التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البلد

مكيّة ، وهي عشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة البلد ؛ لأن الله تعالى أقسم في فاتحتها بالبلد الحرام (مكة) الذي شرفه الله بالبيت العتيق ، وجعله قبلة المسلمين ، تعظيما لشأنه.

مناسبتها لما قبلها :

ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ ذم الله تعالى في السورة السابقة (الفجر) من أحب المال ، وأكل التراث ، ولم يحض على طعام المسكين ، وذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة (إعتاق العبيد) والإطعام في يوم المسغبة (المجاعة).

٢ ـ ختم الله تعالى السورة المتقدمة ببيان حال النفس المطمئنة في الآخرة ، وذكر هنا طريق الاطمئنان ، وحذّر من ضده وهو الكفر بآيات الله ومخالفة أوامر الرحمن.

ما اشتملت عليه السورة :

محور هذه السورة المكية الحديث عن سعادة الإنسان وشقاوته ، ومنهجه في اختيار أحد الطريقين. بدأت بالقسم بالبلد الحرام ـ مكة أم القرى ، التي يأمن

٢٤١

الناس فيها ، تنبيها على عظمة قدرها ، سواء في حال الإحرام أو الحل ، وتنويها بموطن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعظيم تحريم إيذائه في البلد الأمين ، ثم ذكرت المقسم عليه وهو أن حال الإنسان في الدنيا في نصب وتعب : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ..) [الآيات ١ ـ ٤].

وأردفت ذلك بالإخبار عن خلق ذميم في الإنسان وهو اغتراره بقوته ، مما حدا بكفار مكة الذين اغتروا بقوتهم أن يعاندوا الحق ، ويكذبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينفقوا أموالهم في المفاسد والشرور ، وهو شأن المفتونين المغرورين بمالهم وغناهم : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ..) [الآيات ٥ ـ ٧].

ثم ذكّرت الإنسان بما أنعم الله عليه من العينين واللسان والشفتين وبيان طريق الخير والشر له ، واختياره أحد السبيلين بعقله وإرادته : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ..) [الآيات ٨ ـ ١٠].

ثم أبانت للإنسان ما يعترضه من الأهوال والمصاعب يوم القيامة وطريق اجتيازها بالإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال في جهات البر والخير ، ليكون من الأبرار السعداء أهل اليمين : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ...) [الآيات ١١ ـ ١٨].

وقابلت ذلك بتوضيح منهج الأشقياء الفجار أهل الشمال ، وهو الكفر بآيات الله ، فيتميز المؤمنون عن الكفار ، ويتبين مآل الفريقين إما إلى الجنة أو إلى النار : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ..) [١٩ ـ ٢٠].

٢٤٢

ابتلاء الإنسان بالتعب واغتراره بقوته وماله

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧))

الإعراب :

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ ..) أن مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي أنه.

البلاغة :

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) أي أقسم بهذا البلد ، وزيادة (لا) لتأكيد الكلام وتأكيد القسم ، تقول : لا والله ما قلت كذا ، أي والله. وهذا مستفيض في لغة العرب.

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) بينهما جناس اشتقاق ، فكل من الوالد والولد مشتق من الولاد.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) استفهام إنكاري للتوبيخ ، وكذا قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ).

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(لا أُقْسِمُ) أي أقسم. (بِهذَا الْبَلَدِ) مكة. (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي وأنت يا محمد حلال وحالّ مقيم فيه ، أقسم سبحانه بالبلد الحرام ، وحال كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقيم فيه ، إظهارا لمزيد فضله ، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. وهذه الجملة وما بعدها اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله بعدئذ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ).

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) أي وأقسم بكل والد كآدم أو إبراهيم وغيرهما ، وبكل مولود من أي شيء آخر ، والمراد : أن الله أقسم ببلد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه

٢٤٣

إسماعيل ، وبمن ولد فيه. والتنكير للتعظيم ، كقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران ٣ / ٣٦] أي بأي شيء وضعت ، يعني موضوعا عظيم الشأن.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) جنس الإنسان. (فِي كَبَدٍ) أي خلقناه مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد ، والتعب والنصب ، والإنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقه ومنتهاها الموت وما بعده ، وهو تسلية وتثبيت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كان يكابده من قريش ، وبعث له على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته.

