التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وروى أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها ، وزكّها أنت خير من زكّاها ، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، وعلم لا ينفع ، ودعوة لا يستجاب لها» قال زيد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكموها.

فقه الحياة أو الأحكام :

أقسم الله تعالى بسبعة أشياء : لقد أفلح وفاز من زكى نفسه بالطاعة ، وخسرت نفس أهملها صاحبها وتركها تنغمس في المعصية.

والأشياء السبعة : هي الشمس وضوؤها وإشراقها ، وهو قسم ثان ، والقمر إذا تبع بالطلوع الشمس بعد غروبها ، فاستوى واستدار ، وكان مثلها في الضياء والنور ، والنهار إذا جلّى أو كشف الشمس ، أي أبان بضوئه جرمها ، والليل إذا يغشى الشمس ، أي يذهب بضوئها عند غروبها ، والسماء وبنيانها وبانيها وهو الله ، والأرض ومن طحاها أي بسطها ، والنفس الإنسانية وتسويتها ومن سوّاها وهو الله عزوجل ، بأن عدّلها وزوّدها بالأعضاء المتناسبة ، وبالقوى العضلية والفكرية والحسية ، وعرّفها طريق الفجور والتقوى ، وسلوك سبيل الخير والشر ، والطاعة والمعصية.

وقد أقسم الله عزوجل بهذه المخلوقات لما فيها من عجائب الصنعة الدالة عليه ، وأراد أن ينبه عباده دائما بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة ، حتى يتأمل المكلف فيها ، ويشكر عليها ؛ لأن الذي يقسم الله تعالى به يحصل له وقع في القلب ، فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١٨٨

٢٦١

العظة بقصة ثمود

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

الإعراب :

(فَسَوَّاها ، وَلا يَخافُ عُقْباها) سوّاها : تعود على الدمدمة ، (وَلا يَخافُ عُقْباها) في موضع نصب على الحال ، وتقديره : سوّاها غير خائف عاقبتها.

البلاغة :

(ناقَةَ اللهِ) الإضافة للتكريم والتشريف.

(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) تهويل ، فالتعبير بالدمدمة يدل على هول العذاب.

المفردات اللغوية :

(بِطَغْواها) أي بسبب طغيانها ، والطغوى والطغيان : تجاوز الحد المعتاد. (إِذِ انْبَعَثَ) حين أسرع أو قام ، وهو ظرف لكذّبت أو طغوى. (أَشْقاها) أشقى ثمود ، وهو قدار بن سالف ، الشخص الذي عقر الناقة. (رَسُولُ اللهِ) صالح عليه‌السلام. (ناقَةَ اللهِ) أي ذروا ناقة الله ، واحذروا التعرض لها وعقرها. (وَسُقْياها) شربها الخاص بها في يومها ، فلا تذودوها عنها. (فَكَذَّبُوهُ) فيما حذرهم من حلول العذاب إن فعلوا. (فَعَقَرُوها) نحروها أو ذبحوها. (فَدَمْدَمَ) فأطبق عليهم العذاب. (فَسَوَّاها) سوى الدمدمة عليهم أي عمهم بها ، فلم يفلت منها صغير ولا كبير. (عُقْباها) عاقبتها وتبعتها. أي عاقبة الدمدمة.

المناسبة :

بعد الحلف بأشياء عظيمة على فوز من زكّى نفسه وهذبها وطهرها من الذنوب ، وخيبة وخسار من أهملها وتركها تعيث في الأرض فسادا بفعل المعاصي ، وترك فعل الخير ، وعظهم الله تعالى بقصة ثمود ، لقربها من ديار

٢٦٢

العرب ، ليحذروا معاندة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيبه ، وإلا حلّ بهم ما حلّ بأمثالهم من الأمم السابقة.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا عليه‌السلام ، بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي ، فيقول :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي كذبت قبيلة ثمود نبيها صالحا عليه‌السلام بسبب طغيانها وبغيها ، فإنه الذي حملها على التكذيب. والطغيان : مجاوزة الحد في المعاصي.

وذلك حين قام أشقى ثمود ، وهو قدار بن سالف ، أحيمر ثمود ، فعقر الناقة ، بتحريض قومه ورضاهم بما يفعل ، فكان عقرها دليلا على تكذيبهم جميعا لنبيهم ، وبرهانا على صدق رسالته إذ حلّ بهم العذاب الذي أوعدهم به.

