التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التين

مكيّة ، وهي ثماني آيات.

تسميتها :

سميت سورة التين ؛ لأن الله تعالى أقسم في مطلعها بالتين والزيتون ، لما فيهما من خيرات وبركات ، ومنافع : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ..).

مناسبتها لما قبلها :

ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة حال أكمل الناس خلقا وخلقا ، وأنه أفضل العالم ، ثم ذكر في هذه السورة حال النوع الإنساني وما ينتهي إليه أمره من التدني ودخول جهنم إن عادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو دخول الجنة إن آمن به وعمل صالحا.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة المكية بيان أمور ثلاثة متعلقة بالإنسان وعقيدته :

١ ـ تكريم النوع الإنساني ، حيث خلق الله الإنسان في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة ، سويّ الأعضاء ، حسن التركيب : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ..) [١ ـ ٤].

٢ ـ بيان انحدار مستوى الإنسان وزجّ نفسه في نيران جهنم بسبب كفره بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنكاره البعث والنشور ، بالرغم من توافر الأدلة القاطعة

٣٠١

على قدرة الله عزوجل بخلق الإنسان في أحسن تقويم : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [٥].

واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [٦].

٣ ـ إعلان مبدأ العدل المطلق في ثواب المؤمنين ، وتعذيب الكافرين : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ، أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) [٧ ـ ٨].

فضلها :

أخرج الجماعة في كتبهم ومالك في موطئه عن البراء بن عازب : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.

حال النوع الإنساني خلقا وعملا

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

الإعراب :

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ الْأَمِينِ) : إما من الأمن أي الآمن ، كعليم بمعنى عالم ، أو بمعنى المؤمّن ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران ٣ / ٩٧] كحكيم بمعنى محكم ، وسميع بمعنى مسمع.

٣٠٢

(فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أَحْسَنِ) : صفة لمحذوف ، أي في تقويم أحسن.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) «ما» : استفهامية في موضع رفع مبتدأ ، و (يُكَذِّبُكَ) : خبره.

البلاغة :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) إن أريد موضعهما وهما الشام وبيت المقدس ، فهو مجاز مرسل علاقته الحالية بإطلاق الحالّ وإرادة المحل ، مثل : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار ٨٢ / ١٣] فالنعيم مجاز ، وهو شيء معنوي يحل في الجنة ، والجنة محل له ، وهو حالّ فيها ، فأطلق

على سبيل المجاز المرسل الذي علاقته الحالّية.

(أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) و (أَسْفَلَ سافِلِينَ) بينهما طباق.

(فَما يُكَذِّبُكَ؟) التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والعتاب.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) استفهام تقريري.

(بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) بينهما جناس اشتقاق.

(الْبَلَدِ الْأَمِينِ) ، (أَسْفَلَ سافِلِينَ) ، (بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) سجع مرصّع.

المفردات اللغوية :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) هما الشجرتان المعروفتان ، أو الشام وبيت المقدس موضعا إنبات هاتين الشجرتين ، أو جبلان بالشام ينبتان المأكولين ، قال أبو حيان : والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم ، وفي الحديث : مدح التين ، وأنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس. وقال البيضاوي : خصّهما من بين الثمار بالقسم ؛ لأن التين فاكهة طيبة ، لا فضل (بقايا) لها ، وغذاء لطيف ، سريع الهضم ، ودواء كثير النفع ، فإنه يلين الطبع ، ويحلل البلغم ، ويطهر الكليتين ، ويزيل رمل المثانة ، ويفتح سدّة الكبد والطحال. والزيتون فاكهة وإدام ودواء ، وله دهن لطيف ، كثير المنافع ، مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال.

(وَطُورِ سِينِينَ) الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عنده ، وناجى عليه موسى ربّه ، و (سِينِينَ) وسيناء : اسمان للموضع الذي فيه. ومعنى (سِينِينَ) : المبارك أو الحسن بالأشجار المثمرة. (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مكة المكرمة التي كرمها الله بالكعبة ، و (الْأَمِينِ) : إما الآمن ، أو المأمون فيه ، يأمن فيه من دخله.

