التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

ولا اليهودية ولا النصرانية ، ومن يفعل خيرا فلن يكفره» وقال الترمذي : حسن صحيح.

لا تكليف بلا بيان ولا عقوبة دون إنذار

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥))

الإعراب :

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكِينَ) : معطوف على (أَهْلِ الْكِتابِ) و (مُنْفَكِّينَ) : خبر كان.

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا رَسُولٌ) : بدل مرفوع من (الْبَيِّنَةُ) قبله ، أو على تقدير مبتدأ محذوف ، تقديره هي رسول ، وقرئ : رسولا بالنصب على الحال.

(دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي الملة القيمة ، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، ولولا هذا التقدير ، لكان ذلك يؤدي إلى أن يكون ذلك إضافة الشيء إلى نفسه ، وذلك لا يجوز.

(مُخْلِصِينَ) منصوب على الحال.

البلاغة :

(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) ثم قال : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) إجمال ثم تفصيل.

(يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) استعارة تصريحية في لفظ (مُطَهَّرَةً) حيث شبه تنزه الصحف عن الباطل بطهارتها عن الأنجاس.

(الْبَيِّنَةُ) ، (الْقَيِّمَةِ) ، (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ، (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) توافق الفواصل ، وهو من المحسنات البديعية.

٣٤١

المفردات اللغوية :

(مِنْ) للبيان. (أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود والنصارى. (الْمُشْرِكِينَ) عبدة الأوثان والأصنام. (مُنْفَكِّينَ) منتهين عن كفرهم ، زائلين عما هم عليه ، مفارقين له. (الْبَيِّنَةُ) الحجة الواضحة التي يتميز بها الحق من الباطل ، مأخوذة من البيان : وهو الظهور ، والمراد هنا : الرسول أو القرآن ، فإنه مبين للحق. (صُحُفاً) جمع صحيفة : وهي ما يكتب فيه. (مُطَهَّرَةً) خالية من الباطل ، مبرّأة من الضلال والزور.

(فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) في الصحف مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق ، أي إن الرسول يتلو مضمون الكتب ، وهو القرآن. (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) عما كانوا عليه ، بأن آمن بعضهم بالقرآن ، وكفر به بعضهم. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) الدليل الواضح الدال على الحق ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن الجائي به معجزة له.

(وَما أُمِرُوا) في كتبهم كالتوراة والإنجيل. (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي إلا أن يعبدوه ، فحذفت (أن) وزيدت اللام. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) جاعلين الدين له وحده نقيّا من الشرك ، لا يشركون به. والإخلاص : الإتيان بالعمل خالصا لله تعالى دون إشراك به. والدين : العبادة. (حُنَفاءَ) مائلين عن الباطل والعقائد الزائغة ، جمع حنيف : وهو في الأصل المائل المنحرف عن الشيء إلى غيره ، والمراد هنا : المستقيمين على دين إبراهيم ودين محمد حين مجيئه. (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) دين الملة المستقيمة.

التفسير والبيان :

أرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجميع العالمين من الإنس والجن ، ولجميع الأمم والشعوب في عصره والعصور التالية له ، ولكل أهل الملل والأديان ، حتى أهل الكتاب والمشركين الذين بعدوا عن الدين الصحيح ، لذا قال تعالى :

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لم يكن الذين جحدوا رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكروا نبوته ، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب وغيرهم ، منتهين عما هم عليه من الكفر ، مفارقين لكفرهم الموروث ، حتى تأتيهم الحجة الواضحة ، وهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن الكريم.

٣٤٢

والمراد إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله ، حتى يأتيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من القرآن ، فإنه بيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم ، ودعاهم إلى الإيمان.

