التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

لإطفاء نور الإسلام ، وإبطال أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَأَكِيدُ كَيْداً) أقابلهم بما يعلي أمره ، وأدبّر أمرا خفيا لهم ، وأستدرجهم للانتقام منهم بحيث لا يحتسبون ولا يعلمون. وليس المقصود بالكيد إذا أسند إلى الله على حقيقته ؛ لأن الله تعالى ليس بحاجة إليه ، وإنما المراد به جزاء العمل ، من قبيل المشاكلة والمشابهة للجرم المرتكب. (فَمَهِّلِ) أنظرهم أو أعطهم مهلة يا محمد ، فلا تشتغل بالانتقام منهم ، أو لا تستعجل بإهلاكهم. (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أمهلهم إمهالا يسيرا ، أو قليلا أو قريبا ، وتكرار الفعل وتغيير بنيته للمبالغة في الوعيد. وقد أخذهم الله تعالى ببدر ، وفتح مكة ، وتطهرت الجزيرة العربية من رجس الوثنية.

المناسبة :

بعد إثبات توحيد الله وقدرته على خلق الإنسان أولا ، وإعادته بالبعث والمعاد ، أقسم الله قسما آخر على صحة نزول القرآن من عند الله مشتملا على القول الفصل ، وصحة رسالة النبي الكريم الذي نزل عليه الوحي القرآني ، ثم أردفه بوعيد المفترين على القرآن والكائدين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعد هذا النبي وكل داع إلى الحق بالفوز والغلبة على الأعداء.

التفسير والبيان :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي قسما آخر بالسماء ذات المطر الذي يجيء ويرجع ويتكرر من السماء ، فيحيي الأرض بعد موتها ، وينبت النبات ، والأرض ذات الصدع : وهو ما تتصدع وتنشق عنه الأرض من النبات والثمار والشجر والمعدن والكنز والثروة النفطية والمائية ، كما قال تعالى : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ...) الآية [عبس ٨٠ / ٢٦ ـ ٣٢] قسما بالسماء والأرض ، إن القرآن الكريم لقول حق لا ريب فيه ، يفصل بين الحق والباطل ، ولم ينزل باللعب واللهو ، فهو جدّ حقّ ليس بالهزل ، ولا بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، تنزيل من حكيم حميد. فقوله : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) جواب القسم. وسمي المطر رجعا من ترجيع الصوت وهو

١٨١

إعادته ، لكونه عائدا مرة بعد أخرى ، ولأنه ينشأ من تبخر بحار الأرض ثم يعود إلى الأرض.

أخرج الترمذي والدارمي عن علي كرم الله وجهه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله تبارك وتعالى ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، وهو الذّكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يملّه الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن لمّا سمعته أن قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [الجن ٧٢ / ١ ـ ٢] ، من علم علمه سبق ، ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».

ثم أوعد الله تعالى المكذبين بالقرآن الكائدين للمؤمنين بقوله :

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ، وَأَكِيدُ كَيْداً) أي إن الكفار زعماء مكة وأمثالهم يدبرون المكائد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإبطال ما جاء به من الدين الحق ، وللصد عن سبيل الله وعن القرآن ، بالقول بأن القرآن أساطير الأولين ، وبأن محمدا ساحر أو مجنون أو شاعر ، ويتآمرون على قتله ، كما أخبر تعالى بقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال ٨ / ٣٠].

ولكني أدبر لهم تدبيرا آخر ، فأستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وأجازيهم جزاء كيدهم. وقد سمى جزاء الكيد بالاستدراج والإمهال المؤدي إلى زيادة الإثم الموجبة لشدة العذاب كيدا.

١٨٢

ثم وعد رسوله بالنصر عليهم ، وأمره بالصبر والتمهل ، فقال :

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي أخّرهم وأنظرهم ، ولا تدع بهلاكهم ، ولا تستعجل به ، وارض بما يدبره الله لك في أمورهم.

ثم كرر ذلك المعنى للمبالغة ، فقال : أمهلهم إمهالا يسيرا قليلا ، أو قريبا ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال ، والعقوبة والهلاك ، كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤].

