التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

نعم الله تعالى على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

الإعراب :

(وَالضُّحى) قسم ، وجواب القسم : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) والتوديع : مبالغة في الودع ؛ لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. وقرئ : (وَدَّعَكَ) أي تركك. و (ما قَلى) أي ما قلاك أي ما أبغضك ، فحذف الكاف وهي مفعول ، كما حذف الكاف التي هي المفعول من قوله : (فَآوى) أي فآواك ، وفي قوله : (فَأَغْنى) أي فأغناك ، والحذف للتخفيف كثير. وهنا حذفت المفاعيل رعاية للفواصل.

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ) دخلت اللام على «سوف» دون السين ؛ لأن «سوف» أشبهت الاسم ؛ لأنها على ثلاثة أحرف. ولما دخلت اللام عليها علم أنها لام قسم ، لا لام ابتداء ، لأن لام الابتداء لا تدخل على «سوف». و (يُعْطِيكَ) فعل متعد إلى مفعولين ، وحذف هنا أحدهما ، وتقديره : ولسوف يعطيك ربك ما تريده ، فترضى. وهو من الأفعال التي يجوز الاقتصار فيها على أحد المفعولين دون الآخرة ، فيجوز أن تقول في (أعطيت زيدا درهما) : (أعطيت زيدا).

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ وَأَمَّا السَّائِلَ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ الْيَتِيمَ) مفعول (تَقْهَرْ) ، و (السَّائِلَ) مفعول (تَنْهَرْ) ، والباء في (بِنِعْمَةِ) تتعلق ب (فَحَدِّثْ) والفاء في (فَلا تَقْهَرْ) ، و (فَلا تَنْهَرْ) ، و (فَحَدِّثْ) جواب (أَمَّا) في هذه المواضع ؛ لأن فيها معنى الشرط.

البلاغة :

(لَلْآخِرَةُ) و (الْأُولى) بينهما طباق أي بين الآخرة والدنيا.

٢٨١

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) مقابلة بينها وبين (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ).

(تَقْهَرْ) و (تَنْهَرْ) جناس ناقص لتغير الحرف الثاني من الكلمة.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) سجع مرصّع : وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(وَالضُّحى) وقت ارتفاع الشمس أول النهار. (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) سكن وغطى بظلامه الأشياء. وإنما قدم ذكر الليل في السورة السابقة ، وأخره في هذه السورة ، للتنويه بفضيلة كل واحد من الليل والنهار ، فالليل له فضيلة السبق ، وللنهار فضيلة النور ، فيقدم هذا تارة ، وهذا تارة أخرى. وإنما حلف بالضحى والليل فقط للتنويه بقيمة الزمان الذي يدل عليه مرور النهار والليل. وخص وقت الضحى بالذكر ؛ لأنه وقت اجتماع الناس ، وكمال الأنس بعد وحشة زمان الليل. وذكر الضحى وهو ساعة من النهار ، وذكر الليل كله إشارة إلى أن ساعة من النهار في الإنتاج توازي جميع الليل ، كما أن محمدا إذا قورن بغيره يوازي جميع الأنبياء(١).

(ما وَدَّعَكَ) ما قطعك أو فارقك قطع المودّع أو مفارقته ، وقرئ (وَدَّعَكَ) بالتخفيف ، أي تركك. وهو جواب القسم. (وَما قَلى) ما أبغضك ربك ، والقلى : شدة الكره ، وقد نزل هذا لما قال الكفار عند تأخر الوحي عنه خمسة عشر يوما : إن ربه ودعه وقلاه. (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) لما فيها من الكرامات ، ولأنها باقية خالصة عن الشوائب ، والدنيا فانية مشوبة بالمضارّ. وهذا تنويه بقدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعداده للنبوة ، ومواصلته بالوحي والكرامة في الدنيا ، والإخبار بعلو منزلته في الآخرة ، فإنه لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال.

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) يعطيك ربك في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلا ، فترضى به ، وهو وعد شامل بالعطاء الجزيل ، ومنه الشفاعة العظمى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الخطيب في تلخيص المتشابه : «إذن لا أرضى ، وواحد من أمتي في النار». وهذا تمام جواب القسم بمثبتين بعد منفيين.