(أَيَحْسَبُ) أيظن الإنسان. (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أي أنه يغتر بقوته ، ويعتقد ألا أحد ينتقم منه ولكن الله قادر عليه ، كأبي الأشد بن كلدة ، فإنه كان يبسط تحت قدمه أديم عكاظي ، ويجذبه عشرة ، فينقطع ، ولا تزلّ قدماه. (يَقُولُ : أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي وأنه يقول : أنفقت مالا كثيرا. من تلبد الشيء : إذا اجتمع ، على عداوة محمد ، أو سمعة ومفاخرة. (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) فيما أنفقه ، فيعلم قدره ، والله عالم بقدره ، وأنه ليس مما يتكثر به ، ومجازيه على فعله السيء.

سبب النزول :

نزول الآية (٥):

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ) : روي أن هذه الآية : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟) نزلت في أبي الأشدّ بن كلدة الجمحي ، الذي كان مغترا بقوته البدنية. قال ابن عباس : كان أبو الأشدّين يقول : أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا ، وهو في ذلك كاذب.

نزول الآية (٦):

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ ..) : قال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ، أذنب ، فاستفتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمره أن يكفّر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات ، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق ، فيكون طغيانا منه ، أو أسفا عليه ، فيكون ندما منه.

٢٤٤

التفسير والبيان :

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) أي أقسم بالبلد الحرام وهو مكة ، تنبيها على كرامة أم القرى وشرفها عند الله تعالى ؛ لأن فيها بيته الحرام قبلة المسلمين ، وهي بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وفيها مناسك الحج. وقوله : (لا أُقْسِمُ) قسم مؤكد وليس نفيا للقسم ، كقول العرب : لا والله لا فعلت كذا ، ولا والله ما كان كذا ، ولا والله لأفعلن كذا.

أقسم بهذا البلد في حال كون الساكن فيها حلالا مقيما بها وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل من دخله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران ٣ / ٩٧] تشريفا لك ، وتعظيما لقدرك ؛ لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا ، ولا شك أن الأمكنة تشرف بأهلها. والحل : الحلال. ورد في الحديث المتفق على صحته : «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

والمراد أن مكة عظيمة القدر في كل حال ، حتى في حال اعتقاد الكفار أنك حلال لا حرمة لك ، فلا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك. وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم.

وأقسم بكل والد ومولود من الإنسان والحيوان ، تنبيها على عظم آية التناسل والتوالد ، ودلالتها على قدرة الله وحكمته وعلمه.

ثم ذكر المقسم عليه ، فقال :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي لقد خلقنا الإنسان مغمورا بالتعب والنصب ، وفي مكابدة المشاقّ والشدائد ، فهو لا يزال في تلك المكابدة بدءا من

٢٤٥

الولادة ، إلى المتاعب المعيشية والأمراض الطارئة ، ثم إلى الموت وما يتبعه في قبره والبرزخ وآخرته من شدائد ومتاعب وأهوال.

وفيه تثبيت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحمله على احتمال مكائد أهل مكة ، وصبره على المشاق والمتاعب ، فذلك لا يخلو منه إنسان ، وفيه لوم لهم على عداوته.

ثم وبخ الإنسان على الاغترار بقوته ، فقال :

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟) أي أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه ، ولا ينتقم منه أحد ، فإن الله هو القادر على كل شيء.

ثم لام الإنسان على الإنفاق مراءاة ، فقال :

(يَقُولُ : أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي أنفقت مالا كثيرا مجتمعا بعضه على بعض. والمراد أن الإنسان يقول في يوم القيامة : أنفقت مالا كثيرا فيما كان يسميه أهل الجاهلية مكارم ، ويدعونه معالي ومفاخر.

