التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وإذا دخلها الكافر خلّد فيها إلى الأبد ، فلا يموت فيستريح من العذاب ، ولا يحيا حياة تنفعه.

٣ ـ قد نجا وفاز كل من تطهر من الشرك بالإيمان ، وجنّب نفسه رذائل الأخلاق ، وعمل بما يرضي ربه من الأعمال الصالحات ، وذكر ربه بلسانه وقلبه فصلى الفرائض.

٤ ـ احتج بعض العلماء بقوله تعالى : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله عزوجل ، والمسألة خلافية بين الفقهاء. واحتجوا بها أيضا على وجوب تكبيرة الافتتاح ، واحتج أبو حنيفة رحمه‌الله بالآية على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة ؛ لأن الصلاة معطوفة عليها ، والعطف يستدعي المغايرة. وأجيب بما روي عن ابن عباس : أن المراد ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه ، فصلى له.

٥ ـ يؤثر بعض الناس أو أغلبهم الدنيا ، ويترك الاستعداد للآخرة ، والآية : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا ، والترغيب في الآخرة وفي ثواب الله تعالى ، وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع.

٦ ـ الشرائع الإلهية متفقة في أصولها الاعتقادية والأخلاقية وتوجيه العبادة الخالصة لله عزوجل ، وهذه نماذج من وحدة الشرائع : وجوب تزكية النفس وتطهيرها من الشرك والكفر ودنس الرذائل ، ووجوب التذكر الدائم لله عزوجل وإقامة الصلوات المفروضة في أوقاتها ، وضرورة الاستعداد للآخرة وإيثار ثوابها على ملذات الدنيا الفانية.

بل إن ما في السورة كله من التوحيد والنبوة والوعد والوعيد كان ثابتا في صحف الأنبياء الأقدمين ؛ لأنها قواعد كلية لا تتغير بتغير الأزمان.

٢٠١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الغاشية

مكيّة ، وهي ست وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة الغاشية ، لافتتاحها بقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) والغاشية: من أسماء يوم القيامة ، وهي الداهية التي تغشى الناس بأهوالها ، والاستفهام للتهويل وتفخيم شأنها.

مناسبتها لما قبلها :

هذه السورة تفصيل وتبسيط لما جاء في سورة الأعلى من أوصاف المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا ، فلما قال تعالى في الأعلى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) إلى قوله : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الآيات : ١٠ ـ ١٧] فصل ذلك في هذه السورة بقوله : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ، تَصْلى ناراً حامِيَةً ..) [الآيات : ٢ ـ ٧] ثم ذكر صفات وأحوال المؤمنين في الآيات : [٨ ـ ١٦]. ولما قال تعالى في الأعلى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أبان صفة الجنة في الآيات السابقة أكثر من صفة النار ، تحقيقا لمعنى الخيرية.

ما اشتملت عليه السورة :

تتحدث هذه السورة المكية عن أصول الاعتقاد في موضوعات ثلاثة وهي :

أ ـ وصف أهوال القيامة ، وما يلقاه الكافر والمؤمن فيها من الشقاء والسعادة ، وو صف أهل الجنة وأهل النار.

٢٠٢

٢ ـ إثبات وحدانية الله وقدرته وحكمته وعلمه بدليل خلق السماء والإبل والجبال والأرض وغيرها من عجائب الصنعة الإلهية.

٣ ـ ختمت السورة الكريمة بخاتمة تشبه خاتمة السورة المتقدمة وهي تذكير الناس بالرجوع إلى الله عزوجل للحساب والجزاء ، وأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصالة بالتذكير بما أنزل إليه من الشرائع والأحكام.

فضلها :

تقدم في فضل السورة السابقة ما أخرجه مسلم وأهل السنن عن النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، والغاشية في الجمعة والعيدين. وأخرج الإمام مالك ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن النعمان بن بشير أيضا : بم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ).

هول القيامة وأحوال أهل النار

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧))

الإعراب :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) المرفوع مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع. وقيل : لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه ، والخبر ما بعد ، والظرف متعلق به.

(لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) صفة للطعام أو للضريع.

البلاغة :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟) أسلوب التشويق والتهويل ، وهو استفهام أريد به التقرير ولفت النظر إلى هذا الحديث.