ثم أوضح المراد بالبيّنة فقال :

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي تلك البينة هي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين ، يقرأ عليهم ما تتضمنه صحف القرآن ، المطهرة من الخلط والكذب ، والشبهات والكفر ، والتحريف واللّبس ، بل فيها الحق الصريح الذي يبين لأهل الكتاب والمشركين كل ما يشتبه عليهم من أمور الدين ، وفيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة ، دون زيغ عن الحق ، وإنما هي صلاح ورشاد ، وهدى وحكمة ، كما قال تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصّلت ٤١ / ٤٢] وقال سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ ..) [الكهف ١٨ / ١ ـ ٢].

ونظير الآية قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس ٨٠ / ١٢ ـ ١٦].

ثم أبان تفرّق الكتابيين ، فقال :

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لا تتأسف يا محمد على الكتابيين ، فإن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر عليهم ، بل كان بعد وضوح الحق ، وظهور الصواب ، ومجيء الدليل المرشد إلى الدين الحق والبينة الواضحة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي جاء بالقرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته ووصفه ، فلما بعث الله محمدا ، تفرقوا في الدين ، فآمن به بعضهم ، وكفر آخرون ، وكان عليهم أن يتفقوا على طريقة واحدة ، من اتباع

٣٤٣

دين الله ، ومتابعة الرسول الذي جاءهم من عند الله ، مصدّقا لما معهم.

ونظير الآية : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران ٣ / ١٠٥]. وقد أعذر من أنذر ، كما قال تعالى: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال ٨ / ٤٢].

وجاء في الحديث المروي من طرق : «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي» (١).

ثم وبّخهم على انحرافهم عن الهدف الجوهري من الدين وهو إخلاص العبادة لله ، فقال :

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي إنهم تفرقوا واختلفوا ، مع أنهم لم يؤمروا في التوراة والإنجيل أو في القرآن الذي جاءهم من عند الله إلا بعبادة الله وحده ، وتكون عبادتهم خالصة لا يشركون به شيئا ، ويخلصون العبادة لله عزوجل ، مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، ويفعلون الصلوات على الوجه الذي يريده الله في أوقاتها ، ويعطون الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس عند حلول وقتها. وهذا الذي أمروا به يقتضي الاتحاد والاتفاق ، لا الشقاق والافتراق ، ولم يجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بمثل ما أمر به الرسل من ذلك ، ومنهجه اتباع ملة إبراهيم عليه‌السلام الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله كما قال : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل ١٦ / ١٢٣].

وذلك الدين : وهو إخلاص العبادة ، وترك كل ما يعبد من دونه ، وأداء

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٣٧

٣٤٤

الصلوات لله في أوقاتها ، وبذل الزكاة للمحتاجين ، هو دين الملة المستقيمة.

وقوله : (وَما أُمِرُوا) أي وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي ، أي أن المشروع في حقهم مشروع في حقنا. والأولى أن يكون المراد كما ذكر الرازي : وما أمر أهل الكتاب في القرآن أو على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بهذه الأشياء ، لأن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا ، وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى ، ولقوله تعالى : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأن الله تعالى ختم الآية بقوله : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وهو شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذه الآية دالة على أن التفرق والكفر فعلهم بدليل قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). والمقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا يحزنك أو لا يغمّنك تفرقهم ، فليس ذلك لقصور في الحجة ، بل لعنادهم ، وهكذا كان سلفهم تفرقوا في السبت وعبادة العجل بعد قيام البينة عليهم ، فهي عادة قديمة لهم.

وقوله : (لِيَعْبُدُوا) اللام في موضع (أن) أي إلا أن يعبدوا ، والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيرا ، مثل قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء ٤ / ٢٦] وقوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) [الصف ٦١ / ٨] وقال في الأمر : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) [الأنعام ٦ / ٧١].

وبما أن الإخلاص : عبارة عن النية الخالصة ، والنية معتبرة ، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به ، فلا بد وأن يكون منويا. قالت الشافعية : بما أن الوضوء مأمور به في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة ٥ / ٦] ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا ، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا. وعلى هذا لا بد في المأمورات من

٣٤٥

النية : بأن يقصد الشخص بعمله وجه الله. أما المنهيات فإن تركها بدون نية لم يؤجر في تركها ، وإن تركها ابتغاء وجه الله ، كان مأجورا على تركها ، وأما المباحات كالأكل والنوم ، فإن فعلها بغير نية لم يؤجر ، وإن فعلها بقصد وجه الله والتقوي بها على الطاعة ، كان له فيها أجر.

