التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال جبريل : يا محمد ، عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت ، فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه».

فقوله : (فَمُلاقِيهِ) يعود الضمير إلى العمل من خير أو شر ، وقيل : يعود الضمير على قوله (رَبِّكَ) أي فملاق ربك ، ومعناه : فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك.

ثم ذكر أحوال الناس وانقسامهم إلى فريقين يوم القيامة ، فقال : الفريق الأول ـ المؤمنون : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه وهم المؤمنون ، فإنه يحاسب حسابا سهلا ، بأن تعرض عليه سيئاته ، ثم يغفرها الله ويتجاوز عنها ، من غير أن يناقشه الحساب ، فذلك هو الحساب اليسير.

روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نوقش الحساب عذّب ، قالت : فقلت : أفليس الله تعالى قال : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ ... يَسِيراً)؟ قال : ليس ذاك بالحساب ، ولكن ذلك العرض ، ومن نوقش الحساب يوم القيامة عذّب».

وهذا الذي يعطى كتابه بيمينه ويحاسب حسابا يسيرا بالعرض يرجع إلى أهله وعشيرته في الجنة مغتبطا فرحا مسرورا بما أعطاه الله عزوجل وما أوتي من الخير والكرامة.

روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنكم تعملون أعمالا لا تعرف ، ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله ، فمسرور أو مكظوم».

ونظير الآية قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة ٦٩ / ١٩ ـ ٢١].

١٤١

الفريق الثاني ـ الكافرون : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ، وَيَصْلى سَعِيراً) أي وأما من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره ؛ حيث تثنى يده خلفه ، ويعطى كتابه بها ، وتكون يمينه مغلولة إلى عنقه ، فإذا قرأ كتابه ، نادى يا ثبوراه ، أي بالهلاك والخسار ، ثم يدخل جهنم ، ويصلى حرّ نارها وشدتها.

ونظير الآية قوله : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ، فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) [الحاقة ٦٩ / ٢٥ ـ ٢٩].

ثم ذكر الله تعالى سببين لعذابه فقال :

١ ـ (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي إنه كان في الدنيا فرحا لا يفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه ، وإنما يتبع هواه ، ويركب شهواته ، بطرا أشرا لعدم خطور الآخرة بباله ، فأعقبه ذلك الفرح اليسير حزنا طويلا.

٢ ـ (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي إن سبب ذلك السرور والبطر ظنه بأنه لا يرجع إلى الله ، ولا يبعث للحساب والعقاب ، ولا يعاد بعد الموت.

ثم رد الله عليه ظنه قائلا :

(بَلى ، إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي بلى إنه سيحور ويرجع إلى ربه ، وسيعيده الله كما بدأه ، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها ، فإن الله ربه كان به وبأعماله عالما خبيرا ، لا يخفى عليه منها شيء أو خافية.

وفي هذا إشارة إلى أنه لا بد من دار للجزاء غير دار التكليف ؛ لأن ذلك مقتضى العلم التام والقدرة والحكمة.

١٤٢

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات الكريمات على ما يأتي :

١ ـ من علامات القيامة : أولا ـ تصدع السماء وتفطرها بالغمام ، والغمام مثل السحاب الأبيض ، وثانيا ـ بسط الأرض ودكّ جبالها ، وإخراج أمواتها ، وتخليها عنهم ، وكل من السماء والأرض تصغي وتسمع وتنقاد وتخضع لأمر ربها ، وحق لها أن تسمع أمره.

٢ ـ يكدح كل إنسان ويتعب في حياته ، ثم يرجع يوم القيامة بعمله إلى ربه رجوعا لا محالة ، فملاق ربه ، أو ملاق عمله. قال قتادة : يا ابن آدم ، إن كدحك لضعيف ، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله ، فليفعل ، ولا قوة إلا بالله. وهذا دليل على أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها.

٣ ـ الناس فريقان يوم القيامة : سعداء مؤمنون وأشقياء كفار ، أما الفريق الأول : فهم الذين يعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ، ويعرضون على ربهم عرضا لا مناقشة فيه ، ويتجاوز الله عنهم ، ويرجعون إلى عشيرتهم مسرورين ، فاللهم اجعلنا منهم.