ثم عابه على جهله ، فقال :

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟) أي أيظن الإنسان والمدعي النفقة في سبيل الخير أن الله سبحانه لم يطلع عليه ، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه ، وأين أنفقه؟

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بالبلد الحرام ـ مكة أم القرى ، وبالوالد والمولود كآدم وذريته ، وكل أب وولده ، وما يتوالده الحيوان ، على أنه خلق الإنسان مغمورا في شدة وعناء من مكابدة الدنيا.

٢٤٦

ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها ، والمراد تعظيم البلد الحرام المشتمل على البيت العتيق ، وكونه بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، ووجود مناسك الحج فيه ومنشأ كل بركة وخير ، وتظل الحرمة لهذا البلد ، وإن اعتقد كفار مكة أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلال لهم ، لا حرمة له.

والقسم بالوالد والولد ونسلهم ؛ لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض ؛ لما فيهم من التّبيان والنطق والتدبير ، وفيهم الأنبياء والدّعاة إلى الله تعالى.

٢ ـ وبخ الله تعالى الإنسان على بعض الأفكار والاعتقادات والتصورات ، كظنه ألا قدرة لأحد عليه ، وإنفاقه المال الكثير مراءاة ، أو مضايقة من أداء الواجبات المالية الخيرية ، وجهله بأن الله عالم به مطلع على جميع أقواله وأفعاله ، وسائله عن ماله من أين كسبه ، وفي أي شيء أنفقه؟

إن الله قادر على كل شيء من الإنسان والحيوان والجماد والنبات ، عالم بقصد كل إنسان حين ينفق ما ينفق رياء وافتخارا وحبا للانتساب إلى المعالي والمكارم ، أو معاداة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويرى كل أحد فيما يعمل ويجني ويكتسب وينفق.

مبدأ الاختيار وطريق النجاة في الآخرة

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

٢٤٧

الإعراب :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي لم يقتحم ، و (لا) في الماضي مثل (لم) في المستقبل ، كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة ٧٥ / ٣١] أي لم يصدق ولم يصلّ ، وكقول الشاعر أبي خراش الهذلي :

إن تغفر اللهم تغفر جمّا

وأي عبد لك لا ألمّا

أي لم يلمّ.

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ، فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً مَا الْعَقَبَةُ) :تقديره : ما اقتحام العقبة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. و (فَكُّ رَقَبَةٍ) : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : اقتحامها فك رقبة. (أَوْ إِطْعامٌ) : عطف عليه ، و (يَتِيماً): مفعول (إِطْعامٌ) وهو مصدر (أطعم) أي أن أطعم يتيما.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) اسم كان : ضمير مستتر تقديره هو ، أي ثم كان مقتحمها من الذين آمنوا. وإنما قال (ثُمَ) وإن كان الإيمان مقدما في الرتبة عن العمل ؛ لأن (ثُمَ) إذا عطفت جملة على جملة لا تفيد الترتيب ، بخلاف ما إذا عطفت مفردا على مفرد ، فهي ليست هنا للتراخي في الزمان إذ شرط الأعمال الحسنة الإيمان ، وإنما التراخي في الذكر والبيان.

البلاغة :

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ؟) استفهام تقريري للتذكير بالنعم ، أي جعلنا له ، وفيه مراعاة الفواصل.

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟) الاستفهام للتهويل والتعظيم. و (الْعَقَبَةُ) : استعارة تبعية لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال ، تشبيه بعقبة الجبل : وهو ما صعب منه ، أي أن العقبة : الطريق الوعر في الجبل ، أستعير للأعمال الصالحة ذات المشقة.

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) استعارة ، استعار النجدين لطريقي الخير والشر أو السعادة والشقاوة ، وأصل النجد : الطريق المرتفع.

(مَقْرَبَةٍ) و (مَتْرَبَةٍ) جناس ناقص لتغير بعض الحروف.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) بينهما مقابلة.