واللام في قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا : العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد عن عقاب النار ، بل لأجل أنك عبد ، وهو رب ، فلو لم يكن هناك ثواب ولا عقاب البتة ، ثم أمرك بالعبادة ، وجبت لمحض العبودية. وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد الله للثواب والعقاب ، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب ، والحق واسطة.

والعبادة هي التذلل ، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ ؛ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام ، وما أطاعوهم. والعبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدا في ذاته وصفاته الذاتية والفعلية.

والإخلاص : هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة ، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل. وقوله : (مُخْلِصِينَ) تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص : هو الذي يأتي بالحسن لحسنه ، والواجب لوجوبه ، فيأتي بالفعل مخلصا لربه ، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر ، بل قالوا : لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا ، وإن كان لا بد من ذلك. وقالوا أيضا : من الإخلاص : ألا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير ، مثل الواجب من الأضحية شاة ، فإذا ذبحت اثنتين : واحدة لله ، وواحدة للأمير ، لم يجز ؛ لأنه شرك.

٣٤٦

ثم إن هذه الآية : (وَما أُمِرُوا ..) دليل على أن الإيمان عبارة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل ؛ لأن الله تعالى ذكر العبادة المقرونة بالإخلاص وهو التوحيد ، ثم عطف عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم أشار إلى المجموع بقوله : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ للإسلام وشارعه فضل على جميع الأمم والخلائق ، فلولاه لما عرف إيمان صحيح ، ولا دين حق.

٢ ـ من هذه الفضائل والمزايا : أن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين عبدة الأوثان والأصنام لم يصيروا منتهين عن كفرهم ، مائلين أو زائلين عنه إلا بمجيء البينة وهي الحجة الواضحة ، وهي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما جاء به من القرآن العظيم ، حجة الله على عباده ، ومعجزة رسوله مدى الحياة ، وهو الذي يتلو منه على أسماع البشر صحفا مطهرة من الزور والشك والنفاق والضلالة ، كما قال ابن عباس ، وفي تلك الصحف مكتوبات مستقيمة مستوية محكمة ، مستقلة بالدلائل.

والصحف : القراطيس التي يكتب فيها القرآن ، المطهر من النقائص ، ومسّ المحدث إياه. ومعنى تلاوة الصحف : إملاؤه إياها. عن جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ من الكتاب ، وإن كان لا يكتب ، ولعل هذا من معجزاته.

٣ ـ تقتضي الآية الأولى : (لَمْ يَكُنِ) أن أهل الكتاب منهم كافر ، ومنهم

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٤٣ ـ ٤٨

٣٤٧

مؤمن ليس بكافر. أما المشركون فلا ينقسمون هذه القسمة ، وكلهم كفار ؛ لأن كلمة (مِنْ) هنا ليست للتبعيض ، بل للتبيين ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج ٢٢ / ٣٠] فقوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) بيان للذين كفروا ، والمراد أن الكفار فريقان : بعضهم أهل الكتاب ومن يجري مجراهم كالمجوس ، وبعضهم مشركون. وكلمة (وَالْمُشْرِكِينَ) وصف لأهل الكتاب ؛ لأن النصارى مثلثة ، وعامة اليهود مشبّهة ، وهذا كله شرك.

٤ ـ في الآية الأولى أحكام شرعية هي :

أولا ـ أنه تعالى فسر قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) بأهل الكتاب وبالمشركين ، وهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر ، لذا قال العلماء : الكفر كله ملة واحدة ، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس.