٢٠٣

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي أصحابها وهم الكفار ، فهو مجاز مرسل بإطلاق الجزء وهو الوجوه وإرادة الكل وهي الذوات.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) و (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ) فيهما مقابلة بين وجوه الأبرار ووجوه الفجار.

المفردات اللغوية :

(الْغاشِيَةِ) يوم القيامة ، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وأهوالها. (خاشِعَةٌ) ذليلة. (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تعمل عملا في الدنيا ، تتعب فيه وهو لا ينفعها يومئذ ، أو تتعب في النار بجر السلاسل والأغلال وخوضها ، فقوله : (ناصِبَةٌ) تعبة من (نصب فلان) : تعب ، والنصّب : التعب ، ومنه قوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الانشراح ٩٤ / ٧] أي إذا فرغت من الصلاة ، فاتعب في الدعاء. (تَصْلى ناراً) تدخلها ، يقال : صلي النار : قاسى حرها ، وقرئ تصلى : بضم التاء. (حامِيَةً) متناهية في الحر. (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) العين : ينبوع الماء ، والآنية : الشديدة الحرارة. (ضَرِيعٍ) نوع من الشوك لا ترعاه دابة لخبثه وضره وشدة مرارته ، أما الرطب منه وهو الشّبرق فترعاه الإبل ما دام رطبا ، والمراد : طعامهم مما يتحاماه الإبل ويتعافاه. (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) لا يتحقق به أحد هذين الأمرين المقصودين من الطعام.

التفسير والبيان :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟) أي هل بلغك يا محمد حديث القيامة وعلمت خبره ، وسميت غاشية : لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها ، والمراد : لم يأتك سابقا حديث هذه الداهية ، وقد أتاك الآن فاستمع ، فلا يراد من التعبير حقيقة الاستفهام ، وإنما يراد منه تشويق السامع إلى استماعه ، وتعجيبه مما سيذكر بعده. والمعنى : قد جاءك يا محمد حديث الغاشية.

ثم ذكر أحوال الناس فيه وانقسامهم إلى فريقين : أشقياء وسعداء ، وبدأ بوصف الأشقياء ؛ لأن مبني السورة على التخويف ، كما ينبئ عنه لفظ الغاشية ، فقال :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) أي أصحاب وجوه ، والمراد

٢٠٤

بالوجه الذات ، أي أصحابها ، وأصحاب الوجوه وهم الكفار ، تكون في ذلك اليوم ذليلة خاضعة لما هي فيه من العذاب ، ونسب الخشوع والذل إلى الوجوه ؛ لأن أثره يظهر عليها ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السجدة ٣٢ / ١٢] وقوله : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى ٤٢ / ٤٥].

وقد كان أصحابها في الدنيا يعملون عملا كثيرا ، ويتعبون أنفسهم في العبادة ، ولا أجر لهم عليها ؛ لما هم عليه من الكفر والضلال ؛ والإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرط قبول الأعمال. والآية في القسّيسين وعبّاد الأوثان وكل مجتهد نشط في كفره (١).

ثم ذكر جزاء هؤلاء في يوم القيامة :

(تَصْلى ناراً حامِيَةً ، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي تدخل تلك الوجوه نارا شديدة الحرارة ، وتقاسي حرها ، وتعذب بها ، لخسارة أعمالها ، وتسقى إذا عطشوا من ماء عين أي ينبوع ، آنية ، أي متناهية في حرها ، فهي لا تطفئ لهم عطشا.

وليس لهم طعام يتغذون به إلا الضريع : وهو شوك يابس شديد المرارة والضر ، يقال له في لغة أهل الحجاز الشّبرق إذا كان رطبا ، فإذا يبس فهو الضريع ، وهو سم ، وشر الطعام ، وأبشعه وأخبثه.

ولا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور ، فلا يسمن آكله ، ولا يدفع عنه الجوع. وإنما قدم المشروب على الضريع المطعوم ؛ لأن الماء لأهل النار أهم ، ويغلب عليهم العطش إذا أثر فيهم حر النار.

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٤٦٢

٢٠٥

وهناك طعام آخر لأهل النار وهو الغسلين والزقّوم ، قال تعالى : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة ٦٩ / ٣٦] وقال : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان ٤٤ / ٤٣ ـ ٤٤].