٢٤٨

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما ، أي جعلنا له. (وَلِساناً) يترجم به عما يريد ضميره. (وَشَفَتَيْنِ) يستر بهما فاه ، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها. (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) بينا له طريقي الخير والشر أو السعادة والشقاوة ، وأصل النجد : المكان المرتفع. (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فهلا اجتازها أو دخلها بسرعة وشدة ، والعقبة : الطريق الصعب في الجبل. والمراد : مجاهدة النفس لفعل الخير وترك الشر.

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) وما أعلمك ما اقتحام العقبة؟ والجملة اعتراضية لتعظيم شأنها أي لم تدر صعوبتها وثوابها. (فَكُّ رَقَبَةٍ) إعتاقها من الرق ، أو المعاونة عليه. (ذِي مَسْغَبَةٍ) مجاعة. (ذا مَقْرَبَةٍ) قرابة في النسب. (ذا مَتْرَبَةٍ) ذا فقر ، يقال : ترب فلان : إذا افتقر ، أي أصبحت يده ملصقة بالتراب لفقره ، والمراد : هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب ، لا بيوت لهم. وإنما ذكر الإعتاق والإطعام لما فيهما من مجاهدة النفس.

(ثُمَ) عطف على (اقْتَحَمَ) و (ثُمَ) للترتيب الذكري لا الزماني ، والمعنى : وكان وقت الاقتحام مؤمنا. (وَتَواصَوْا) أوصى ونصح بعضهم بعضا. (بِالصَّبْرِ) على الطاعة ، وعن المعصية. (بِالْمَرْحَمَةِ) الرحمة على الناس. (أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات. (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) اليمين ، وأصحاب طريق النجاة والسعادة. (الْمَشْأَمَةِ) الشمال ، أصحاب طريق الشقاء. (مُؤْصَدَةٌ) مطبقة مغلقة عليهم.

المناسبة :

بعد توبيخ الإنسان وذمه على طبائع غريبة وعجيبة ، أقام الله تعالى الدليل على كمال قدرته بخلق الأعين واللسان والشفتين والعقل المميز بين الخير والشر ، ومنحه الخيار للإنسان ليثبت ذاتيته ، ويتحرر من عبودية أهوائه وشهواته ، وليعرف البشر أنه تعالى مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل.

ثم بيّن الله تعالى أنه كان على الإنسان بعدئذ أن يشكر هذه النعم ، ويختار طريق الخير والسعادة ، فيبادر إلى الإيمان والعمل الصالح ، ومنه إعتاق أو تحرير الرقاب ، وإطعام الأيتام الأقارب والمساكين المحتاجين ، والتواصي بالرحمة على الناس ، وأدى اختيار الإنسان بالتالي إلى أن يكون من أحد الفريقين :

٢٤٩

أصحاب اليمين والسعادة ومآلهم إلى الجنة ، وأصحاب الشمال والشقاوة ومآلهم إلى النار.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) أي ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل المغرور بقوتك ، المرائي بعملك بإنفاق المال طلبا للشهرة والسمعة ، أمنحك العينين اللتين تبصر بهما ، واللسان الذي تنطق به ، والشفتين اللتين تستر بهما ثغرك ، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام ، وجمالا لوجهك وفمك ، والمراد أنني أنا الله الذي منحتك القدرة على البصر والنطق أو الكلام.

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي ألم نبين لك ونعرفك طريق الخير والشر ، فأودعنا في فطرتك السليمة أداة التمييز بينهما ، وجعلنا لك من العقل والفكر ما تستطيع به إدراك محاسن الخير ، ومفاسد الشر وأبعاد كل منهما. وعبّر عن هذين الطريقين بالنجدين : وهما الطريقان المرتفعان ، للدلالة على صعوبتهما وعورتهما ، واحتياجهما إلى مجاهدة النفس لعبورهما بشدة وسرعة.

لذا أردفه ببيان وجوب اختيار الأفضل وشكر تلك النعم ، فقال تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي فهلا نشط واخترق الموانع المانعة من طاعة الله ، من تسويل النفس واتباع الهوى والشيطان ، وهلا جاهد نفسه لاجتياز الطريق الصعب ، وأي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ استفهام للتفخيم والتعظيم.