ونظير الآية : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ ، فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر ٥٤ / ٢٩]. وكان أشقى ثمود عزيزا فيهم ، شريفا في قومه ، نسيبا رئيسا مطاعا ، كما ذكر أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن زمعة قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر الناقة ، وذكر الذي عقرها ، فقال : «إذ انبعث أشقاها ، انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه ، مثل أبي زمعة».

ثم يذكر الله تعالى ما توعدهم به رسولهم على فعلهم ، فيقول :

«فقال لهم رسول الله : ناقة الله ، وسقياها» أي فقال لهم أي للجماعة الأشقياء النبي صالح عليه‌السلام : ذروا ناقة الله واحذروا التعرض لها أو أن تمسوها بسوء ، واتركوها وتناولها شربها من الماء المخصص لها ، فإن لها شرب يوم ، ولكم شرب يوم معلوم ، ولا تتعرضوا لها يوم شربها.

٢٦٣

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) أي فكذبوه في تحذيره إياهم من العذاب ، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العقاب ، فعقر الأشقى الناقة ، وجميع قومه رضوا بما فعل. أو كذبوه فيما جاءهم به ، فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها الله لهم من الصخرة آية لهم وحجة عليهم.

ثم يبين ما عوقبوا به ، فيقول :

(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ ، فَسَوَّاها ، وَلا يَخافُ عُقْباها) أي فأطبق عليهم العذاب وأهلكهم ، وغضب عليهم فدمر عليهم ، فسوّى الدمدمة عليهم ، وعمّهم بها ، أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء ، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم. قال قتادة : بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، فلما اشترك القوم في عقرها ، دمدم الله عليهم بذنبهم ، فسواها.

وقد فعل الله ذلك بهم ، وأهلكهم ، غير خائف هذا الأشقى من عاقبة ولا تبعة ، أي فإنه تجرأ على عقر الناقة دون أن يخاف الذي عقرها عاقبة إهلاك قومه ، وعاقبة ما صنع ، والمراد بذلك أنه أقدم على عقرها ، وهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه.

وقال ابن عباس : لا يخاف الله من أحد تبعة. قال ابن كثير : وهذا القول أولى لدلالة السياق عليه. وقال أبو حيان : الظاهر عود الضمير إلى أقرب مذكور ، وهو (رَبُّهُمْ) أي لا درك عليه تعالى في فعله بهم ، لا يسأل عما يفعل ، قال ابن عباس والحسن ، وفيه ذم لهم وتعقبة لآثارهم. والمراد أن الله لا يخاف عاقبة ما فعل بهم ؛ لأنه عادل في حكمه. وقال الزمخشري : ولا يخاف الله عاقبتها وتبعتها ، كما يخاف كل معاقب من الملوك ، فيبقي بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود ، على معنى : فسوّاها بالأرض أو في الهلاك ، ولا يخاف عقبى هلاكها.

٢٦٤

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا خبر قاطع من الله العلي القدير ، أخبرنا به عن قبيلة ثمود التي تجاوزت الحد بطغيانها وهو خروجها عن الحد في العصيان. وذلك حين نهض أشقاها لعقر الناقة ، واسمه قدار بن سالف.

ولكنّ رسولهم صالحا عليه‌السلام حذرهم عاقبة فعلهم ، وقال لهم : احذروا عقر ناقة الله ، وذروها ، كما قال : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأعراف ٧ / ٧٣] وذروها وشربها المخصص لها في يومها. فإنهم لما اقترحوا الناقة ، وأخرجها الله لهم من الصخرة ، جعل لهم شرب يوم من بئرهم ، ولها شرب يوم مكان ذلك ، فشقّ عليهم.

وكذبوا صالحا عليه‌السلام في قوله لهم : «إنكم تعذّبون إن عقرتموها» فعقرها الأشقى ، وأضيف العقر إلى الكل بقوله : (فَعَقَرُوها) لأنهم رضوا بفعله.