ذكر الحافظ أبو بكر البرقاني عن أبي عمران الجوني قال : مرّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بدير راهب ، فناداه : يا راهب ، فأشرف ، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، ما يبكيك من هذا؟ قال : ذكرت قول الله عزوجل في كتابه : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ، تَصْلى ناراً حامِيَةً) فذاك الذي أبكاني.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ القيامة يوم رهيب ، يغشى الناس فيه غاشية شديدة من الأهوال والمخاوف.

٢ ـ تكون وجوه الكفار في ذلك اليوم ذليلة بالعذاب ، خاضعة للعقاب ، وقد كان أصحابها في الدنيا يعملون ويتعبون أنفسهم ؛ لأن الآخرة ليست دار عمل ، مثل عبدة الأوثان وأصحاب الصوامع والرهبان وغيرهم ، خشعت وجوههم لله ، وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة ؛ لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي القائم على التوحيد الخالص والإخلاص الكامل لله عزوجل ، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له ، قال تعالى واصفا عمل هؤلاء : (قُلْ : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ ، فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ، ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا ، وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) [الكهف ١٨ / ١٠٣ ـ ١٠٦].

٢٠٦

٣ ـ ومكانهم هو النار الشديدة الحر ، ومشروبهم هو (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي من ينبوع ماء متناه في الحرارة ، ومطعومهم الضريع الذي لا يسمن آكله ، ولا يدفع الجوع عنه. جاء في الخبر عن ابن عباس : (الضريع : شيء يكون في النار يشبه الشّوك ، أمرّ من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشد حرّا من النار) (١).

وقال العلماء : إن للنار دركات ، وأهلها على طبقات ؛ فمنهم من طعامه الزّقوم ، ومنهم من طعامه غسلين ، ومنهم من طعامه ضريع ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصّديد : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر ١٥ / ٤٤]. ووجود النبت في النار ليس ببدع من قدرة الله ، كوجود بدن الإنسان والعقارب والحيات فيها.

قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال المشركون على سبيل التعنت : إن إبلنا لتسمن بالضّريع ، فنزلت : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي ليس فيه منفعة الغذاء ، ولا الاسمان ودفع الجوع.

وهذا دليل على أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس ، ولكن من جنس الشوك الذي ترعاه الإبل ما دام رطبا ، فإذا يبس ، نفرت عنه ؛ لأنه سم قاتل. ودليل أيضا على تكذيب الله لهم في قولهم : «يسمن الضريع».

والخلاصة : أن وصف أحوال النار على النحو المذكور يستدعي الفرار منه ، وإبعاد النفس عن موجبات هذا العذاب ، من العقيدة الفاسدة ، والعمل الخاسر ، ولا عقيدة صحيحة إلا بتوحيد الله والإيمان بالقرآن والرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا عمل مقبول إلا على وفق ما جاء به الإسلام. ولا أقول هذا لأني مسلم ، وإنما هذا الذي صح دليله.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٣٠

٢٠٧

أحوال المؤمنين المخلصين أهل الجنة

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

الإعراب :

(لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) التاء للخطاب ، والفعل مبني للمعلوم (للفاعل) و (لاغِيَةً) مفعول (تَسْمَعُ) و (لاغِيَةً) مصدر كالعافية والعاقبة.

وقرئ بضم التاء ورفع (لاغِيَةً) على أن الفعل مبني للمجهول (لما لم يسم فاعله) و (لاغِيَةً) مرفوع ؛ لأنه نائب فاعل.

ومن قرأ القراءة الثانية ، ذكّر اللاغية إما لأنه أراد بها اللغو ، وهو مذكر ، وإما لأنه فصل بين الفعل والفاعل ، مثل : حسن اليوم دارك ، واضطرم الليلة نارك ، وحضر القاضي اليوم امرأة. وإذا جاز التذكير مع المؤنث الحقيقي ، فمع غير الحقيقي أولى.

البلاغة :

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) سجع رصين غير متكلّف.

