تعالى : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) [١٠].

ثم وصفت أحوال المشركين المنكرين البعث ، فصوّرت مدى الذعر الشديد والاضطراب الذي يكونون عليه يوم القيامة ، وذكرت مقالتهم في إنكار البعث والردّ عليهم : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ ..) [الآيات : ٨ ـ ١٤].

وناسب ذلك إيراد قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون الطاغية الجبار الذي ادّعى الربوبية ، ثم أهلكه الله وجنوده بالغرق في البحر ، للعظة والعبرة ، والدلالة على كمال القدرة الإلهية ، بإفهامهم أن الكرّة والإعادة ليست صعبة على الله ، فما هي إلا زجرة أو صيحة واحدة : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ..) [الآيات : ١٥ ـ ٢٦].

ثم خاطب الله منكري البعث خطابا يتضمن إثبات البعث بالبرهان الحسي ، متحديا طغيانهم وتمردهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومذكرا إياهم أنهم أضعف من خلق السموات والأرض والجبال : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ..) [الآيات : ٢٧ ـ ٣٢].

وختمت السورة ببيان أهوال يوم القيامة ، وانقسام الناس فيه فريقين :

٣١

سعداء وأشقياء ، وسؤال المشركين عن ميقات الساعة ، وتفويض أمرها إلى الله تعالى ، لا إلى أحد حتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتأكيد حدوثها ، وذهول المشركين من شدة هولها ، ومعرفتهم أن مكثهم في الدنيا كمقدار العشي أو الضحى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ..) [الآيات : ٣٤ ـ ٤٦].

الحلف على وقوع البعث وأحوال المشركين فيه والرد على إنكارهم إياه

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

الإعراب :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً غَرْقاً) منصوب على المصدر ، وكذلك (نَشْطاً) و (سَبْحاً) و (سَبْقاً) كلها منصوبات على المصدر.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أَمْراً) منصوب إما لأنه مفعول به ل (فَالْمُدَبِّراتِ) أو بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : والمدبرات بأمر ؛ لأن التقدير ليس إلى الملائكة ، وإنما هو إلى الله تعالى ، فهي مرسلة بما يأمرها به.

وجواب القسم محذوف تقديره : لتبعثن ، بدليل إنكارهم للبعث في قوله تعالى : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أو الجواب : (يَوْمَ تَرْجُفُ) على تقدير حذف اللام ، أي ليوم ترجف ، وهذا ضعيف ، أو الجواب : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً).

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يَوْمَ) : إما منصوب بفعل دلّ عليه قوله تعالى : (قُلُوبٌ

٣٢

يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي وجفت قلوبهم ، فيكون يومئذ بدلا من (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أو بتقدير : اذكر يوم ترجف ، والجملة حال.

البلاغة :

(تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) أقسم الله بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعا بشدة وألم. (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) الملائكة التي تخرج أرواح المؤمنين برفق وسهولة. (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) الملائكة التي تسبح من السماء ، أي تنزل مسرعة بأمره تعالى. (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) الملائكة تسبق بالأرواح إلى مستقرها. (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) تنزل بتدبير ما أمرت به.

فهذه كلها صفات الملائكة ، وقيل : إنها الكواكب الجارية على نظام معين في سيرها ، (غَرْقاً) مسرعة في جريها. (نَشْطاً) خارجة من برج إلى برج. (سَبْحاً) سائرة في أفلاكها بهدوء. (سَبْقاً) مسرعة قبل غيرها في سبحها. (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) تدبر أمرا نيط بها ، كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات.

(تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) تضطرب الأرض والجبال وتتحرك ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) [المزمل ٧٣ / ١٤]. (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) تلحق بها السماء والكواكب ، فتنشق وتنتثر ، وقيل : (الرَّاجِفَةُ) : النفخة الأولى ، و (الرَّادِفَةُ) : النفخة الثانية. (واجِفَةٌ) خائفة قلقة شديدة الاضطراب ، من الوجيف : وهي صفة القلوب. (خاشِعَةٌ) ذليلة ، لهول ما ترى ، أي أبصار أصحابها ذليلة من الخوف. (يَقُولُونَ) أي أصحاب القلوب والأبصار استهزاء وإنكارا للبعث. (لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي أنرد بعد الموت إلى الحياة؟ و (الْحافِرَةِ) الحياة الأولى ، يقال : فلان رجع في حافرته ، أي طريقته التي جاء فيها ، فيرجع من حيث جاء.