وأما الفريق الثاني : فهم الذين يتناولون كتب أعمالهم بشمائلهم مباشرة ، أو بشمائلهم من وراء ظهورهم ، فينادون بالهلاك على أنفسهم ، فيقول الواحد منهم : يا ويلاه ، يا ثبوراه ، والثبور : الهلاك والخسارة ، ثم يدخلون النار حتى يصلوا حرّها.

وسبب خسار هذا الفريق : البطر في الدنيا ، وإنكار المعاد والحساب والجزاء والثواب والعقاب ، والله خبير بهم ، عليم بأن مرجعهم إليه.

والفرح المنهي عنه : ما يتولد من البطر والترفه ، لا الذي يكون من الرضى

١٤٣

بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية ؛ لقوله تعالى : (قُلْ : بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس ١٠ / ٥٨].

قال ابن زيد : وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا ، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة ، وقرأ قول الله تعالى : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا ، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) [الطور ٥٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

ثم قال : ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه ، فقال : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً).

٤ ـ قوله تعالى : (بَلى) أي ليبعثن : دليل على الجزم بوقوع البعث ، وأنه دار العدل المطلق الذي ينال فيه كل إنسان جزاء عمله خيرا أو شرا.

تأكيد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

الإعراب :

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي حالا بعد حال ، و (عَنْ) تأتي بمعنى «بعد» ومنه قولهم : سادوا كابرا عن كابر ، أي بعد كابر. وتركبن : أصله تركبونن ، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال والواو لالتقاء الساكنين.

١٤٤

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لا يُؤْمِنُونَ) في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في (لَهُمْ) وعامله معنى الفعل الذي تعلقت به اللام في (لَهُمْ).

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إما استثناء متصل من الجنس ، فيكون (الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع نصب ، لأنه استثناء من الهاء والميم في (فَبَشِّرْهُمْ) وإما استثناء منقطع الجنس ، فيكون منصوبا ؛ لأن الاستثناء المنقطع منصوب.

البلاغة :

(وَسَقَ) و (اتَّسَقَ) بينهما جناس ناقص.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) كناية ، كنّى به عن الشدة والأهوال التي يتعرض لها الإنسان.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أسلوب تهكمي ، استعمال البشارة في موضع الإنذار تهكم وسخرية بالكفار.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) سجع مرصّع : وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات ، كما تقدم.

المفردات اللغوية :

(بِالشَّفَقِ) الجمرة التي ترى في الأفق الغربي بعد غروب الشمس ، وعن أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه : إنه البياض الذي يليها ، سمي به لرقته ، مأخوذ من الشفقة. (وَسَقَ) ضمّ وجمع وستر جميع ما دخل عليه من الدواب وغيرها. (اتَّسَقَ) اجتمع وتم نوره وصار بدرا وذلك في منتصف الشهر القمري ، وهو ما يعرف بظاهرة القمر الأزرق. ويرى الفلكيون أنه يمكن أن يكتمل القمر بدرا مرتين في شهر واحد في أوربا وآسيا لوجود القمر في نصف الكرة الغربي ، على مدى ١٢ عاما بين كل ١٩ عاما ، وآخر مرة اكتمل فيها القمر بدرا في الحادي والثلاثين من تموز (يوليو) عام ١٩٨٥ م ، وسوف يكتمل القمر بدرا في المرة القادمة في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) عام ١٩٩٠ م. (لَتَرْكَبُنَ) لتلاقنّ. (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال ، متطابقين في الشدة ، والطبق : الحال المطابقة لغيرها ، والمراد : مرور الكفار بأحوال بعد أحوال هي طبقات في الشدة ، بعضها أشد من بعض ، وهي الموت وما بعده من الحياة من أحوال القيامة. (فَما لَهُمْ) أي الكفار (لا يُؤْمِنُونَ) أيّ مانع لهم عن الإيمان بيوم القيامة؟ (لا يَسْجُدُونَ) لا يخضعون ، بأن يؤمنوا بالقرآن لإعجازه.