وهذا وعيد شديد ، تحقق يوم بدر ، ويعقبه عذاب يوم القيامة ، وفيه تحذير عن مثل سيرتهم ، وترغيب في خلاف طريقتهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بالسماء (السحاب) ذات الأمطار النافعة ، والأرض ذات الشقوق والصدوع التي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار على أن القرآن يفصل بين الحق والباطل ، وأنه جدّ حق ليس بالهزل ، أي اللعب والباطل ، وأنه منزل من عند الله تعالى ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ أخبر الله تعالى أن أعداء الله يمكرون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكرا ، ويدبرون لهم مكائد إما بالقتل ، أو بتوجيه التهم كالطعن بكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحرا وشاعرا ومجنونا ، أو بوصف القرآن بأنه أساطير الأولين.

٣ ـ يجازي الله أولئك الأعداء على كيدهم إما في الدنيا بالاستدراج إلى المعاصي والمنكرات من حيث لا يعلمون ، وإما في الآخرة بإعداد العذاب الأليم المهين لهم. ويدفع الله تعالى في الدنيا أيضا كيد الكفرة عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينصره ويعلي دينه.

١٨٣

والكيد في حق الله تعالى محمول على هذا الجزاء المذكور ، تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠] وقوله : (نَسُوا اللهَ ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر ٥٩ / ١٩] وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء ٤ / ١٤٢].

٤ ـ اقتضت الحكمة الإلهية الرفق والتأني بأعداء الإسلام ، فأمر الله نبيه بألا يدعو عليهم ، ولا يتعجل إهلاكهم ، وأن يرضى بما دبره الله في أمورهم ، وأن ينتظر حتى يحل العقاب بهم ، فإنهم في المستقبل القريب مهزومون مخذولون ، ويتحقق في النهاية النصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه. ويظل عذاب القيامة محفوظا لهم ، وكل ما هو آت قريب.

١٨٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأعلى

مكيّة ، وهي تسع عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة الأعلى ، لافتتاحها بقول الله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي نزّه الله عزوجل عن كل نقص ، وصفه بكل صفات التمجيد والتعظيم ؛ لأنه العلي الأعلى من كل شيء في الوجود. وتسمى أيضا سورة (سَبِّحِ).

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في أن سورة الطارق ذكرت خلق الإنسان في قوله تعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [٦] وبدء خلق النبات في قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) [١١ ـ ١٢].

وهذه السورة تحدثت بما هو أعم وأشمل من خلق الإنسان وغيره : (خَلَقَ فَسَوَّى) [٢] وخلق النبات في قوله : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) [٤ ـ ٥].

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة المكية الحديث عن توحيد الله وقدرته ، والقرآن وتيسير حفظه ، والأخلاق الكريمة بتهذيب النفس الإنسانية. وقد افتتحت

١٨٥

بالأمر بتنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ، ووصفه بصفات التعظيم والتمجيد ، لخلقه المخلوقات وإتقان الخلق وتناسبه ، وإخراجه الأعشاب والنباتات : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ..) [الآيات ١ ـ ٥].

ثم تحدثت عن تيسير حفظ القرآن وترسيخه في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث لا ينساه أبدا ، لينقله إلى الناس : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ..) [٦ ـ ٧].

وأردفت ذلك بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير بالقرآن لإصلاح النفوس وتهذيب الطبائع : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ..) [الآيات ٨ ـ ١٣].

وختمت السورة ببيان فلاح كل من طهر نفسه من الكفر والشرك والمعاصي ، وتذكّر دائما في نفسه جلال الله وعظمته ، ولم يؤثر الدنيا على الآخرة ، وعرف أن هذه الأصول الاعتقادية والخلقية قديمة جاءت بها جميع الشرائع الإلهية : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ..) [١٤ ـ ١٩].

فضلها :

ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «هلّا صليت ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى)».

وأخرج الجماعة (أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وبقية أهل السنن) عن النعمان بن بشير : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) ، وربما اجتمعا في يوم واحد ، فقرأهما».

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبيّ بن كعب وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أبزى وعائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الوتر

١٨٦

ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، زادت عائشة : والمعوذتين.

وروى أحمد عن علي رضي‌الله‌عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّ هذه السورة : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى).