(نَخِرَةً) بالية متفتتة. (قالُوا : تِلْكَ) أي رجعتنا إلى الحياة. (إِذا) إن صحت. (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) رجعة ذات خسران يخسر أصحابها. (زَجْرَةٌ) صيحة وهي النفخة الثانية لبعث الأموات. (فَإِذا هُمْ) كل الخلائق. (بِالسَّاهِرَةِ) أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض ، بعد أن كانوا ببطنها أمواتا.

٣٣

سبب النزول :

نزول الآية (١٠ ، ١٢):

أخرج سعيد بن منصور عن محمد بن كعب قال : لما نزل قوله : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟) قال كفار قريش : لئن حيينا بعد الموت لنخسرن ، فنزلت : (قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ).

التفسير والبيان :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ؛ وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١) أقسم الله سبحانه بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار من أجسادهم بشدة وعنف وإغراق في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد ، وتخرج أرواح المؤمنين بسرعة ولطف وسهولة ، وبالملائكة الذين ينزلون من السماء مسرعين ، لأمر الله تعالى ، والملائكة التي تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، وتدبر الأمر بأن تنزل بالحلال والحرام وتفصيلهما ، وتدبر أهل الأرض بالرياح والأمطار وغير ذلك. قيل : إن تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل : فموكل بالقطر والنبات ، وأما عزرائيل : فموكل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل : فهو ينزل بالأمر عليهم.

وقال الحسن البصري : المراد بالكلمات الخمس : النجوم والكواكب في جريها وتنقلها بين الأبراج وسيرها في أفلاكها هادئة أو مسرعة أو مدبرة أمرا بأمر الله تعالى.

__________________

(١) عطف بالواو ثم بالفاء : لأن الواو تدل على المغايرة ، والمراد هنا تغاير الصفة الدالة على تغاير الذات ، والفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والمراد هنا ترتب الأحوال على ما قبلها.

٣٤

وإنما قال : (أَمْراً) ، لا أمورا ؛ لأن المراد به الجنس ، فيقوم مقام الجمع ، وتدبير الأمر في الحقيقة لله تعالى ، وإنما أضيف إلى الملائكة لإتيانها به ، ولأنها من أسبابه.

وجواب القسم محذوف ، أي لتبعثن بعد الموت ، بدليل إنكارهم البعث كما حكى الله عنهم فيما بعد بقوله : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) [١١] أي انبعث بعد نخر العظام؟

وإنما عطف الثلاثة الأولى بالواو ، والباقيتين بالفاء ؛ لأن هاتين مسببتان عن التي قبلها ، كما قال الزمخشري.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي حين تتحرك الأرض وتضطرب الجبال ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) [المزمل ٧٣ / ١٤] ثم تتلوها السماء ، فتنشق بما فيها من الكواكب وتنتثر. وقيل : (الرَّاجِفَةُ) : هي النفحة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق ، وتليها النفخة الثانية التي يكون عندها البعث.

أخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه ، واللفظ للترمذي ، قال : «إذا ذهب ثلثا الليل قام ، فقال : يا أيها الناس ، اذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه» زاد أحمد : فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال : إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك».

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ ، أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي هناك قلوب تكون يوم القيامة خائفة مضطربة قلقة ، لما عاينت من أهوال يوم القيامة ، وهي قلوب الكفار ، وأبصار أصحابها ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال ، بسبب موتهم على غير الإسلام ، وإنكارهم البعث ، وهذه هي أقوالهم :

٣٥

(يَقُولُونَ : أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ، قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي يقول مشركو قريش وأمثالهم المنكرون المعاد ، المستبعدون وقوع البعث إذا قيل لهم: إنكم تبعثون ، هل نردّ إلى حياتنا الأولى وابتداء أمرنا قبل الموت ، فنصير أحياء بعد موتنا ، وبعد المصير إلى الحافرة وهي القبور؟ وهو كقولهم : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [الإسراء ١٧ / ٩٨].

وكيف يتصور أن نرد إلى الحياة بعد تمزق أجسادنا وتفتت عظامنا ، وصيرورتها عظاما بالية ناخرة؟

إن رددنا بعد الموت وصحّ أن بعثنا يوم القيامة لنخسرنّ أو تكون رجعة ذات خسران ؛ لتكذيبنا بما أخبر به محمد ، وسيصيبنا ما يقوله هذا النبي. وهذا القول صادر منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم ، لاعتقادهم ألا بعث.