(يُكَذِّبُونَ) بالقرآن والبعث وغيرهما. (يُوعُونَ) يجمعون في صدورهم من الشرك أو الكفر والمعصية والتكذيب والإعراض وأعمال السوء من حسد وبغي وعداوة. (فَبَشِّرْهُمْ) البشارة :

١٤٥

الإخبار بما يسرّ ، والمراد هنا الإخبار عن العذاب تهكما واستهزاء بهم. (إِلَّا الَّذِينَ) أي لكن فهو استثناء منقطع ، ويصح كونه استثناء متصلا أي من تاب وآمن منه. (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع ولا منقوص ولا يمن به عليهم ، يقال : فلان منّ الحبل : إذا قطعه.

المناسبة :

بعد بيان أحوال الناس وانقسامهم فريقين يوم القيامة : سعداء وأشقياء ، أكد الله تعالى وقوع يوم القيامة وما يتبعها من الأهوال بالقسم بآيات واضحة في الكون : وهي الشفق والليل والقمر على أن البعث كائن لا محالة ، وأن الناس يتعرضون لشدائد الأهوال.

ثم حكى تعالى بعض عجائب الناس أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبالبعث ، ولا يخضعون لآي القرآن العظيم ، عنادا منهم واستكبارا ، فيجازون أشد العذاب ، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فله الثواب الدائم غير الممنون به عليه.

التفسير والبيان :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي يقسم الله تعالى بالشفق الذي هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت العشاء ، وبالليل الأسود البهيم وما جمع وضم ، وستر كل ما كان منتشرا ظاهرا في النهار ، وبالقمر إذا اجتمع وتكامل وصار بدرا في منتصف كل شهر قمري. والقسم بهذه الأشياء دليل على تعظيمها وتعظيم قدر مبدعها.

ولا أقسم : قسم ، وأما حرف (لا) فهو نفي ورد لكلام سابق قبل القسم ، وهنا رد الله تعالى على المشرك الذي ظن أن لن يحور ، بأنه سيرجع ويبعث ، وأبطل ظنه ، ثم أقسم بعده بالشفق.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) جواب القسم ، أي لتصادفن أحوالا بعد أحوال ، هي طبقات في الشدة ، بعضها أشد من بعض ، وهي الموت وما بعده من

١٤٦

مواطن القيامة وأهوالها ، ثم يكون المصير الأخير : الخلود في الجنة أو في النار.

ونظير الآية قوله : (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) [التغابن ٦٤ / ٧]. وقوله : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) [المزمل ٧٣ / ١٧].

ثم أنكر الله تعالى على الكفار استبعادهم البعث ، فقال :

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي فأي شيء أو فما ذا يمنعهم عن الإيمان بصحة البعث والقيامة ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبما جاء به القرآن ، مع وجود موجبات الإيمان بذلك ، من الأدلة الكونية القاطعة الدالة على قدرة الله على كل شيء ، والمعجزات الظاهرة الدالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق الوحي القرآني المنزل عليه.

وهذا استفهام إنكار ، وقيل : تعجب ، أي اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي وأيّ مانع لهم من سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن الذي دل إعجازه على كونه منزلا من عند الله تعالى؟! ويكون سجودهم إعظاما وإكراما واحتراما لآي القرآن ، بعد أن علموا كونه معجزا ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة.

قد احتج أبو حنيفة رحمه‌الله بالآية على وجوب السجود ، فإنه ذم لمن سمعه ، ولم يسجد.

ثم أبان الله تعالى سبب عدم إيمانهم بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليوم الآخر ، فقال : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي والواقع أن الكفار يكذبون بالكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب ، إما حسدا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما خوفا من ضياع المنافع والمراكز والمناصب

١٤٧

والرياسات ، وإما عنادا وإمعانا في البقاء على تقليد الآباء والأجداد والأسلاف.

