التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

سبحانه ، لتشهد على العباد. قال ابن عباس في الآية : قال لها ربها : قولي ، فقالت.

أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول : عمل كذا وكذا ، يوم كذا وكذا ، فهذه أخبارها» (١). وقال الطبري : إن هذا تمثيل ، والمراد أنها تنطق بلسان الحال ، لا بلسان المقال.

ثم أبان الله تعالى مصدر هذه الواقعة ، فقال :

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي تحدّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها بأن تتحدث وتشهد. فقوله : (أَوْحى لَها) أي أذن لها وأمرها ، أو أوحى إليها أي ألهمها.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي في هذا اليوم المضطرب وفي يوم الخراب المدمر ، يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب ، مختلفي الأحوال ، فبعضهم آمن ، وبعضهم خائف ، وبعضهم بلون أهل الجنة ، وبعضهم بلون أهل النار ، ليريهم الله أعمالهم معروضة عليهم. هذا ما يراه بعض المفسرين كالشوكاني. فالصدر على هذا الرأي : هو قيامهم للبعث بعد أن كانوا مدفونين في الأرض ، و (أَشْتاتاً) فرقا مؤمن وكافر وعاص ، سائرون إلى العرض ، ليروا أعمالهم.

وقال آخرون كابن كثير : يرجعون عن موقف الحساب أشتاتا ، أي أنواعا وأصنافا ، ما بين شقي وسعيد ، مأمور به إلى الجنة ، ومأمور به إلى النار ،

__________________

(١) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

٣٦١

ليجازوا بما عملوه في الدنيا من خير وشر ، فيكون المراد بقوله : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) ليروا جزاء أعمالهم وهو الجنة والنار ، ولهذا قال :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أي فمن يعمل في الدنيا وزن نملة صغيرة أو هباء لا يرى إلا في ضوء الشمس ، والمراد أي عمل مهما كان صغيرا ، فإنه يجده يوم القيامة في كتابه ، ويلقى جزاءه ، فيفرح به ، أو يراه بعينه معروضا عليه. وكذلك من يعمل في الدنيا أي شيء من الشر ولو كان حقيرا أو قليلا ، يجد جزاءه يوم القيامة ، فيسوؤه. والذرّ كما تقدم : ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ، أو هو النملة الصغيرة.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧] وقوله سبحانه : (وَوُضِعَ الْكِتابُ ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ٤٩].

وفي صحيح البخاري عن عدي مرفوعا : «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، ولو بكلمة طيبة»وفي الصحيح له أيضا : «لا تحقرنّ من المعروف شيئا ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تلقى أخاك ، ووجهك إليه منبسط» وفي الصحيح أيضا : «يا معشر نساء المؤمنات لا تحقرنّ جارة لجارتها ، ولو فرسن شاة» يعني ظلفها. وفي الحديث الآخر الذي أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والنسائي عن حوّاء بنت السكن : «ردّوا السائل ، ولو بظلف محرق». وأخرج الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا عائشة استتري من النار ، ولو بشق تمرة ، فإنها تسدّ من الجائع مسدّها من الشبعان».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال : «كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ

٣٦٢

مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو بكر يده ، وقال : يا رسول الله ، إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر ، فقال : يا أبا بكر ، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشر ، ويدخر الله لك مثاقيل ذرّ الخير ، حتى توفّاه يوم القيامة».

وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : «لما نزلت : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) وأبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه قاعد ، فبكى ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال : يبكيني هذه السورة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا أنكم تخطئون وتذنبون ، فيغفر الله لكم ، لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون ، فيغفر لهم».

حسنات الكافر : قال ابن عباس : ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه الله تعالى إياه ، فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ، ويثاب بحسناته. وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته.

وعلى هذا يعاقب الكافر بسبب كفره ، وأما حسناته فتنفعه في الدنيا ، كدفع شر أو ضرر عنه ، وأما في الآخرة فلا تفيده ، ولا تنجيه من عذاب الكفر الذي يخلد به في النار ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ من أمارات الساعة : الزلزلة الشديدة للأرض ، وإخراج الأرض أثقالها ، أي ما في جوفها من الدفائن والأموات. قالوا : إنها عند النفخة الأولى تتزلزل ، فتلفظ بالكنوز والدفائن ، وعند النفخة الثانية ترجف فتخرج الأموات أحياء ، كالأم تلد حيا.