(الْإِنْسانَ) أراد به الجنس. (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) تعديل لصورته وشكله ، بأن خصه

٣٠٣

بانتصاب القامة وحسن الصورة واستجماع خواص الكائنات ، يقال : قوّم الشيء تقويما : جعله على أعدل وجه وأكمل صورة. والتقويم أيضا : معرفة قدر الشيء وقيمته. (ثُمَّ رَدَدْناهُ) رددنا بعض أفراده وهو الكافر أو بعض الناس. (أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل من كل سافل ، وقيل : هو كناية عن الهرم والضعف ، وأرذل العمر (أي الخرف) فيكون : (إِلَّا الَّذِينَ ..) استثناء منقطعا بمعنى لكن. (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع عنهم ، جاء في الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس : «إذا كبر العبد وضعف عن العمل ، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته».

(فَما يُكَذِّبُكَ) أيها الكافر. (بَعْدُ) بعد ما ذكر من خلق الإنسان في أحسن صورة ، ثم رده إلى أرذل العمر ، الدال على القدرة الإلهية على البعث. (بِالدِّينِ) الجزاء بعد البعث والحساب ، أي ما يجعلك مكذبا بالبعث ولا جاعل ولا موجب لهذا التكذيب؟

سبب النزول :

نزول الآية (٥):

(ثُمَّ رَدَدْناهُ ..) : أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) قال : هم نفر ، ردوا إلى أرذل العمر ، على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسئل عنهم حتى سفهت عقولهم ، فأنزل الله عذرهم ، أن لهم أجرهم الذي عملوا ، قبل أن تذهب عقولهم.

التفسير والبيان :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) أي قسما بالتين الذي يأكله الناس ، وبالزيتون الذي يعصرون منه الزيت ، فالمراد من التين والزيتون هذان الشيئان المشهوران ، قال ابن عباس : هو تينكم وزيتونكم هذا.

وهما كناية عن البلاد المقدسة التي اشتهرت بإنبات التين والزيتون. وإنما أقسم بالتين ؛ لأنه غذاء وفاكهة ودواء ، فهو غذاء لأنه طعام لطيف ، سريع الهضم ، لا يمكث في المعدة ، يلين الطبع ، ويقلل البلغم ، ويطهر الكليتين ،

٣٠٤

ويزيل ما في المثانة من الرمل ، ويسمّن البدن ، ويفتح مسام الكبد والطحال ، وهو خير الفواكه وأحمدها.

وكونه دواء لأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن ، وفي الحديث الحسن الذي رواه ابن السني وأبو نعيم عن أبي ذر ، وضعفه السيوطي : «إنه يقطع البواسير ، وينفع من النّقرس».

وكذلك الزيتون فاكهة وإدام ودواء ، يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب لبعض أهل البلاد ودهنهم ، ويدخل في كثير من الأدوية ، قال تعالى : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور ٢٤ / ٣٥]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وهو ضعيف : «كلوا الزيت وادّهنوا به ، فإنه من شجرة مباركة».

(وَطُورِ سِينِينَ) هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران عليه‌السلام ، وهو طور سيناء.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أي مكة المكرمة التي كرمها الله بالكعبة المشرفة ، وبميلاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرساله فيه ، سمي أمينا لأنه آمن ومأمون فيه ، كما قال تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران ٣ / ٩٧].

أقسم الله سبحانه بهذه المواضع الثلاثة ؛ لأنها مهابط وحي الله على أولي العزم من الرسل ، ومنها أضاءت الهداية للبشر. وجاء في آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء ـ يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران ـ وأشرق من ساعير ـ يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى ـ واستعلن من جبال فاران ـ يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان ، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه ، ثم بالأشرف منهما.

ثم ذكر جواب القسم المحلوف عليه ، فقال :

٣٠٥

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي أقسم بالأشياء الثلاثة المذكورة على أننا خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأجمل شكل ، منتصب القامة ، سويّ الأعضاء ، حسن التركيب ، يأكل بيده ، يتميز بالعلم والفكر والكلام والتدبير والحكمة ، فصلح بذلك أن يكون خليفة مستخلفا في الأرض كما أراد الله له. والخلاصة : خلقناه في أحسن تعديل شكلا وانتصابا ، كما قال أكثر المفسرين.

ذكر القرطبي القصة التالية التي توضح حسن تقويم الإنسان ، فقال :

كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبّا شديدا ، فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر ؛ فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني! وبات بليلة عظيمة ، فلما أصبح ، غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما ، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم ، فقال جميع من حضر : قد طلّقت ؛ إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة ، فإنه كان ساكتا.