(أَلَمْ يَجِدْكَ) استفهام تقرير ، أي وجدك (يَتِيماً) بفقد أبيك قبل ولادتك أو بعدها. (فَآوى) ضمك إلى عمك أبي طالب. وهذا وما بعده تعداد لما أنعم الله به على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تنبيها على أنه كما أحسن إليه فيما مضى ، يحسن إليه فيما يستقبل. (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) لا يمكن حمل الضلال هنا على ما يقابل الهدى ؛ لأن الأنبياء معصومون من ذلك ، قال العلماء : إنه ما كفر

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨

٢٨٢

بالله طرفة عين ، وإنما المراد بالضلال : الخطأ في معرفة أحكام الشرائع ، فهداه إلى مناهجها وكيفياتها. والمراد : الحيدة عن معالم الشريعة الحنيفية ، كقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى ٤٢ / ٥٢].

(عائِلاً) فقيرا. (فَأَغْنى) بالقناعة بربح التجارة وغيرها ، جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة : «ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس». (فَلا تَقْهَرْ) فلا تستذله وتستضعفه بأخذ ماله أو بتسخيره ونحو ذلك. (فَلا تَنْهَرْ) تزجره لفقره. (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي نعمته عليك بالنبوة وغيرها. (فَحَدِّثْ) أخبر واشكر مولاك

سبب النزول :

نزول الآية (١) وما بعدها :

أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال : اشتكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتته امرأة ، فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فأنزل الله : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ ، وَما قَلى).

وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عن جندب قال : أبطأ جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال المشركون : قد ودّع محمد ، فنزلت.

وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال : مكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما لا ينزل عليه جبريل ، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب : ما أرى صاحبك إلا قد ودّعك وقلاك ، فأنزل الله : (وَالضُّحى ..) الآيات.

وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن شداد : أن خديجة قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك ، فنزلت. والخبر مرسل ، ورواته ثقات. قال الحافظ ابن حجر : فالذي يظهر أن كلا من أم جميل وخديجة قالت ذلك ، لكن أم جميل قالته شماتة ، وخديجة قالته توجعا.

والخلاصة : أبطأ جبريل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال المشركون : قلاه الله وودّعه ؛ فنزلت الآية.

٢٨٣

نزول الآية (٤):

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ ..) : أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي ، فسرّني» فأنزل الله : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) وإسناده حسن.

نزول الآية (٥):

أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال : عرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو مفتوح على أمته كفرا كفرا ـ أي قرية قرية ـ فسرّ به ، فأنزل الله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

التفسير والبيان :

(وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أي قسما بالضحى : وقت ارتفاع الشمس أول النهار ، والمراد به النهار ، لمقابلته بالليل ، وبالليل إذا سكن وغطى بظلمته النهار مثلما يسجّى الرجل بالثوب ، ما قطعك ربك قطع المودّع ، وما تركك ، ولم يقطع عنك الوحي ، وما أبغضك وما كرهك ، كما يزعم بعضهم أو تتوهم في نفسك. وهذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله ؛ إذ لو كان من عنده لما توقف.

ثم بشره بأن مستقبله أفضل من ماضيه ، فقال :

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار ، إذا فرض انقطاع الوحي وحصل الموت ، وكذلك فإن أحوالك الآتية خير لك من الماضية ، وأن كل يوم تزداد عزا إلى عز ، ومنصبا إلى منصب ، فلا تظن أني قليتك ، بل تكون كل يوم يأتي أسمى وأرفع ، فإني أزيدك رفعة وسموا ، وإن شرف الدنيا يصغر عنده كل شرف ، ويتضاءل بالنسبة إليه كل مكرمة في الدنيا.

٢٨٤

أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال : اضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حصير ، فأثر في جنبه ، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه ، وقلت : يا رسول الله ، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لي وللدنيا ، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ، ظلّ تحت شجرة ، ثم راح وتركها».

