التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وأصل نزول الآية في أبي جهل عند أكثر المفسرين ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون ، أتاه أبو جهل فقال : يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى ؛ فاجعل لنا جبال مكة ذهبا ، لعلنا نأخذ منها ، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : «يا محمد خيّرهم في ذلك ، فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه ، فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة». فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك ؛ فكفّ عنهم إبقاء عليهم (١).

٦ ـ أول السورة يدل على مدح العلم ، وآخرها يدل على مذمة المال ، وكفى بذلك مرغبا في الدين ، ومنفرا عن الدنيا والمال (٢).

صور أخرى من الطغيان وتهديد الطغاة ووعيدهم

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

الإعراب :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى أَرَأَيْتَ) : يقرأ بالهمز على الأصل ، وبالتخفيف بجعل الهمزة بين الهمزة والألف ؛ لأن حركة الهمزة فتحة ، وتخفيف الهمزة : أن تجعل بين الهمزة والحرف الذي

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٢٣

(٢) تفسير الرازي : ٣٢ / ٩

٣٢١

حركتها منه. وتقرأ بالإبدال : بجعل الهمزة ألفا تشبيها لها بما إذا كانت ساكنة ، مفتوحا ما قبلها ، وليس لقياس. و (الَّذِي يَنْهى) : مفعول أول لأرأيت الأول وأ رأيت الثاني مكرر للتأكيد ولطول الكلام. وقوله : (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) مع ما عطف عليه مفعول ثان له. وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب الشرط الثاني وهو قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ). ويجوز أن يكون (أَرَأَيْتَ) الثالث أيضا مكررا. وجواب الشرط بالحقيقة هو ما تدل عليه هذه الجملة الاستفهامية وهي : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) كأنه قيل : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أو كذب وتولى ، فإن الله مجازيه.

(لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) نون نسفعن نون التوكيد الخفيفة ، وتكتب بالألف عند البصريين كالتنوين ، وبالنون عند الكوفيين ، وهي مكتوبة في المصحف بالألف ، كمذهب البصريين ، مثل : (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف ١٢ / ٣٢] وليس في القرآن لهما نظير. (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) : بدل من الناصية ، وهذا بدل النكرة من المعرفة.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي أهل مجلسه ، أهل ناديه ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

البلاغة :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً)؟ كناية ، كنى بالعبد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقل : ينهاك تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره. و (أَرَأَيْتَ) استفهام للإنكار والتعجب ، وهي بمعنى أخبرني.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى)؟ استفهام للتعجيب من حال الناهي الذي ينهى.

(ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) مجاز عقلي ، أسند الكذب والخطأ إلى الناصية مجازا ، والمراد صاحبها ؛ لأنه السبب.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) مجاز مرسل علاقته المحلية ، أي أهل ناديه ، بإطلاق المحل وإرادة الحال.

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتَ)؟ أي أخبرني ، وهي في المواضع الثلاثة للتعجب ، والمراد من الاستخبار : إنكار الحال المستخبر عنها وتقبيحها ، مثل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟) [الماعون ١٠٧ / ١]. (الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) الناهي : هو أبو جهل ، والعبد : هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى : أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن؟!

٣٢٢

وقيل : أرأيت إن كان المنهي على الهدى أو أمر بالتقوى؟ وأو : للتقسيم. (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) الناهي النبيّ؟ (وَتَوَلَّى) عن الإيمان. (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى)؟ أي ألم يدر بأن الله يرى ويشاهد ما يصدر منه ، فيجازيه عليه؟ أي أعجب منه يا مخاطب من حيث نهيه عن الصلاة ، ومن حيث إن المنهي عن الهدى آمر بالتقوى ، ومن حيث إن الناهي مكذب متول عن الإيمان؟!

والخطاب في قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه التعجب. وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم أعزّ الإسلام بعمر ، أو بأبي جهل بن هشام» وكأنه تعالى قال له : يا محمد كنت تظن أنه يعزّ به الإسلام ، وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام. وكان يلقب بأبي الحكم ، فقيل له : كيف يليق به هذا اللقب ، وهو ينهى العبد عن خدمة ربه ، ويأمره بعبادة الجماد؟!

وجواب شرط : (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) محذوف تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، أي فإن الله مجازيه.