تنزيه الله تعالى وقدرته وتحفيظه القرآن لنبيه

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨))

الإعراب :

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) إن كانت (جعل) بمعنى (خلق) كان (غُثاءً أَحْوى) منصوبا على الحال. وإن كانت بمعنى (صير) كان (غُثاءً أَحْوى) مفعولا به ثانيا ، أي جعله غثاء أسود يابسا ، ولا يكون : (فَجَعَلَهُ غُثاءً) فصلا بين الصلة والموصول ؛ لأن قوله : (فَجَعَلَهُ غُثاءً) داخل في الصلة ، والفصل بين بعض الصلة وبعضها مما يتعلق بها غير ممتنع ، وإنما الممتنع الفصل بين بعضها وبعض بأجنبي عنها.

(فَلا تَنْسى) لا : نافية ، لا ناهية ، ولهذا ثبتت الألف في قوله : (تَنْسى) والمعنى : لست ناسيا.

البلاغة :

(خَلَقَ فَسَوَّى) وقوله : (قَدَّرَ فَهَدى) حذف المفعول ليفيد العموم ؛ لأن المراد : خلق كل شيء فسواه ، وقدر كل شيء فسواه.

(أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى ، سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) سجع غير متكلف.

١٨٧

(الْجَهْرَ وَما يَخْفى) بينهما طباق.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) نزّه اسم الله ربك عما لا يليق به من صفات النقص في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ، واذكره دائما على وجه التعظيم ، فإنه الأسمى والأعلى من كل شيء ، جاء في الحديث الذي رواه أحمد وغيره كما سيأتي : «لما نزل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة ٥٦ / ٧٤] قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم ، فلما نزل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، قال : اجعلوها في سجودكم ، وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت».

(خَلَقَ) أبدع الكائنات. (فَسَوَّى) سوى مخلوقه بأن جعله متناسب الأجزاء ، غير متفاوت ، وعلى نظام كامل. (قَدَّرَ) جعل الأشياء على مقادير مخصوصة ، فوضع قدرا لكل حي ، وقدّر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها حسبما تقتضي مدة بقائها. (فَهَدى) عرّفه وجه الانتفاع بما خلق له ، وبيّن له طريق الخير والشر بالميول والإلهامات وإقامة الدلائل وإنزال الآيات. (الْمَرْعى) كل ما تخرجه الأرض من العشب والنبات والثمار والزروع. (فَجَعَلَهُ) بعد خضرته. (غُثاءً) جافا هشيما يابسا. (أَحْوى) أسود.

(سَنُقْرِئُكَ) القرآن على لسان جبريل عليه‌السلام بأن نجعلك قارئا ونلهمك القراءة. (فَلا تَنْسى) ما تقرؤه ، بل تحفظه ، مع أنك أمي ليكون ذلك آية أخرى على صدق نبوتك ، ولا : للنفي لا للنهي. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن تنساه ، بنسخ تلاوته وحكمه. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) ما ظهر من الأحوال وما بطن ، سواء أكان قولا أم فعلا ، ومنه الجهر بالقراءة مع جبريل مخافة النسيان والجملة اعتراضية. (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) نوفقك لأعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر وسهولة الحياة. وإنما قال : نيسرك ، أي نعدّك للطريقة اليسرى في حفظ الوحي أو التدين أو نوفقك لها ، لا نيسر لك ، عطفا على (سَنُقْرِئُكَ).

سبب النزول :

نزول الآية (٦):

(سَنُقْرِئُكَ) : قال مجاهد والكلبي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي ، لم يفرغ جبريل من آخر الآية ، حتى يتكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأولها ، مخافة أن ينساها ؛ فنزلت : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) بعد ذلك شيئا ، فقد كفيتكه.

١٨٨

وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس : فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات.

التفسير والبيان :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي نزّه الله عن كل ما لا يليق به ، بقولك : «سبحان ربي الأعلى». قال القرطبي : والأولى أن يكون الاسم هو المسمى (١). وقال أبو حيان : الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم ، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن ، فيقال له : ربّ أو إله ، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره ، فهو أبلغ ، وتنزيه الذات أحرى ، وقيل : الاسم هنا بمعنى المسمى ، فالاسم : صلة زائدة ، والمراد الأمر بتنزيه الله تعالى (٢). والمراد بالأعلى : أن الله هو العالي والأعلى والأجل والأعظم من كل ما يصفه به الواصفون ، كما يوصف بالكبير والأكبر.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني : «لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال لنا رسول الله صلّي الله عليه وسلّم : اجعلوها في ركوعكم ، فلما نزلت : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : اجعلوها في سجودكم».