ثم ردّ الله تعالى عليهم وأفحمهم قائلا :

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي لا تستبعدوا ذلك ، فإنما الأمر يسير ، ولا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله ، وما هي إلا صيحة واحدة ، وهي النفخة الثانية التي يبعث الله بها الموتى من القبور ، فإذا هم على وجه الأرض أحياء ، وحينئذ يحاسب الخلائق. والساهرة على الصحيح هي أرض الآخرة ، وهي أرض بيضاء مستوية ، والمراد بها هنا : وجهها الأعلى ، وسطحها الظاهر. وإنما قيل لها ساهرة ؛ لأنهم لا ينامون عليها حينئذ ، وقيل : هي أرض بالشام.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أقسم الله سبحانه بأنواع خمسة من الملائكة ذوي مهام متنوعة على أن القيامة حق. والقسم بها تعظيم لها وتنويه بها. ولله أن يقسم على ما يشاء في أي وقت يشاء ،

٣٦

ولإثبات أو نفي ما يشاء ، كالتوحيد وأن القرآن حق والرسول حق والبعث حق.

والمقسم به من المخلوقات في القرآن الكريم أحد نوعين :

الأول ـ أن تكون المخلوقات معظمة عند بعض الناس ، كالشمس والقمر.

الثاني ـ أن تكون المخلوقات مهملة مذهول عنها في أنظار الناس ، كمواقع النجوم والرياح والملائكة.

٢ ـ في يوم القيامة الرهيب ترجف الأرض والجبال ، وتتحرك وتضطرب ، وتتبعها السماء ، فتنشق وتنتثر ، والأرض : هي الراجفة ، والسماء : هي الرادفة ، وقيل : الراجفة هي النفخة الأولى ، والرادفة هي النفخة الثانية. والظاهر المعنى الأول ، قال مجاهد : الرادفة حين تنشق السماء ، وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة.

٣ ـ تكون قلوب الكفار الذين ماتوا على غير دين الإسلام خائفة وجلة ، وأبصار أصحابها منكسرة ذليلة من هول ما ترى.

٤ ـ أثبت المشركون المكذبون منكرو البعث على أنفسهم إنكار المعاد والبعث بأقوال ثلاثة ، فإذا قيل لهم : إنكم تبعثون ، قالوا منكرين متعجبين : أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر ، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟

ولا نتصور أن نعود كما كنا بعد أن نصير عظاما نخرة ، أي بالية متفتّتة.

وزادوا في الاستهزاء والتهكم ، فقالوا : إننا إذا بعثنا فتلك رجعة خائبة ، كاذبة باطلة.

٥ ـ ردّ الله تعالى عليهم وأفحمهم فقال : لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله ، فما هي إلا صيحة واحدة ، فإذا هم بالساهرة أي على وجه الأرض أو سطحها ، بعد أن كانوا في بطونها. قال الثوري : الساهرة : أرض الشام.

٣٧

التهديد بقصة موسى عليه‌السلام مع فرعون

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

الإعراب :

(هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى لَكَ) : جار ومجرور خبر مبتدأ محذوف ، أي هل لك ميل أو رغبة؟ وهو استفهام معناه العرض ، وهو لطف في الاستدعاء ؛ لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم ، فهو كلام محمول على «ادعوا» فكأنه قال : ادعوا إلى التزكي : وهو التحلي بالفضائل والتطهر من الرذائل. و (تَزَكَّى) أصله : تتزكى ، فحذفت إحدى التاءين للتخفيف ، ومنهم من أبدل من التاء الثانية زايا ، وأدغم التاء في الزاي ، ولم يدغم الزاي في التاء ؛ لأن في الزاي زيادة صوت.

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى نَكالَ) : إما مفعول لأجله ، أو منصوب على أنه مصدر ، فهو مصدر مؤكد ، كوعد الله وصبغة الله ، كأنه نكل الله به نكال الآخرة والأولى ، والنكال بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم ، والمراد الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة.

البلاغة :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) أسلوب التشويق إلى معرفة القصة.