(كَلَّا) ردع للناهي. (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه أو عليه من الكفر ، واللام : لام القسم. (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذن بناصيته ، ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع : الجذب بشدة ، والناصية : شعر الجبهة ، والمراد بذلك : القهر والإذلال بأنواع العذاب. (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) وصفها بالكذب والخطأ ، والمراد صاحبها ، بالإسناد المجازي للمبالغة. (نادِيَهُ) أي أهل ناديه ، والنادي : المجلس أو مكان اجتماع القوم للتحدث فيه ، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله.

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) ليجروه إلى النار ، و (الزَّبانِيَةَ) الملائكة الغلاظ الشداد جمع زبنية وزبني ، قال ابن عباس فيما ذكره أحمد : «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا». (كَلَّا) ردع للناهي أيضا. (لا تُطِعْهُ) يا محمد في ترك الصلاة ، واثبت أنت على طاعتك. (وَاسْجُدْ) ودم على سجودك ، وصل لله. (وَاقْتَرِبْ) تقرب إلى ربك بطاعته.

سبب النزول :

نزول الآية (٩):

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ، فجاءه أبو جهل ، فنهاه ، فأنزل الله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) إلى قوله : (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ).

٣٢٣

نزول الآية (١٧):

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) : أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ، فجاءه أبو جهل ، فقال : ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني ، فأنزل الله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) وهو حسن صحيح كما قال الترمذي.

المناسبة :

بعد أن أبان سبحانه في مطلع السورة مظاهر القدرة الإلهية ، وعدد نعمه ومننه العظمى على الإنسان بتعليمه القراءة والكتابة وما لم يعلم ، ذكر السبب الحقيقي لكفر الإنسان وطغيانه وبغيه وهو حب الدنيا والثورة والاغترار بها ، مما شغله عن النظر في آيات الله وشكر نعمه.

ثم ذكر صورا أخرى من طغيان الإنسان وهي النهي عن الصلاة والعبادة ، وهل يأمر بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان؟ وتكذيبه بالحق والتولي عن الدين والإيمان.

وناسب بعد هذا تهديده ووعيده بالعقاب الشديد والنكال الأليم يوم العرض والحساب ، من غير أن يجد نصيرا ينصره أو معينا يمنعه من العذاب.

وختمت السورة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم طاعة هذا الطاغية ، والإقبال على عبادة ربه ، والتقرب إليه بالطاعة.

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى عن حالات قبيحة جدا من أحوال الطغاة وهي :

١ ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ، عَبْداً إِذا صَلَّى)؟ أي أخبرني عن حال هذا الطاغية المغرور وهو أبو جهل وأمثاله ، كيف يجرأ على أن ينهى عبدا هو محمد

٣٢٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه عن أداء الصلاة والعبادة لله رب العالمين ، ويريد طاعته في عبادة الأوثان ، وترك عبادة الخالق الرزاق؟ وتنكير كلمة (عَبْداً) يدل على كونه كاملا في العبودية. والمراد بالآية : ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة ، وذلك مذموم عند العقلاء.

روي أن عليا رضي‌الله‌عنه رأى في المصلّى أقواما يصلون قبل صلاة العيد ، فقال : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ذلك ، فقيل له : ألا تنهاهم؟ فقال : أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) فلم يصرح بالنهي عن الصلاة. وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قال أبو يوسف : أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع : اللهم اغفر لي؟ فقال : يقول : ربنا لك الحمد ، ويسجد ، ولم يصرح بالنهي عن الدعاء (١).

٢ ـ (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟) أي أخبرني أيضا عن حال هذا الطاغية الناهي ، إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى ، أو هل هو آمر بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان ، كما يعتقد؟

والأكثرون على أن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ، ليكون الكلام على نسق واحد. وقيل : الخطاب للكافر ، والمعنى : أرأيت يا كافر إن كانت صلاة هذا العبد المنهي هدى ، ودعاؤه إلى الدين أمرا بالتقوى ، أتنهاه مع ذلك؟ والتقوى : الإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقى به النار. ويتصور هذا كأن الظالم والمظلوم حضرا عند الحاكم ، أحدهما المدعي ، والآخر المدعى عليه ، ثم خاطب هذا مرة ، أي في الكلام الأول : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) وهذا مرة أي في الكلام الثاني : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ..).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٢١ ، غرائب القرآن : ٣٠ / ١٣٦