ثانيا ـ أن العطف أوجب المغايرة ، فلذلك نقول : الذمي ليس بمشرك. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المجوس فيما أخرجه الشافعي عن عبد الرحمن بن عوف : «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك. لكن قوله : «غير ناكحي» إلخ ، زيادة ضعيفة.

ثالثا ـ نبّه بذكر الكتاب على أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم ؛ إذ قد حدث في أهل القرآن مثلما حدث في الأمم الماضية (١).

٥ ـ خص الله تعالى أهل الكتاب بظهور التفرق فيهم دون غيرهم ، وإن اشتركوا مع بقية الكفار في الكفر ؛ لأنه مظنون بهم علم ، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.

٦ ـ حدثت ظاهرة تفرق أهل الكتاب بعد البعثة النبوية ، وذلك أنهم كانوا

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٤١

٣٤٨

مجتمعين متفقين على نبوته ، فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جحدوا نبوته وتفرقوا ، فمنهم من كفر بغيا وحسدا ، ومنهم من آمن ، كقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [الشورى ٤٢ / ١٤].

٧ ـ ما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل والقرآن إلا أن يوحّدوا الله تعالى ، ويخلصوا له العبادة ، كما قال تعالى : (قُلْ : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزّمر ٣٩ / ١١] وأن يكونوا حنفاء ، أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام المرضي وحده عند الله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران ٣ / ١٩] وأن يقيموا الصلاة بحدودها في أوقاتها ، ويعطوا الزكاة عند حلول أجلها ، وذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة ، أي الدين المستقيم ، أو دين الملة القيمة ، أو دين الأمة القيمة القائمة بالحق.

٨ ـ قوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) دليل على وجوب النية في العبادات ؛ فإن الإخلاص من عمل القلب ، وهو الذي يراد به وجه الله تعالى ، لا غيره.

٩ ـ الإخلاص لبّ العبادة ، جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة : «أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ، تركته وشركه».

وعيد الكفار ووعد الأبرار وجزاء الفريقين

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

٣٤٩

الإعراب :

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً خالِدِينَ) منصوب على الحال من ضمير مقدر ، تقديره : يجزونها خالدين فيها. و (أَبَداً) ظرف زمان مستقبل يتعلق ب (خالِدِينَ) وأما (قط) فللماضي ، تقول : والله لا أكلمه أبدا ، وما كلمته قط.

البلاغة :

(شَرُّ الْبَرِيَّةِ) و (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) بينهما طباق.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ..) الآية ، و (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) الآية فيهما مقابلة بين عذاب الكفار الفجار ، وبين نعيم المؤمنين الأبرار.

المفردات اللغوية :

(خالِدِينَ فِيها) ماكثين فيها يوم القيامة على الدوام ، بتقدير الله تعالى ، ويلاحظ أن اشتراك أهل الكتاب والمشركين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه ، فربما اختلف لتفاوت كفرهما. (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) الخليقة أو الخلق ، وقرئ : البريئة بالهمز على الأصل. (جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته ، وهو زيادة على جزائهم. (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه وفضله وهو أقصى أمانيهم. (ذلِكَ) أي المذكور من الجزاء والرضوان. (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) خاف عقابه ، فانتهى عن معصية الله تعالى ، فإن الخشية ملاك الأمر ، والباعث على كل خير.

قال البيضاوي عن وعد المؤمنين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ..) فيه مبالغات : تقديم المدح ، وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به ، والحكم عليه بأنه من عند ربهم ، وجمع جنات ، وتقييدها إضافة ووصفا بما يزداد لها نعيما ، وتأكيد الخلود بالتأبيد (١).