والله أعلم من جميع الخلائق بما يضمرونه أو يكتمونه في أنفسهم من التكذيب ، وأعلم بأسباب الإصرار على الشرك أو الكفر ، وجمع الأعمال الصالحة والسيئة.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فأخبرهم أيها النبي بأن الله عزوجل قد أعدّ لهم عذابا أليما. واستعمال البشارة التي هي في الأصل لما هو سار ، في الإخبار عن العذاب تهكم واستهزاء بهم.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي لكن الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليوم الآخر ، وخضعوا للقرآن الكريم ، وعملوا بما جاء به ، والتزموا صالح الأعمال بأعضائهم ، لهم في الدار الآخرة ثواب غير مقطوع ولا منقوص ، ولا يمنّ به عليهم ، كما قال تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود ١١ / ١٠٨]. والاستثناء منقطع في رأي الزمخشري. وقال الأكثرون : معناه إلا من تاب منهم وعمل صالحا ، فله الثواب العظيم.

وفي هذا ترغيب شديد بالإيمان والطاعة ، وزجر عن الكفر والمعصية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله عزوجل بالشفق (وهو حمرة السماء التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة) وبالليل وما جمع وضم ولفّ ، وبالقمر إذا اجتمع وتم واستوى ، على وقوع البعث والقيامة وما يتبعها من أهوال عظام وشدائد ضخام.

١٤٨

٢ ـ ماذا يمنع الكفار عن الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليوم الآخر والقرآن بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات؟!

وماذا يمنعهم عن الخضوع والسجود للقرآن عند سماعه ، بعد ما عرفوا أنه معجز ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة؟! وهذا توبيخ على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن.

٣ ـ جمهور العلماء على أن هذه الآية : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) موضع سجدة تلاوة ، بدليل ما تقدم في الصحيح عن أبي هريرة أنه قرأ : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها.

وقال الإمام مالك : إنها ليست من عزائم السجود ، لأن المعنى : لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. وعقب على ذلك ابن العربي ونقله عنه القرطبي قائلا : والصحيح أنها منه ، أي من عزائم السجود ، وهي رواية المدنيين عنه ، أي عن مالك ، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة (١).

٤ ـ الواقع أن الكفار يكذبون الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه ، وإن كانت جلية ظاهرة ، وتكذيبهم بها إما لتقليد الأسلاف ، أو عنادا ، أو حسدا ، أو خوفا من أنهم لو أظهروا الإيمان ، لفاتتهم مناصب الدنيا ومنافعها.

والله عالم بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب والشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة ، فهو يجازيهم على ذلك.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٨٩٩ ، تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٨٠ ـ ٢٨١

١٤٩

٥ ـ صرح الله تعالى بوعيدهم قائلا لنبيه : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي موجع في جهنم على تكذيبهم ، أي جعل ذلك بمنزلة البشارة تهكما واستهزاء بهم.

٦ ـ استثنى الله تعالى من الوعيد السابق الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعملوا الصالحات ، أي أدّوا الفرائض المفروضة عليهم ، فلهم ثواب غير منقوص ولا مقطوع ، ولا يمنّ عليهم به.

والاستثناء منقطع عند الزمخشري كما بينا ، ولا بأس بكونه متصلا ، كأنه قال : إلا من آمن منهم ، فله أجر غير مقطوع ، أو هو من المنة.

وذكر ناس من أهل العلم أن قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ليس استثناء ، وإنما هو بمعنى الواو ، كأنه قال : والذين آمنوا.

١٥٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البروج

مكيّة ، وهي اثنتان وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة البروج ، لافتتاحها بقسم الله بالسماء ذات البروج : وهي منازل الكواكب السيارة في أثناء سيرها ، تنويها بها لاشتمالها على الظهور والغياب.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق السور بما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ التشابه في الافتتاح بذكر السماء ، ولهذا ورد في الحديث ذكر السماوات مرادا بها السور الأربع ، كما قيل في المسبّحات. وتلك السور هي الانفطار والانشقاق ، والبروج ، والطارق.

٢ ـ اشتمال السورتين على وعد المؤمنين ، ووعيد الكافرين ، والتنويه بعظمة القرآن.

