التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان ٣١ / ١٧]. وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر».

ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقتل والصّلب والتعذيب الشديد ، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك ، مثل قصة عاصم وخبيب وأصحابهما ، وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق وغير ذلك.

٤ ـ ما أنكر الملك وأصحابه من الذين حرّقوهم إلا إيمانهم بالله العزيز الغالب المنيع ، الحميد المحمود على كل حال ، مالك السموات والأرض الذي لا شريك له فيهما ولا نديد ، وهو عالم بأعمال خلقه ، لا تخفى عليه خافية.

عقاب الكفار وثواب المؤمنين

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

البلاغة :

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ..) و (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي ..) بينهما مقابلة.

المفردات اللغوية :

(فَتَنُوا) ابتلوا واختبروا ، والمراد هنا ابتلوهم بالأذى والإحراق. (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم وإحراقهم المؤمنين. (عَذابُ الْحَرِيقِ) هو عذاب جهنم ، وهو بيان وتفسير لما سبق. (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) النجاح الأكبر الذي تصغر الدنيا وما فيها دونه.

١٦١

المناسبة :

بعد بيان قصة أصحاب الأخدود وما فعلوه بالمؤمنين من الإحراق بالنار ، أتبع الله تعالى ذلك بأحكام الثواب والعقاب ، وأوضح ما أعد للكفار من عذاب جهنم ، وما أعد للمؤمنين من الثواب الجليل والتنعم بجنان الخلد.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي إن الذين أحرقوا بالنار المؤمنين والمؤمنات بالله ورسله ، ولم يتركوهم أحرارا في دينهم ، وأجبروهم إما على الإحراق أو الرجوع عن دينهم ، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم ، فلهم في الآخرة بسبب كفرهم عذاب جهنم ، ولهم عذاب الاحتراق بالنار ؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وعذاب الحريق تأكيد لعذاب جهنم ، وقيل : إنهما مختلفان في الطبقة ، الأول ـ لكفرهم ، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان وأحرقوهم بالنار ، وهذا عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم ، وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق. أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا ، لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.

وقوله : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) إشارة إلى أنهم لو تابوا إلى الله ، وندموا على ما فعلوا ، غفر الله لهم. ولكن لم ينقل أن أحدا منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر. قال الحسن البصري رحمه‌الله : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه ، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.

ثم رغّب الله تعالى وأرشد إلى ما أعدّ للمؤمنين من الثواب العظيم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي إن الذين آمنوا وصدقوا بالله ربّا واحدا لا شريك له ،

١٦٢

وبالرسل واليوم الآخر والملائكة والكتب الإلهية ، وعملوا صالح الأعمال باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، ومنهم الذين صبروا على نار الأخدود ، وثبتوا على دينهم ولم يرتدوا ، لهم بسبب الجمع بين الإيمان والعمل الصالح جنات (بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، وذلك الثواب والنعيم المذكور هو الفوز أو الظفر الكبير الذي لا يعدله فوز ، ولا يقاربه ولا يدانيه ، جزاء إيمانهم وطاعة ربهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيتان في الجملة على حكمين :

الأول ـ أن الذين حرّقوا المؤمنين بالنار ، من أصحاب الأخدود وغيرهم (١) ، ثم ماتوا على الكفر ، ولم يتوبوا من قبيح صنيعهم ، فلهم في الآخرة عذاب جهنم المخزي ؛ لكفرهم ، ولهم العذاب المحرق ؛ لإحراقهم المؤمنين بالنار. وعذاب جهنم وعذاب الحريق إما متلازمان ، والغرض من الثاني التأكيد ، وإما مختلفان في الدركة : الأول لكفرهم ، والثاني ؛ لأنهم فتنوا أهل الإيمان. وقيل : الأول في الآخرة ، والثاني في الدنيا ، أو أن الأول عذاب ببرد جهنم وزمهريرها ، والثاني عذاب بحرّها.

وفي هذا تصريح بأن التوبة تسقط أثر الذنب وترفع العقوبة ، والله يرغب دائما بها.

الثاني ـ أن الذين آمنوا أي صدقوا بالله وبرسله ، وعملوا الصالحات المأمور بها وتركوا المنهي عنها ، لهم جنات (أي بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار من ماء غير آسن ، ومن لبن لم يتغير طعمه ، ومن خمر لذّة

__________________

(١) لأن اللفظ عام ، والحكم عام ، فالتخصيص ترك للظاهر من غير دليل.