٢ ـ لا شك بأن الإنسان في وقت الزلازل والبراكين يرتجف ويخاف

٣٦٣

ويتساءل : ما للأرض زلزلت ، ما لها أخرجت أثقالها؟ وهي كلمة تعجيب.

٣ ـ إذا زلزلت الأرض تخبر يومئذ بما عمل عليها من خير أو شر ، ومعنى تحديث الأرض عند أبي مسلم الأصفهاني : يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله ، فكأنها حدثت بذلك ، كقولك : الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة ، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت ، وأن الآخرة قد أقبلت. وقال الطبري : تبين أخبارها بالرّجة والزلزلة وإخراج الموتى.

وقال الجمهور : المعنى أن الله تعالى يجعل الأرض حيوانا عاقلا ناطقا ويعرفها جميع ما عمل أهلها ، فحينئذ تشهد لمن أطاع ، وعلى من عصى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الترمذي عن أبي هريرة : «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل عليها» ثم تلا هذه الآية (١).

٤ ـ الذي تخبر به الأرض : إما أعمال العباد على ظهرها ، كما جاء في حديث الترمذي عن أبي هريرة المتقدم : «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل يوم كذا ، وكذا ، قال : فهذه أخبارها».

أو أنها تخبر بما أخرجت من أثقالها ، كما جاء في حديث ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا كان أجل العبد بأرض أو ثبته الحاجة إليها ، حتى إذا بلغ أقصى أثره ، قبضه الله ، فتقول الأرض يوم القيامة : ربّ هذا ما استودعتني».

أو أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان : ما لها؟ وهذا قول ابن مسعود ، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى ، وأمر الآخرة قد أتى ، فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم ، ووعيدا للكافر ، وإنذارا للمؤمن (٢).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٥٩ ، تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٤٩ ، غرائب القرآن : ٣٠ / ١٥٧

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٤٨ ـ ١٤٩

٣٦٤

٥ ـ في يوم الزلزلة يذهب الناس من مخارج قبورهم إلى الموقف ، بعضهم إثر بعض ، أو يرجعون وينصرفون من موقف الحساب إلى موضع الثواب والعقاب فرقا فرقا ، ليروا صحائف أعمالهم ، أو جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار ، وما يناسب كلّا منهما.

ويؤيد هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه ، فإن كان محسنا فيقول : لم لا ازددت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول : لم لا نزعت عن المعاصي (١)؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب.

٦ ـ كل من يعمل في الدنيا عملا خيرا صغيرا أو كبيرا ، يره بعينه أو يره الله إياه يوم القيامة ، وكل من يعمل في الدنيا عملا شرا مهما كان قليلا ، يره بنفسه أو يره الله إياه يوم القيامة. أو أن المراد : يجد جزاءه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

أما الكافر كما تقدم فحسناته في الآخرة محبطة بكفره وترد في وجهه ، ويجد عقاب ما فعل من كفر أو شر ، فيعذب بسيئاته ، أي أن عموم الآية قائم ، ولكن لا تقبل حسنات الكفار.

قال ابن مسعود عن آية : (فَمَنْ يَعْمَلْ ..) : هذه أحكم آية في القرآن. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية. قال كعب الأحبار : لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزّبور والصّحف : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما تقدم ـ يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٥٠

٣٦٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العاديات

مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة العاديات ؛ لأن الله افتتحها بالقسم بالعاديات : وهي خيل المجاهدين المسرعة في لقاء العدو.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر المناسبة بين السورتين من وجهين :

١ ـ هناك تناسب وعلاقة واضحة بين قوله تعالى في الزلزلة : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [٢] وقوله في هذه السورة : (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ).

٢ ـ لما ختمت السورة السابقة ببيان الجزاء على الخير والشر ، وبّخ الله تعالى الإنسان على جحوده نعم ربه ، وإيثاره الحياة الدنيا على الآخرة ، وترك استعداده للحساب في الآخرة بفعل الخير والعمل الصالح ، وترك الشر والعصيان.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة المكية مقاصد ثلاثة :

١ ـ القسم الإلهي بخيل المجاهدين على أن الإنسان كفور جحود لنعم ربه عليه ، وأنه مقدر شاهد على ذلك : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ..) [١ ـ ٧].

٣٦٦

٢ ـ التحدث عن غريزة الإنسان في حبه الشديد للثروة والمال : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [٨].