٣٢٥

٣ ـ (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي أخبرني يا محمد عن حال هذا الكافر أبي جهل إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة ، ومظاهر القدرة الباهرة ، وبما جاء به رسول الله ، وأعرض عن الإيمان بدعوتك؟ والجواب فيما دل عليه ما يأتي : ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة ، وأنه سيجازيه ويحاسبه على جرائمه؟

وهذا على رأي الأكثرين في أن الخطاب في (أَرَأَيْتَ) في المواضع الثلاثة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن كان الخطاب للكافر فالمراد بالآية الثالثة : إن كان محمد كاذبا أو متوليا عن الحق ، ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي ، فلا يحتاج إلى نهيك؟

قال العلماء : هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل ، إلا أن كل من ينهى عن طاعة الله فهو شريك في وعيد أبي جهل.

ثم جاء الزجر والتهديد والوعيد بصيغ مختلفة مبالغ فيها ، وبعضها أشد من بعض :

١ ـ (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) أي أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه ويطلع على أحواله ، وسيجازيه بها أتم الجزاء ، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟!

٢ ـ (كَلَّا ، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أي ليرتدع وينزجر هذا الناهي عن البرّ والعبادة لله تعالى ، فوالله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر عن الشقاق والعناد ، لنأخذن بناصيته ، ولنجرّنه إلى النار. والناصية : شعر مقدم الرأس ، وصاحبها كاذب خاطئ مستهتر بفعل الخطايا والذنوب.

وفي هذا توعد شديد ، وتهديد أكيد عن طغيان هذا الطاغية.

٣٢٦

٣ ـ (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) أي فليدع هذا الناهي أهل ناديه أي قومه وعشيرته ، ليستنصر بهم ويعينوه ، والنادي : المجلس الذي يجتمع فيه القوم أو الأهل والعشيرة ، فإنه إن دعاهم لنصرته ، تعرض لسخط ربه وعقابه الأشد ، وسندعو له حينئذ الزبانية ، أي الملائكة الغلاظ الشداد ، ليأخذوه ويلقوه في نار جهنم. وفي هذا تحدّ بالغ.

روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟! فنزلت ، كما تقدم.

وروى البخاري والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه ، فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لئن فعل لأخذته الملائكة».

٤ ـ (كَلَّا ، لا تُطِعْهُ ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي إياك يا محمد أن تجامل هذا الطاغية في شيء ، أو تطيعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كما قال : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم ٦٨ / ٨] ، وصل لله غير مكترث به ، ولا مبال بتهديده أو نهيه ، وتقرب إلى الله سبحانه بالطاعة والعبادة ، فذلك يكسبك قوة وعزة ، ومنعة وهيبة في قلوب الأعداء ، والعبادة هي الحصن والوقاية ، وطريق النجاة والنجاح والنصر.

وقوله : (كَلَّا) ردع لأبي جهل عن قبائح أحواله وأفعاله. والمراد بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طاعة أبي جهل : قطع كل الصلات والعلاقات معه ، والمراد بالأمر بالسجود : أن يزداد غيظ الكافر.

وهذا تهكم بهذا الطاغية ، واستخفاف به ، وتعريض بأن الله سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه.

٣٢٧

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وصف الله تعالى أبا جهل وأمثاله من الطغاة المتمردين المتكبرين بأنه ينهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه عن عبادة الله تعالى ، وأنه فيما يأمر به من عبادة الأوثان ليس على طريق سديدة ، ولا على منهج الهدى ، ولا من الآمرين بالتقوى ، أي التوحيد والإيمان والعمل الصالح ، وأنه في الحقيقة مكذب بكتاب الله عزوجل ، ومعرض عن الإيمان.

٢ ـ هدد الله تعالى هذا الطاغية بالحشر والنشر ، فإن الله تعالى عالم بجميع المعلومات ، حكيم لا يهمل ، عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فلا بد أن يجازي كل أحد بما عمل. وفي هذا تخويف شديد للعصاة ، وترغيب قوي لأهل الطاعة.

وهذه الآية ، وإن نزلت في حق أبي جهل ، فكل من نهى عن طاعة الله ، فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد ، كما تقدم.