ثم أرشد إلى طريق اقتحامها فقال :

(فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي إن اقتحام العقبة ودخولها يكون بإعتاق الرقبة من العبودية ، وتخليصها من إسار الرق ، أو المعاونة عليه ، أو إطعام في يوم المجاعة الذي يعز

٢٥٠

فيه الطعام اليتيم القريب : وهو الصغير الذي فقد أباه ، وكان قريبا في نسبه من المطعم ، أو إطعام المسكين المحتاج الذي لا شيء له ، ولا قدرة على كسب المال لضعفه وعجزه ، كأنه ألصق يده بالتراب ، لفقد المال.

فمن حرر الرقبة أو أطعم اليتيم أو المسكين في يوم المجاعة ، كان طائعا لله ، نافعا عباده ، فهو من أصحاب اليمين. وهذا مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان.

قال الصاوي على الجلالين : إنما قيّد الإطعام بيوم المجاعة ؛ لأن إخراج المال فيه أشد على النفس. وقد يستدل بقوله : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) للشافعي : أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وأنه قد يكون بحيث يملك شيئا ، وإلا وقع قوله : (ذا مَتْرَبَةٍ) تكرارا. وقد استدل أبو حنيفة بتقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة ، وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة إنقاذ النفس من الهلاك ؛ فإن الغذاء قوام البدن ، وأما الفك فهو تخليص من القيد في الأغلب.

أخرج أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أعتق رقبة مؤمنة ، فهي فكاكه من النار». وأخرج أحمد أيضا عن البراء بن عازب قال : «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، علّمني عملا يدخلني الجنة ، فقال : لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ، أعتق النّسمة وفكّ الرّقبة ، فقال : يا رسول الله ، أو ليستا بواحدة؟ قال: لا ، إن عتق النسمة : أن تنفرد بعتقها ، وفكّ الرقبة : أن تعين في عتقها».

وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن سلمان بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة».

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي قام

٢٥١

بالأفعال الخيرية السابقة بعد أن آمن بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر ، فإن هذه القربات إنما تنفع بشرط الإيمان ، فكان من جملة المؤمنين العاملين صالحا : المتواصين بالصبر على أذى ، وعلى الرحمة بهم ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الثابت : «الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (١) وفي الحديث الآخر : «من لا يرحم الناس لا يرحمه‌الله» (٢).

والصبر يكون أيضا على طاعة الله ، وعن المعاصي ، وعلى المصائب والبلايا. والرحمة على عباد الله ترقق القلب ، ومن كان رقيق القلب ، عطف على اليتيم والمسكين ، واستكثر من فعل الخير بالصدقة.

ثم ذكر الله تعالى جزاء هؤلاء مبشرا بهم ، فقال :

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أولئك المتصفون بهذه الصفات هم من أصحاب اليمين ، وهم أصحاب الجنة ، كما قال تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة ٥٦ / ٢٧ ـ ٣٤].

ثم ذكر أضداد هؤلاء للمقارنة والعبرة ، فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ ، عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي والذين جحدوا بآياتنا التنزيلية والآيات الكونية الدالة على قدرتنا ، هم أصحاب الشمال ، وعليهم نار مطبقة مغلقة ، وأصحاب الشمال هم أهل النار المشؤومة كما قال تعالى : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ..) [الواقعة ٥٦ / ٤١ ـ ٤٤].

__________________

(١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما.

(٢) أخرجه الشيخان والترمذي عن جرير بن عبد الله رضي‌الله‌عنه.

٢٥٢

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ جيء بآيات (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) للتذكير بنعم الله تعالى على الإنسان من البصر والنطق والجمال والعقل والفكر المميز بين الحق والباطل وبيان طريقي الخير والشر ، وللدلالة على كمال قدرة الله تعالى ، ولبيان مبدأ اختيار الإنسان للإيمان والكفر أو السعادة والشقاوة أو الخير والشر ، كما قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً ، وَإِمَّا كَفُوراً) [الدهر ٧٦ / ٣].