١٦٣

للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وذلك الفوز الساحق العظيم الذي لا فوز يشبهه.

وإنما قال تعالى : (ذلِكَ الْفَوْزُ) ولم يقل «تلك» لأن (ذلِكَ) إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول هذه الجنات ، وقوله «تلك» إشارة إلى الجنات ، وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضيا ، و (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) : هو رضا الله ، لا حصول الجنة ، فاللهم أرضنا وارض عنا يا كريم.

وقصة أصحاب الأخدود ، ولا سيما آية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) تدل على أن المستكره على الكفر بالإهلاك الشديد ، الأولى به أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك ؛ روى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لأحدهما : تشهد أني رسول الله؟ فقال : نعم ، فتركه ، وقال للآخر مثله ، فقال : لا ، بل أنت كذّاب ، فقتله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الذي ترك ، فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه ، وأما الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئا له» (١).

كمال القدرة الإلهية لتأكيد الوعد والوعيد

والاعتبار بإهلاك الأمم الكافرة السالفة

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١٢١ ـ ١٢٢

١٦٤

الإعراب :

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ الْمَجِيدُ) بالرفع صفة : (ذُو) أو خبر بعد خبر ، وبالجر : إما وصف للعرش ، أو صفة : (رَبِّكَ) من قوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) وهذا أولى ؛ لأن (الْمَجِيدُ) من صفات الله.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فَعَّالٌ) : إما بدل من (ذُو الْعَرْشِ) أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو فعّال ، أو خبر بعد خبر.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) : في موضع جر على البدل من (الْجُنُودِ) ، وقيل : في موضع نصب بتقدير أعني.

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ مَحْفُوظٍ) بالجر صفة (لَوْحٍ) ، وبالرفع صفة (قُرْآنٌ).

البلاغة :

(يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) بينهما طباق.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ)؟ أسلوب التشويق لاستماع ما يأتي والاعتبار به.

(لَشَدِيدٌ) ، (الْغَفُورُ) ، (الْوَدُودُ) ، (فَعَّالٌ) إلخ : صيغ مبالغة.

المفردات اللغوية :

(بَطْشَ) البطش : هو الأخذ بعنف وشدة ، فإذا وصف بالشدة كان نهاية ، والمراد بالآية : أنه تعالى مضاعف عنفه بالكفار بحسب إرادته. (يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) يبدئ الخلق ويعيده ، فلا يعجزه ما يريد. (الْغَفُورُ) لمن تاب من المذنبين. (الْوَدُودُ) المحب لمن أطاع. (ذُو الْعَرْشِ) خالقه ومالكه وصاحبه. (الْمَجِيدُ) العظيم الجليل المتعالي ، المستحق لكل صفات العلو الكاملة ، أو العظيم في ذاته وصفاته ، فإنه واجب الوجود ، تام القدرة والحكمة. ومجده : علوه وعظمته. (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا يعجزه شيء ، ويفعل ما يريد.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) هل بلغك يا محمد خبر الأقوام أو الجماعات الذين كذبوا الرسل وما حاق بهم؟ وأصل معنى الجنود : العسكر أو الأعوان. والمقصود تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصبر على تكذيب قومه ، وأمره بأن يحذرهم مثلما أصاب هؤلاء. (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) المراد بفرعون : هو وجنوده ، أي هؤلاء هم الجنود : فرعون وأتباعه ، وقبيلة ثمود من العرب البائدة ، قوم صالح عليه‌السلام ، أهلكهم الله بكفرهم. وهذا تنبيه لمن كفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ليتعظوا.

١٦٥

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) لما حدث من إهلاك الأقوام ، فلا يرعوون عن تكذيبهم ، ومعنى الجملة والإضراب : أن حال كفار قريش أعجب من الأمم السابقة ، فإنهم سمعوا قصتهم ، ورأوا آثار هلاكهم ، وكذبوا أشد من تكذيبهم. (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) لا يفوتونه ، ولا عاصم لهم منه ، فهم في قبضته وحوزته. (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) عظيم معظم ، والمعنى : بل هذا الذي كذبوا به كتاب شريف ، وحيد في النظم والمعنى. (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) من الزيادة والنقص ، والتغيير والتحريف.