المفردات اللغوية :

(ناعِمَةٌ) ذات بهجة وحسن ، أو متنعمة. (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي راضية في الآخرة بعملها الذي عملته في الدنيا ، وهو طاعة الله ، لما رأت ثوابه. (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) عالية المكان والقدر ؛ لأن الجنة درجات ، كما أن النار دركات. (لاغِيَةً) لغوا وهذيانا لا فائدة فيه ، وكذبا وبهتانا. (عَيْنٌ جارِيَةٌ) ينبوع ماء جار. (سُرُرٌ) جمع سرير : وهو ما يجلس أو ينام عليه. (مَرْفُوعَةٌ) رفيعة ذاتا وقدرا ومحلا.

(وَأَكْوابٌ) جمع كوب : إناء لا عروة له. (مَوْضُوعَةٌ) معدّة ومهيأة لشربهم وبين أيديهم. (وَنَمارِقُ) وسائد ، جمع نمرقة ـ بضم النون وفتحها ـ وبالكسر في لغة (مَصْفُوفَةٌ) اصطف بعضها بجنب بعض للاستناد إليها (وَزَرابِيُ) بسط فاخرة ، وطنافس لها خمل ، جمع زربي

٢٠٨

ـ بكسر الزاي أو زربيّة : وأصل الزرابي : أنواع النبات الأحمر والأصفر والأخضر (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة مفرّقة في المجالس.

المناسبة :

بعد بيان وعيد الكفار الأشقياء ، وبيان حالهم ومكانهم وطعامهم وشرابهم ، ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين السعداء ، وما وعدهم به ربهم ، واصفا ثوابهم وأهل الثواب ، ثم وصف دار الثواب ، لترغيب الناس بأعمالهم ، وتشويقهم لما يلاقونه من فضل ربهم.

التفسير والبيان :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي ووجوه يوم القيامة ذات نعمة وبهجة ونضرة وحسن ، يعرف النعيم فيها ، أو متنعمة ، كما قال تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين ٨٣ / ٢٤] وهي وجوه السعداء ، لما شاهدوا من عاقبة أمرهم ، وقبول عملهم ، فهي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية ، أي رضيت عملها ؛ لأنها قد أعطيت من الأجر من أرضاها ، كما قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، وَرَضُوا عَنْهُ) [البينة ٩٨ / ٨].

والخلاصة : أن الله تعالى وصف أهل السعادة والثواب بوصفين :

أحدهما ـ في ظاهرهم وهو قوله : (ناعِمَةٌ) أي ذات بهجة وحسن ، أو متنعمة.

والثاني ـ في باطنهم وهو قوله : (لِسَعْيِها راضِيَةٌ).

ثم وصف دار الثواب وهي الجنة بسبعة أوصاف :

١ ـ ٢ ـ (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي إن أصحاب الوجوه الناعمة وهم المؤمنون السعداء في جنة رفيعة المكان ، بهية الوصف ، آمنة

٢٠٩

الغرفات ؛ لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض.

ولا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة لغو وهذيان ؛ لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم ، ولأن الجنة منزل أحباب الله ، ومنازل الصفاء لا تتعكر باللغو والكذب والبهتان ، كما قال تعالى : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) [الطور ٥٢ / ٢٣] وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم ١٩ / ٦٢] وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) [الواقعة ٥٦ / ٢٥ ـ ٢٦].

٣ ـ ٤ ـ (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ، فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي في الجنة ينبوع أو عين ماء تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة الصافية ، وليس المراد بها عينا واحدة باعتبارها نكرة في سياق الإثبات ، وإنما هذا جنس ، يعني فيها عيون جاريات.

وفيها أسرة عالية مفروشة بما هو ناعم الملمس ، كثيرة الفرش ، مرتفعة السّمك ، إذا جلس عليها المؤمن استمتع بها ورأى رياض الجنة ونعيمها ، كما قال تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة ٥٦ / ٣٤].

وفي ذلك غاية التشريف والتكريم.

٥ ـ ٧ ـ (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) أي وفيها أواني الشرب وأقداح الخمر غير المسكرة معدة مرصودة بين أيديها ، يشربون منها متى أرادوا ، وفيها ووسائد (مخدات) مصفوفة بعضها إلى بعض ، للجلوس عليها أو الاستناد إليها ، وفيها بسط مبسوطة في المجالس ، وطنافس (سجّاد) لها خمل رقيق ناعم ، مفرّقة في المجالس ، كثيرة ، تغري بالجلوس عليها ، ويستمتع الناظر إليها ، وفيها معاني الأبهة والفخامة.