٢ ـ إن هذه النعم تقتضي الشكر عليها والاستعداد للنجاة في الآخرة ، بالإيمان والعمل الصالح الشامل للتواصي بالصبر على التكاليف الشرعية ، بطاعة الله وعن معصيته وعلى البلايا والمحن ، والتواصي بالمرحمة على الخلق أي التعاطف والتراحم ، وتحرير الرقاب (العبيد) وإطعام اليتامى والأرامل والمساكين. وإخراج المال في وقت القحط والضرورة والجوع أثقل على النفس ، وأوجب للأجر ، لذا قال : (ذِي مَسْغَبَةٍ) كقوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة ٢ / ١٧٧] وقوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً) [الدهر ٧٦ / ٨].

والإيمان شرط قبول هذه الأعمال الخيرية ، وإنما أخر للترقية من الأدنى إلى الأعلى ، والترتيب ذكري ، لا زماني.

وهؤلاء أصحاب اليمين أهل الجنة ، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.

ويلاحظ أنه ذكر في باب الكمال أمرين : فك الرقبة والإطعام ، والإيمان ، وفي باب التكميل شيئين : التواصي بالصبر على الوظائف الدينية ، والتواصي

٢٥٣

بالتراحم ، وكل من النوعين مشتمل على تعظيم أمر الله ، والشفقة على خلق الله ، إلا أنه في الأول قدم جانب الخلق ، وفي الثاني قدم جانب الحق (١).

٣ ـ ذكر الله تعالى للمقابلة والمقارنة والعظة أصحاب الشمال بعد أصحاب اليمين ، والفريق الأول هم الذين كفروا بالقرآن ، وهم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم ، ومصيرهم إلى النار التي تطبق وتغلق أبوابها عليهم.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١٨٧ ، غرائب القرآن : ٣٠ / ١٠٢

٢٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشمس

مكيّة ، وهي خمس عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة الشمس لافتتاحها بالقسم الإلهي بالشمس المنيرة المضيئة لآفاق النهار.

مناسبتها لما قبلها :

ترتبط السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ ختم الله سبحانه سورة البلد بتعريف أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، ثم أوضح المراد من الفريقين في سورة الشمس بعمل كل منهما حيث قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها).

٢ ـ أبان الله تعالى في آخر آيات السورة السابقة مصير أو مآل الكفار في الآخرة وهو النار ، وذكر تعالى في أواخر هذه السورة عقاب بعض الكفار في الدنيا ، وهو الهلاك ، فاختتمت السابقة بشيء من أحوال الكفار في الآخرة ، واختتمت هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة الكلام عن موضوعين مهمين هما :

١ ـ الإقسام بالمخلوقات الكونية العظيمة في العالم العلوي والسفلي وآلة التفكر

٢٥٥

في ذلك وهو النفس على أحوال النفس الإنسانية ، ودور الإنسان في تهذيبها ، وتعويدها الأخلاق الفاضلة ليفوز وينجو ، أو إهمالها وتركها بحسب هواها فيخيب.

٢ ـ ضرب المثل بثمود لمن دسّ نفسه وأهملها ، فتمادت في الطغيان ، فنزل بها العقاب الشديد وأهلكها ودمرها عيانا في الدنيا.

والخلاصة : المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات ، والتحذير من المعاصي.

جزاء إصلاح النفس وإهمالها

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

الإعراب :

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) الواو الأولى واو القسم ، وسائر الواوات عطف عليها ، وجواب القسم : إما مقدر ، وهو لتبعثن ، أو هو (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي لقد أفلح من زكاها ، وحذفت اللام لطول الكلام. وقال الزمخشري : تقدير الجواب : ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دمدم على ثمود ، أي أطبق عليهم العذاب ؛ لأنهم كذبوا صالحا ، وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ...) فكلام تابع لقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء.

(إِذا) في المواضع الثلاثة لمجرد الظرفية والعامل فيها فعل القسم.