ثم وصف ذلك الاسم الأعلى بصفات تكون دليلا على وجود الرب وقدرته لمن أراد معرفته ، فقال :

١ ـ (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي الذي خلق الكائنات جميعها ، ومنها الإنسان ، وسوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات ، فعدل قامته ، وناسب بين أجزائه ، وجعلها متناسقة محكمة غير متفاوتة ولا مضطربة ، للدلالة على إتقانها من إله حكيم مدبر عالم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٤

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٤٥٨

١٨٩

٢ ـ (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) والذي قدر لكل مخلوق ما يصلح له ، فهداه إليه ، وعرّفه وجه الانتفاع به ، أو قدّر أجناس الأشياء ، وأنواعها ، وصفاتها ، وأفعالها ، وأقوالها ، وآجالها ، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له ، ويسره لما خلقه له ، وألهمه أمور دينه ودنياه ، وقدّر أرزاق الخلق وأقواتهم ، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسان ، ولمراعيهم إن كانوا وحشا ، وخلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منه (١).

ونظير الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه ٢٠ / ٥٠] أي قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله قدر مقادير الخلق ، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء».

والخلاصة : أن التقدير : عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمية ، وتركيبها على وجه خاص لأجله يستعد لقبول تلك القوى.

والهداية : عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء ، بحيث تكون كل قوة مصدرا لفعل معين ، ويحصل من مجموعها إتمام المصلحة.

٣ ـ (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) أي والذي أنبت العشب وما ترعاه الدواب من النبات الأخضر ، وأنبت جميع أصناف النبات والزروع ليأكلها الإنسان.

ثم جعل ذلك المرعى بعد أن كان أخضر ، غثاء أحوى ، أي باليا هشيما جافا ، أسود بعد اخضراره ؛ لأن الكلأ إذا يبس اسودّ.

__________________

(١) فتح القدير للشوكاني.

١٩٠

وبما أن التسبيح الذي أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه ، حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معرفته وحفظه بقراءة ما أنزله الله تعالى عليه من القرآن ، فوعده ربه وبشره بأنه سيقرئه من القرآن ما فيه تنزيهه وأنه لا ينسى ، فقال :

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ، إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي سنجعلك يا محمد قارئا ، بأن نلهمك القراءة ، فلا تنسى ما تقرؤه ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن ، لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأولها ، مخافة أن ينساها ، فنزلت هذه الآية ، فألهمه الله وعصمه من نسيان القرآن.

ونظير الآية قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه ٢٠ / ١١٤] وقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة ٧٥ / ١٦ ـ ١٧].

ثم قال : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي إنك ستحفظ القرآن المنزل إليك ، ولا تنساه ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، فإن أراد أن ينسيك شيئا ، فعل. وقيل : المراد بالاستثناء ما يقع من النسخ ، أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما يشاء الله رفعه أو نسخه ، مما نسخ تلاوته ، فلا عليك أن تتركه.

والمعنى الأول أصح ؛ قال قتادة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينسى شيئا إلا ما شاء الله. قال أبو حيان : الظاهر أنه استثناء مقصود ، وكذلك قال الألوسي : والظاهر أن النسيان على حقيقته.

ثم أكد الله تعالى الوعد بالإقراء وعدم النسيان إلا ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة ، فقال:

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء. ومن الجهر : كل ما يفعله الإنسان

١٩١

أو يقوله علانية ، (وَما يَخْفى) : كل ما يسرّه بينه وبين نفسه ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى ، فالذي وعدك بأنه سيقرؤك ويحفّظك عالم بالجهر والسرّ.

وهذا على الرأي بأن قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) يعني النسخ : يعد تعليلا للنسخ ، وإذا كان كذلك ، كان وضع الحكم ورفعه واقعا بحسب مصالح المكلفين. ونظير الآية كثير ، مثل قوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١١٠].

ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره ، أي توفيقه للأيسر في أحكام الدين والشريعة ، فقال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله ، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا ، ونوفقك للطريقة اليسرى والشريعة السمحة في الدين والدنيا ، فلا نشرع لك إلا الأيسر ، ولا تختار لأمتك إلا الأسهل الذي لا يصعب على النفوس تحمله والقيام به.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ ينبغي للإنسان تعظيم الله وتمجيده وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه.