وبشره بعطاء جزيل فقال :

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي ولسوف يمنحك ربك عطاء جزيلا ونعمة كبيرة في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فهو الفتح في الدين ، وأما في الآخرة فهو الثواب والحوض والشفاعة لأمتك ، فترضى به. وهذا دليل على تحقيق العلو والسمو في الدارين ، فيعلو دينه على كل الأديان ، ويرتفع قدره على جميع الأنبياء والناس بالشفاعة العظمى يوم العرض الأكبر يوم القيامة. وإنما أتى بحرف التوكيد والتأخير ، ليفيد بأن العطاء كائن لا محالة ، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.

ثم عدد الله تعالى نعمه على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل إرساله ، وكأنه قال : ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك ، فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك ، فقال :

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) أي ألم يجدك ربك يتيما لا أب لك ، فجعل لك مأوى تأوي إليه ، وهو بيت جدك عبد المطلب وعمك أبي طالب ، فإنه فقد أباه وهو في بطن أمه ، أو بعد ولادته ، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب ، وله من العمر ست سنين ، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب ، إلى أن توفي ، وله من العمر ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب ، ثم لم يزل يحوطه وينصره بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة.

٢٨٥

ووجدك غافلا عن أحكام الشرائع حائرا في معرفة أصح العقائد ، فهداك لذلك ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) الآية [الشورى ٤٢ / ٥٢].

ووجدك فقيرا ذا عيال لا مال لك ، فأغناك بربح التجارة في مال خديجة ، وبما منحك الله من البركة والقناعة ، أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس». وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنّعه الله بما آتاه».

روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) قال : كانت هذه منازل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعثه الله عزوجل.

ثم أمره ربه ببعض الأخلاق الاجتماعية وبشكره على هذه النعم ، فقال :

١ ـ (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي كما كنت يتيما فآواك الله ، فلا تستذل اليتيم وتهنه وتتسلط عليه بالظلم لضعفه ، بل أدّه حقه ، وأحسن إليه ، وتلطف به ، واذكر يتمك. لذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى خيرا.

٢ ـ (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي وكما كنت ضالا ، فهداك الله ، فلا تنهر السائل المسترشد في العلم ، وطلب المال ، ولا تزجره ، بل أجبه أورد عليه ردا جميلا.

٣ ـ (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي تحدث بنعمة ربك عليك ، واشكر هذه النعمة وهي النبوة والقرآن ، وما ذكر في الآيات ، والتحدث بنعمة الله

٢٨٦

شكر ، فكما كنت عائلا فقيرا ، فأغناك الله ، فتحدث بنعمة الله عليك ، كما جاء في الدعاء النبوي المأثور : «واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين عليها ، قابليها ، وأتمها علينا».

وأخرج أبو داود والترمذي وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله بالضحى ، أي بالنهار ، وبالليل إذا سكن ، على أنه ما ترك نبيه وما أبغضه منذ أحبه. قال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما. وقيل : خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل : أربعين يوما.

قال الرازي : هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله ، إذ لو كان من عنده لما امتنع (١). كما تقدم.

٢ ـ بشر الله نبيه ببشارتين عظيمتين : الأولى ـ أنه جعل أحواله الآتية خيرا له من الماضية ، ووعده بأنه سيزيده كل يوم عزا إلى عز ، وجعل ما عنده في الآخرة حين مرجعه إليه ، خيرا له مما عجل له من الكرامة في الدنيا.

والثانية ـ أنه سيعطيه غاية ما يتمناه ويرتضيه في الدنيا بالنصر والتفوق وغلبة دينه على الأديان كلها ، وفي الآخرة بالثواب والحوض والشفاعة.

روى الخطيب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما نزلت هذه الآية : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) قال : «إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار» ، كما تقدم.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ٢١٠

٢٨٧

والخلاصة : آية (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ ...) عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عزوجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين ، وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوحات وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب ، ولما ادخر له عليه‌السلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو عزوجل.

وورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله عزوجل في إبراهيم : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم ١٤ / ٣٦] وقول عيسى عليه‌السلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة ٥ / ١١٨] فرفع يديه ، وقال : اللهم أمتي أمتي ، وبكى ؛ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام ، فسأله ، فأخبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قال ، وهو أعلم ؛ فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد ، فقال : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».

٣ ـ عدد الله تعالى نعمه ومننه على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر منها في السورة ثلاثا هي الإيواء بعد اليتم ، والهدى بعد الغفلة ، والإغناء بعد الفقر.

أما الإيواء فقد تكفله بعد موت أبيه وأمه جده عبد المطلب ، ثم عمه أبو طالب فكفله وآزره ، ودفع عنه الأذى.

وأما الهدى فهو بيان القرآن والشرائع ، فهداه الله إلى أحكام القرآن وشرائع الإسلام ، بعد الجهل بها والغفلة عنها. وليس معنى الضلالة الكفر أو كونه على دين قومه ؛ لأن الأنبياء معصومون عن ذلك. واتفق جمهور العلماء على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كفر بالله لحظة واحدة. وقالت المعتزلة : هذا غير جائز عقلا ، لما فيه من التنفير.

٢٨٨

وأما الإغناء فهو الإمداد بالفضل والمال والرزق بالتجارة في مال خديجة رضي‌الله‌عنها. وفي زمان الرسالة أغناه بمال أبي بكر ، ثم بمال الأنصار بعد الهجرة ، ثم بالغنيمة.

والحكمة في اختيار اليتم له : أن يعرف قدر اليتامى ، ويقوم بحقهم وصلاح أمرهم. ثم إن اليتم والفقر نقص في حق الناس عادة ، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام نبيا ورسولا ، وأكرم الخلق ، مع هذين الوصفين ، كان ذلك قلبا للعادة ، فكان من جنس المعجزات.

٤ ـ أدّب الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة الله معه ، فأمره بألا يظلم اليتيم ، ويدفع إليه حقه ، ويذكر أنه كان يتيما مثله. ودلت الآية على طلب اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه ، حتى قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسوة قلبه ، فقال : «إن أردت أن يلين ، فامسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين» وفي الصحيح الذي رواه البخاري وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى.

ونهى الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن زجر السائل وعن إغلاظ القول له ، وأمره بأن يردّه ببذل يسير ، أو ردّ جميل ، وأن يتذكر فقره. روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يمنعن أحدكم السائل ، وأن يعطيه إذا سأل ، ولو رأى في يده قلبين (١) من ذهب». وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا : «ردّوا السائل ببذل يسير ، أو ردّ جميل ، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن ، ينظر كيف صنيعكم فيما خوّلكم الله» (٢).

__________________

(١) القلب : السوار.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٠١

٢٨٩

وأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشكر نعمة الله عليه وهي النبوة والرسالة ، وإنزال القرآن الكريم عليه. ويكون الشكر بنشر ما أنعم الله عليه ، والتحدث بنعم الله ، والاعتراف بها شكر لها.

ويلاحظ أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد : نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى). ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى). وأمره بتحديث نعمة ربه ، وهو في مقابلة قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى).

قال العلماء المحققون : التحديث بنعم الله تعالى جائز مطلقا ، بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي به غيره ، أو أن يشيع شكر ربه بلسانه ، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب ، فالستر أفضل.

وإنما أخر التحديث تقديما لمصلحة المخلوقات على حق الله ؛ لأن الله غني وهم المحتاجون ، ولهذا رضي لنفسه بالقول فقط.

وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة (وَالضُّحى) إلى آخر القرآن ؛ لأنه حين انقطع الوحي كما تقدم ، وأنزلت السورة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر» تصديقا لما أتى به القرآن.

وهذا التكبير ليس بقرآن ؛ لأنه لم ينقل كالقرآن نقلا متواترا بسورة وآياته وحروفه ، دون زيادة ولا نقصان. وقال العلماء : لا نقول : إنه لا بد لمن ختم أن يفعله ، ولكنه من فعل فقد أحسن ، ومن ترك فلا حرج.