(وَالسَّماءِ وَما بَناها ما) إما مصدرية ، أي وبنائها ، أو بمعنى الذي ، أي والذي

٢٥٦

بناها ، وهو الأحسن أو بمعنى من أي ومن بناها ، وقد جاءت (ما) بمعنى (من) قال أهل الحجاز للرعد : سبحان ما سبّحت له ، أي سبحان من سبّحت له.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها دَسَّاها) أصله : دسّسها ، فاجتمعت الأمثال ، فوجد الاستثقال ، فأبدل من السين الأخيرة ياء ، كما قالوا : قصّيت أظفاري ، في قصصت ، فصار (دسيها) ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.

البلاغة :

الشمس والقمر بينهما طباق ، وكذا بين (اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وبين (فُجُورَها وَتَقْواها).

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) مقابلة بينها وبين (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) وكذا بين (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) وبين (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها). والطباق والمقابلة من المحسنات البديعية ، كما هو معروف.

في السورة كلها سجع مرصع وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(وَضُحاها) قال مجاهد : هو ارتفاع الضوء وكماله ، وقال أبو حيان : المعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلا ، فإذا زاد فهو الضّحاء ـ بالمد وفتح الضاد : إلى الزوال. (تَلاها) تبعها ، أي أن القمر يتبع الشمس طالعا عند غروبها. (جَلَّاها) أي جلّى الشمس وكشفها وأتم وضوحها.

(يَغْشاها) يغشى الشمس فيغطي ضوءها بظلمته ، أي يزيله ويحجبه. (وَالسَّماءِ) كل ما علاك وارتفع فوق رأسك فهو سماء ، والمراد به الكون الذي فوقك ، وفيه الكواكب. (وَما بَناها) أي ومن رفعها ، وجعل كل كوكب بمنزلة لبنة من بناء سقف ، قال الزمخشري والبيضاوي : وإنما أوثرت على (من) لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها. (طَحاها) بسطها ، مثل دحاها.

(سَوَّاها) أحكم خلقتها وتسويتها وتعديل أعضائها بخلق القوى والغرائز فيها ، وجعل وظيفة لكل منها. (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) عرّفها وأفهمها ، وبيّن لها طريق الخير والشر. والفجور : الفسوق والشر وكل ما يؤدي إلى الخسارة والهلاك. والتقوى : التزام جادة الاستقامة ، وإتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة.

٢٥٧

(أَفْلَحَ) فاز ونجا وأدرك المطلوب. (مَنْ زَكَّاها) طهرها من الذنوب ، وهذّبها ونمّاها بالعلم والعمل ، وهو جواب القسم. (خابَ) خسر. (دَسَّاها) أهمل تهذيبها ، والتدسية : النقص والإخفاء ، فمن فعل الشر والمعصية ، أنقص نفسه عن مرتبة الكمال ، وأخفاها بالذنوب والمعاصي ، وهي ضد التزكية.

التفسير والبيان :

أقسم الله تعالى في مطلع هذه السورة بسبعة أشياء ، فقال :

١ ـ ٢ ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها ، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي أقسم بالشمس المضيئة نفسها ، سواء غابت أم طلعت ؛ لأنها شيء عظيم أبدعها الله ، وأقسم بضوئها وضحاها وهو وقت ارتفاع الشمس بعد طلوعها إذا تم ضوؤها ؛ لأنه مبعث حياة الأحياء.

وأقسم بالقمر المنير إذا تبع الشمس في الطلوع بعد غروبها ، وبخاصة في الليالي البيض : وهي الليالي الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة وقت امتلائه وصيرورته بدرا بعد غروب الشمس إلى الفجر. وهذا قسم بالضوء وقت الليل كله.

٣ ـ ٤ ـ (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي وأقسم بالنهار إذا جلّى الشمس وكشفها وأظهر تمامها ، ففي اكتمال النهار كمال وضوح الشمس ، وأقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويغطي ضوءها بظلمته ، فيزيل الضوء وتغيب الشمس ، وتظلم الدنيا في نصف الكرة الأرضية ، ثم تطلع في النصف الآخر.