المناسبة :

بعد بيان وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وجزاء كل فريق ، أكّد الله تعالى الوعد والوعيد بما يدل على تمام قدرته على ذلك. ثم بيّن أن حال الكفار في كل عصر ، مع الأنبياء ، شبيه بحال أصحاب الأخدود ، في إلحاق أذى الكفار بالمؤمنين ، فهم دائما في صراع معهم وعداوة وإيذاء. والقصد من هذا كله ترهيب الكفار ، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم ، وشدّ عزائمهم بالصبر ، وتطمينهم بأن كفار قريش سيلقون مثلما أصاب الأقوام السابقة : فرعون وأتباعه وثمود.

التفسير والبيان :

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إن جزاء ربك وانتقامه من الجبابرة والظلمة ، ومن أعدائه الذين كذبوا رسله ، وخالفوا أمره ، لشديد عظيم قوي ، مضاعف إذا أراد ، فإنه تعالى ذو القوة المتين ، الذي ما شاء كان ، ويكون ما يريد مثل لمح البصر أو هو أقرب. وفي هذا تأكيد للوعيد ، وإرهاب لكفار قريش وأمثالهم.

ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله :

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي إنه تعالى تام القدرة ، فهو الذي يبدأ الخلق ويخلقهم أولا في الدنيا ، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت. أو هو الذي يبدأ البطش

١٦٦

ويعيده ، أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة. وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم ليبطش بهم ؛ إذ كفروا بنعمة الإبداء إبداء الخلق ، وكذبوا بالإعادة.

ثم أكّد الله تعالى الوعد بإيراد خمس صفات لجلاله وكبريائه وهي :

١ ـ ٢ : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) أي والله سبحانه بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين إذا تابوا وأنابوا إليه ، يغفر ذنب من تاب إليه ، وخضع لديه ، مهما كان الذنب كبيرا أو صغيرا ، وهو تعالى بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه ، بليغ الوداد ، والمراد به : إيصال الثواب لأهل طاعته على الوجه الأتم ، فيكون كقوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ) [المائدة ٥ / ٥٤] ، أو هو بمعنى مفعول فيكون كقوله : (وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة ٥ / ٥٤].

٣ ـ ٤ : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) أي هو تعالى ربّ العرش العظيم العالي على جميع الخلائق ، وصاحب الملك والسلطان ، والعظيم الجليل المتعالي ، صاحب النهاية في الكرم والفضل ، وبالغ السمو والعلو.

٥ ـ (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي صاحب القدرة المطلقة على فعل ما يريد ، فمهما أراد فعل شيء ، لا معقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره ، وحكمته وعدله. فإذا أراد إهلاك الظالمين الجاحدين ، ونصر المؤمنين الصادقين ، فعل دون أن يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يصرفه عنه صارف.

ثم ذكّر الله تعالى الكفار وغيرهم ، وسلّى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة فرعون وثمود من متأخري الكفار ومتقدميهم ، فقال :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ : فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم ، والتي جندت جنودها لقتالهم؟ أو هل بلغك ما أحلّ الله بهم من البأس ، وأنزل عليهم من النقمة بسبب تماديهم في الكفر

١٦٧

والضلال؟ ومن هؤلاء الجنود وأشهر حديثهم وخبرهم المتعارف : فرعون وجنوده ، وقبيلة ثمود من العرب البائدة قوم صالح عليه‌السلام. والمراد بحديثهم : ما وقع منهم من الكفر والعناد ، وما حلّ بهم من العذاب. والمراد بفرعون : هو وجنوده. أما فرعون وأتباعهم فأغرقهم الله في اليمّ : البحر الأحمر ، وأما ثمود الذين عقروا ناقة نبيهم صالح ، فدمّر الله بلادهم وأهلكهم بالطاغية أي الصيحة المجاوزة للحدّ في الشدة.

ثم أشار الله تعالى إلى أن هذا شأن الكفار وصنيعهم في كل زمان ، فقال : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي فالواقع القائم أن هؤلاء المشركين العرب في تكذيب شديد لك أيها النبي ، ولما جئت به ، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار.

وفي هذا إضراب عن التذكير بقصة الجنود إلى التصريح بتكذيب كفار قريش.