ويستحب للقارئ إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أن يقول : «سبحان ربي الأعلى» قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجماعة من الصحابة والتابعين.

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب هذه السورة ، وأكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد ، ويتعرفون بركتها.

والمقصود بالآية تنزيه الله وتسبيحه بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه ، حتى

١٩٢

ولو سلمنا أن كلمة (اسْمَ) ليست صلة زائدة ، فإن تسبيح اسمه ، أي تنزيهه عما لا يليق ، معناه بذاته تعالى وصفاته ، أو بأفعاله ، أو بأحكامه ، فإن العقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه الفكرة ، وهي : هل الاسم نفس المسمى أم لا؟

٢ ـ وصف الله تعالى نفسه بصفات كمال ثلاث : هي أنه الذي خلق جميع الخلائق ، وجعلها متناسبة الأجزاء ، متناسقة التركيب ، وجعل الإنسان في أحسن تقويم.

وقدر لكل مخلوق ما يصلح له ، فهداه إليه وأرشده لسلوكه ، وعرّفه وجه الانتفاع به.

وأنبت العشب وأخرج النبات والزرع ، ثم صيّره باليا هشيما جافا أسود.

وهذه الأوصاف تدل على كمال القدرة الإلهية وتمام الحكمة والعلم.

٣ ـ بشر الله تعالى نبيه ببشارتين :

الأولى ـ أن يقرأ عليه جبريل الوحي بالقرآن ، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ ، فيحفظه ولا ينساه ، إلا ما شاء الله أن ينسى ، ولكنه لم ينس شيئا منه بعد نزول هذه الآية.

والثانية ـ التوفيق لأعمال الخير ، وتشريع الشريعة اليسرى ، وهي الحنيفية السمحة السهلة.

٤ ـ إن الله تعالى يعلم تمام العلم كل ما يجهر به الإنسان وهو الإعلان من القول والعمل ، وكل ما يخفيه ، وهو السر ، لذا شرع لعباده ما فيه الخير والمصلحة ، ورفع عنهم كل ما فيه مشقة وعسر ، وحماهم من كل ما فيه ضرر وشر ومفسدة.

١٩٣

التذكير وتزكية النفس والعمل للآخرة

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

الإعراب :

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) جواب (إِنْ) دل عليه ما قبله وهو (فَذَكِّرْ) وقام مقامه وسد مسده.

البلاغة :

(لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) بينهما طباق.

(فَذَكِّرْ) و (الذِّكْرى) بينهما جناس اشتقاق.

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) بينهما مقابلة.

المفردات اللغوية :

(فَذَكِّرْ) التذكير : تنبيه الإنسان إلى شيء علمه ثم غفل عنه ، والمراد هنا التذكير والوعظ بالقرآن. (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) معنى اشتراط النفع إما لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم ، فلم يزدادوا إلا عتوا وطغيانا ، فقيل له هذا بعد إلزام الحجة بتكرار التذكير ، وإما أن يكون ظاهره شرطا ومعناه ذم المخاطبين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم. وعلى كل فإن التذكير مطلوب وإن لم ينفع ، فقد ينفع البعض ، وقد أخبر تعالى أن المنتفع بالتذكير هو من يخشى الله سبحانه.

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي سيتعظ وينتفع بالذكرى من يخاف الله تعالى ، وهو إما مصدق بالله وبالبعث أو متردد في ذلك ، كما قال تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق ٥٠ / ٤٥]. (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) يتجنب الذكرى الكافر ، فإنه أشقى من الفاسق. (الَّذِي

١٩٤

يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الذي يدخل ويذوق حر نار الآخرة ، و (النَّارَ الْكُبْرى) أسفل دركات الجحيم والصغرى : نار الدنيا. (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي لا يموت فيستريح ، ولا يحيا حياة هنيئة تنفعه ويسعد.