فقال له المنصور : مالك لا تتكلم؟ فقال له الرجل : بسم الله الرحمن الرحيم : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). يا أمير المؤمنين ، فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه.

فقال المنصور لعيسى بن موسى : الأمر كما قال الرجل ، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل : أن أطيعي زوجك ولا تعصيه ، فما طلقك.

ثم عقب القرطبي على هذا قائلا : فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنا وظاهرا ، جمال هيئة ، وبديع تركيب : الرأس بما فيه ، والصدر بما جمعه ، والبطن بما حواه ، والفرج وما طواه ، واليدان وما بطشتاه ،

٣٠٦

والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر ؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه (١).

لكنه غفل عن هذه المقومات ، وأهمل هذه الميزات ، وأخذ يعمل بهواه وشهواته ، لذا قال تعالى :

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) قيل : إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع الله ويتبع الرسل ، والأولى أن يقال : رددناه إلى أرذل العمر ، وهو الهرم والضعف ، والخرف ونقص العقل ، بعد الشباب والقوة ، وجمال النطق ، وسلامة الفكر.

والقول الأول ، أي إلى النار بسبب كفر بعض الناس هو قول الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة ، وعلى هذا يكون الاستثناء الآتي : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..) استثناء متصلا.

والقول الثاني ، أي إلى أرذل العمر هو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك والنخعي ، وعلى هذا يكون الاستثناء التالي منقطعا. وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا ، بل في الجنس من يعتريه ذلك. واختار ذلك ابن جرير.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إلا الذين آمنوا بالله ورسله واليوم الآخر ، وعملوا صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات ، فلهم ثواب على طاعاتهم دائم غير منقطع.

والمعنى كما أشرنا على التفسير الأول وكون الاستثناء متصلا : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأن جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة ، فلهم ثواب جزيل ، ينجون به من النار أسفل السافلين ، وهو الجنة دار المتقين.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١١٤

٣٠٧

والمعنى على التفسير الثاني وكون الاستثناء منقطعا وهو الراجح لدينا : لكن المؤمنين المتقين ، فإن الله يكافئهم بثواب دائم غير منقطع ، بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان ، مع ضعف البنية ، وفتور الأعضاء ، أي أنهم قد يردون إلى أرذل العمر كغيرهم ، لكن لهم أجرا كبيرا دائما على أفعالهم.

قال الألوسي : المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة ، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها ، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها ؛ لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها (١).

أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مرض العبد أو سافر ، كتب الله تعالى له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما». وفي رواية عنه : ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

وأخرج الطبراني عن شدّاد بن أوس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله تبارك وتعالى يقول : «إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا ، فحمدني على ما ابتليته ، فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا ، ويقول الربّ عزوجل : إني أنا قيّدت عبدي هذا ، وابتليته ، فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك» وهو حديث صحيح.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : إذا كبر العبد ، وضعف عن العمل ، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته.

ورأى بعضهم أن الاستثناء متصل حتى على القول الثاني ، فلا يردّ المؤمن المتقي إلى أرذل العمر ، بدليل ما أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٣٠ / ٤٧٦

٣٠٨

عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر ، وذلك قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) قال : إلا الذين قرءوا القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير نحوه ، فقال : من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.

ثم وبّخ الكفار على التكذيب بالجزاء بعد البعث ، فقال :

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟) المراد : فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات والأدلة على قدرة الله إلى أن تكون كاذبا ، بسبب تكذيب الجزاء ؛ لأن كل مكذّب بالحق فهو كاذب؟ فإذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردّك بسبب الكفر أسفل سافلين ، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ لقد علمت البدأة ، وعرفت أن من قدر على البدأة ، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى ، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد ، وقد عرفت هذا؟

ثم أكّد ما سبق بقوله :

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي أما هو أحكم الحاكمين قضاء وعدلا ، الذي لا يجور ولا يظلم ، ومن عدله أن يقيم القيامة ، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه؟!

أخرج الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا : «فإذا قرأ أحدكم : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ، فأتى على آخرها : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين».