ولفظ التكبير إما بأن يقول : «الله أكبر» أو يقول : «لا إله إلا الله والله أكبر».

٢٩٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الشرح ، أو : الانشراح

مكيّة ، وهي ثماني آيات.

تسميتها :

سميت سورة الشرح أو الانشراح أو (أَلَمْ نَشْرَحْ) لافتتاحها بالخبر عن شرح صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي تنويره بالهدى والإيمان والحكمة ، وجعله فسيحا رحيبا واسعا ، كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام ٦ / ١٢٥].

مناسبتها لما قبلها :

هي شديدة الاتصال بسورة الضحى ، لتناسبهما في الجمل والموضوع ؛ لأن فيهما تعداد نعم الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع تطمينه وحثه على العمل والشكر ، حيث قال في السورة السابقة : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ..) وأضاف هنا وعطف : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ..).

ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما ، والأصح المتواتر كونهما سورتين ، وإن اتصلتا معنى.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسابقتها الحديث عن شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أمده الله به من نعم عظيمة ، تستحق الحمد والشكر.

٢٩١

وقد اشتملت على أمور أربعة :

١ ـ تعداد نعم ثلاث أنعم الله بها على نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي شرح صدره بالحكمة والإيمان ، وتطهيره من الذنوب والأوزار ، ورفع منزلته ومقامه وقدره في الدنيا والآخرة : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [١ ـ ٤] وذلك بقصد تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيناسه عما يلقاه من أذى قومه الشديد في مكة والطائف وغيرهما.

٢ ـ وعد الله له بتيسير المعسر ، وتفريج الكرب عليه ، وإزالة المحن والشدائد ، وتبشيره بقرب النصر على الأعداء : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [٥ ـ ٦].

٣ ـ أمره بمواظبة العبادة والتفرغ لها بعد القيام بتبليغ الرسالة ؛ شكرا لله على ما أنعم عليه : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [٧].

٤ ـ أمره بعد كل شيء بالتوكل على الله وحده ، والرغبة فيما عنده : (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [٨].

نعم الله على نبيه وما أمره به

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

البلاغة :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) استفهام تقريري للتذكير بنعم الله ، أي قد شرحنا لك صدرك.

٢٩٢

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) استعارة تمثيلية ، شبه الذنوب بحمل ثقيل يرهق كاهل حامله بطريق التمثيل.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تنكير اليسر للتعظيم والتفخيم ، كأنه قال : يسرا عظيما.

(الْعُسْرِ) و «اليسر» بينهما جناس ناقص.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) إطناب بتكرير الجملة ، لتثبيت معناها في النفوس ، وبما أن العسر معروف فهو مفرد ، واليسر منكر فهو متعدد ، أي مع كل عسر يسران ، فالعسر الأول عين الثاني ، واليسر تعدد.

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) سجع مرصع مراعاة لرؤوس الآيات. وكذا في قوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) وهو من المحسنات البديعية.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ألم نفسح ونبسط ونوسع لك يا محمد صدرك ، حتى وسع مناجاة الحق ، ودعوة الخلق ، بما أودعنا فيه من الحكمة والإيمان والنبوة ، وأزلنا عنه ضيق الجهل. والعرب تطلق سعة الصدر وعظمه على الحلم والقوة ، فهو كناية عن السرور وانبساط النفس وراحة البال وسعة الأفق. وهو استفهام تقرير ، أي قد شرحنا وأفسحنا.