ولا يعترض عليه بالمنع من الصلاة في الدار المغصوبة ، والأوقات المكروهة ؛ لأن المنهي عنه غير الصلاة ، وهو المعصية.

كذلك لا يعترض عليه بمنع الزوجة عن صوم التطوع وعن الاعتكاف ؛ لأن ذلك لاستيفاء مصلحة الزوج بإذن الله ، لا بغضا بعبادة ربه.

٣ ـ زاد الله تعالى في الزجر والوعيد لذلك الطاغية أبي جهل وأمثاله : بأنه إن لم ينته عن أذى محمد ليأخذن الله بناصيته (مقدم شعر رأسه) وليذلّنه ويجرّنه إلى نار السعير ؛ لأن ناصية أبي جهل كاذبة في قوله ، خاطئة في فعلها ، والخاطئ

٣٢٨

معاقب مأخوذ ، والمخطئ (١) غير مؤاخذ. والمراد أن صاحب تلك الناصية كاذب خاطئ ، كما يقال : نهاره صائم ، وليله قائم ، أي هو صائم في نهاره ، قائم في ليله.

٤ ـ تحدى الله تعالى هذا الطاغية مع التهكم والتوبيخ بأن يطلب أهل مجلسه وعشيرته ، ليستنصر بهم ، فإنه إذا فعل أحضر الله الزبانية الملائكة الغلاظ الشداد لإلقائه في نار السعير.

٥ ـ بالغ الله تعالى في زجر هذا الكافر عن كبريائه ، ونفى قدرته على تحقيق تهديده ، وحقّره وأبان صغر شأنه وعجز نفسه ، فليس الأمر كما يظنه أبو جهل ، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إليه من ترك الصلاة ، وصل لله ، وتقرب إلى جنابه بالطاعة والتعبد.

وإنما عبّر عن الصلاة لله بقوله (وَاسْجُدْ) لما روى عطاء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرب ما يكون العبد من ربه ، وأحبه إليه ، جبهته في الأرض ، ساجدا لله». وعند مسلم عن أبي هريرة : «أقرب ما يكون العبد من ربه ، وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء».

وإنما كان ذلك ؛ لأن السجود على الأرض نهاية العبودية والذلة ، ولله غاية العزة ، وله العزة التي لا مقدار لها ، فكلما بعدت من صفته ، قربت من جنته ، ودنوت من جواره في داره.

جاء في الحديث الصحيح : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فإنه قمن (٢) أن يستجاب لكم» (٣).

__________________

(١) الخاطئ : الآثم القاصد للذنب. والمخطئ : من أراد الصواب ، فصار إلى غيره.

(٢) قمن : خليق وجدير.

(٣) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٢٨

٣٢٩

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القدر

مكيّة ، وهي خمس آيات.

تسميتها :

سميت سورة القدر أي العظمة والشرف تسمية لها بصفة ليلة القدر الذي أنزل الله فيها القرآن ، فقال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي في ليلة عظيمة القدر والشرف.

مناسبتها لما قبلها :

أمر الله تعالى في سورة العلق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقراءة القرآن باسم ربه الذي خلق ، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم ، ثم أبان في هذه السورة زمن البدء في نزول القرآن ، وهو ليلة القدر ذات الشرف الرفيع والقدر العالي بسبب نزول القرآن فيها.

ما اشتملت عليه السورة :

تحدثت هذه السورة المكية عن تاريخ بدء نزول القرآن الكريم ، وعن فضل ليلة القدر على سائر الأيام والليالي والشهور ، لنزول الملائكة وجبريل فيها بالأنوار والأفضال والبركات والخيرات على عباد الله المؤمنين الصالحين ، من لدن أرحم الراحمين الذي يفيض بها على من يشاء.

٣٣٠

معنى نزول القرآن في ليلة القدر :

معنى نزول القرآن في ليلة القدر ، مع العلم بأنه نزل منجّما مقسّطا على مدى ثلاث وعشرين سنة : أنه ابتدأ إنزاله ليلة القدر ؛ لأن بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت في رمضان.

وذلك لأن الله تعالى قال في هذه السورة : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقال في سورة الدخان : (حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [١ ـ ٦].