٣٠٩

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بمواضع ثلاثة مقدسة : هي أماكن نبات التين والزيتون ، التي هي مقام الأنبياء ومهبط الوحي ، وطور سيناء الذي كلم الله عليه موسى ، ومكة البلد الحرام الآمن على أنه خلق جنس الإنسان في أحسن تقويم وهو اعتداله واستواء شبابه. ثم يرد بعض النوع الإنساني أسفل سافلين ، أي إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، حتى يصير كالصبي في طوره الأول من أطوار الحياة.

قال ابن العربي : ولامتنان الباري سبحانه ، وتعظيم النعمة أو المنة في التين ، وأنه مقتات مدخر ، فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه (١).

٢ ـ استثنى الله تعالى الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، فإنه تكتب لهم حسناتهم ، وتمحى عنهم سيئاتهم ، وهم الذين أدركهم الكبر ، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم.

٣ ـ وبّخ الله الكافر وألزمه الحجة بكفره بالجزاء بعد البعث بقوله فيما معناه : إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردّك إلى أرذل العمر ، وينقلك من حال إلى حال ، فما يحملك على أن تكذّب بالبعث والجزاء ، وقد أخبرك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم به؟

٤ ـ أليس الله أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق ، وأنه أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلا بين الخلق؟! وفي هذا تقدير لمن اعترف من الكفار بالصانع القديم وهو الله تعالى. وهو وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٩٣٩

٣١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العلق

مكيّة ، وهي تسع عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة العلق ، وسورة اقرأ ، أو (بِالْقَلَمِ) ؛ لأن الله سبحانه افتتحها بقوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ). والعلق : الدم المتجمد على شكل الدودة الصغيرة.

مناسبتها لما قبلها :

ذكر الله تعالى في سورة التين أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وهذا بيان للصورة ، وذكر هنا أنه : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) وهذا بيان للمادة.

وذكر تعالى في هذه السورة من أحوال الآخرة بيانا توضيحيا لما ذكر في السورة السالفة.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المكية أول شيء نزل من القرآن على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبيان الأمور الثلاثة التالية :

١ ـ بيان حكمة الله في خلق الإنسان من ضعف إلى قوة ، والإشادة بما زوّده وأمره به من فضيلة القراءة اقرأ والكتابة (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) لتمييزه على غيره من المخلوقات : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ..) [الآيات : ١ ـ ٥].

٣١١

٢ ـ الإخبار عن مدى طغيان الإنسان وتمرده على أوامر الله ، وجحوده نعم الله عليه وغفلته عنها رغم كثرتها في حال توافر الثورة والمال والغنى لديه ، فقابل النعمة بالنقمة ، وكان الواجب عليه أن يشكر ربّه على فضله ، فجحد النعمة وتجبّر واستكبر : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ..) [الآيات : ٦ ـ ٨].

٣ ـ افتضاح شأن فرعون هذه الأمة أبي جهل الذي كان ينهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة ، انتصارا للأوثان والأصنام ، وتوعده بأشد العقاب إن استمر على ضلاله وكفره وطغيانه ، وتنبيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عدم الالتفات لما كان يوعده به ويتهدده : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ...) إلى (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) [الآيات : ٩ ـ ١٩].

كيفية نزول هذه السورة ـ حديث بدء نزول الوحي :

نزل صدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن الكريم ، أما بقية السورة فهو متأخر النزول ، بعد انتشار دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين قريش ، وتحرشهم به وإيذائهم له.

أخرج الإمام أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء ، فيتحنّث فيه ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها ، حتى فجأه الوحي ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : (اقْرَأْ).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فقلت : ما أنا بقارئ» قال : فأخذني فغطّني ـ ضمّني ـ حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطّني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطّني الثالثة ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني.

٣١٢

فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ ، وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

قال : فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة ، فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع ، فقال : يا خديجة ، ما لي؟ وأخبرها الخبر ، وقال : قد خشيت على نفسي ، فقالت له :

كلا ، أبشر ، فو الله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرّحم ، وتصدّق الحديث ، وتحمل الكلّ ـ الضعيف العاجز ـ وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة ، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة.

ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ليتني فيها جذعا (١) ، ليتني أكون حيّا حين يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو مخرجيّ هم؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثم لم ينشب (٢) ورقة أن توفي ، وفتر الوحي ، حتى حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنا حزنا ، غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدّى له جبريل ، فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا ، فيسكن بذلك جأشه ، وتقرّ نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك. فإذا أوفى بذروة الجبل ، تبدّى له جبريل ، فقال له مثل ذلك.

__________________

(١) الجذع : الشاب القوي الجلد.

(٢) لم ينشب : لم يلبث.

٣١٣

الحكمة في خلق الإنسان وتعليمه القراءة والكتابة

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨))

الإعراب :

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير (اقْرَأْ).

(عَلَّمَ) بدل اشتمال من (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية.

(أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أَنْ رَآهُ) : في موضع نصب على أنه مفعول لأجله ، أي لأن رآه ، وأصله «رأيه» فتحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا. ورأى : يتعدى إلى فعلين ؛ لأنه من رؤية القلب ، فالمفعول الأول : الهاء ، والثاني : (اسْتَغْنى).

وقرئ «رأه» بهمزة من غير ألف بعدها ، على أساس حذف لام الفعل مثل (حاشَ لِلَّهِ) أو لأن مضارعه «يرى» وقد حذفت عينه بعد نقل حركتها إلى ما قبلها ، أو حذفت لسكونها وسكون السين في (اسْتَغْنى).

البلاغة :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) سجع مرصّع.

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) و (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) إطناب بتكرار الفعل ، لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم.

(خَلَقَ) و (عَلَقٍ) بينهما جناس ناقص.

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) بينهما طباق السلب.

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) التفات من الغيبة إلى الخطاب ، تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان.

٣١٤

المفردات اللغوية :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ابتدئ قراءة القرآن مفتتحا باسم ربّك ، أو مستعينا به. (الَّذِي خَلَقَ) الذي خلق كل شيء. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) جنس الإنسان. (مِنْ عَلَقٍ) جمع علقة : وهي قطعة دم يسيرة جامدة ، فإذا جرى الدم فهو المسفوح. (اقْرَأْ) تأكيد للأول. (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الذي لا يوازيه كريم ، الزائد في الكرم على كل كريم ، فإنه ينعم بلا غرض. (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) علّم الخط والكتابة بالقلم ، وأول من خط به إدريس عليه‌السلام. (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) علم جنس الإنسان بخلق القوى ، وإقامة الدلائل ، وإنزال الآيات ، وبتعليمه الأشياء من غير معلّم كالكتابة والصناعة وغيرها. والمقصود : أنه يعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا. وقال : (مِنْ عَلَقٍ) بلفظ الجمع ؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع ، وكل الناس خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة : قطعة من دم رطب ، سميت بذلك ؛ لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه ، فإذا جفّت لم تكن علقة.

وقد أبان في هذه الآيات مبدأ خلق الإنسان الذي يدلّ على الأوصاف الإلهية وأهمها بيان وجوده وقدرته تعالى ، ثم أشار إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة ، ثم إثبات النبوة.

(كَلَّا) أي حقا عند بعض المفسرين ؛ لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع ، وقال الزمخشري : إنه ردع لمن كفر بنعمة الله عليه وطغى ، وهذا معلوم من سياق الكلام ، وإن لم يذكر. (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : فرد من النوع الإنساني. (لَيَطْغى) يتكبر ويتجاوز الحدّ في العصيان. (أَنْ رَآهُ) لأن رأى نفسه. (اسْتَغْنى) اغتنى بالمال وغيره ، أي صار ذا مال وأعوان يغني بهما ، والآية نزلت في أبي جهل ، كما سأبيّن. (إِنَّ إِلى رَبِّكَ) يا إنسان. (الرُّجْعى) الرجوع ، والرجعى والمرجع والرجوع : مصادر ، أي المصير والعودة ، والمراد تخويف الإنسان ، فإن الله يجازي الطاغي بما يستحقه.

سبب النزول :

نزول الآية (٦):

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ ..) : أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل : نعم ، فقال : واللات والعزى ، لئن رأيته يفعل لأطأنّ على رقبته ، ولأعفرنّ وجهه في التراب ، فأنزل الله : (كَلَّا ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) الآيات.

٣١٥

ثم إنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ، فنكص على عقبيه ، فقالوا له : مالك يا أبا الحكم؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار ، وهولا شديدا.