والجرم وهو العقر وتكذيب النبي يستدعيان بلا شك عقابا صارما ، فكان العقاب أن أهلكهم الله ، وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب. والعقر ، وسوّى عليهم الأرض ، أو سوى الدمدمة والإهلاك عليهم ؛ لأن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم.

والعبرة من ذلك أن الله فعل بهم ما فعل غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد ، كما قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. وهاء (عُقْباها) ترجع إلى الفعلة. وقال السدّي والضحاك والكلبي : ترجع إلى العاقر ، أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع.

٢٦٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الليل

مكيّة ، وهي إحدى وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة الليل لافتتاحها بإقسام الله تعالى بالليل إذا يغشى ، أي يغطي الكون بظلامه ، ويستر الشمس والنهار والأرض والوجود بحجابه.

مناسبتها لما قبلها :

لما ذكر في سورة الشمس قبلها : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح ، وما تحصل به الخيبة بقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ..) فهي كالتفصيل لما قبلها.

ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل ، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة.

ما اشتملت عليه السورة :

محور السورة سعي الإنسان وعمله وجزاؤه في الآخرة.

افتتحت السورة بالقسم بالليل والنهار وخالق الذكر والأنثى على أن عمل الناس مختلف ، فمنهم التقي ومنهم الشقي ، ومنهم المؤمن ومنهم الفاجر : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ..) [الآيات ١ ـ ٤].

٢٦٦

ثم أوضحت أن الناس فريقان ، وحددت منهج وطريق كل فريق ، وجزاء كل منهم في الآخرة : أهل الإيمان والسعادة والجنة : وهم الذين بذلوا المال وصدقوا بوعد الله في الآخرة ، وأهل الكفر والشقاوة والنار : وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا عن ربهم عزوجل ، وأنكروا ما وعد الله به من الجنة : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ..) [الآيات ٥ ـ ١٠].

وأعقبت ذلك ببيان عدم جدوى المال في الآخرة ، وأن الله واضع دستور الهداية ، وأنه مالك الدنيا والآخرة : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) [١١ ـ ١٣] ودلّ هذا التحذير من عذاب الله والإنذار بالنار على أنه العقاب المستحق لكل من كذب بآيات الله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ..) [١٤ ـ ١٦].

يبذل ماله في طرق الخير مخلصا لوجه الله ، دون قصد مكافأة أحد ، ولا لمصلحة دنيوية عند إنسان ، وذلكم المثال هو أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ..) [الآيات ١٧ ـ ٢١].

فضلها :

تقدم حديث جابر في الصحيحين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «فهلّا صلّيت ب : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى)».

٢٦٧

اختلاف مسعى الناس

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

الإعراب :

(إِذا يَغْشى) ، (إِذا تَجَلَّى إِذا) في الموضعين : لمجرد الظرفية ، والعامل فيها فعل القسم.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ما) : فيها ثلاثة أوجه كما في السورة السابقة.

(وَما بَناها) إما أن تكون مصدرية ، أو بمعنى الذي وهو الأولى ، أو بمعنى (من). ويجوز الجر في الذكر والأنثى على البدل من (ما).

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) جواب القسم.

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ ما) : نافية.

البلاغة :

(اللَّيْلِ) و (النَّهارِ) بينهما طباق ، وكذا بين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وبين (اليسرى ، والعسرى) وبين (صَدَّقَ) و (كَذَّبَ).

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) و (أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) بينهما مقابلة ، والمقابلة والطباق من المحسنات البديعية.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) بينهما جناس اشتقاق.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) حذف المفعول لإفادة التعميم وإطالة التأمل.

٢٦٨

المفردات اللغوية :

(يَغْشى) يغطي كل شيء بظلامه. (تَجَلَّى) ظهر وانكشف. (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي والقادر الذي خلق آدم وحواء وكل ذكر وأنثى في الإنسان والحيوان والنبات. (سَعْيَكُمْ) عملكم أو مسعاكم. (لَشَتَّى) مختلف متفرق ، جمع شتيت : وهو المتباعد عن غيره. واختلاف المنهج والمسعى إما بالعمل للجنة بالطاعة ، أو للنار بالمعصية.