(وَضَعْنا) حططنا وأزلنا وخففنا عنك. (وِزْرَكَ) حملك الثقيل. (أَنْقَضَ) أثقل ، حتى سمع له نقيض أي صوت. وهذا كقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح ٤٨ / ٢]. وليس المراد بالذنوب المعاصي والآثام ، فإن الرسل معصومون من ارتكاب الذنوب ، وإنما المراد ما فعله اجتهادا مما هو خلاف الأولى ، كإذنه للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك ، وأخذ الفداء من أسرى بدر ، وعبوسه في وجه الأعمى ونحو ذلك. وقيل : المراد من قوله : (وِزْرَكَ) تخفيف أعباء النبوة والرسالة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها ، وأداء واجباتها وحفظ حقوقها ، فسهل الله تعالى ذلك عليه ، وحط عنه ثقلها ، بأن صارت يسيرة له.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) بالنبوة وغيرها ، كأن جعلتك تذكر مع ذكري في الأذان والإقامة والتشهد والخطبة وغيرها. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) الشدة والضعف والفقر ونحوها من المضايقات (يُسْراً) سهولة وتوفيقا للاهتداء والطاعة ، وقد قاسى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كثير من الكفار ، وعانى منهم الشدائد ، ثم حصل له اليسر ، بنصره عليهم.

(فَإِذا فَرَغْتَ) من أداء الرسالة وتبليغ الناس بها. (فَانْصَبْ) أتعب في الدعاء والعبادة. (فَارْغَبْ) تضرع وتوكل ، واجعل رغبتك بالله في جميع شؤونك.

٢٩٣

سبب النزول :

نزول الآية (٦):

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) : نزلت لما عيّر المشركون المسلمين بالفقر. وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري قال : لما نزلت هذه الآية : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشروا أتاكم اليسر ، لن يغلب عسر يسرين».

التفسير والبيان :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) أي قد شرحنا لك صدرك لقبول النبوة ، وتحمل أعبائها ، وحفظ الوحي. قال الرازي : وقد استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ، فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك. والأولى أن يقال كما بينا : الاستفهام تقريري ، يراد به إثبات الشرح.

والمراد بشرح الصدر تنويره وجعله فسيحا وسيعا رحيبا ، كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام ٦ / ١٢٥] (١). وقال أبو حيان : شرح الصدر : تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه ، وهو قول الجمهور ، والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى الله تعالى وحده ، واحتمال المكاره من إذاية الكفار (٢). والأكثرون على أن الشرح أمر معنوي.

وقيل : المراد بذلك شرح صدره ليلة الإسراء ، كما رواه الترمذي عن مالك بن صعصعة. قال ابن كثير : ولكن لا منافاة ، فإن من جملة شرح صدره : الذي فعل بصدره ليلة الإسراء ، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٢٤

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٤٨٧

(٣) تفسير ابن كثير : المرجع السابق.

٢٩٤

وروى أيضا حديث شرح الصدر عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبي بن كعب : أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء ، لا يسأله عنها غيره ، فقال : يا رسول الله ، ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا ، وقال : «لقد سألت يا أبا هريرة ، إني في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر ، وإذ بكلام فوق رأسي ، وإذا رجل يقول لرجل أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها قط ، وأرواح لم أجدها من خلق قط ، وثياب لم أرها على أحد قط ، فأقبلا إلي يمشيان ، حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي ، لا أجد لأحدهما مسّا ، فقال أحدهما لصاحبه : أضجعه ، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر ، فقال أحدهما لصاحبه : افلق صدره ، فهوى أحدهما إلى صدري ، ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع ، فقال له : أخرج الغل والحسد ، فأخرج شيئا كهيئة العلقة ، ثم نبذها ، فطرحها ، فقال له : أدخل الرأفة والرحمة ، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ، ثم هزّ إبهام رجلي اليمنى ، فقال : أعد وأسلم ، فرجعت بها أعدو رقّة على الصغير ، ورحمة على الكبير».

وفي الصحيح عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة ـ رجل من قومه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، إذ سمعت قائلا يقول : أحد الثلاثة بين الرجلين ، فأتيت بطست من ذهب ، فيها ماء زمزم ، فشرح صدري إلى كذا وكذا» ـ قال قتادة : قلت : ما يعني؟ قال : إلى أسفل بطني ـ قال : فاستخرج قلبي ، فغسل قلبي بماء زمزم ، ثم أعيد مكانه ، ثم حشي إيمانا وحكمة».