وأما قوله تعالى في سورة البقرة : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [١٨٥] فمعناه أنه ابتدأ نزول القرآن في شهر رمضان المبارك.

وأما آية الأنفال : (.. وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [٤١] فلا تعني تحديد موعد نزول القرآن ، وإنما تذكّر المؤمنين بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر في السابع عشر من رمضان من الآيات المتعلقة بأحكام القتال ، والملائكة ، والنصر. وسمي يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق فيه بين الحق والباطل.

بدء نزول القرآن وفضائل ليلة القدر

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

٣٣١

الإعراب :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) يراد بالهاء القرآن ، وأضمره وإن لم يجر له ذكر ، للعلم به.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) فيه صفة محذوفة ، تقديره : خير من ألف شهر ، لا ليلة قدر فيه ، فحذف الصفة.

(سَلامٌ هِيَ .. هِيَ) : مبتدأ ، و (سَلامٌ) : خبره المقدم.

(حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي إلى مطلع الفجر. ويقرأ أيضا (مَطْلَعِ) بكسر اللام ، والقياس هو الفتح ؛ لأنه من طلع يطلع ، بضم عين المضارع ، والكسر على خلاف القياس.

البلاغة :

(لَيْلَةِ الْقَدْرِ) إطناب لذكرها ثلاث مرات ، للتفخيم وزيادة العناية بها.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) استفهام بقصد التفخيم والتعظيم.

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) ذكر الخاص بعد العام ، ذكر جبريل بعد الملائكة ، للتنويه بقدره.

(الْقَدْرِ) ، (شَهْرٍ) ، (أَمْرٍ) ، (الْفَجْرِ) سجع مرصع : وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(أَنْزَلْناهُ) القرآن ، أضمره من غير سابقة ذكر له ، للعلم به ، والشهادة بأنه غني عن التصريح والتعريف ، وقد عظّمه بإسناد إنزاله إليه ، وعظّم الوقت الذي نزل فيه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ).

(أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي ابتدأ إنزاله فيها ، أو أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة الكرام البررة ، ثم كان جبريل ينزل به على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجّما مقسطا على التدريج في ثلاث وعشرين سنة. قال ابن العربي : وهذا باطل ؛ ليس بين جبريل وبين الله واسطة ، ولا بين جبريل ومحمد عليهما‌السلام واسطة. (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي ما أعلمك يا محمد ما هذه الليلة ، والاستفهام لتعظيم شأنها ، وسميت بذلك لشرفها ، أو لتقدير الأمور فيها ، كما قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان ٤٤ / ٤].

(خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس فيها ليلة قدر ، فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها. (تَنَزَّلُ) أي تتنزل إلى الأرض أو السماء الدنيا ، أو تقربهم إلى المؤمنين.

٣٣٢

(وَالرُّوحُ) جبريل عليه‌السلام. (فِيها) في الليلة. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بأمره. (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي كل أمر قضاه الله فيها لتلك السنة إلى قابل ، وقوله : (مِنْ) سببية ، بمعنى الباء أي من أجل كل أمر قدّر في تلك السنة. والآية : (تَنَزَّلُ) لبيان سبب تفضيلها على ألف شهر.

(سَلامٌ هِيَ) أي ما هي إلا سلامة ، والمعنى : لا يقدر الله فيها إلا السلامة ، وأما في غيرها فيقضي بالسلامة والبلاء ، أو لكثرة سلام الملائكة فيها على كل مؤمن ومؤمنة. (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي إلى وقت مطلعه أو طلوعه.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن الحسن بن علي أن ليلة القدر خير من ألف شهر ، ونزول السورة هي بسبب ما ساءه من حكم بني أمية الذي دام ألف شهر ، ولكنه حديث غريب ومنكر جدا.

وأخرج ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المسلمون من ذلك ، فأنزل الله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل الله.

نزول الآية (٣):

أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي ، فعمل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) عملها ذلك الرجل.