(أَعْطى) بذل المال. (وَاتَّقى) التزم الأوامر وفعل الخير ، واجتنب النواهي والشر. (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) بالكلمة أو الخصلة الحسنى ـ صفة تأنيث الأحسن ، وهي كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، والجنة والثواب ، وكل فضيلة. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون والتي تؤدي إلى الخير ، وذلك في الدنيا والآخرة ، كدخول الجنة.

(بَخِلَ) أمسك المال وشح به ولم يؤد حق الله فيه. (وَاسْتَغْنى) عن ربه عزوجل وعن الثواب. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) نهيئه للحالة السيئة في الدنيا والآخرة التي لا تنتج إلا شرا. (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) لا يفيده ماله وغناه. (إِذا تَرَدَّى) هوى وسقط في النار أو في القبر.

سبب النزول :

نزول الآية (٥):

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى ..) : أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر رضي‌الله‌عنه يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه (أبو قحافة) : أي بني! أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك تعتق رجالا جلداء ، يقومون معك. ويمنعونك ، ويدفعون عنك ، فقال : أي أبت ، إنما أريد ما عند الله ، فنزلت هذه الآيات فيه : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ..) إلى آخر السورة.

نزول الآية (٨):

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) : قال ابن عباس : نزلت في أمية بن خلف.

٢٦٩

التفسير والبيان :

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي أقسم بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا ، وبالنهار متى ظهر وانكشف ووضح ، لزوال ظلمة الليل ، والقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس ، من الناس وغيرهم ، كقوله تعالى : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [النبأ ٧٨ / ٨].

ولم يذكر مفعول (يَغْشى) للعلم به ، وقيل : يغشى النهار ، أو الخلائق أو الأرض أو كل شيء بظلمته.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هذا هو المحلوف عليه جواب القسم ، أي إن أعمال العباد مختلفة متباعدة ، فمن فاعل خيرا ، ومن فاعل شرا ، وبعض الأعمال ضلال وبعضها هدى ، وبعضها يوجب الجنة ، وبعضها يوجب النار.

ويقرب من هذه الآية قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢٠] وقوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ، لا يَسْتَوُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٨] وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢١].

ثم فصل أحوال الناس وقسمتهم فريقين ، فقال :

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي فأما من بذل ماله في وجوه الخير ، واتقى محارم الله التي نهى عنها ، وصدق بموعود الله الذي وعده عوضا عن الإيمان والنفقة الخيرية ، فإنا نسهل عليه كل ما كلّف به من الأفعال والتروك ، ونهيئه للخطة السهلة التي تؤدي به إلى الخير ، ونيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بطاعة الله.

٢٧٠

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي وأما من بخل بماله ، فلم يبذله في سبل الخير ، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وزهد في الأجر والثواب وفضل الله ، وكذّب بالجزاء في الدار الآخرة ، فسنهيئه للخصلة العسرى والطريقة الصعبة التي لا تنتج إلا شرا ، حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ، ويضعف عن فعلها ، حتى يصل إلى النار ، ولا يغني عنه شيئا ماله الذي بخل به ، إذا سقط في جهنم. ويلاحظ أن التيسير والبشارة في الأصل على الشيء المفرح والسّاتر ، لكن إذا جمع في الكلام بين خير وشر ، جاء التيسير والبشارة فيهما جميعا.

أخرج البخاري ومسلّم عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بقيع الغرقد في جنازة ، فقال : «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ، ومقعده من النار ، فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى). وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

أقسم الله عزوجل بالليل حينما يغطّي كل شيء بظلامه ، وبالنهار إذا انكشف ووضح وظهر ، وبالذي خلق الذكر والأنثى ؛ فيكون قد أقسم بنفسه عزوجل ، على أن عمل الناس مختلف في الجزاء ، فبعضهم مؤمن وبر ، وكافر وفاجر ، ومطيع وعاص ، وبعضهم في هدى أو في ضلال ، وبعضهم ساع في فكاك نفسه من النار ، وبعضهم بائع نفسه فموبقها في المعاصي ، كما ذكر الثعلبي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس غاديان : فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها».