٢١٠

فقه الحياة أو الأحكام :

وصف الله تعالى أهل السعادة والثواب ، ودار الثواب بأوصاف جميلة رائعة الجمال والمتعة ، لإغراء الناس بها وترغيبهم في الحصول عليها إذا عملوا عمل أصحابها المستحقين لها.

أما أهل الثواب فلهم صفتان : ظاهرية وباطنية ، فوجوه المؤمنين ذات نعمة وبهجة ونضرة ، ولعملها الذي عملته في الدنيا راضية في الآخرة ، حيث أعطيت الجنة بعملها.

وأما دار الثواب فلها صفات سبع كما تقدم :

الأولى ـ في جنة عالية ، أي مرتفعة ، وعالية القدر ؛ لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

الثانية ـ لا تسمع فيها كلاما ساقطا غير مرضي ، ولا تسمع فيها كلمة لغو.

الثالثة ـ فيها عين شراب جارية على وجه الأرض ، من غير أخدود ، وتجري لهم كلما أرادوا ، بماء مندفق وبأنواع الأشربة اللذيذة من خمر وعسل ولبن.

الرابعة ـ فيها سرر عالية المكان ، مرتفعة السماء.

الخامسة ـ فيها أكواب ، أي كيزان لا عرى لها ، أو أباريق وأوان ، والإبريق : هو ما له عروة وخرطوم ، والكوب : إناء ليس له عروة ولا خرطوم.

السادسة ـ فيها نمارق ، أي وسائد مصفوفة واحدة إلى جنب الأخرى.

السابعة ـ فيها البسط المبسوطة ، والطنافس التي لها خمل رقيق ، والكثيرة المتفرقة في المجالس.

٢١١

إثبات قدرة الله تعالى على البعث وغيره والتذكير بأدلة ذلك

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

الإعراب :

(كَيْفَ خُلِقَتْ كَيْفَ) حال مقدم من ضمير (خُلِقَتْ) ، والجملة بدل اشتمال من الإبل.

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) قرئ (بِمُصَيْطِرٍ) على الأصل ، وقرئ بالصاد ، بإبدال السين صادا ، لتوافق الطاء في الاستعلاء والإطباق ، مثل (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة ٢ / ٢٤٧] وأصله : (بسطة) فأبدل من السين صادا ، لتوافق الطاء في الإطباق ، وكذلك قالوا : الصراط في السراط ، وصطر في سطر.

و (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) : في موضع نصب على استثناء من غير الجنس أي استثناء منقطع ، وقيل : هو استثناء من الجنس ، أي استثناء متصل ، وتقديره : إنما أنت مذكر الناس إلا من تولى وكفر.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) بتخفيف الباء ، آب يئوب إيابا ، نحو : قام يقوم مقاما ، وأصله : إوابا وقواما ، وقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرئ (إِيابَهُمْ) بتشديد الياء ، قال أبو الفتح ابن جني : يجوز أن يكون أراد : إوّابا ، إلا أنه قلبت الواو ياء استحسانا طلبا للخفة ، لا وجوبا ، مثل اجلوّذ اجلياذا ، وإن كان المشهور : اجلواذا.

البلاغة :

(فَذَكِّرْ مُذَكِّرٌ) بينهما جناس الاشتقاق ، وكذا بين (فَيُعَذِّبُهُ) و (الْعَذابَ).

(إِلَيْنا إِيابَهُمْ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) يوجد بينهما طباق في الحرف.

٢١٢

المفردات اللغوية :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) ينظر أهل مكة ونحوهم نظر اعتبار. (الْإِبِلِ) الجمال ، جمع بعير ، ولا وأحد لها من لفظه كنساء وقوم. (كَيْفَ خُلِقَتْ) خلقا يدل على كمال قدرة الله تعالى وحسن تدبيره ، بأن جعلت أداة لحمل الأثقال إلى البلاد النائية ، مع احتمال العطش عشرا فأكثر وخصت بالذكر ؛ لأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع ، وبدئ بها لأنهم أكثر مخالطة لها من غيرها.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) بلا عمد وأمسكها بما فيها من الكواكب. (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) فهي راسخة لا تميل وهي أعلام للسائرين. (سُطِحَتْ) بسطت حتى صارت مهادا موطأة للإقامة عليها. قرئت الأفعال الأربعة بالبناء للمجهول ، وحذف المفعول المنصوب أي خلقتها رفعتها نصبتها ، والمعنى : أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من المركبات وغيرها ، ليعرفوا كمال قدرة الخالق ووحدانيته ، فلا ينكروا اقتداره على البعث ، ولذلك عقب به أمر المعاد ، ورتب عليه الأمر بالتذكير.