المفردات اللغوية :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى)؟ خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصد تسليته على تكذيب قومه ، وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثلما أصاب من هو أعظم منهم. (الْمُقَدَّسِ) المبارك المطهر ، والوادي المقدس واد بأسفل جبل طور سيناء. (طُوىً) واد بين أيلة ومصر. (اذْهَبْ إِلى

٣٨

فِرْعَوْنَ) على إرادة القول ، أي وقال له. (طَغى) تجاوز الحد في الكفر. (هَلْ لَكَ) أدعوك أو هل ترغب فيه؟ (إِلى أَنْ تَزَكَّى) تتحلى بالفضائل وتتطهر من الرذائل ، والمراد: هل لك ميل إلى أن تتطهر من الكفر أو الشرك والطغيان بأن تشهد أن لا إله إلا الله؟ وقرئ : تزكّى بتشديد الزاي بإدغام التاء الثانية في الزاي. والتزكي في الأصل : التطهر من العيوب.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أرشدك إلى معرفته ، أو أدلك على معرفته. (فَتَخْشى) فتخاف بأداء الواجبات وترك المحرمات. (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي فذهب وبلغ ، فأراه المعجزة الكبرى والعلامة الدالة على صدقه في دعوى النبوة ، وهي انقلاب العصا حية ، أو اليد تخرج بيضاء. (فَكَذَّبَ) فرعون موسى. (وَعَصى) الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقق أمر النبوة. (أَدْبَرَ) ترك موسى وأعرض عن الإيمان والطاعة. (يَسْعى) في الأرض بالفساد وفي إبطال أمر موسى ومكايدته. (فَحَشَرَ) جمع السحرة وجنده. (فَنادى) في الجمع بنفسه أو بمناد. (فَقالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) في ولاية أمركم ، لا ربّ فوقي. (فَأَخَذَهُ اللهُ) أهلكه بالغرق. (نَكالَ) عقوبة أو عذاب. (الْآخِرَةِ وَالْأُولى) القيامة والدنيا ، أي أخذه منكلا به في الآخرة بالإحراق في جهنم ، وفي الدنيا بالإغراق. وقيل : المراد كلمته الآخرة وهي هذه : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وكلمته الأولى قبلها ، وهي قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص ٢٨ / ٣٨] وكان بينهما أربعون سنة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور. (لَعِبْرَةً) لعظة. (لِمَنْ يَخْشى) لمن شأنه الخشية من الله تعالى.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث ، واستهزاءهم في قولهم : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) وكان ذلك يشق على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر له قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون الطاغية ، حيث تحمل المشقة الكثيرة في دعوة فرعون ، ليكون ذلك كالتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيب قومه وشدة عنادهم وإعراضهم عن دعوته. كما يكون ذلك تهديدا للكفار بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أقوى وأعتى وأشد شوكة وأكثر جمعا ، فإن أصروا على كفرهم ، واستمروا في تمردهم أخذهم الله ، وجعلهم نكالا وعبرة ، كما جاء في آية أخرى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ، قالُوا : لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ، فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [فصّلت ٤١ / ١٣ ـ ١٤].

٣٩

التفسير والبيان :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي ألم يبلغك قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون ، حيث ابتعثه الله إليه ، وأيّده بالمعجزات ، حين ناداه ربّه ليلا ، مكلما إياه ، مكلفا له بالنبوة والرسالة في الوادي المبارك المطهّر وهو طوى : وهو الوادي في جبل سيناء الذي نادى الرّب فيه موسى.

وإنما ذكّر الله بقصة موسى عليه‌السلام ؛ لأنه أبهر الأنبياء المتقدمين معجزة ، ولأن فيها تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلاقيه من إعراض قومه ، ولتهديد كفار قريش بإنزال عذاب مشابه لما أنزل بفرعون وجنوده ، مع أنه كان أكثر جمعا وأشد قوة منهم.

ثم أبان الله تعالى مهمة موسى عليه‌السلام بقوله :

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي قال الله له : اذهب إلى فرعون طاغية مصر ، فإنه جاوز الحد في العصيان والتكبر والكفر بالله ، حيث ادّعى الربوبية ، وتجبر على بني إسرائيل ، واستعبد قومه.

ثم علّمه أسلوب الدعوة فقال :

(فَقُلْ : هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أي فقل لفرعون بعد وصولك إليه : هل لك رغبة في التطهر من الشرك والعيوب؟ وإني أرشدك إلى معرفة الله وتوحيده وعبادته ، فتخاف عقابه ، بأداء ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه. والخشية لا تكون إلا من مهتد راشد.

وإنما أمره الله بلين القول ، ليكون أنجع في الدعوة ؛ لأن دعوة الجبابرة تتطلب عادة التلطف والرفق والمداراة ، لتخفيف غلوائهم ، واستنزال شيء من

٤٠