٣ ـ تضمنت السورة السابقة أن الله عليم بما يجمع المشركون في صدورهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه من أنواع الأذى المادي ، كالضرب والقتل والتعذيب في حر الشمس ، والأذى المعنوي ، من حقد وحسد ، وعداوة ، ومكر ، وخوف على فوت المنافع ، وذكر في هذه السورة أن هذا شأن من تقدمهم من الأمم الكافرة الفاجرة. وفي هذا عظة للمشركين وتثبيت للمؤمنين.

١٥١

ما اشتملت عليه السورة :

أبرزت هذه السورة المكية جانبا مهما من جوانب العقيدة وهو التضحية في سبيل الإيمان والاعتقاد ، ممثلا في قصة (أصحاب الأخدود).

افتتحت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات منازل الكواكب ، وبيوم القيامة ، وبالأنبياء الذين يشهدون على أممهم ، على إهلاك وتدمير وإبادة المجرمين ، الذين أحرقوا جماعة من المؤمنين والمؤمنات في النار ليفتنوهم عن دينهم : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ...) [الآيات : ١ ـ ٩].

وأعقبت ذلك بوعيد هؤلاء العتاة الطغاة ، وإنذارهم بعذاب جهنم ، وبوعد المؤمنين بالجنان. (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...) [الآيتان : ١٠ ـ ١١].

وختمت السورة بإظهار عظمة الله وجليل صفاته وقدرته على الانتقام من أعدائه ، والاتعاظ بقصة الطاغية فرعون الجبار : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ...) [الآيات : ١٢ ـ ٢٢].

فضلها :

أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة ب (ذاتِ الْبُرُوجِ) و (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ).

وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء.

سبب نزولها والحكمة منها :

المقصود من هذه السورة تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عن إيذاء الكفار ، ببيان أن سائر الأمم السابقة كانوا كأهل مكة ، مثل أصحاب الأخدود في نجران اليمن ،

١٥٢

ومثل فرعون وثمود ، وكان كل الكفار سواء في التكذيب ، فانتقم الله منهم ؛ لأنهم جميعا في قبضة القدرة الإلهية : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ). وهذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير ؛ لقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).

وسبب نزول هذه السورة التي تدور على قصة أصحاب الأخدود : ما رواه مسلم في صحيحة وأحمد والنسائي ، وموجزها : أن أحد ملوك الكفار وهو ذو نواس اليهودي واسمه زرعة بن تبّان أسعد الحميري ، بلغه أن بعض رعيته آمن بدين النصرانية (١) ، فسار إليهم بجنود من حمير ، فلما أخذوهم خيّروهم بين اليهودية والإحراق بالنار ، فاختاروا القتل ، فشقوا لهم الأخدود ، وأضرموا فيه النار ، ثم قالوا للمؤمنين : من رجع منكم عن دينه تركناه ، ومن لم يرجع ألقيناه في النار ، فصبروا ، فألقوهم في النار ، فاحترقوا ، والملك وأصحابه ينظرون. قيل : قتل منهم عشرين ألفا ، وقيل : اثني عشر ألفا ، وقال الكلبي : كان أصحاب الأخدود سبعين ألفا.

والخلاصة : أن ذا نواس آخر ملوك حمير ، وكان مشركا ، قتل أصحاب الأخدود الذين كانوا نصارى ، وكانوا قريبا من عشرين ألفا (٢).

تفصيل القصة ـ قصة الساحر والراهب والغلام :

المعتمد من قصص أصحاب الأخدود : ما جاء في الصحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضمّ إليه غلاما ليعلّمه السّحر ، وكان في طريق الغلام راهب يتكلّم بالمواعظ لأجل الناس ، فمال قلب الغلام إلى حديثه ،

__________________

(١) وقال الضحاك : هم قوم من النصارى كانوا باليمين قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري ، وكانوا نيفا وثمانين رجلا ، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه.

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٤٩

١٥٣

فرأى في طريقه ذات يوم دابة أو حية قد حبست الناس ، فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر ، فاقتلها بهذا الحجر ، فقتلها.

وكان ذلك الغلام بعدئذ يتعلّم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرئ الأكمه والأبرص ، ويشفي من الداء. وعمي جليس للملك فأبرأه ، فأبصره الملك فسأله : من ردّ عليك بصرك؟ فقال : ربي ، فغضب ، فعذّبه.