والخلاصة من حديث شق الصدر : أن جبريل عليه‌السلام أتى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صغره ، وشق صدره ، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ، ثم ملأه علما وإيمانا ، ووضعه في صدره.

٢٩٥

وقد طعن بعضهم في هذه الرواية ؛ لأن هذه الواقعة حدثت في حال الصغر ، وذلك من المعجزات ، فلا يجوز أن تتقدم نبوته ، ولأن تأثير الغسل في إزالة أوساخ الأجسام ، والمعاصي ليست بأجسام ، فلا يكون للغسل فيها أثر ، ولأنه لا يصح أن يملأ القلب علما ، بل الله تعالى يخلق فيه العلوم.

وأجاب الإمام فخر الدين الرازي عن ذلك بأن هذا يسمى الإرهاص ، وهو مقدمات النبوة وبشائرها ، ومثله في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير ، ولا يبعد أن يكون غسل الدم الأسود من قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي ، ويحجم عن الطاعات ، فإذا أزالوه كان ذلك كالعلامة على كون صاحبه معصوما ، مواظبا على الطاعات ، محترزا عن السيئات ، وأيضا فلأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد (١).

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي حططنا عنك ما كنت تتصور من وجود ذنوب ومعاص أثقلت كاهلك ، وأتعبت نفسك ، سواء قبل النبوة أم بعدها مما تفعله خلاف الأولى ، وهو لا يتفق مع سمو قدرك ، ورفعة منزلتك ، وعلو شأنك ، كالإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن الجهاد في موقعة تبوك ، وقبول الفداء من أسرى بدر ، والعبوس في وجه الأعمى.

وقيل : المراد حططنا عنك حمل أعباء النبوة والرسالة ، فسهلناها عليك ، حتى تيسرت لك.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي جعلنا ذكرك مرفوعا عاليا في الدنيا والآخرة ، بالنبوة وختم الرسالات بك ، وإنزال القرآن العظيم عليك ، وتكليف المؤمنين بالقول بعد «أشهد أن لا إله إلا الله» : «أشهد أن محمدا رسول الله» سواء في

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٢ / ٢

٢٩٦

الأذان أم في التشهد أم في الخطبة وغيرها ، وأمرهم بالصلاة والسلام عليه ، وأمر الله بطاعته ، وجعل طاعته طاعة لله تعالى.

قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة ، إلا ينادي بها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله.

وروى ابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أتاني جبريل ، فقال : إن ربي وربك يقول : كيف رفعت ذكرك؟ قال : الله أعلم ، قال : إذا ذكرت ذكرت معي».

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربي مسألة ، وددت أني لم أسأله ، قلت : قد كان قبلي أنبياء ، منهم من سخّرت له الريح ، ومنهم من يحيي الموتى ، قال : يا محمد ، ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت : بلى يا ربّ ، قال : ألم أجدك ضالّا فهديتك؟ قلت : بلى يا ربّ ، قال : ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألم أشرح لك صدرك ، ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت : بلى يا رب».

وبعد التذكير بهذه النعم ، ذكر الله تعالى أن ذلك جار على وفق سنته ، من إيراد اليسر بعد العسر ، فقال ردّا على المشركين الذين كانوا يعيرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر :

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا ، وإن مع الضيق فرجا ، وقد أكّد تعالى ذلك في الجملة الثانية. وفي هذا بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له أنه سيبدل حاله من فقر إلى غنى ، ومن ضعف إلى عزة وقوة ، ومن عداوة قومه إلى محبتهم. والأظهر أن المراد باليسرين : الجنس ، ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر ، ويشمل يسر الدنيا ويسر الآخرة ، ويسر العاجل والآجل.

٢٩٧

قال الفراء والزجاج : العسر مذكور بالألف واللام ، وليس هناك معهود سابق ، فينصرف إلى الحقيقة ، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئا واحدا. وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير ، فكان أحدهما غير الآخر.