المناسبة :

بعد بيان موقف الكفار والمشركين من دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر الله تعالى وعيد الكفار ، ووعد الأبرار وجزاء الفريقين ، وقدم وعيد أهل الكتاب على المشركين ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقدّم حق الله على حق نفسه ، ولهذا حين كسروا رباعيته في غزوة أحد قال : «اللهم اهد قومي ، فإنهم لا يعلمون» وحيث فاتته

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ص ٨٠٦

٣٥٠

صلاة العصر يوم الخندق قال : «ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا» فقال الله تعالى : كما قدّمت حقي على حقك ، فأنا أيضا أقدم حقك على حقي ، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر ، ومن طعن فيك بوجه يكفر ، ثم إن أهل الكتاب طعنوا فيك ، فقدّمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ. ثم إن أهل الكتاب أولى بالإيمان بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم في الجملة يؤمنون بدين ، ويقرون بنبي آخر الزمان ، وعلاماته في كتبهم ، فطعنهم به في غير محله ، فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك (١).

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن مآل الفجار الكفار فيقول :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ ، خالِدِينَ فِيها ، أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي إن الذين خالفوا كتب الله المنزلة ، وأنبياء الله المرسلة ، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام ، مآلهم يوم القيامة في نار جهنم المستعرة ، يصيرون إليها ، ماكثين فيها على الدوام ، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، وهم حالا شر الخليقة التي برأها الله وذرأها ؛ لأنهم تركوا الحق حسدا وبغيا ، فسيكونون شر الخليقة مصيرا. والسبب في أنه لم يقل هنا خالدين فيها أبدا ، كما فعل في الأبرار ؛ لأن رحمته أزيد من غضبه. وقوله : (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) لإفادة النفي والإثبات ، أي هم دون غيرهم.

ثم أخبر الله تعالى عن حال الأبرار ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي إن الذين آمنوا بقلوبهم بربهم وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعملوا الصالحات بأبدانهم ، هم أفضل الخلق حالا ومآلا.

__________________

(١) غرائب القرآن : ٣٠ / ١٥٣ ، تفسير الرازي : ٣٢ / ٤٩

٣٥١

وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين الأبرار على الملائكة ؛ لقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

ثم ذكر جزاءهم فقال :

(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، وَرَضُوا عَنْهُ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي جزاؤهم يوم القيامة عند خالقهم ومالكهم على الإيمان والعمل الصالح جنات أو بساتين إقامة دائمة تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام ، لا يخرجون منها ، ولا يرحلون عنها ، ولا يموتون ، بل هم دائمون في نعيمها ، مستمرون في لذاتها إلى الأبد ، لا نهاية لنعيمهم. وكلمة الجزاء تفيد معنيين: أحدهما ـ أن يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص ، والثاني ـ أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية ؛ لأن الجزاء اسم لما يقع به الكفاية ، فلا يبقى في نفسه شيء إلا ويحققه له ، كما قال : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [فصلت ٤١ / ٣١]. وقوله : (تَجْرِي) إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد.

رضي‌الله‌عنهم ؛ لأنهم أطاعوا أمره ، وقبلوا شرائعه ، ورضوا عنه ، بما منحهم من الثواب والفضل العميم ، وتحقيق المطالب مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

وهذا الجزاء والرضوان حاصل لمن خاف الله واتقاه حق تقواه ، وعبده كأنه يراه ، وانتهى عن معاصيه بسبب ذلك الخوف.

وفي ذلك تحذير من خشية غير الله ، وتنفير من إشراك غيره به في جميع الأعمال ، وترغيب في تقوى الله ورهبته ، حتى يصبح العمل خالصا لله وحده. كما أن فيه إيماء إلى أن شرط أداء العبادة كالصوم والصلاة : خشية الله والخشوع له.

٣٥٢

أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، كلما كانت هيعة استوى عليه ، ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : رجل في ثلّة من غنمه ، يقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة. ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا : بلى ، قال : الذي يسأل بالله ولا يعطى به».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ استحق أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركون عبدة الأصنام بسبب كفرهم بالإسلام ثلاث عقوبات : دخول نار جهنم ، والخلود فيها ، ووصفهم بأنهم دون غيرهم هم شر البرية وشر خلق الله.