فدل على الغلام ، فعذّب الغلام حتى دل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه ، فقدّ بالمنشار ، وأتى الغلام ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهبوا به إلى قرقور : وهي سفينة صغيرة ، فلججوا به ليغرقوه ، فدعا ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ونجا ، وقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد ، وتصلبني على جذع ، وتأخذ سهما من كنانتي وتقول : بسم الله ربّ الغلام ، ثم ترميني به.

فرماه فوقع في صدغه ، فوضع يده عليه ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السّكك وأوقدت فيها النيران ، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أمّاه ، اصبري فإنك على الحق ، وما هي إلا غميضة ، فصبرت واقتحمت».

١٥٤

القسم بأشياء عظام على لعنة أصحاب الأخدود

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

الإعراب :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّماءِ) : قسم ، وجوابه إما مقدر محذوف : وهو لتبعثن ، أو قوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ). واختار أبو حيان أن يكون الجواب هو قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) وحذفت اللام أي لقتل ، وحسن حذفها كما حسن في قوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ثم قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي لقد أفلح من زكاها ، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله ، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين. وإذا كان (قُتِلَ) جوابا للقسم ، فهي جملة خبرية ، وقيل : دعاء ، فيكون الجواب غيرها (البحر المحيط : ٨ / ٤٥٠).

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي الموعود به ، وحذف للعلم به ، وإنما وجب هذا التقدير ، لأن (الْمَوْعُودِ) صفة لليوم ، ولا بد من أن يعود من الوصف إلى الموصوف ذكر.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ النَّارِ) : مجرور على البدل من (الْأُخْدُودِ) بدل الاشتمال.

البلاغة :

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) بينهما جناس اشتقاق.

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كأنه يقول : لا جرم لهم إلا إيمانهم بالله ، وهذه مفخرة عظمي.

(الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) صيغة مبالغة.

١٥٥

(الْمَوْعُودِ) ، (وَمَشْهُودٍ) ، (الْأُخْدُودِ) ، (الْوَقُودِ) سجع مرصع : وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(الْبُرُوجِ) منازل الكواكب الاثني عشر ، وقيل : (الْبُرُوجِ) : النجوم العظام ، جمع برج : وهو الحصن ، أو القصر العالي ، أو منزل الكوكب ، سميت بروجا لظهورها. والبروج على المعنى الأول اثنا عشر برجا للكواكب السيارة ، تسير الشمس مثلا في كل واحد منها شهرا ، ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلث يوم ، فذلك ثمانية وعشرون منزلة ، ويستتر ليلتين ، أي يخفى.

ستة من بروج الشمس شمال خط الاستواء ، وستة في جنوبه ، أما التي في شماله : فهي الحمل والثور والجوزاء والسّرطان والأسد والسّنبلة. وأما التي في جنوبه : فهي الميزان والعقرب والقوس والجدي والدّلو والحوت. وتقطع الشمس الثلاثة الأولى الشمالية في ثلاثة أشهر هي فصل الربيع ، أولها ٢١ آذار (مارس) وتقطع الثلاثة الثانية في ثلاثة أشهر أخرى هي فصل الصيف ، أولها ٢١ حزيران (يونيو) وتقطع الثلاثة الأولى الجنوبية في ثلاثة أشهر هي فصل الخريف ، أولها ٢١ أيلول (سبتمبر) وتقطع الثلاثة الثانية الجنوبية في ثلاثة أشهر أيضا هي فصل الشتاء ، أولها ٢٢ من شهر كانون الأول (ديسمبر) (١).

وإذا كان القصد بالبروج الكواكب العظيمة فهي التي لا يحصى عددها ، والتي هي ذات أبعاد هائلة عن الأرض ، فبعضها لا يصل ضوؤه إلى الأرض إلا بعد مليون ونصف سنة ضوئية ، علما بأن الضوء يسير بسرعة ثلاث مائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة ، ويصل إلى القمر في ثانية وثلث ، ويجري حول الكرة الأرضية في ثانية واحدة نحو ثمان مرات. والمريخ يبعد عن الأرض ٢٥٦ مليون ميل ، وقد أطلقت روسيا مكوكا إلى المريخ في ١٣ / ٧ / ١٩٨٨ يصل إليه في منتصف عام ١٩٩٠ ، وأقسم الله بهذه الكواكب حيث نيط بها تغييرات في الأرض بحلول الكواكب فيها.

(الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة. (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) الشاهد في ذلك اليوم على غيره من الخلائق ، والمشهود عليه : ما يشهد به الشهود على المجرمين من الجرائم التي فعلوها بالشهود أنفسهم كأصحاب الأخدود أو بغيرهم ، وهذا هو الأصح ، أو الأنبياء الشاهدين على أممهم ، أو مخلوقات الله الظاهرة التي هي عامل الشهادة ، الدالة على تمام القدرة الإلهية وعظم الحكمة ، وهي مشهودة أيضا لكل ناظر إليها. وقال الأكثرون : الشاهد : يوم الجمعة فإنه يشهد بالعمل فيه ، والمشهود : يوم عرفة

__________________

(١) تفسير المراغي : ٣٠ / ٩٨

١٥٦

الذي تشهده الناس والملائكة. (قُتِلَ) لعن وهو جواب القسم بتقدير : لقد. (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) الشق المستطيل المحفور في الأرض ، وجمعه أخاديد ، وأصحاب الأخدود : قوم جبارون أحرقوا جماعة من المؤمنين في أخدود في نجران اليمن ، بعد أن أوقدوا فيه نارا عظيمة ، ثم ألقوهم فيها. (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) أي الأخدود المشتمل على النار ذات الوقود أي ما توقد به ، وهو وصف لها بالعظمة وكثرة ما يرتفع به لهبها.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) قاعدون على حافة النار. (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي وهم حضور على تعذيب المؤمنين بالله ، بالإلقاء في النار ، إن لم يرجعوا عن إيمانهم ، ويشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم. (وَما نَقَمُوا) أنكروا وعابوا. (الْعَزِيزِ) الغالب الذي يخشى عقابه ولا يغلب. (الْحَمِيدِ) المحمود على نعمه وعلى كل حال ، والذي يرجى ثوابه. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) شاهد عالم ، وهو للإشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد.

التفسير والبيان :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي أقسم بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام ، وأشهر الأقوال أنها منازل الكواكب ، وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا. وهي التي تقطعها الشمس في سنة ، والقمر في ثمانية وعشرين يوما. أقسم الله بها تنويها بها وتعظيما وتشريفا لها ، حيث نيط بها تغيرات في الأرض بحلول الكواكب فيها ، فينشأ عنها الفصول الأربعة ، وما فيها من حرارة وبرودة ، وينشأ عنها عدد السنين والحساب.

وجاء ذكر البروج في آيتين أخريين هما : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) [الحجر ١٥ / ١٦] ، وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٦١].

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي وأقسم بيوم القيامة الموعود به ، وبمن يشهد في ذلك اليوم ، ومن يشهد عليه. وهذا إن كان ذلك مأخوذا من الشهادة. فإن كان مأخوذا من الحضور بمعنى أن الشاهد هو الحاضر ، كقوله :

١٥٧

(عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الزمر ٣٩ / ٤٦] ، فالشاهد : الخلائق الحاضرون للحساب ، والمشهود عليه : اليوم ، كما قال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود ١١ / ١٠٣] فالله يقسم بالخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود ، لما في التأمل بها من تقدير عظمة تدل على الموجد.

والخلاصة : أن الشاهد والمشهود إما من الشهود : الحضور ، وإما من الشهادة ، والصلة محذوفة ، أي مشهود عليه أو به.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) هذا جواب القسم ، وهو إخبار أو دعاء على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله تعالى ، أي لعن أصحاب الأخدود المشتمل على النار ذات الحطب الذي توقد به. وهم قوم من الكفار في نجران اليمن طلبوا من المؤمنين بالله عزوجل أن يرجعوا عن دينهم ، فأبوا عليهم ، فحفروا لهم في الأرض أخدودا (شقا مستطيلا) وأجّجوا فيه نارا ، وأعدّوا لها وقودا يسعرونها به ، ثم أرادوهم أن يرجعوا عن دينهم ، فلم يقبلوا منهم ، فقذفوهم فيها. وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله : (ذاتِ الْوَقُودِ) أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي لعنوا حين أحدقوا بالنار ، قاعدين على الكراسي عند الأخدود ، وهؤلاء الذين حفروا الأخدود ، وهم الملك وأصحابه ، مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين ، من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم ، ويشهدون بما فعلوا يوم القيامة ، حيث تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم.