٣ ـ الحض على فعل الخير والعمل الصالح الذي ينفع الإنسان حين رجوع الخلائق إلى الله للحساب والجزاء ، والتهديد بالعقاب الشديد يوم القيامة : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ..) [٩ ـ ١١].

جحود النعم والبخل لحب الخير وإهمال الاستعداد للآخرة

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

الإعراب :

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) : (ضَبْحاً) : منصوب على المصدر في موضع الحال ، وهو صوت أنفاس الخيل حين عدوها ، و (قَدْحاً) : مصدر مؤكد ؛ لأن الموريات بمعنى القادحات.

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) : (صُبْحاً) : منصوب على الظرف ، وأثرن : عطف على قوله : (فَالْمُغِيراتِ) لأن المعنى : اللاتي أغرن صبحا ، فأثرن به نقعا ، أي جاز عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويل الفعل. وهاء (بِهِ) تعود إلى المكان ، وقد دل الحال عليه.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) جواب القسم ، ولام (لِرَبِّهِ) يتعلق ب (كنود) أي إن الإنسان لكنود لربه. وقد حسّن دخول لام الجر تقديمه على اسم الفاعل ، كما مع الفعل الذي يشبه في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٤] وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف ١٢ / ٤٣].

٣٦٧

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي ، وإنه لأجل حب المال لبخيل ، واللام تتعلق ب (شديد) أي وإنه لشديد لأجل حب المال ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) العامل في (إِذا بُعْثِرَ) : ما دل عليه : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ). ولا يجوز أن يعمل فيه (خبير) لأنه لا يجوز أن يعمل ما بعد (إِنَ) فيما قبلها ، ولا يجوز أن يعمل فيه (يَعْلَمُ) لأن الإنسان لا يطلب منه العلم في الآخرة ، وإنما في الدنيا. و (يَوْمَئِذٍ) : ظرف عمل فيه (لَخَبِيرٌ) وجاز أن يعمل فيما قبله ؛ لأن اللام في تقدير التقديم ، بخلاف (إِنَ).

البلاغة :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) التأكيد بإن واللام لزيادة التقرير والبيان.

(لَشَهِيدٌ لَشَدِيدٌ) بينهما جناس ناقص ، وكذلك بين (ضَبْحاً) و (صُبْحاً).

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) استفهام إنكاري للتهديد والوعيد.

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) تضمين ، ضمن لفظ (لَخَبِيرٌ) معنى المجازاة ، أي يجازيهم على أعمالهم.

(لَشَهِيدٌ) ، (لَشَدِيدٌ) ، (الصُّدُورِ) ، (الْقُبُورِ) سجع مرصع.

المفردات اللغوية :

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أقسم بخيل المجاهدين تعدو ، فتضبح ضبحا ، قال أبو حيان : والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات ، (وَالْعادِياتِ) الخيل التي تعدو وتسرع في العدو أي الجري جمع عادية. والضّبح : صوت أنفاس الخيل حين العدو أو الجري. (فَالْمُورِياتِ) الخيل القادحات التي توري النار ، أي تخرجها ، جمع مورية ، والإيراء : إخراج النار بزند ونحوه. (قَدْحاً) القدح : إخراج النار ، ويلاحظ أن الخيل إذا ركضت أو سارت في أرض ذات حجارة بالليل تقدح شرارة من النار بحوافرها. (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) الخيل التي تغير أو تهجم على العدو بإغارة أصحابها ، وقت الصبح ، جمع مغيرة.

(فَأَثَرْنَ بِهِ) هيجن بمكان عدوهن ، أو بذلك الوقت وهو الصبح. (نَقْعاً) غبارا ، بشدة حركتهن. (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) توسطن بذلك الوقت أو بالعدو أو بالنقع جمعا من جموع الأعداء ، أي صرن وسط الجمع.

٣٦٨

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي لكفور جحود نعمة الله تعالى عليه ، والمراد به جنس الإنسان المتحدث عنه ، وقيل : المراد به هنا : الكافر. (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي وإنه على كنوده لشاهد ، يشهد على نفسه بصنعه ، لظهور أثره عليه. (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) المال ؛ لقوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة ٢ / ١٨٠]. (لَشَدِيدٌ) لبخيل ، أو لشديد الحب له ، فيبخل به.

(بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) أثير وأخرج ما في القبور من الموتى ، أي بعثوا. (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) جمع محصلا وأظهر وبيّن ما في القلوب من الكفر والإيمان ، والشر والخير والعزائم والنوايا ، وتخصيص ذلك ؛ لأن القلوب هي الأصل. (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) لعالم ، فيجازيهم على كفرهم. ويلاحظ أنه أعيد الضمير : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ) جمعا ، نظرا لمعنى الإنسان. وهذه الجملة : دلت على مفعول يعلم ، أي إنا نجازيه حينئذ. وتعلق (خبير) ب (يَوْمَئِذٍ) مع أنه تعالى خبير دائما بكل شيء ؛ لأنه يوم المجازاة.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيلا ، ولبثت شهرا ، لا يأتيه منها خبر ، فنزلت : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً).

التفسير والبيان :

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ، فَالْمُغِيراتِ) أي قسما بالخيل التي تجري وتعدو بفرسانها المجاهدين في سبيل الله إلى العدو ، ويسمع لها حينئذ صوت زفيرها الشديد وأنفاسها المتصاعدة ، بسبب شدة الجري. وتخرج شرر النار بحوافرها أثناء الجري بسبب اصطكاك نعالها بالصخر أو الحجر ؛ وتغير أو تهجم على العدو وقت الصباح.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) فهيجن في الصبح أو مكان معترك الخيول غبارا يملأ الجو ، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء ، اجتمعوا في مكان ، ففرّقنه أشتاتا.

٣٦٩

وإنما أقسم الله تعالى بالخيل ؛ لأن لها في الركض (العدو) من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب ، ولأن الخيل في نواصيها الخير (١) إلى يوم القيامة ، ولأنها وسيلة الغزو عند العرب ، ولا تكاد تخلو في الأغلب من الخطور ببالهم. والمراد إعلاء شأنها في نفوس المؤمنين ، ليعنوا بتربيتها ، وليتدربوا عليها من أجل الجهاد في سبيل الله ، وليعتادوا على معالي الأمور ، وظواهر الجد والعمل.

وفي هذا القسم ترغيب باقتناء الخيل لهذه الأغراض النبيلة ، لا للسمعة والمفاخرة والرياء.

وعلى هذا فاللام في العاديات للعهد ، ويحتمل وهو الظاهر كما تقدم عن أبي حيان أن تكون للجنس وليست أل فيه للعهد ، ويدخل فيها خيل الجهاد والسرية دخولا أولياء.

وجواب القسم المحلوف عليه هو :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي إن الإنسان كفور بطبعه للنعمة ، كثير الجحد لها ، وعدم الإقرار بمقتضاها الموجب لشكر الخالق المنعم ، والخضوع لشرعه وأحكامه ، إلا من جاهد نفسه ، وعقل أمر الدنيا والآخرة ، فأقبل على الطاعة والفضيلة ، وأحجم عن المعصية والرذيلة.

والظاهر أن المراد بالإنسان هو الجنس ، والأكثرون على أن الإنسان هو الكافر ؛ لقوله بعد ذلك : (أَفَلا يَعْلَمُ). لكنهم قالوا أيضا : ويحتمل أن يراد أن جنس الإنس مفطور على ذلك إلا من عصمه الله بلطفه وتوفيقه ، وقوله : (أَفَلا يَعْلَمُ) يجوز أن يكون توبيخا على أنه لا يعمل بعلمه.

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي وإن الإنسان على كونه كنودا جحودا لشهيد

__________________

(١) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.

٣٧٠

يشهد على نفسه بالجحد والكفران ، أي بلسان حاله ، وظهور أثر ذلك عليه في أقواله وأفعاله بعصيان ربه ، كما قال تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [التوبة ٩ / ١٧].

وقال قتادة وسفيان الثوري : وإن الله على ذلك لشهيد.

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي وإن الإنسان بسبب حبه للمال لبخيل به ، أو أن حبه للمال قوي ، فتراه مجدّا في طلبه وتحصيله ، متهالكا عليه. فصار هناك رأيان في المعنى : أحدهما ـ وإنه لشديد المحبة للمال ، والثاني ـ وإنه لحريص بخيل بسبب محبة المال ، قال ابن كثير : وكلاهما صحيح.