(قَدْ أَفْلَحَ) فاز ونجا. (تَزَكَّى) تطهر من الكفر والمعصية بالإيمان والتقوى. (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بقلبه ولسانه ، أو كبر تكبيرة الإحرام. (فَصَلَّى) صلاته المفروضة. (تُؤْثِرُونَ) تفضلون الدنيا على الآخرة. (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) الآخرة المشتملة على الجنة خير من الدنيا وأدوم لا ينقطع نعيمها. (إِنَّ هذا) فلاح من تزكى وكون الآخرة خيرا وأبقى. (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) المنزلة قبل القرآن. (صُحُفِ إِبْراهِيمَ) وهي عشر صحف. (وَمُوسى) وهي أيضا عشر صحف غير التوراة.

المناسبة :

بعد التبشير بالبشارتين السابقتين : وهما حفظ القرآن وعدم نسيانه ، والتيسير والتوفيق للشريعة السهلة السمحة ، ولأعمال الخير ، أمر الله نبيه بتذكير الخلق بما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، ودعوتهم إلى الحق ، وبيّن من ينتفع بالذكرى وهو من يخاف الله ، ومن يعرض عنها وهو من يعصي الله ، ويكون في قعر جهنم.

وبعد وعيد المعرضين عن العظة بالقرآن ، ذكر الله تعالى وعد من طهر نفسه من الكفر

والشرك والرذائل ، وندّد بمن يؤثر الدنيا على الآخرة ، مع أن الخير في تفضيل الآخرة على الدنيا ، وأخبر بأن أصول الدعوات الدينية واحدة ، فما في القرآن من عظات هو ما في صحف إبراهيم وموسى.

التفسير والبيان :

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي عظ يا محمد الناس بالقرآن ، وأرشدهم إلى سبل الخير ، واهدهم إلى شرائع الدين ، وذكّر حيث تنفع الذكرى ، والناس نوعان : فريق تنفعه الموعظة ، وفريق لا تنفعه ، وإنما الذي

١٩٥

ينتفع ويتعظ بما تبلّغه يا محمد من كان يخاف الله تعالى بقلبه ، ويعلم أنه ملاقيه. وأما من أصر على الكفار والعناد ، وتمادى في الجحود والإنكار ، فلا فائدة في تذكيره.

قال ابن كثير : ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم ، فلا يضعه عند غير أهله (١) ، أخرج مسلّم عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة». وروى الديلمي في الفردوس عن علي ، والبخاري موقوفا قوله : «حدّثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذّب الله ورسوله». وقال عيسى عليه‌السلام : «لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، وكن كالطبيب يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع».

وقوله : (سَيَذَّكَّرُ ..) إيماء إلى أن ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار من الوضوح بحيث لا يحتاج إلا إلى التذكير فحسب. والخلاصة : أن التذكير مشروط بالانتفاع.

وهناك اتجاه آخر في تفسير الآية ، وهو أن التذكير مطلوب ، وإن لم ينفع ، ولا يكون التعليق بالشرط في قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) مرادا ، وإنما هو لتصوير وبيان الواقع ، مثل آيات كثيرة أخرى ، منها قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور ٢٤ / ٣٣]. قال الرازي : إن الناس في أمر المعاد ثلاثة أقسام : القاطع بصحته ، والمتردد فيه ، والجاحد له ، والفريقان الأولان ينتفعان بالتذكير والتخويف.

وكثير من المعاندين إنما يجحدون باللسان فقط ، فتبين أن أكثر الخلق ينتفعون بالوعظ ، والمعرض نادر ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٠٠

١٩٦

كثير ، فلهذا وجب تعميم التذكير ، وإن كان لا ينتفع بالتذكير إلا البعض الذين علم الله انتفاعهم به ، ونحن لا نعلمهم ، فبعد أن أمر الله نبيه بالتذكير ، بيّن في قوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) الذي تنفعه الذكرى من هو (١).

ثم أوضح الله تعالى من الناحية الواقعية عدم جدوى التذكير بالنسبة للمعاندين ، فقال : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها الأشقى من الكفار ، لعناده وإصراره على الكفر بالله ، وانهماكه في معاصيه.

لذا فإنه يقاسي حر نار جهنم ويدخلها ويذوق وبالها ، فهي النار العظيمة ، ونار الدنيا هي النار الصغرى ، أو أن النار الكبرى : دركات جهنم ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء ٤ / ١٤٥].

والذي يصلى النار الكبرى يخلد في عذابها ، فلا يموت فيها ، فيستريح مما هو فيه من العذاب ، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة ينتفع أو يسعد بها ، كما قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر ٣٥ / ٣٦].