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي فذكرهم نعم الله ودلائل توحيده وعظهم والفت نظرهم إلى الكون كله ، وما عليك ألا ينظروا أو لم يتذكروا ، فإنما عليك البلاغ فقط. (بِمُصَيْطِرٍ) بمسلّط ، لإجبارهم على ما تريد (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) لكن من تولى وكفر بالقرآن (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) عذاب الآخرة ، وهو في آية سابقة (النَّارَ الْكُبْرى) والأصغر عذاب الدنيا بالقتل والأسر. (إِيابَهُمْ) رجوعهم بعد الموت. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) في المحشر ، وتقديم الخبر في الجملتين الأخيرتين للتخصيص ، والمبالغة في الوعيد.

سبب النزول :

نزول الآية (١٧):

(أَفَلا يَنْظُرُونَ ..) : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن قتادة قال : لما نعت الله ما في الجنة ، عجب من ذلك أهل الضلالة ، فأنزل الله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ).

المناسبة :

بعد أن حكم الله تعالى بمجيء يوم القيامة ، وقسم الناس فيها إلى فريقين : أشقياء وسعداء ، وو صف أحوال الفريقين ، أقام الدليل على وجوده ووحدانيته

٢١٣

وقدرته بما يشاهدونه من آثار القدرة من السماء العالية ، والأرض التي يسكنون فيها ، والإبل التي ينتفعون بها في نقل الأحمال والانتفاع بلحومها وأوبارها وألبانها ، والجبال الراسيات التي ترشد السالكين ، فيستدلون بذلك على قدرته تعالى على بعث الأجساد والمعاد وصحة عقيدة التوحيد.

ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكّرهم بهذه الأدلة والبراهين وأمثالها ، لينظروا فيها ، وليصبر على معارضتهم ، فإنما بعث لذلك دون غيره.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته ووجوده وتوحيده ، فيقول :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟) أي كيف يصح للمشركين إنكار البعث والمعاد واستبعاد وقوع ذلك ، وهم يشاهدون الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر المخلوقات في بيئتهم ، كيف خلقها الله على هذا النحو البديع ، من عظم الجثة ، ومزيد القوة ، وبديع الأوصاف ، فهي خلق عجيب ، وتركيب غريب ، ومع ذلك تلين للحمل الثقيل ، وتنقاد للولد الصغير ، وتؤكل ، وينتفع بوبرها ، ويشرب لبنها ، وتصبر على الجوع والعطش. وبدأ تعالى التنبيه بها ؛ لأن غالب دواب العرب كانت الإبل ، وأيضا مرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأخر ؛ فهي مأكولة ، ولبنها مشروب ، وتصلح للحمل والركوب ، وقطع المسافات البعيدة عليها ، والصبر على العطش ، وقلة العلف ، وكثرة الحمل ، وهي معظم أموال العرب.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) وألا يشاهدون السماء كيف رفعت فوق الأرض بلا عمد؟ كما قال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ؟) [ق ٥٠ / ٦].

٢١٤

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي جعلت منصوبة قائمة مرفوعة على الأرض ، فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها ، والنظر إليها مبعث هيبة وتعجب ، ويستفيد من وجودها وتسلسلها السالكون في البراري والقفار ، والأعجب من هذا أن كثيرا من الينابيع المائية تنبع منها ، وفيها منافع كثيرة ومعادن وفيرة ، ويقتطع منها أحجار ضخمة ، ورخام ذو ألوان مختلفة بديعة.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) كيف بسطت ومدّت ومهّدت ، ليستقر عليها ساكنوها ، وينتفعوا بما فيها من خيرات ومعادن دفينة ، وما تخرجه من نباتات وزروع وأشجار متنوعة ، بها قوام الحياة والمعيشة.

وتسطيح الأرض إنما هو بالنسبة للناظر والمقيم عليها ، ولا يعني ذلك أنها ليست بكرة ؛ لأن الكرة ـ كما ذكر الرازي ـ إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح (١).