ثم هدد الإنسان وتوعده إذا ظل بهذه الصفات ، فقال :

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج أو نثر ما في القبور من الأموات ، وأبرز وأظهر ما يسرّ الناس في نفوسهم من النوايا والعزائم ، والخير والشر ، إن رب هؤلاء المبعوثين لخبير بهم ، مطلع على جميع أحوالهم ، لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره ، ومجازيهم في ذلك اليوم على جميع أعمالهم أوفر الجزاء ، ولا يظلمون مثقال ذرة. فإذا علموا ذلك ووعوه ، فعليهم ألا يشغلهم حب المال عن شكر ربهم وعبادته والعمل للآخرة.

وخص أعمال القلوب بالذكر ؛ لأن أعمال الأعضاء الأخرى تابعة لأعمال القلب ؛ فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب ، لما حصلت أفعال الجوارح.

وأعاد الضمير في قوله : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ) بصيغة الجمع ؛ لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر ١٠٣ / ٢] ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [٣].

٣٧١

وإنما قال : (يَوْمَئِذٍ) مع أنه تعالى عالم بأحوال الناس في كل وقت ، للتأكيد على أنه عالم بذلك يوم المجازاة.

وعبّر عن المجازاة بالخبرة والعلم المحيط بهم ولأعمالهم ؛ لأن القصد هو التهديد ، كما قال تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) [آل عمران ٣ / ١٨١] مع أن كتابة أقوالهم وأفعالهم حاصلة فعلا ، وإنما أراد أننا سنجازيهم بما قالوا الجزاء المناسب. فيكون قوله تعالى : (لَخَبِيرٌ) وهو تعالى خبير دائما فيه تضمين (خبير) معنى مجاز لهم في ذلك اليوم (١).

وهذه الآية تدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات الزمانيات ؛ لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم ، فيكون منكر ذلك كافرا.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ أقسم سبحانه بالخيل التي تشغل بها أذهان العرب عادة على رداءة جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر ، والحرص على المال ، بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي ، وعن العمل للمعاد الذي إليه مآل العباد.

فقد طبع الإنسان على كفران النعمة ، وحب المال وبخله به ، وعليه أن يروض نفسه على ما يكون له به النجاة والسعادة.

٢ ـ ثم وبخ الله تعالى بالعلم التام الأزلي الأبدي الشامل لأحوال مبدأ الإنسان ومعاده ، والتوبيخ أو التهديد مدعاة للعقلاء إلى التأمل في المصير المحتوم ، والاستعداد للآخرة بزاد التقوى والفضيلة ، والبعد عن العصيان والمخالفة والرذيلة.

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٥٠٥

٣٧٢

ولا يختلف العلم وقت المجازاة بالأعمال والأقوال والأحوال عن العلم الأزلي لله تعالى بذلك ، وإنما قال : (يَوْمَئِذٍ) للتأكيد على شمول العلم في الماضي والحاضر والمستقبل ، ولأن الجزاء منوط بالعمل السابق ، فيكون تخصيصه دالا على التذكر وعدم النسيان ، وعلى التزام العدل وتوافر العلم وقت الجزاء.

٣٧٣

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القارعة

مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة القارعة لبدء السورة بها تهويلا وتخويفا ، كابتداء سورة الحاقة ، والقارعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامّة والصاخّة والغاشية ونحو ذلك. وسميت بهذا ؛ لأنها تقرع القلوب بهولها.

مناسبتها لما قبلها :

ختمت السورة السابقة بوصف يوم القيامة : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) وأعقبتها هذه السورة برمّتها بالحديث عن القيامة ووصفها الرهيب وأهوالها المخيفة.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة المكية التخويف بأهوال القيامة ، وهي كلها تدور حول الموضوع نفسه.

فقد بدأت بالحديث عن أهوال القيامة وشدائدها ، وانتشار الناس فيها من قبورهم كالفراش المتطاير : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ ..) [١ ـ ٤].

ثم أشارت إلى بعض أمارات الساعة وهو نسف الجبال وجعلها كالصوف

٣٧٤

المندوف ، مما يوجد الذعر والهلع والتأثر الشديد في قلوب الناس : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [٥].

وكانت خاتمتها الإخبار عن نصب موازين الحساب التي توزن بها أعمال الناس ، فثقيل الميزان بالحسنات إلى الجنة ، وخفيف الميزان بالسيئات إلى النار : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ..) [٦ ـ ١١].