وبعد تطييب قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحكاية أحوال الأولين وموقفهم من الأنبياء ، سلّاه بعد ذلك من وجه آخر ، فقال :

(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي إن الله تعالى قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك ، قاهر الجبارين لا يفوتونه ولا يعجزونه ، فهو مقتدر عليهم ، وهم في قبضته لا يجدون عنها مهربا. وهذا دليل على أنه تعالى عالم بهم فيجازيهم ، وعلى أنه لا داعي للجزع من تكذيبهم وإصرارهم على الكفر وعنادهم.

ثم ردّ على تكذيبهم بالقرآن ، فقال :

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي إن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حدّ الإعجاز ، متناه في الشرف والكرم والبركة ، وليس هو كما يقولون : إنه شعر وكهانة وسحر. وإنما هو كلام الله

١٦٨

المصون عن التغيير والتحريف ، المكتوب في اللوح المحفوظ ، وهو أم الكتاب ، وهذا كقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة ٥٦ / ٧٧ ـ ٧٨]. أي أن الكتاب المكنون واللوح المحفوظ واحد.

قال بعض المتكلمين : اللوح شيء يلوح للملائكة ، فيقرءونه ، وأمثال هذه الحقائق مما يجب به التصديق سمعا ، أي أن اللوح المحفوظ شيء أخبرنا الله به ، فيجب علينا الإيمان به كما أخبر الله ، وإن لم نعرف حقيقته.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن عقاب الله وانتقامه ، وأخذه الجبابرة والظلمة لشديد قوي ، كما قال جلّ ثناؤه: (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢].

٢ ـ إن الله تعالى بدأ خلق الناس أولا في الدنيا ، ثم يعيدهم عند البعث.

٣ ـ لله تعالى صفات عليا لا تتحقق في غيره ، فهو الغفور الستور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها ، الودود المحب لأوليائه ، صاحب العرش الأعظم من كل المخلوقات ، وصاحب الملك والسلطان المطلق ، المجيد البالغ النهاية في الكرم والفضل ، السامي القدر المتناهي في علوه ، الفعال لما يريد ، أي لا يمتنع عليه شيء يريده. قال القفال : فعّال لما يريد على ما يراه ، لا يعترض عليه معترض ، ولا يغلبه غالب ، فهو يدخل أولياءه الجنة ، لا يمنعه منه مانع ، ويدخل أعداءه النار ، لا ينصرهم منه ناصر ، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء ، ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة ، يفعل من هذه الأشياء ومن غيرها ما يريد (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١٢٣ ـ ١٢٤

١٦٩

٤ ـ قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم ، وهذا إيناس له وتسلية ، والجموع : فرعون وأتباعه وثمود ، وذكرا لأن حديثهما مشهور معروف من طريق اليهود في المدينة وغيرهم ، فإن ثمود في بلاد العرب ، وقصتهم عندهم مشهورة ، وإن كانوا من المتقدمين ، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم ، وكان من المتأخرين في الهلاك ؛ فدلّ الله بهما على أمثالهما في الهلاك.

والواقع أن كفار قريش في تكذيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كدأب من قبلهم.

٥ ـ الله يقدر على أن ينزل بكفار مكة في الدنيا ما أنزل بفرعون ، والله عالم بهم ، فهو يجازيهم في الآخرة.

٦ ـ ليس القرآن كما زعم المشركون أنه سحر أو كهانة أو شعر ، بل هو كتاب متناه في الشرف والكرم والبركة ، وهو بيان ما يحتاج إليه الناس من أحكام الدين والدنيا. وهو مكتوب عند الله في لوح ، ومحفوظ عند الله من وصول الشياطين إليه.

قال ابن عباس : أول شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ : «إني أنا الله ، لا إله إلا أنا ، محمد رسولي ، من استسلم لقضائي ، وصبر على بلائي ، وشكر نعمائي ، كتبته صدّيقا وبعثته مع الصدّيقين ، ومن لم يستسلم لقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر نعمائي ، فليتخذ إلها سواي» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٩٨

١٧٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الطارق

مكيّة ، وهي سبع عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة الطارق تسمية لها بما أقسم الله به في مطلعها بقوله : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَالطَّارِقِ) : هو النجم الثاقب الذي يطلع ليلا ، سمي طارقا ؛ لأنه يظهر بالليل ويختفي بالنهار. وكذلك الطارق : هو الذي يجيء ليلا.