وإنما ذكرت هذه المخلوقات دون غيرها ؛ لأنها أقرب الأشياء إلى الإنسان الناظر فيها ، فهو يشاهد صباح مساء بعيره ، ويرى السماء التي تظلله ، والجبال التي تجاوره ، والأرض التي تقلّه.

ثم أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير بهذه الأدلة ، فقال :

(فَذَكِّرْ ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم ، وعظهم وخوفهم ، والفت نظرهم إلى ضرورة التأمل بهذه الأدلة والبراهين وأمثالها الدالة على قدرة الله على كل شيء ، ومنها البعث والمعاد ، وليس عليك إلا التذكير فقط ، فإنما بعثت لهذا الغرض ، ولا سلطان ولا سيطرة لك عليهم لحملهم على أن يؤمنوا بالله وبرسالتك ، ولجبرهم على ما تريد ، فإن

__________________

(١) التفسير الكبير : ٣١ / ١٥٧ ـ ١٥٨

٢١٥

آمنوا فقد اهتدوا ، وإن أعرضوا فقد ضلوا وكفروا ، كما قال سبحانه : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد ١٣ / ٤٠].

وقوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) تأكيد لمهمة التذكير فقط ، وتقرير لها ، ونظير الآية قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟) [يونس ١٠ / ٩٩] وقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق ٥٠ / ٤٥].

روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عزوجل» ثم قرأ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (١).

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ، فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير ، وكفر بالحق بقلبه ولسانه ، فيعذبه الله في الآخرة عذاب جهنم الدائم ، عدا عذاب الدنيا من قتل وأسر واغتنام مال ؛ لأنه إذا كان لا سلطان لك عليهم ، فإن الله هو المسيطر عليهم ، لا يخرجون عن قبضته وقوته وسلطانه.

أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي : مرّ على خالد بن يزيد بن معاوية ، فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا كلكم يدخل الجنة ، إلا من شرد على الله شراد البعير عن أهله».

ثم أكد الله تعالى وقوع البعث والحساب والعذاب ، فقال :

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي إن إلينا مرجعهم ومصيرهم ،

__________________

(١) الحديث مخرج في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة بدون ذكر هذه الآية.

٢١٦

ونحن نحاسبهم على أعمالهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، فلا مفر للمعرضين ، ولا خلاص للمكذبين من العقاب.

وفائدة تقديم الظرف أو الجار والمجرور في الموضعين الحصر والتشديد بالوعيد ، أي ليس مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وإيفاء جزاء كل طائفة ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه بمقتضى الحكمة البالغة ، وهو الذي يحاسب على الصغير والكبير (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ ذكّر الله تعالى الناس بصنعته وقدرته ، وأنه قادر على كل شيء ، بعد أن ذكر أمر أهل الدارين ، فتعجب الكفار من ذلك ، فكذبوا وأنكروا. وقد ذكّرهم بخلق الإبل ؛ لأنها كثيرة في العرب ، وبخلق السماء ورفعها عن الأرض بلا عمد ، وبخلق الجبال الراسيات المنصوبة على الأرض ، بحيث لا تزول ، وبخلق الأرض كيف بسطت ومدت ومهدت لأهلها كي يستطيعوا العيش عليها بقرار وأمان.

٢ ـ أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتذكير قومه وعظتهم وتخويفهم ، وطمأنه بأنه مجرد واعظ ، ليس بمسلّط عليهم ، فيقتلهم ، أو يجبرهم على الإيمان برسالته.

٣ ـ حذر الله تعالى من مخالفة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته ، فأنذر كل من تولى عن الوعظ والتذكير بالعذاب الأكبر في الآخرة ، وهو عذاب جهنم الدائم ، ووصف العذاب بالأكبر ؛ لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والأسر والقتل.

وهذا على أن الاستثناء منقطع ، وقيل : هو استثناء متصل ، والمعنى : لست

__________________

(١) تفسير الكشاف : ٣ / ٣٣٤ ، تفسير الرازي : ٣١ / ١٦٠

٢١٧

بمسلط إلا على من تولى وكفر ، فأنت مسلّط عليه بالجهاد ، والله يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر ، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير.