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير : ٤ / ٥١٨ ـ ٥١٩

٢٧١

ثم أوضح سبحانه معنى اختلاف الأعمال المذكور من العاقبة المحمودة والمذمومة ، والثواب والعقاب ، وذكر فريقين :

الأول ـ من بذل ماله في سبيل الله ، وأعطى حق الله عليه ، واتقى المحارم والمنكرات ، وصدّق بوعد الله بالعوض على عطائه ، فالله يهيئ له الطريق اليسرى السهلة للوصول إلى غايته ، ويرشده لأسباب الخير والصلاح ، حتى يسهل عليه فعلها. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا».

والثاني ـ من ضنّ بما عنده ، فلم يبذل خيرا ، وكذلك بتعويض الله ، فالله يسهل طريقه للشر ، ويعسّر عليه أسباب الخير والصلاح ، حتى يصعب عليه فعلها.

قال العلماء : ثبت بهذه الآية : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ..) وبقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة ٢ / ٣] وقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [البقرة ٢ / ٢٧٤] إلى غير ذلك من الآيات أن الجود من مكارم الأخلاق ، والبخل من أرذلها ، والجواد : هو الذي يعطي في موضع العطاء ، والبخيل : هو الذي يمنع في موضع العطاء ، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا ، فهو الجواد ، وكل من استحق ذما أو عقابا ، فهو البخيل ، والمسرف المذموم ، وهو من المبذّرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين ، وأوجب الحجر عليهم (١).

ولا يفيد هذا البخيل ماله إذا مات أو صار في القبر أو سقط في جهنم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٨٤ ـ ٨٥

٢٧٢

قد أعذر من أنذر

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

الإعراب :

(يَتَزَكَّى) بدل من (يُؤْتِي) أو حال من فاعله.

(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ابْتِغاءَ) منصوب لأنه استثناء منقطع ، وهو قول أكثر النحويين ؛ لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة ، أي لكن ابتغاء.

البلاغة :

(الْأَشْقَى) و (الْأَتْقَى) بينهما طباق.

(لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) سجع رصين غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) علينا الإرشاد إلى الحق ، بموجب قضائنا ، أو بمقتضى حكمتنا. (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي لله الآخرة والدنيا ، نعطي ما نشاء لمن نشاء ، فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ ، ولا يضرنا ترك الاهتداء. (فَأَنْذَرْتُكُمْ) خوفتكم. (تَلَظَّى) تتلظى أي تتوقد وتتلهب. (لا يَصْلاها) لا يدخلها ولا يحترق بها إلى الأبد. (إِلَّا الْأَشْقَى) الشقي الكافر كأبي جهل وأمية بن خلف ، أما الفاسق وإن دخلها فلا يلزمها.

(كَذَّبَ) كذب النبي فيما جاء به. (وَتَوَلَّى) أعرض عن الإيمان والطاعة لربه.

(وَسَيُجَنَّبُهَا) يبعد عنها. (الْأَتْقَى) التقي الذي اتقى الكفر والمعاصي. (يَتَزَكَّى) يتطهر بأن يخرجه لله تعالى ، لا رياء ولا سمعة ، فيكون زاكيا عند الله. (تُجْزى) تكافأ وتجازى.

(إِلَّا) لكن فعل ذلك. (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي طلب ثواب الله. (وَلَسَوْفَ يَرْضى) بما يعطاه من الثواب في الجنة. والآية تشمل كل من فعل مثل هذا ، فيبعد عن النار ويثاب.

٢٧٣

سبب النزول :

نزول الآية (١٧):

(وَسَيُجَنَّبُهَا ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن عروة : أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة ، كلهم يعذب في الله ، وفيه نزلت : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) إلى آخر السورة.

نزول الآية (١٩):

(وَما لِأَحَدٍ ..) : روى عطاء عن ابن عباس قال : إن بلالا لما أسلّم ، ذهب إلى الأصنام فسلح عليها ، وكان عبدا لعبد الله بن جدعان ، فشكا إليه المشركون ما فعل ، فوهبه لهم ، ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم ، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء ، وهو يقول : أحد فمرّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ينجيك أحد أحد. ثم أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر : أن بلالا يعذّب في الله ، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب ، فابتاعه به.

فقال المشركون : ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليد كانت لبلال عنده ، فأنزل الله تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (١).

وأخرج البزار عن ابن الزبير قال : نزلت هذه الآية : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ..) إلى آخرها ، في أبي بكر الصديق.