وقوله في وعيدهم : (خالِدِينَ فِيها) وفي آية الرعد : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إشارة كما تقدم إلى كمال كرمه وسعة رحمته ، كما قال في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة : سبقت رحمتي غضبي.

٢ ـ قال العلماء : آية الوعيد هذه مخصوصة في صورتين :

إحداهما ـ أن من تاب منهم وأسلم ، خرج من الوعيد.

والثانية ـ أن من مضى من الكفرة يجوز ألا يدخل فيها ؛ لأن فرعون كان شرا منهم.

٣ ـ استحق الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح أربعة أنواع من الجزاء : وصفهم بأنهم خير البرية ، ودخول جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، والخلود فيها أبدا ، ورضوان الله عليهم أي رضا أعمالهم ، ورضاهم عن الله ، أي رضاهم بثواب الله تعالى.

٣٥٣

٤ ـ وعملوا الصالحات : والخلود في الجنة خير من الجنة ، ورضا الله خير من الجنة. إما من مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا أو مقابلة الفرد بالفرد ، فلا مكلف يأتي بجميع الصالحات ، بل لكل مكلف حظ ، فحظ الغني الإعطاء ، وحظ الفقير الأخذ ، كما لو قال لامرأتيه : إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا ، فيحمل على أن يدخل كل واحدة منهما دارا على حدة.

٥ ـ احتج بعضهم بقوله : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي الخليقة ويؤيده قراءة الهمز على تفضيل البشر على الملائكة ، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا ، قال : أتعجبون من منزلة الملائكة من الله ، والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة ، أعظم من ذلك ، وقرأ هذه الآية. والجواب بأن الملائكة أيضا داخلون في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أو المراد بالبرية : بنو آدم ؛ لأن اشتقاقها من البري : وهو التراب ، لا من برأ الله الخلق ، فلا يدخل الملائكة في الآية البتة.

٦ ـ قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) مع قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر ٣٥ / ٢٨] ظاهر في أن العلماء بالله هم خير البرية ، اللهم اجعلنا منهم.

٣٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الزلزلة

مدنيّة ، وهي ثماني آيات.

تسميتها :

سميت سورة الزلزلة أو الزلزال لافتتاحها بالإخبار عن حدوث الزلزال العنيف قبيل يوم القيامة : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها). وهي سورة مدنية ، وقال ابن كثير : هي مكية.

مناسبتها لما قبلها :

لما ذكر الله تعالى في آخر سورة البيّنة وعيد الكافر ووعد المؤمن وأن جزاء الكافرين نار جهنم ، وجزاء المؤمنين جنات ، بيّن هنا وقت ذلك الجزاء وبعض أماراته وهو الزلزلة وإخراج الأرض أثقالها ، فكأنه قيل : متى يكون ذلك؟ فقال : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي يكون يوم زلزلة الأرض. ثم إنه تعالى أراد أن يزيد في وعيد الكافر ، فقال : أجازيه حينما تزلزل الأرض ، مثل قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران ٣ / ١٠٦]. ثم ذكر ما للطائفتين ، فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ..) [١٠٦] ، (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) [١٠٧]. ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذرّة من الخير والشر.

ما اشتملت عليه السورة :

أسلوب هذه السورة المدنية وموضوعها يشبه أسلوب وموضوع السور المكية ، لإخبارها عن أهوال القيامة وشدائدها.

٣٥٥

وقد اشتملت على مقصدين :

١ ـ بيان حدوث الزلزال والاضطراب الشديد للأرض يوم القيامة ، فينهار كل ما عليها ، ويخرج الناس الموتى من بطنها من قبورهم ، وتشهد حينئذ على كل إنسان بما عمل على ظهرها : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الآيات : ١ ـ ٥].

٢ ـ الحديث عن ذهاب الخلائق لموقف العرض والحساب ، ثم مجازاتهم على أعمالهم ، وقسمتهم فريقين : سعيد إلى الجنة ، وشقي إلى النار : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً ..) [٦ ـ ٨].