مناسبتها لما قبلها :

السورة مرتبطة بما قبلها من ناحيتين :

١ ـ ابتداء السورتين بالحلف بالسماء كسورتي (الانشقاق) و (الانفطار).

٢ ـ التشابه في الكلام عن البعث والمعاد وعن صفة القرآن للردّ على المشركين المكذّبين به وبالبعث ، ففي سورة البروج : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [١٣] ، وفي هذه السورة : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) [٨] ، وفي السورة السابقة : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [٢١ ـ ٢٢] ، وفي هذه السورة : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [١٣].

ما اشتملت عليه السورة :

إن محور هذه السورة المكية كغيرها من السور المكية الكلام عن الإيمان

١٧١

بالبعث والمعاد والحساب والجزاء ، وإثباته بخلق الإنسان من العدم ؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة بعد الموت.

وقد افتتحت السورة بالقسم بالسماء وبالكواكب المضيئة ليلا على أن كل إنسان محفوظ بالملائكة الأبرار : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ..) [الآيات : ١ ـ ٤].

ثم أقام الله تعالى الدليل على إمكان البعث وقدرته عليه بعد الموت والفناء بخلق الإنسان أول مرة من تراب ثم من نطفة : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ...) [الآيات : ٥ ـ ٨].

وأعقبت السورة ذلك ببيان كشف الأسرار في الآخرة على نحو كامل تام ، في حالة كون الإنسان بين يدي العدالة الإلهية دون أن يكون له قوة ولا نصير : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) [٩ ـ ١٠].

وختمت السورة بالقسم الإلهي بالسماء والأرض على صدق القرآن وأنه القول المحكم الفصل بين الحق والباطل ، وعلى تهديد الكفار المكذبين به ووعيدهم : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ..) [١١ ـ ١٧].

فضلها :

أخرج الإمام أحمد عن خالد بن أبي حبل العدواني أنه أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشرق ثقيف ، وهو قائم على قوس أو عصا ، حين أتاهم يبتغي عندهم النصر ، فسمعته يقول : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) حتى ختمها ، قال : فوعيتها في الجاهلية ، وأنا مشرك ، ثم قرأتها في الإسلام ، قال : فدعتني ثقيف ، فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم ، فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا ، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه.

وأخرج النسائي عن جابر بن عبد الله قال : صلّى معاذ المغرب ، فقرأ البقرة

١٧٢

والنساء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفتّان أنت يا معاذ! ما كان يكفيك أن تقرأ ب (السَّماءِ وَالطَّارِقِ) ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ونحوها؟».

القسم على أن لكل نفس حافظا من الملائكة يراقبها

وإثبات إمكان البعث

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

الإعراب :

(وَما أَدْراكَ) جملة (أَدْراكَ) خبر (ما). (مَا الطَّارِقُ) مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدرى.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ لَمَّا) بالتخفيف ، فتكون (لَمَّا) زائدة ، و (إِنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ، أي إنه ، واللام فارقة ، أي إن كل نفس لعليها حافظ. وبالتشديد ، فتكون (إِنْ) بمعنى «ما» النافية ، و (لَمَّا) بمعنى «إلا» مثل : نشدتك الله لمّا فعلت ، أي إلا فعلت ، وتقديره : ما كل نفس إلا عليها حافظ.

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) الهاء في (إِنَّهُ) إما أن تعود على الماء ، أي على رجع الماء إلى موضعه من الصلب لقادر ، وحينئذ ينصب (يَوْمَ) بتقدير : اذكر ؛ لأن رد الماء لا يكون في الآخرة ، وإما أن تعود على الإنسان ، أي على بعثه لقادر ، وهو الظاهر ، و (يَوْمَ) ظرف ، ولا يجوز أن يتعلق ب (رَجْعِهِ) لأن يؤدي إلى الفصل بين الصلة والموصول بخبر إن ، وهو قوله (لَقادِرٌ). وإنما يتعلق بفعل دلّ عليه قوله : (رَجْعِهِ) أي يرجعه يوم تبلى السرائر ، أو يتعلق بقوله : (لَقادِرٌ) والوجه الأول أوجه ؛ لأن الله قادر في جميع الأوقات ، فأي فائدة في تعيين هذا الوقت؟

١٧٣

البلاغة :

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟) استفهام للتفخيم والتعظيم ورفعة الشأن.