المناسبة :

بعد أن عرّف الله تعالى أن سعي الناس شتى في العواقب ، وبيّن ما للمحسن من اليسرى وما للمسيء من العسرى ، أخبر أنه قد قام بما عليه من البيان والدلالة ، والترغيب والترهيب ، والإرشاد والهداية ، وأعلم أنه مالك الدنيا

__________________

(١) أسباب النزول للنيسابوري : ص ٢٥٥ وما بعدها.

٢٧٤

والآخرة ، ولا يزيد في ملكه اهتداء الناس ، ولا يضره ترك اهتداءهم بهداه ، ويعطي ما يشاء لمن يشاء ، فتطلب سعادة الدارين منه.

ثم أنذر الناس جميعا بعذاب النار ، وأبان من يصلاها ويحترق بها ، ومن يبعد عنها ويسلّم من عذابها ، وقد أعذر من أنذر.

التفسير والبيان :

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال ، والحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، والخير من الشر ، من طريق الأنبياء وإنزال الكتب التي فيها تشريع الأحكام ، وتبيان العقائد والعبادات والأخلاق وأنظمة المعاملات.

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي لنا كل ما في الآخرة ، وكل ما في الدنيا ، نتصرف به كيف نشاء ، فمن أراد شيئا من الدارين ، فليطلبه منا ، نهب ونعطي ما نشاء لمن نشاء ، ولا يضرنا ترك الاهتداء بهدانا ، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤهم ، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم أيها الناس. ومن ملك الدنيا والآخرة وكان هو المتصرف فيهما ، كان هديه وشرعه هو الذي يجب اتباعه.

ثم حذر من سلوك طريق النار ، فقال :

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لقد خوفتكم نارا عظيمة شديدة تتوهج وتتلهب ، لا يدخلها ويذوق حرها إلا الكافر الذي كذب الحق الذي جاءت به الرسل ، وكذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به عن ربه ، وأعرض عن الإيمان بالله واتباع شرائعه وأحكامه ، وطاعة أوامره.

وأبان سبيل النجاة من النار ، فقال :

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي وسيباعد عن النار

٢٧٥

المتقي للكفر والمعاصي اتقاء بالغا ، قال الواحدي كما مر : الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين ، أي إنها نزلت فيه ، وإلا فحكمها عام.

وهذا الأتقى هو الذي ينفق ماله ويعطيه في وجوه الخير ، طالبا أن يكون عند الله زكيا متطهرا نقيا من الذنوب ، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ، ولا مديحا وثناء من الناس.

روى الإمام أحمد والبخاري عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة : رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه».

وروى مسلم الحديث بلفظ آخر : «إن أهون أهل النار عذابا : من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه ، كما يغلي المرجل ، ما يريد أن أحدا أشد منه عذابا ، وإنه لأهونهم عذابا».

وروى أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل النار إلا شقي ، قيل : ومن الشقي؟ قال : الذي لا يعمل بطاعة ولا يترك لله معصية».

وروى أحمد أيضا والبخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى ، قالوا : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى».

ثم ذكر صفة الإخلاص في العمل ، فقال :

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ، وَلَسَوْفَ يَرْضى)» أي لا يتصدق بماله مقابل نعمة لأحد من الناس عليه ، يكافئه عليها ، وإنما يريد بذلك طلب رضوان الله ومثوبته ، لا لمكافأة نعمة ، وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم.

٢٧٦

جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أنفق زوجين في سبيل الله ، دعته خزنة الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما على من يدعى منها ضرورة ، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال : نعم وأرجو أن تكون منهم».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته بعباده أن يبين لهم كل ما هو رشاد وهداية موصلة إلى جنته ورضاه ، وقد تعهد الله عزوجل بذلك لبيان أحكام الحلال والحرام ، والطاعة والمعصية.

٢ ـ لله تعالى ملك الدنيا والآخرة ، وهو المتصرف فيهما ، ومانح ثوابهما ، يعطي ما يشاء لمن يشاء ، فمن طلبهما من غير مالكهما ومن غير المتصرف فيهما ، فقد أخطأ الطريق. ولا يضره عصيان العاصين ، ولا ينفعه طاعة المطيعين ، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم.