وهذا أي حضورهم الإحراق دليل على أنهم قوم غلاظ الأكباد قساة القلوب ، تمكّن الكفر والباطل منهم ، وتجرّدوا عن الإنسانية ، وفقدوا الرحمة ، ودليل أيضا

١٥٨

على أن المؤمنين كانوا أشد صلابة من الجبال في دينهم والإصرار على إيمانهم وحقهم في حرية الاعتقاد.

ثم ذكر الله تعالى سبب هذا التعذيب والإحراق بالنار ، فقال :

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي إن هؤلاء الكفار الجبابرة ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم ، ولا عابوا على المؤمنين إلا أنهم صدقوا بالله الغالب الذي لا يغلب ، المحمود في كل حال ، وهو مالك السموات والأرض ، وإليه الأمر كله ، ومن كان بهذه الصفات ، فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحّد ، والله شاهد عالم بما فعلوا بالمؤمنين ، لا تخفى عليه خافية ، ومجازيهم بأفعالهم. وأشار بقوله : (الْعَزِيزِ) إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين ، ولأطفأ نيرانهم وأماتهم ، وأشار بقوله : (الْحَمِيدِ) إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها ، فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل ، فإنه سيثيب المؤمنين ، ويعاقب أولئك الكفرة.

وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وعيد شديد لأصحاب الأخدود ، ووعد بالخير لمن عذّب من المؤمنين على دينه ، فصبر ولم يتراجع في موقف الشدة. ونظير الآية قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) [المائدة ٥ / ٥٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله عزوجل بالسماء وبروجها وهي نجومها العظام أو منازل الكواكب ؛ لإناطة تغييرات في الأرض كالفصول الأربعة وبيوم القيامة الذي

١٥٩

وعدنا به ؛ لأنه يوم الفصل والجزاء ، وتفرد الله بالحكم والقضاء ، وبالشاهد والمشهود ، أي الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود ؛ لما في التأمل بها من إدراك عظمة خالقها ، أقسم بها على أن أصحاب الأخدود ملعونون مطرودون من رحمة الله.

قال الزمخشري : أنه قيل : أقسم بهذه الأشياء ، إنهم ملعونون يعني كفار قريش ، كما لعن أصحاب الأخدود ، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان ، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم حتى يأنسوا بهم ، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش ، أي لعنوا ، كما قتل أصحاب الأخدود (١).

٢ ـ أسباب اللعنة على أصحاب الأخدود : أنهم حفروا أخدودا أي شقا مستطيلا في الأرض وأوقدوا فيه نارا عظيمة ، ثم ألقوا فيه جماعة المؤمنين ، بنجران اليمن في الفترة بين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وهم يتلذذون ويستمتعون بما تفعل النيران الملتهبة بأجساد هؤلاء المعذّبين ، ويحضرون ذلك المنظر الرهيب إلى تمام الإحراق والالتهاب ، فهم قوم قساة ، مجدّون في التعذيب.

٣ ـ القصة درس وعظة وتذكير للمؤمنين بالصبر على ما يلاقونه من الأذى والآلام ، والمشقات التي يتعرضون لها في كل زمان ومكان ليتأسوا بصبر المؤمنين وتصلبهم في الحق وتمسكهم به ، وبذلهم أنفسهم من أجل إظهار دعوة الله.

وليس هذا بمنسوخ ، فإن الصبر على الأذى لمن قويت نفسه ، وصلب دينه أولى (٢). قال الله تعالى مخبرا عن لقمان : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ،

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٣٢٦

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٩٣

١٦٠