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) كناية ، كنى بالصلب عن الرجل ، وبالترائب عن المرأة.

المفردات اللغوية :

(وَالسَّماءِ) كل ما علاك فأظلك. (وَالطَّارِقِ) النجم الطالع ليلا ، وأصله عرفا : كل آت ليلا ، أو الذي يجيئك ليلا ، ثم استعمل للبادي فيه ، وأطلق على النجوم لطلوعها ليلا. (وَما أَدْراكَ) وما أعلمك؟ وفيه تعظيم لشأن الطارق. (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) المضيء ، كأنه يثقب الظلام بضوئه ، فينفذ فيه ، والمراد به كل نجم ، أو الثريا. (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي ما كل نفس إلا عليها حافظ ، أو إن الشأن كل نفس لعليها ، إذا جعلت (إِنْ) مخففة من الثقيلة ، و (حافِظٌ) : رقيب وهو الله أو الملائكة تحفظ عملها من خير وشرّ. والجملة على الوجهين جواب القسم ، والمراد بالقراءتين واحد.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) فلينظر نظر اعتبار واتعاظ وتأمل من أي شيء خلق ؛ لأن وجود الحافظ يستدعي النظر إلى المبدأ ليعلم صحة قضية إعادته بالبعث ، فلا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) أي ماء مدفوق منصب بدفع وسرعة سواء من الرجل والمرأة في رحمها ، والمراد : الممتزج من الماءيين في الرحم ، بدليل ما يأتي : (الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) ، والجملة جواب الاستفهام في قوله : (مِمَّ خُلِقَ). (الصُّلْبِ) أي من النخاع الشوكي في ظهر الرجل ، ثم ينصب إلى عروق في البيضتين. (وَالتَّرائِبِ) عظام صدر المرأة ، جمع تريبة ، مثل فصيلة وفصائل ، والمراد : من الماء المتكون من الدم في العروق والشعب النازلة إلى الترائب ، ويعتبر الصلب والترائب أقرب أوعية المني ، فلذلك خصّا بالذّكر.

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي إن الله تعالى على بعث الإنسان بعد موته لقدير ، فإذا تأمل الإنسان في أصله ، علم أن القادر على خلقه ابتداء ، قادر على بعثه. (تُبْلَى) تختبر وتكشف ، والمراد : تظهر السرائر وتعرف المكنونات ويميز بين ما طاب من الضمائر وما خفي من الأعمال ، وما خبث منهما. (السَّرائِرُ) ضمائر القلوب وما يسرّ فيها من العقائد والنيات وما خفي من الأعمال ، جمع سريرة. (فَما لَهُ) ما لمنكر البعث وهو الإنسان الكافر. (مِنْ قُوَّةٍ) يمتنع بها من العذاب. (وَلا ناصِرٍ) ينصره ويدفع عنه السوء.

١٧٤

سبب النزول :

نزول الآية (٥):

(فَلْيَنْظُرِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) قال : نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي ، كان يقوم على الأديم (الجلد) ، فيقول : يا معشر قريش : من أزالني عنه فله كذا ، ويقول : إن محمدا يزعم أن خزنة جهنم تسعة عشر ، فأنا أكفيكم وحدي عشرة ، واكفوني أنتم تسعة.

التفسير والبيان :

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي قسما بالسماء البديعة ، والكوكب النير البادي ليلا ، وما أعلمك ما حقيقته؟ إنه النجم المضيء الشديد الإضاءة ، كأنه يخرق بشدة ضوئه ظلمة الليل البهيم.

والحلف بالسماء والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار التي أكثر الله تعالى في كتابه الحلف بها ؛ لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة ، وفيها دلالة على أن لها خالقا مدبرا ينظم أمرها. وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟) يراد به التهويل والتفخيم ، كأن هذا النجم البعيد في آفاق السموات لا يمكن لبشر إدراكه ومعرفة حقيقته ، قال سفيان بن عيينة : كل شيء في القرآن : (ما أَدْراكَ) فقد أخبر الله الرسول به ، وكل شيء فيه (ما يُدْرِيكَ) لم يخبره به ، كقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى ٤٢ / ١٧].