وسبب تخصيص الكافر بالذكر : أن الفاسق لم يتجنب التذكير بالكلية ، فيكون القرآن ساكتا عن الشقي الذي هو أهل الفسق.

وبعد وعيد الأشقياء الذين أعرضوا عن ذكرى القرآن ، ذكر وعد السعداء الذين يعنون بتزكية نفوسهم وتطهيرهم من الشرك والتقليد في العبادة ودنس الرذائل ، فقال تعالى :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي قد فاز ونجا من العذاب من تطهّر من الشرك ، فآمن بالله ووحّده وعمل بشرائعه ، وتعهد نفسه بالتزكية

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ٣١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ، غرائب القرآن : ٣٠ / ٧٧

١٩٧

والتهذيب والتطهير من الرذائل والمفاسد والأخلاق الوضيعة ، وتابع ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر بلسانه اسم ربه بالتوحيد والإخلاص ، وتذكر ربه العظيم في قلبه ، فأقام الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها ، ابتغاء رضوان الله ، وطاعة لأمر الله ، وامتثالا لشرع الله ، كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ ، وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال ٨ / ٢].

وروى أبو بكر البزار عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ..) قال : «من شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول الله».

وفي قوله : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : «هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها».

ثم وبّخ المؤثرين الدنيا ، المهملين أمر الآخرة ، فقال :

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي لا تفعلون ما أمرتم به سابقا ، بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا ، والآخرة ونعيمها أفضل وأدوم من الدنيا ، وثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى ، فإن الدنيا دار فانية ، والآخرة شريفة باقية ، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى ، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟!!

أخرج الإمام أحمد عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له». وأخرج أحمد أيضا عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى».

ثم أبان الله تعالى وحدة الشرائع في أصولها وآدابها العامة ، فقال : (إِنَّ هذا

١٩٨

لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) أي إن كل ما ذكر من فلاح من تزكى ، وما بعده من تذكر اسم الله ، وإيثار الناس للدنيا ، ثابت في صحف إبراهيم العشر ؛ وكذا صحف موسى العشر غير التوراة ، فقد تتابعت كتب الله عزوجل أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا.

والمراد أن ذلك مذكور بالمعنى لا باللفظ في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى ، فمعنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف ، فهو في الأولى وفي آخر الشرائع ، وتقدير الآية : إن هذا لفي الصحف الأولى التي منها صحف إبراهيم وموسى. وإنما خصت هذه الصحف بالذكر لشهرتها بين العرب. ونظير الآية قوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٦].

أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر رضي‌الله‌عنه : «أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : كم أنزل الله من كتاب؟ فقال : مائة وأربعة كتب ، منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسون صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان».

وجاء في صحف إبراهيم : «ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه ، عارفا بزمانه ، مقبلا على شأنه».

روى الآجرّي وغيره من حديث أبي ذرّ المتقدم قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال : «كانت أمثالا كلّها : أيها الملك المتسلّط المبتلى المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ، ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردّها ولو كانت من فم كافر.

وكان فيها أمثال : وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، يفكر فيها في صنع الله عزوجل إليه ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.

١٩٩

وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : تزود لمعاد ، ومرمّة لمعاش ، ولذة في غير محرّم. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شانه ، حافظا للسانه. ومن عدّ كلامه من عمله ، قلّ كلامه إلا فيما يعنيه.

قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف موسى؟ قال : كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب. وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها!!

وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل!! قال : قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى ، مما أنزل الله عليك؟ قال : نعم اقرأ يا أبا ذر: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) والله تعالى أعلم بصحة هذا الحيث كما قال الألوسي.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ المطلوب تذكير الناس وموعظتهم ، سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع ، ولكنها في النهاية لا تنفع إلا المؤمنين الذين يخشون الله ربهم ، قال الحسن البصري : الذكرى تذكرة للمؤمن ، وحجة على الكافر. وقال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع.

٢ ـ يتجنب الذكرى عادة ويبعد عنها الشقي في علم الله الكافر ، الذي يصلى ويدخل النار الكبرى ، أي العظمى ، وهي السفلى من أطباق النار ، أو أن نار جهنم هي الكبرى ، والصغرى نار الدنيا.

٢٠٠