والأظهر في رأي بعض المفسرين أن يكون الاستثناء متصلا ، لا باعتبار الحال ، فإن السورة مكية ، ولكن بالنظر إلى الاستقبال ، أي إلا المصرّين على الإعراض والكفر ، فإنك تصير مأمورا بقتالهم ، مستوليا عليهم بالغلبة والقهر (١).

والظاهر لدي أن يكون الاستثناء منقطعا ، أي لست بمصيطر ولا بمستول عليهم ، ولكن من تولى وكفر ، فإن لله الولاية والقهر عليه ، فهو يعذبه العذاب الأكبر في الآخرة ، بعد العذاب الأصغر في الدنيا وهو القتل والسبي ، كما قال تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة ٣٢ / ٢١]. وهذا ما سار عليه أغلب المفسرين ، مشيرين إلى القول الثاني بصيغة (قيل) المفيدة للتضعيف.

٤ ـ تضمنت السورة في خاتمتها ما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، فإن مصير جميع الناس ورجوعهم بعد الموت إلى الله عزوجل ، وحسابهم إليه وحده.

والحساب وإن كان حقا لله تعالى ، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه ، إلا أنه تعالى جعل الحساب واجبا عليه ، إما بحكم وعده الذي لا خلف فيه ، وإما بمقتضى الحكمة والعدل ، فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم ، لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم ، وتعالى الله عنه ، فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة (٢).

__________________

(١) غرائب القرآن : ٣٠ / ٨٥

(٢) تفسير الرازي : ٣١ / ١٦٠

٢١٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفجر

مكيّة ، وهي ثلاثون آية.

تسميتها :

سميت سورة الفجر ، لافتتاحها بقوله تعالى : (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) وهو قسم عظيم بفجر الصبح المتبلج نوره كل يوم على أن الكفار سيعذبون حتما.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق السورة الكريمة بما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ إن القسم الصادر في أولها كالدليل على صحة ما ختمت به السورة التي قبلها من قوله جل جلاله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ).

٢ ـ تضمنت السورة السابقة قسمة الناس إلى فريقين : أشقياء وسعداء ، أصحاب الوجوه الخاشعة ، وأصحاب الوجوه الناعمة ، واشتملت هذه السورة على ذكر طوائف من الطغاة : عاد وثمود وفرعون الذين هم من الفريق الأول ، وطوائف من المؤمنين المهتدين الشاكرين نعم الله ، الذين هم في عداد الفريق الثاني ، فكان الوعد والوعيد حاصلا في السورتين.

٣ ـ إن جملة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ..) في هذه السورة مشابهة لجملة : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ...) في السورة المتقدمة.

٢١٩

ما اشتملت عليه السورة :

اشتملت السورة على أغراض ستة :

١ ـ القسم الإلهي بالفجر والعشر الأوائل من ذي الحجة والشفع والوتر والليل على أن عذاب الكفار واقع حتما لا مفر منه : (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الآيات : ١ ـ ٥].

٢ ـ إيراد قصص بعض الأمم الظالمة البائدة المكذبة رسل الله ، كعاد وثمود وقوم فرعون ، لضرب المثل ، وبيان ما حل بهم من العذاب بسبب طغيانهم : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ..) [الآيات : ٦ ـ ١٤].

٣ ـ بيان أن الحياة ابتلاء للناس بالخير والشر ، والغنى والفقر ، والتعرف على طبيعة الإنسان في حب المال ، وتوضيح أن كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام الله له ، ولا الفقر وضيق العيش دليلا على إهانته : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ..) [الآيات : ١٥ ـ ٢٠].

٤ ـ وصف يوم القيامة وأهواله وشدائده : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ..) [الآيات : ٢١ ـ ٢٣].

٥ ـ بيان انقسام الناس إلى فريقين في الآخرة : سعداء وأشقياء ، وتمني الأشقياء العودة إلى الدنيا : (يَقُولُ : يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ..) [الآيات : ٢٤ ـ ٢٦].

٦ ـ الإخبار عن ظفر السعداء بالنعيم العظيم في جنان الله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ..) [الآيات : ٢٧ ـ ٣٠].

فضلها :

روى النسائي عن جابر قال : صلّى معاد صلاة ، فجاء رجل ، فصلّى معه ،

٢٢٠