والطارق : اسم جنس ، وسمي طارقا ؛ لأنه يطرق بالليل ، ويخفى بالنهار ، وكل ما أتاك ليلا فهو طارق.

١٧٥

وفسّره بقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي هو طارق عظيم الشأن ، رفيع القدر ، وهو الذي يضيء ظلمة الليل ، ويهتدي به في ظلمات البر والبحر ، وتعرف به أوقات الأمطار وغيرها من أحوال المعايش ، وهو الثريا عند الجمهور ، وقال الحسن وقتادة وغيرهما : هو عام في سائر النجوم ؛ لأن طلوعها بليل ، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. والظاهر أن المراد جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر.

ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الصحيح : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرق الرجل أهله طروقا ، أي يأتيهم فجأة بالليل. وفي حديث آخر مشتمل على الدعاء : «أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن».

ثم ذكر الله تعالى المقسم عليه أو جواب القسم بقوله :

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي قسما بالسماء وبالنجم الثاقب ، ما كل نفس إلا عليها من الله حافظ ، يحرسها من الآفات ، وهم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها ، ويحصون ما تكسب من خير وشرّ ، كما قال تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد ١٣ / ١١]. والحافظ على الحقيقة هو الله عزوجل ، وحفظ الملائكة : من حفظه ؛ لأنه بأمره.

ولم تبين الآية من هو الحافظ ، فقال بعض المفسرين : إن ذلك الحافظ هو الله تعالى ، وقال آخرون : إن ذلك الحافظ هم الملائكة ، كما قال : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) [الأنعام ٦ / ٦١] ، وقال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار ٨٢ / ١٠ ـ ١١] ، وقال : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٧ ـ ١٨] ، وقال : (لَهُ مُعَقِّباتٌ ...) الآية المتقدمة. قال أبو أمامة : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكّل بالمؤمن

١٧٦

مائة وستون ملكا يذبّون عنه ما لم يقدر عليه ، من ذلك البصر ، سبعة أملاك يذبون عنه ، كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب ، ولو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين ، لا لاختطفته الشياطين».

ثم نبّه الإنسان إلى مبدأ الخلق ليكون ذلك دليلا على إمكان المعاد ، فقال :

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي فعلى الإنسان أن يتفكر في كيفية بدء خلقه ، ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث ، إنه خلق من ماء مدفوق مصبوب في الرحم ، وهو ماء الرجل وماء المرأة ، وقد جعلا ماء واحدا لامتزاجهما ، وإنه ماء يخرج من ظهر الرجل في النخاع الشوكي الآتي من الدماغ ، ومن بين ترائب المرأة ، أي عظام صدرها أو موضع القلادة من الصدر ، والولد يتكون من اجتماع الماءين ، ثم يستقر الماء المختلط في الرحم ، فيتكون الجنين بإرادة الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الحج ٢٢ / ٥٠].

ومعنى خروجه من بين الصلب والترائب : أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن ، والماء في الحقيقة يشترك في تكوينه جميع أجزاء البدن ، ويتبلور في الخصية والمبيض في بدء التكوين ، وكلاهما يجاور الكلى ، ويقع بين الصلب ، والترائب ، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع ، وكل ذلك آثار عضوية مولدة من الدماغ ، والنخاع قناة الدماغ ، وهو في الصلب ، وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن ، وهو الترائب جمع تريبة.

وبعد السؤال والجواب عنه لمعرفة المبدأ الذي هو مقدمة لمعرفة المعاد ، والذي ناسب أن يبدأ الله به ، ذكر تعالى النتيجة المترتبة على ذلك وهي بيان القدرة على الإعادة ، فقال :

١٧٧

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي إن الله تعالى على رجع الإنسان ، أي إعادته بالبعث بعد الموت لقادر ؛ لأن من قدر على البداءة قدر على الإعادة ، وقد ذكر تعالى هذا الدليل في مواضع متعددة في القرآن الكريم. وقيل : إنه تعالى على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. والراجح القول الأول بدليل قوله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ).

ويرجعه يوم القيامة يوم تختبر وتعرف السرائر ، أي ما يسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها. وحقيقة البلاء في حقه تعالى ترجع إلى الكشف والإظهار ، كقوله : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣١].