التفسير والبيان :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي اقرأ مبتدئا باسم ربّك ، أو مستعينا باسم ربّك ، الذي أوجد وخلق كل شيء. وقد وصف الله لنا نفسه بأنه الخالق للتذكير بأول النعم وأعظمها. والمراد : الأمر من الله لنبيّه بأن يصير قارئا ، بقدرة الله الذي خلقه وإرادته ، وإن لم يكن من قبل قارئا ولا كاتبا ، فمن خلق الكون قادر على أن يوجد فيه القراءة ، وإن لم يتعلمها سابقا.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) أوجد بني آدم من قطعة دم جامد وهي العلقة ، التي هي طور من أطوار خلق الجنين ، فإنه يبدأ نطفة ، ثم يتحول بقدرة الله إلى علقة : وهي كأنها قطعة من الدم الجامد ، ثم يكون مضغة : وهي كأنها قطعة لحم ، ثم يظهر فيها بقية التخليق من عظام ، فلحم ، فإنسان كامل الخلقة.

ويلاحظ أنه تعالى أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات ، ثم خصّ الإنسان بالذّكر لشرفه ، أو لعجيب فطرته ، أو لأن الآية سيقت من أجله.

وإنما قال : باسم ربّك ، ولم يقل : باسم الله كما في التسمية المعروفة : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأن الربّ : من صفات الفعل ، والله : من أسماء الذات ، وبما أنه أمره بالعبادة ، وصفات الذات لا تستوجب شيئا ، وإنما يستوجب العبادة صفات الفعل ، فكان ذلك أبلغ في الحثّ على الطاعة ، والخلاصة : إنه لم يأت بلفظ الجلالة ، لما في لفظ الرّب من معنى الذي ربّاك ، ونظر في مصلحتك ، وجاء الخطاب ليدل على التأنيس والاختصاص ، أي ليس لك ربّ غيره.

وإنما أضاف ذاته إلى رسوله ، فقال : (بِاسْمِ رَبِّكَ) للدلالة على أنه له ،

٣١٦

تصل إليه منفعته ، أما طاعة العبد فلا تحقق منفعة لله ، فإذا أتى بما طلبه منه من طاعة أو توبة ، أضافه إلى نفسه بوصف العبودية ، فقال : (أَسْرى بِعَبْدِهِ) [/ الإسراء ١٧ / ١].

وإنما ذكر قوله (الَّذِي خَلَقَ) بعد قوله : (رَبِّكَ) للاستدلال على أنه ربّه ، وهو الذي أوجده ، فصار موجودا بعد أن كان معدوما ، والخلق والإيجاد تربية ، وكذلك جاء بصفة الخالق ، أي المنشئ للعالم ، للإتيان بصفة لا يمكن للأصنام شركة فيها ، فيكون ردّا على العرب التي كانت تسمي الأصنام أربابا.

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي افعل ما أمرت به من القراءة ، وربّك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم ، ومن كرمه : تمكينك من القراءة وأنت أمّي. وإنما كرر كلمة (اقْرَأْ) للتأكيد ، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) لإزاحة المانع ، وإزالة العذر الذي اعتذر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل حين طلب منه بقوله : (اقْرَأْ) ، فقال : ما أنا بقارئ.

والأوجه : أن يراد بقوله الأول : (اقْرَأْ) : أوجد القراءة ، وبالثاني : استعن باسم ربّك.

ثم قرن القراءة بالكتابة ، فقال :

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم ، فهو نعمة عظيمة من الله عزوجل ، وواسطة للتفاهم بين الناس كالتعبير باللسان ولولا الكتابة لزالت العلوم ، ولم يبق أثر لدين ، ولم يصلح عيش ، ولم يستقر نظام ، فالكتابة قيد العلوم والمعارف ، ووسيلة ضبط أخبار الأولين ومقالاتهم ، وأداة انتقال العلوم بين الأمم والشعوب ، فتبقى المعلومات ، ثم يبنى عليها ويزاد إلى ما شاء الله ، فتنمو

٣١٧

الحضارات ، وتسمو الأفكار ، وتحفظ الأديان ، وتنشر الهداية. وجاء في الأثر : «قيدوا العلم بالكتابة» (١).