يؤيد ذلك ما رواه الحاكم عن ابن مسعود مرفوعا : «لو كان العسر في حجر ، لتبعه اليسر حتى يدخل فيه ، فيخرجه ، ولن يغلب عسر يسرين ، إن الله يقول : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)».

ثم أمره ربه بمهام تتناسب مع مقامه ومع شكر هذه النعم السابقة واللاحقة من اليسر والظفر ، فقال :

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي إذا فرغت من تبليغ الدعوة ، أو من الجهاد ، أو مشاغل الدنيا وعلاقاتها ، فأتعب نفسك في العبادة ، واجتهد في الدعاء ، واطلب من الله حاجتك ، وأخلص لربّك النيّة والرغبة. وهذا دليل على طلب الاستمرار في العمل الصالح والخير والمثابرة على الطاعة ؛ لأن استغلال الوقت مطلوب شرعا ، وإن الله يكره العبد البطال.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي أقبل على الله ، واجعل رغبتك إلى الله وحده ، وتضرع إليه راهبا من النار ، راغبا في الجنة ، ولا تطلب ثواب عملك إلا من الله ، فإنه الجدير بالتوجه والتضرع إليه ، وبالتوكل عليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ هذه باقة أخرى من نعم الله على نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالإضافة لما ذكر في سورة الضحى السابقة ، وهي :

٢٩٨

أولا ـ شرح الصدر ، أي جعله فسيحا رحيبا ، قويا عظيما لتحمل أعباء النبوة والرسالة.

وثانيا ـ حطّ الذنوب والمعاصي التي تعد ثقيلة وكبيرة بالنسبة لقدره ومنزلته ، وإلا فهي ليست ذنوبا على الحقيقة ؛ لأن الأنبياء معصومون منها ، ولم يسجد لصنم أو وثن قط ، ولم يصدر عنه كفر أصلا قبل النبوة. وهذا يستدعي كمال عقله وروحه ، وتبرئته من الوزر الذي ينشأ عن النفس والهوى ، وهو معصوم منهما.

وثالثا ـ رفع ذكره وإعلاء شأنه ومقامه في الدنيا والآخرة وتنزيه مقامه عن كل وصم ، قال ابن عباس : يقول له : لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان ، والإقامة ، والتشهد ، ويوم الجمعة على المنابر ، ويوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وأيام التشريق ، ويوم عرفة ، وعند الجمار ، وعلى الصفا والمروة ، وفي خطب النكاح ، وفي مشارق الأرض ومغاربها.

ولو أن رجلا عبد الله جلّ ثناؤه ، وصدّق بالجنة والنار وكل شيء ، ولم يشهد أن محمدا رسول الله ، لم ينتفع بشيء ، وكان كافرا (١).

٢ ـ جعل الله تيسيرا ورحمة على العباد يسرين مع كل عسر ، قال قوم : إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرّفا ، ثم كرروه ، فهو هو ، وإذا نكّروه فهو غيره ، وهما اثنان ، ليكون أقوى للأمل ، وأبعث على الصبر.

٣ ـ الحثّ على المواظبة على العمل الصالح واستدامته ، وعلى عمل الخير والإقبال على فعله ، فعلى العاقل ألا يضيع أوقاته في الكسل والدعة ، ويحرص بكل قواه على تحصيل ما ينفعه في الدارين.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٠٦ ـ ١٠٧

٢٩٩

٤ ـ التوكل على الله وحده ، والرغبة إليه والتضرع لوجهه الكريم ، فإنه أهل التوجه والضراعة ، ولا يطلب ثواب العمل الصالح إلا منه سبحانه.

قال ابن العربي : روي عن شريح أنه مرّ بقوم يلعبون يوم عيد ، فقال : ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر ؛ فإن الحبش كانوا يلعبون بالدّرق والحراب في المسجد يوم العيد ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر. ودخل أبو بكر بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عائشة وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنّيان ، فقال أبو بكر : أمزمارة الشيطان في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنه يوم عيد. وليس يلزم الدّؤوب على العمل ، بل هو مكروه للخلق (١).

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٩٣٨

٣٠٠