التفسير والبيان :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي إننا نحن الله بدأنا إنزال القرآن في ليلة القدر ، وهي الليلة المباركة ، كما قال الله عزوجل : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ

٣٣٣

مُبارَكَةٍ) [الدخان ٤٤ / ٣] وهي في شهر رمضان ؛ لقول الله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة ٢ / ١٨٥]. ثم أتممنا إنزاله بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحاجة وما تقتضيه الوقائع والحوادث ، تبيانا للحكم الإلهي فيها. قال الزمخشري رحمه‌الله : عظّم الله القرآن من ثلاثة أوجه : أحدها ـ أن أسند إنزاله إليه ، وجعله مختصا به دون غيره ، والثاني ـ أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، والثالث ـ الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه (١).

ثم ذكر الله تعالى فضائل تلك الليلة ، فقال :

١ ـ (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي وما أعلمك ما ليلة القدر؟ وهذا لتفخيم شأنها وتعظيم قدرها ، وبيان مدى شرفها ، وسميت بذلك ؛ لأن الله تعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة ، أو لعظيم قدرها وشرفها. قال الزمخشري: معنى ليلة القدر : ليلة تقدير الأمور وقضائها ، من قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان ٤٤ / ٤].

وقدرها أيضا : أن العمل فيها ، وهي ليلة واحدة ، خير من العمل في ألف شهر.

أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : لما حضر رمضان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، افترض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين ، في ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم».

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٣٥١

٣٣٤

وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه».

٢ ـ (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي تهبط الملائكة وجبريل من السموات إلى الأرض بكل أمر ومن أجل كل أمر قدّر في تلك الليلة إلى قابل ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يقدّر المقدّر في ليلة البراءة ، فإذا كان ليلة القدر يسلّمها إلى أربابها». ولا يفعلون شيئا إلا بإذن الله ؛ لقوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم ١٩ / ٦٤]. والروح : هو جبريل عليه‌السلام خص بالذكر لزيادة شرفه ، فيكون من باب عطف الخاص على العام.

ومن فوائد نزول الملائكة : أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروه في سكان السموات ، ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى الله من زجل المسبّحين ، فيقولون : تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا.

ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة ، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب ، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا.

٣ ـ (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي هذه الليلة المحفوفة بالخير بنزول القرآن وشهود الملائكة ، ما هي إلا سلامة وأمن وخير وبركة كلها ، لا شرّ فيها ، من غروب الشمس حتى وقت طلوع الفجر ، يستمر فيها نزول الخير والبركة ، ونزول الملائكة بالرحمة فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ بدأ نزول القرآن العظيم في ليلة القدر من ليالي رمضان المبارك.

٣٣٥

٢ ـ ليلة القدر هي ليلة الشرف والتعظيم ، وليلة الحكم والتقدير ، يقدّر الله فيها ما يشاء من أمره ، إلى مثلها من السنة القابلة ؛ من أمر الموت والأجل والرزق وغيره ، ويسلّمه إلى مدبّرات الأمور ، وهم أربعة من الملائكة : إسرافيل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وجبرائيل عليهم‌السلام.

٣ ـ العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف أشهر ليس فيها ليلة القدر ، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.

٤ ـ تهبط الملائكة من كل سماء ، ومن سدرة المنتهى ، وجبريل حيث مسكنه على وسطها إلى الأرض ، ويؤمّنون على دعاء الناس ، إلى وقت طلوع الفجر. وهم ينزلون في ليلة القدر بأمر ربهم من أجل كل أمر قدّره الله وقضاه في تلك السنة إلى قابل ، كما قال ابن عباس : وهذه الآية دالة على عصمة الملائكة ، كما قال تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم ١٩ / ٦٤] وقال سبحانه : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٧].

٥ ـ تلك الليلة ليلة أمن وسلام ، وخير وبركة من الله تعالى ، فلا يقدّر الله في تلك الليلة إلا السلامة ، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة ، وهي ليلة ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وهي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر. والخلاصة : اشتملت هذه الليلة على الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق ، والمنافع الدينية والدنيوية.

يؤيد هذا ما أخرجه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليلة القدر في العشر البواقي ، من قامهن ابتغاء حسبتهن ، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهي ليلة وتر : تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة».

٣٣٦

تعيين ليلة القدر :

الذي عليه أكثر العلماء أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان ، كل عام ؛ لحديث زرّ بن حبيش الذي أخرجه مسلم والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، قال : قلت لأبيّ بن كعب : إن أخاك عبد الله بن مسعود يقول : من يقم الحول يصب ليلة القدر ، فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين ؛ ولكنه أراد ألا يتّكل الناس ، ثم حلف لا يستثني (١) : أنها ليلة سبع وعشرين. قال : قلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال : بالآية التي أخبرنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو بالعلامة : أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها.