أهوال القيامة وأماراتها وميزان الحساب فيها

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

الإعراب :

(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ الْقارِعَةُ) : مبتدأ. و (مَا) : مبتدأ ثان ، وما بعده خبره.

(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ما) الأولى : مبتدأ ، وما بعدها خبره. و (ما) الثانية : المبتدأ ، وخبرها في محل المفعول الثاني ل «أدراك».

(يَوْمَ) ظرف عامله تقرع ، دل عليه القارعة.

(كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) في موضع نصب ؛ لأنه خبر (يَكُونُ). وكذلك (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) في موضع نصب ؛ لأنه خبر (يَكُونُ).

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) الفاء : جواب (أما) التي فيها معنى الشرط. وهو : مبتدأ ، و (فِي عِيشَةٍ) : ظرف في موضع رفع ؛ لأنه خبر المبتدأ. و (راضِيَةٍ) : أي مرضي بها ، وهو مما جاء على وزن فاعل ، ويراد به مفعول.

٣٧٥

البلاغة :

(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ)؟ الاستفهام للتفخيم والتهويل ، وكذلك : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ)؟.

(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) وضع الظاهر موضع الضمير للتخويف والإرهاب ، والأصل أن يقال : القارعة ما هي؟

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) تشبيه مرسل مجمل ، ذكر فيه أداة التشبيه ، وحذف وجه الشبه ، وهو : في الكثرة والانتشار ، والضعف والهوان. ومثله : (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أي في تطايرها وخفة تناثرها.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) بينهما مقابلة.

(فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) مجاز عقلي إذا أريد بالراضية اسم الفاعل ، أي راض بها صاحبها.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ .. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ ..) فيهما احتباك : وهو أن يحذف في كلّ نظير ما أثبته في الآخرة ، حذف من الأول (فأمه الجنة) وذكر فيها (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وحذف من الثانية (فهو في عيشة ساخطة) وذكر (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ).

(الْقارِعَةُ) ، (راضِيَةٍ) ، (هاوِيَةٌ) ، (ما هِيَهْ) ، (حامِيَةٌ) سجع مرصّع.

المفردات اللغوية :

(الْقارِعَةُ) من أسماء يوم القيامة ، سميت بذلك لأنه تقرع القلوب والأسماع بأهوالها وأفزاعها الشديدة ، من القرع : الضرب بشدة. (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) ما أعلمك ، وهو زيادة تهويل لها. (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) أي كالفراش المنتشر المتفرق في الكثرة والانتشار ، والذلة والاضطراب ، يموج بعضهم في بعض للحيرة ، إلى أن يدعوا للحساب. والفراش : طائر معروف أحمق يتهافت على النار.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) كالصوف المندوف في خفة سيرها وتبددها ، حتى تستوي مع الأرض. (ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بأن رجحت حسناته على سيئاته. (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ذات رضا أو مرضية لصاحبها في الجنة. (خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن رجحت سيئاته على حسناته. (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فمسكنه أو مأواه الذي يأوي إلى نار جهنم. (ما هِيَهْ) ما هي النار؟ وهاء هيه للسكت تثبت وصلا ووقفا. والهاوية : من أسماء جهنم. (نارٌ حامِيَةٌ) أي هي نار شديدة الحرارة.

٣٧٦

التفسير والبيان :

(الْقارِعَةُ ، مَا الْقارِعَةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ)؟ (الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة ؛ لأنها تقرع القلوب بالفزع ، وأي شيء هي ، وما أعلمك ما شأن القارعة؟ وقوله : (مَا الْقارِعَةُ) لتعظيم شأنها وتفخيمه ، وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) تأكيد لشدة هولها ، وتعظيم أمرها ، وتهويل شأنها.

ثم فسر ذلك وأبان زمانها وأماراتها ، فقال :

١ ـ (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) أي يوم يخرج الناس من القبور ، يسيرون على غير هدى في كل اتجاه ، شأنهم في ذلك ، كالحشرة الطائرة المعروفة المنتشرة المتفرقة. أو كجميع الحشرات الطائرة ، كالبعوض والجراد ، فهم في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم بسبب حيرتهم مما هم فيه ، كأنهم فراش مبثوث ، أي متفرق منتشر ، كما قال تعالى : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر ٥٤ / ٧]. قال الزمخشري : شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب ، كما يتطاير الفراش إلى النار.