سبب نزولها :

كان الكفار يسألون كثيرا عن الساعة ويوم الحساب ، فيقولون : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟) [القيامة ٧٥ / ٦]. (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ [الملك ٦٧ / ٢٥]. (مَتى هذَا الْفَتْحُ)؟ (١) [السجدة ٣٢ / ٢٨] ونحو ذلك ، فأبان لهم في هذه السورة علامات القيامة فحسب ، ليعلموا أن علم ذلك عند الله ، ولا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم للعرض والحساب والجزاء.

فضلها :

أخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال : «أتى رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أقرئني يا رسول الله ، قال له : اقرأ ثلاثا من ذوات الراء ، فقال له الرجل : كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني ، قال : فاقرأ من ذوات حم ، فقال مثل مقالته الأولى ، فقال : اقرأ ثلاثا من المسبّحات ، فقال مثل مقالته ، فقال الرجل : ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة ، فأقرأه (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) حتى إذا فرغ منها ، قال الرجل : والذي بعثك

__________________

(١) أي متى الفتح الذي تعدوننا به ، وهو يوم البعث الذي يقضي الله فيه بين عباده؟

٣٥٦

بالحق نبيا ، لا أزيد عليها أبدا ، ثم أدبر الرجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفلح الرويجل ، أفلح الرويجل ، ثم قال : عليّ به ، فجاءه ، فقال له :

أمرت بيوم الأضحى ، جعله الله عيدا لهذه الأمة ، فقال له الرجل : أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى ، فأضحّي بها؟ قال : لا (١) ، ولكنك تأخذ من شعرك ، وتقلّم أظفارك ، وتقص شاربك ، وتحلق عانتك ، فذاك تمام أضحيتك عند الله عزوجل».

وأخرج الترمذي ـ وقال : هذا حديث حسن ـ عن أنس بن مالك : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل من أصحابه : هل تزوجت يا فلان؟ قال : لا والله يا رسول الله ، ولا عندي ما أتزوج!! قال : أليس معك : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)؟ قال : بلى ، قال : ثلث القرآن ، قال : أليس معك : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟ قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، قال : أليس معك : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)؟ قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، قال : أليس معك: (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)؟ قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، تزوج».

أمارة القيامة والجزاء على الخير والشر

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

__________________

(١) هذا في بداية الأمر ، ثم أبيح التضحية بالأنثى ، واتفقت المذاهب على جواز ذلك ، إلا أن الفحل أفضل من الأنثى.

٣٥٧

الإعراب :

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إِذا) ظرف ، والعامل فيه إما (فَمَنْ يَعْمَلْ) أو (تُحَدِّثُ) ويكون (يَوْمَئِذٍ) تكرارا وبدلا من (إِذا) ، وتقديره : إذا زلزلت الأرض تحدث أخبارها. و (زِلْزالَها) : منصوب على المصدر ، بكسر الزاي الأولى ، ولو فتح لكان اسما ، وقيل : هو بالفتح أيضا مصدر.

(أَشْتاتاً) منصوب على الحال من (النَّاسُ) جمع (شتّ) وهو المتفرق.

(فَمَنْ يَعْمَلْ .. وَمَنْ يَعْمَلْ ..) من في الموضعين : شرطية في موضع رفع بالابتداء. و (يَرَهُ) : خبره.

البلاغة :

(زِلْزالَها) الإضافة للتهويل. و (زُلْزِلَتِ زِلْزالَها) بينهما جناس الاشتقاق.

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ) إظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتوكيد.

(وَقالَ الْإِنْسانُ : ما لَها)؟ استفهام للتعجب والاستغراب أو الاستهجان.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) بينهما مقابلة.

(زِلْزالَها) ، (أَثْقالَها) ، (أَوْحى لَها) ، (أَخْبارَها) ، (ما لَها) سجع مرصع من المحسنات البديعية.

(أَوْحى لَها) تضمين ، ضمن ذلك معنى الإذن والأمر لها.