وكيفية دلالة المبدأ على المعاد : أن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين ، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنسانا سويا ، فإنه بعد موته وتفرق أجزائه ، لا بدّ وأن يقدر على جمع تلك الأجزاء ، وجعلها خلقا سويا (١).

(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) أي فما للإنسان حين بعثه من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله ، ولا ناصر ينصره ، فينقذه مما نزل به ، أي فلا قوة ذاتية له ، ولا قوة من غيره ، لينقذ نفسه من عذاب الله ، فهذا نفي للقوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن الإنسان.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات الكريمات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بالسماء وبالكواكب المنيرة المضيئة على أن لكل نفس حفظة يحفظون عليها رزقها وعملها وأجلها.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١٣٠

١٧٨

وقد أكثر سبحانه في كتابه الكريم الإقسام بالسموات ؛ لأن أحوالها في مطالعها ومغاربها ومسيراتها عجيبة.

٢ ـ الدليل على إمكان البعث والمعاد هو بدء الخلق للإنسان. ووجه الاتصال أو التعلق بين هذا وبين ما قبله : أن الله تعالى حين ذكر أن على كل نفس حافظا ، أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في أول أمره وسنته الأولى ، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ؛ فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبة أمره.

٣ ـ خلق الله الإنسان ابن آدم من المني المدفوق ، مني الرجل والمرأة المجتمعين ، والذي يستقر في رحم المرأة ، ولا شك أن الصب فعل الشخص ، والفاعل الحقيقي هو الله ، فيكون ذلك من الإسناد المجازي الظاهري.

وتكوّن المني من عملية مشتركة تشترك فيها جميع أجزاء الإنسان ، وقد عبّر تعالى عن الكل بالأكثر الذي يحسّ به الشخص عادة وهو خروج الماء من بين الصلب أي الظهر ، والترائب أي الصدر ، جمع تريبة : وهي موضع القلادة من الصدر. والصلب من الرجل ، والترائب من المرأة.

٤ ـ إذا كان الخالق الحقيقي للإنسان أولا هو الله تعالى ، فإن الله جلّ ثناؤه قادر على إعادته وبعثه مرة أخرى بعد الموت ، في يوم القيامة ، وفي اليوم الذي تنكشف فيه السرائر وتبدو وتظهر ، ويصبح السرّ علانية ، والمكنون مشهورا. والسرائر : كل ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات ، وما أخفي من الأعمال الحسنة أو القبيحة. واختبار هذه السرائر معناه الكشف والإظهار وترجيح الاتجاه الراجح من الأفعال وتمييز المرجوح ، فتنجلي الحقائق ، ويعرف الصحيح من الفاسد ، والحق من الباطل.

٥ ـ نفى الله سبحانه وجود القوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن

١٧٩

الإنسان يومئذ ، بقوله : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ). والآية دليل على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم ، لا من نفسه ولا من غيره ، ولا شك في أن نفي القوة زجر وتحذير ، ويتجه أولا إلى أصحاب القوة والنفوذ في الدنيا الذين يعتمدون على الأعوان والأنصار ، وهناك يوم القيامة يفقدون كل شيء.

القسم على صدق القرآن والرسالة وتهديد الكائدين لهما

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

الإعراب :

(رُوَيْداً) مصدر مؤكد لمعنى العامل ، مصغر رود أو إرواد على الترخيم.

البلاغة :

(السَّماءِ) و (الْأَرْضِ) بينهما طباق ، وكذا بين (الفصل .. والهزل).

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) سجع رصين يزيد في جمال الأسلوب ، ومثله (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ).

(يَكِيدُونَ كَيْداً) جناس اشتقاق.

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) إطناب بتكرار الفعل مرة أخرى ، مبالغة في الوعيد.

المفردات اللغوية :

(ذاتِ الرَّجْعِ) الرجع : إعادة الشيء إلى ما كان فيه أولا ، والمراد به هنا المطر ؛ لأنه يعود إلى الأرض من السماء. (ذاتِ الصَّدْعِ) الشّق عن النبات والعيون وغيرهما من كنوز الأرض. (إِنَّهُ) القرآن. (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) يفصل بين الحق والباطل ، وبين الحلال والحرام. (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) باللعب والباطل ، فإنه جدّ كلّه.

(إِنَّهُمْ) الكفار من أهل مكة وأمثالهم. (يَكِيدُونَ كَيْداً) يدبرون ويعملون المكايد

١٨٠