٣ ـ حذر الله تعالى بعد هذه البيانات الوافية من نار جهنم التي تتوهج وتتوقد ، ولا يجد صلاها وهو حرها على الدوام إلا الشقي الكافر الذي كذّب نبي الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعرض عن الإيمان.

٤ ـ سيكون بعيدا من النار المتقي المعاصي ، الخائف من عذاب الله ، وصفة الأتقى أو المتقي : هو الذي يعطي ماله طالبا أن يكون عند الله زاكيا طاهرا متطهرا من الآثام والذنوب ، لا يطلب بذلك رياء ولا سمعة ، ولا مكافأة لأحد ، بل يتصدق به مبتغيا به وجه الله تعالى ، قاصدا ثوابه ورضاه ، ولسوف يرضى عن الله ، ويرضى الله عنه ، فيكون راضيا مرضيا. وهو وعد كريم من رب رحيم.

٢٧٧

والخلاصة : أن كلا من الأتقى والأشقى يشمل قسمين ، فالأتقى : يشمل المؤمن البار الذي ابتعد عن الفواحش كلها ، والمؤمن الذي يذنب أحيانا فيتوب ويندم ، وثواب كل منهما الجنة.

والأشقى : يشمل الكافر الجاحد بالله وبرسله وبما أنزل عليه ، والمسلم الذي آمن في قلبه بالله ورسله ، ولكنه يصر على بعض المعاصي والسيئات ولا يتوب منها ، وهذا دليل على نقص تصديقه ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه ابن ماجه : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن».

والأول مخلّد في النار ، والثاني معذب فيها على وفق مشيئة الله ، ثم يخرج إلى الجنة. وأما صفة الأتقى والأشقى فهو كلام وارد على سبيل المبالغة.

قال الزمخشري : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين ، وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ، فقيل : (الْأَشْقَى) وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل : (الْأَتْقَى) وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل : هما أبو جهل أو أمية بن خلف ، وأبو بكر رضي‌الله‌عنه (١).

أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل النار إلا من شقي ، قيل : ومن الشقي؟ قال : الذي لا يعمل لله تعالى طاعة ، ولا يترك لله تعالى معصية».

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٣٤٤

٢٧٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الضحى

مكيّة ، وهي إحدى عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة الضحى تسمية لها باسم فاتحتها ، حيث أقسم الله بالضحى : وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ، تنويها بهذا الوقت المهم الذي هو نور ، ولأنها نزلت في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فافتتحت بالضحى. ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل ، افتتحت بالليل.

مناسبتها لما قبلها :

هذه السورة متصلة بسورة الليل من وجهين :

١ ـ ختمت سورة الليل بوعد كريم من الله تعالى بإرضاء الأتقى في الآخرة ، وقال تعالى في سورة الضحى مؤكدا وعده لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

٢ ـ ذكر تعالى في السورة السابقة : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) ثم عدد الله تعالى نعمه على سيد الأتقياء في هذه السورة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع سورة الضحى المكية الحديث عن شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تضمنت أربعة مقاصد :

٢٧٩

١ ـ ابتدأت بالقسم الإلهي العظيم على أن الله عزوجل ما قلا رسوله ولا أبغضه ، ولا هجره ولا تركه ، وإنما هو محل العناية الربانية ، وهو عظيم القدر عند الله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ...) [الآيات : ١ ـ ٤].

٢ ـ بشّره ربه بالعطاء الجمّ في الآخرة ومنه الشفاعة العظمى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [٥].

٣ ـ عددت نعم الله على نبيه منذ صغره : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...) [الآيات : ٦ ـ ٨].

٤ ـ ختمت بإيصائه بفضائل ثلاث : العطف على اليتيم ، وصلة المسكين ، وشكر النعمة العظمى وهي النبوة وغيرها من هذه النعم المذكورة : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [٩ ـ ١١].

فضلها :

ثبت عن الإمام الشافعي أنه يسن التكبير بأن يقول «الله أكبر» أو «الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر» عقب قراءة سورة والضحى وخاتمة كل سورة بعدها. وذكر القراء في مناسبة التكبير : أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتر مدة ، ثم جاء الملك ، فأوحى إليه : (وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) السورة بتمامها ، كبّر فرحا وسرورا. قال ابن كثير : ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.

٢٨٠