المفردات اللغوية :

(زُلْزِلَتِ) الزلزال : التحريك والاضطراب الشديدان ، وذلك يحصل عند النفخة الأولى أو الثانية أو الممكّن لها في الحكمة الإلهية. (أَثْقالَها) الأثقال في الأصل : أمتعة البيت ، كما قال تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ ..) [النحل ١٦ / ٧] جمع ثقل : متاع البيت ، والمراد هنا : ما في جوف الأرض من الكنوز والدفائن والأموات ، وتخرج أثقالها : تلقيها على ظهرها. (وَقالَ الْإِنْسانُ : ما لَها) يتساءل الإنسان عما يبهره من الأمر الفظيع وإنكارا لتلك الحالة ، وقيل : المراد بالإنسان : الكافر بالبعث ، فإن المؤمن يعلم ما لها. (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) تخبر بما عمل عليها من خير وشر. وهي تحدّث الخلق إما بلسان الحال وهو ما لأجله زلزالها وإخراجها ، أو ينطقها الله فتخبر بما عمل عليها. وهو جواب (إِذا) جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي هريرة : «تشهد على كل عبد أو أمة بكل ما عمل على ظهرها».

٣٥٨

(بِأَنَّ رَبَّكَ) أي تحدّث بسبب أن ربك (أَوْحى لَها) أمرها بذلك ، والوحي : الإلهام بخفاء ، يقال : أوحى له وإليه ، ووحي له وإليه : كلّمه خفية أو ألهمه. (يَصْدُرُ النَّاسُ) يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب. (أَشْتاتاً) متفرقين متمايزين بحسب مراتبهم وأعمالهم. (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) يروا جزاء أعمالهم من الجنة أو النار ، (ذَرَّةٍ) الذرة : الهباء الذي يرى في ضوء الشمس الداخل من نافذة ، أو النملة الصغيرة ، و (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) زنة نملة أو هباء ، وهو مثل في الصغر. (خَيْراً يَرَهُ) يرى ثوابه. (شَرًّا يَرَهُ) يرى جزاءه. وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ ..) تفصيل (لِيُرَوْا).

سبب النزول :

نزول الآية (٧ ، ٨):

(فَمَنْ يَعْمَلْ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) الآية ، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل ، إذا أعطوه ، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة ، والنظرة ، والغيبة ، وأشباه ذلك ، ويقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر ، فأنزل الله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

وقد سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ..) الجامعة الفاذّة ، حين سئل عن زكاة الحمر ، فقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : «ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١)».

وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين ، وذلك أنه لما نزل : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) كان أحدهما يأتيه السائل ، فيسأل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، ويقول : ما هذا بشيء ، وإنما نؤجر على ما نعطي.

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم.

٣٥٩

وكان أحدهما يتهاون بالذنب الصغير ، ويقول : لا شيء عليّ من هذا ، فرغب الله تعالى في القليل من الخير ؛ لأنه يوشك أن يكثر ، وحذر من الذنب اليسير ، فإنه يوشك أن يعظم ، فلهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم : «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة».

التفسير والبيان :

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي إذا تحركت الأرض من أسفلها حركة شديدة ، واضطربت اضطرابا هائلا حتى يتكسر كل شيء عليها ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج ٢٢ / ١] وقال سبحانه : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) [الواقعة ٥٦ / ٤].

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) ألقت ما في جوفها من الأموات والدفائن ، كما قال تعالى : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق ٨٤ / ٣ ـ ٤]. وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل ، فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا».

وتخرج الأرض الأموات في النفخة الثانية.

(وَقالَ الْإِنْسانُ : ما لَها؟) أي قال كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهره أمرها ويذهله خطبها : ما لهذه الأرض ، ولأي شيء زلزلت ، وأخرجت أثقالها؟

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي في ذلك الوقت المضطرب ، وقت الزلزلة ، تخبر الأرض بأخبارها ، وتحدّث بما عمل عليها من خير وشر ، ينطقها الله

٣٦٠