والجمهور على أن هذه الليلة باقية في كل عام ، ومختصة برمضان.

أماراتها أو علاماتها :

من علاماتها أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها. روى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في ليلة القدر : «ليلة سمحة طلقة ، لا حارّة ولا باردة ، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء». وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني رأيت ليلة القدر ، فأنسيتها ، وهي في العشر الأواخر من لياليها ، وهي طلقة بلجة ، لا حارّة ولا باردة ، كأن فيها قمرا ، لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها».

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ليخبر عن ليلة القدر ، فوجد رجلين يتنازعان ، فنسي الخبر.

__________________

(١) أي جزم في حلفه بلا استثناء فيه ، بأن يقول عقب يمينه : إن شاء الله.

٣٣٧

الحكمة في إخفائها بين الليالي :

الحكمة في إخفاء ليلة القدر كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة ، ويوم القيامة ، حتى يرغب المكلف في الطاعات ، ويزيد في الاجتهاد ، ولا يتغافل ، ولا يتكاسل ، ولا يتكل. ومن الإشفاق أيضا ألا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا. وإذا اجتهد العبد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة ، باهى الله تعالى ملائكته ، ويقول : كنتم تقولون فيهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فهذا جدّهم في الأمر المظنون ، فكيف لو جعلتها معلومة لهم؟ فهنالك يظهر سر قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

فضائلها :

أوجز الله تعالى كما تقدم بيان فضائلها بقوله سبحانه : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وقوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها). والآية الأولى فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم ، أما البشارة : فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير ، ولم يبين قدر الخيرية. وأما التهديد : فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار ، وأن إحياء مائة ليلة من القدر ، لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق ، بتطفيف حبة واحدة ، فدل ذلك على تعظيم حال الذنب والمعصية (١). وفي الصحيحين عن أبي هريرة كما تقدم : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدّم من ذنبه».

وقال الشعبي : وليلها كيومها ، ويومها كليلها. وقال الفرّاء : لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم ، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ : من شهد العشاء من ليلة القدر ، فقد أخذ بحظه منها. ومثله ومثل ما تقدمه لا يدرك بالرأي.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٣١

٣٣٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البيّنة

مدنيّة ، وهي ثماني آيات.

تسميتها :

سميت سورة البيّنة ؛ لافتتاحها بقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي مفارقين ما هم عليه من الكفر ، منتهين زائلين عن الشرك ، حتى تأتيهم الحجة الواضحة ، وهي ذلك المنزل الذي يتلوه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسمى أيضا سورة البرية ، أو : (لَمْ يَكُنِ).

مناسبتها لما قبلها :

هذه السورة كالعلة لما قبلها ، فكأنه لما قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قيل : لم أنزل القرآن؟ فقيل : لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم ، حتى تأتيهم البينة ، فهي كالعلة لإنزال القرآن ، المشار إليه في سورة القدر المتقدمة.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المدنية تحدثت عن الأمور الثلاثة التالية :

١ ـ بيان علاقة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين برسالة

٣٣٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وموقفهم منها ، وإقلاعهم عن كفرهم بسببها : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) [الآيات ١ ـ ٤].

٢ ـ تحديد الهدف الجوهري من الدين والإيمان وهو إخلاص العبادة لله عزوجل : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ..) [٥].

٣ ـ توضيح مصير كل من الكفار المجرمين الأشقياء شر البرية ، والمؤمنين الأتقياء السعداء خير البرية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ..) [٦ ـ ٨].

فضلها :

أخرج الإمام أحمد عن مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال : «لما نزلت : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى آخرها ، قال جبريل : يا رسول الله ، إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيّ : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة ، قال أبيّ : وقد ذكرت ثمّ يا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : فبكى أبيّ».

وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بن كعب : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) قال : وسماني لك؟ قال : نعم ، فبكى».

وأخرج أحمد والترمذي عن أبي بن كعب قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ، فقرأ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ..) فقرأ فيها : ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا ، ولو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير المشركة

٣٤٠