لهذا بدأت دعوة الإسلام بالترغيب في القراءة والكتابة ، وبيان أنها من آيات الله في خلقه ، ومن رحمته بهم ، وكانت معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخالدة ، وهو العربي الأميّ ، قرآنا يتلى ، وكتابا يكتب ، وأنه بذلك نقل أمته من حال الأميّة والجهل إلى أفق النور والعلم ، كما قال تعالى ممتنا بذلك : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة ٦٢ / ٢].

ثم أبان عموم فضله وكثرة نعمه ، فقال :

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي علّم الله الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور ما لم يعلم بها ، فلا عجب أن يعلمك الله أيها النبي القراءة ، وكثيرا من العلوم ، لنفع أمتك. ورد في الأثر : «من عمل بما علم ، ورّثه الله علم ما لم يكن يعلم» (٢).

ثم ردع الإنسان على طغيانه حال الغنى ، فقال :

(كَلَّا ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي ارتدع وانزجر أيها الإنسان ، عن كفرك بنعمة الله عليك ، وتجاوزك الحدّ في العصيان ، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.

وقيل : المراد بالآية : حقا إن أمر الإنسان عجيب ، يستذل ويضعف حال الفقر ، ويطغى ويتجاوز الحدّ في المعاصي ويتكبّر ويتمرد حتى أحسّ بنفسه القدرة والثروة. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وأمثاله.

__________________

(١) أخرجه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن عمرو ، وهو صحيح.

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٢٨

٣١٨

ثم أنذر بالعقاب في الآخرة ، فقال :

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي إن الرجوع والمصير إلى الله وحده ، لا إلى غيره ، فهو الذي يحاسب كل إنسان على ماله من أين جمعه ، وأين صرفه. ويلاحظ أن هذا الكلام جاء على طريقة الالتفات إلى خطاب الإنسان ، تهديدا له ، وتحذيرا من عاقبة الطغيان.

روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود : منهومان لا يشبعان : صاحب العلم ، وصاحب الدنيا ، ولا يستويان ، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن ، وأما صاحب الدنيا ، فيتمادى في الطغيان ، ثم قرأ عبد الله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) وقال للآخر: (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وقد روي هذا مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «منهومان لا يشبعان : طالب علم ، وطالب دنيا».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ بيان قدرة الله تعالى بالخلق ، فهو الخالق ، والتنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة : قطعة دم جامد رطب غير جاف. وهذه الآيات الكريمات أول شيء نزل من القرآن ، وهن أول رحمة من الله لعباده وأول نعمة أنعم الله بها عليهم.

٢ ـ أمر الله سبحانه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقرأ القرآن باسم ربّه الذي خلق ، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم.

٣ ـ أمر الله تعالى أيضا بتعلم القراءة والكتابة ؛ لأنهما أداة معرفة علوم الدين والوحي ، وإثبات العلوم السمعية ونقلها بين الناس ، وأساس تقدم العلوم والمعارف والآداب والثقافات ، ونمو الحضارة والمدنية.

٣١٩

٤ ـ من كرم الله تعالى وفضله : أن الإنسان ما لم يكن يعلمه ، لينقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، فقد شرّفه وكرّمه بالعلم ، وبه امتاز أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم إما بالفكر والذهن ، وإما باللسان ، وإما بالكتابة بالبنان. قال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى عظيمة ، لو لا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش.

وفضائل الكتابة والخط كثيرة ، فحيث منّ الله على الإنسان بالخط والتعليم ، مدح ذاته بالأكرمية ، فقال : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي علّم الإنسان بواسطة القلم ، أو علّمه الكتابة بالقلم.

مع أنه سبحانه حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة ، وصف نفسه بالكرم قائلا : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ، ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [الانفطار ٨٢ / ٦ ـ ٧].

جاء في الحديث الصحيح : «أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة ، فهو عنده في الذّكر فوق عرشه» (١).

وكانت أمّية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم تعليمه من الله أثبت لمعجزته بين العرب الأميين ، وأقوى في حجته.

٥ ـ أخبر الله تعالى عن طبع ذميم في الإنسان وهو أنه ذو فرح وأشر ، وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى ، وكثر ماله.

لذا هدده الله وتوعده ووعظه ليضبط طغيانه ويوقف تهوره بإخباره بأنه إلى الله المصير والمرجع ، وسيحاسب كل إنسان على ماله ، من أين جمعه ، وفيم صرفه وأنفقه.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٢١

٣٢٠