وفي هذا التبدل والتغير رد على المشركين الذين يؤلهون الكواكب ، والثنوية الذين يقولون بأن للعالم إلهين اثنين : النور والظلمة ؛ لأن الإله لا يغيب ولا يتبدل حاله.

٢٥٨

وبعد التنويه بعظم هذه الأشياء الكونية ، ذكر الله تعالى صفات حدوثها ، فقال :

٥ ـ ٦ ـ (وَالسَّماءِ وَما بَناها ، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي وأقسم بالسماء وبناء الله تعالى لها بالكواكب ، كأن كل كوكب لبنة في سقف أو قبّة تحيط بالأرض وأهلها. وأقسم بالأرض كوكب الحياة البشرية والذي بسطها من كل جانب ، وجعلها ممهدة موطأة للسكنى مثل قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات ٧٩ / ٣٠] أي بسطها ، والطحو كالدحو وهو البسط ، ثم مكّن الناس من الانتفاع بها ظاهرا بالنبات ، وباطنا بالمعادن والثروات. ونظير الآية : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ، وَالسَّماءَ بِناءً) [البقرة ٢ / ٢٢].

وختم الأشياء المحلوف بها بالنفس البشرية التي خلقت هذه الأشياء من أجلها ، وكونها أداة الانتفاع بها ووسيلة ترقي الحياة وتقدمها ، فقال :

٧ ـ (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي وأقسم بالنفس الإنسانية ، والذي خلقها سوية ، مستقيمة ، على الفطرة القويمة ، وتسويتها : إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن ، وهي الحواس الظاهرة والباطنة ، والقوى الطبيعية ، أي تعديل أعظائها ، وتزويدها بطاقات وقوى ظاهرية وباطنية متعددة ، وتحديد وظيفة لكل عضو فيها.

ثم إنه تعالى عرّف هذه النفس وأفهمها ما هو شر وفجور ، وما هو خير وتقوى ، وما فيهما من قبح وحسن ، لتمييز الخير من الشر ، كما قال تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر. ويعضده ما بعده : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها). وهذا قول المعتزلة ، وقال أهل السنة : الضميران في قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها) وقوله : (وَهَدَيْناهُ) لله تعالى ، والمعنى : قد سعدت نفس زكاها الله تعالى ،

٢٥٩

وخلقها طاهرة ، وخابت نفس دسّاها الله ، وخلقها كافرة فاجرة (١).

والظاهر التفسير الأول ، بدليل ما قال ابن كثير : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) : أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها ، أي بيّن لها ذلك ، وهداها إلى ما قدّر لها (٢). وقال ابن عباس: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) بيّن لها الخير والشر (٣). وهذا دليل على مبدأ الاختيار للإنسان.

ثم ذكر الله تعالى جزاء ما تختاره النفس ، فقال :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي قد فاز بكل مطلوب ، وظفر بكل محبوب من زكى نفسه فهذبها ونمّاها وأعلاها بالتقوى والعمل الصالح ، وقد خسر من أضل نفسه وأغواها وأهملها وأخملها ، ولم يهذبها ، ولم يتعهدها بالطاعة والعمل الصالح. وهذا جواب القسم الذي افتتحت به السورة.

روى الطبراني عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مرّ بهذه الآية : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وقف وقال : «اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وخير من زكاها».

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) : قال : «اللهم آت نفسي تقواها ، وزكّها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها».

وروى الإمام أحمد عن عائشة : أنها فقدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مضجعه ، فلمسته بيدها ، فوقعت عليه ، وهو ساجد ، وهو يقول : «رب أعط نفسي تقواها ، وزكّها أنت خير من زكّاها ، أنت وليها ومولاها».

__________________

(١) وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي.

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥١٦

(٣) المرجع السابق ، وهذا أيضا قول مجاهد وقتادة والضحاك والثوري.

٢٦٠