٢ ـ (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أي وتصير الجبال كالصوف ذي الألوان المختلفة ، المندوف الذي نقش بالندف ؛ لأنها تتفتت وتتطاير ، كما في قوله تعالى : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) [التكوير ٨١ / ٣] وقوله سبحانه : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمّل ٧٣ / ١٤].

وفي ذكر هاتين الأمارتين تخويف للناس وتحذير شديد.

ثم ذكر الجزاء على الأعمال وأحوال الناس وتفرقهم فريقين إجمالا ، فقال :

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي أما من ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته أو أعماله الصالحة على سيئاته ، فهو في عيشة مرضية

٣٧٧

يرضاها صاحبها في الجنة. والعيشة : كلمة تجمع النعم التي في الجنة.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ ، نارٌ حامِيَةٌ) أي وأما من رجحت سيئاته على حسناته ، أو لم تكن له حسنات يعتد بها ، فمسكنه أو مأواه جهنم. وسماها أمه ؛ لأنه يأوي إليها كما يأوي الطفل إلى أمه ، وسميت جهنم هاوية وهي الهالكة ؛ لأنه يهوي فيها مع عمق قعرها ، ولأنها نار عتيقة.

ونحن نؤمن بالميزان كما ورد في القرآن ، دون أن ندري كيفية وزنه وتقديره.

وما أعلمك ما هذه النار؟ والاستفهام للتهويل والتخويف ، ببيان أنها خارجة عن المعهود ، بحيث لا يدرى كنهها. قال الزمخشري : هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أو ضمير هاوية ، والهاء للسكت ، وإذا وصل القارئ حذفها.

هي نار شديدة الحرارة ، انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية ، فهي حارة شديدة الحرارة ، قوية اللهب والسعير. وهذا دليل على قوتها التي تفوق جميع النيران.

أخرج مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، قالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية؟ فقال : إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».

وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم».

وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أهون أهل النار عذابا : من له نعلان ، يغلي منهما دماغه».

٣٧٨

وثبت في الصحيحين : «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم».

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ القيامة ذات أهوال وشدائد ومخاوف تهز القلوب وتقرع الأسماع ، لا يعلم أحد بكنهها ؛ لأنها في الشدة بحيث لا يتصورها عقل أحد ، وكيفما قدرت فهو أعظم من تقديرك ، كأنه تعالى قال : قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع ، ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار.

وفي هذا تحذير شديد وإرهاب لا مثيل له. قال مقاتل : إنها تقرع أعداء الله بالعذاب ، وأما أولياؤه فهم من الفزع آمنون.

٢ ـ وصف الله يوم القيامة بأمرين :

الأول ـ كون الناس فيه كالفراش المتفرق المنتشر ، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار.

الثاني ـ صيرورة الجبال فيه كالصوف ذي الألوان ، المندوف ، الذي ينفش بعضه عن بعضه.

ويلاحظ أنه تعالى وصف تغير الأحوال على الجبال من وجوه أربعة :

أولها ـ أن تصير قطعا ، كما قال : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة ٦٩ / ١٤].

وثانيها ـ أن تصير كثيبا مهيلا ، كما قال : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل ٢٧ / ٨٨].

٣٧٩

وثالثها ـ ثم تصير كالعهن المنفوش ، وهي أجزاء كالذر الداخل من النافذة.

ورابعها ـ تصير سرابا ، كما قال : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ ، فَكانَتْ سَراباً) [النبأ ٧٨ / ٢٠] (١).

٣ ـ يقسم الناس يوم القيامة إلى قسمين بحسب ثقل موازين أعمالهم وخفتها ، فأما من رجحت حسناته على سيئاته فهو في الجنة في عيشة مرضية ، وأما من رجحت سيئاته على حسناته فهو في نار حامية شديدة الحرارة. وقوله : (نارٌ حامِيَةٌ) إشارة إلى أن سائر النيران بالنسبة إلى نار الآخرة غير حامية. وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها.

والموازين جمع ميزان ، فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة ، فإذا رجح ، فله الجنة ، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة ، فيخف وزنه ، فيدخل النار. وقال المتكلمون : إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما ، بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن ، أو يجعل النور علامة الحسنات ، والظلمة علامة السيئات.

قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم ، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا ، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.

وقال مقاتل : إنما كان كذلك ؛ لأن الحق ثقيل ، والباطل خفيف (٢).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٧٢

(٢) تفسير الرازي : ٣٢ / ٧٣

٣٨٠