التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

تلي عليه القرآن قال : أساطير الأولين ، أي أخبار الأولين المتقدمين وأكاذيبهم وأباطيلهم التي زخرفوها ، تلقاها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غيره من السابقين ، وهذا يعني في زعمهم أن القرآن ليس وحيا من عند الله تعالى.

وهذه الصفة الثالثة تشبه قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل ١٦ / ٢٤] وقال سبحانه : (وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٥] قيل : نزل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما.

ثم بيّن الله تعالى أسباب افترائهم على القرآن ، فقال :

(كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ارتدعوا وانزجروا عن هذه الأقوال ، فليس الأمر كما زعمتم أيها المعتدون الآثمون ، ولا كما قلتم : إن هذا القرآن أساطير الأولين ، بل هو كلام الله ، ووحيه ، وتنزيله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما السبب هو كثرة الذنوب والخطايا التي حجبت قلوبكم عن الإيمان بالقرآن ، والتي كوّنت عليها الرّين الذي منع نفاذ الحق والخير والنور إليها ، فأعماها عن رؤية الحقيقة. والرين : يعتري قلوب الكافرين ، فقوله : (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي غطى عليها. أخرج ابن جرير وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا أذنب ذنبا ، نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه ، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن». قال الحسن البصري عن الران : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب ، ويسودّ من الذنوب.

والطبع : أن يطبع على القلب ، وهو أشد من الرين.

ثم أبان الله تعالى أنهم مطرودون من أي رحمة أو تكريم ، فقال :

(كَلَّا ، إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي ليس

١٢١

الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة منزلة حسنى ، بل إن هؤلاء الكفار محجوبون عن ربهم يوم القيامة ، لا ينظرون إليه كما ينظر المؤمنون ، فكما حجبهم في الدنيا عن توحيده بسبب سوء أعمالهم ، حجبهم في الآخرة عن رؤيته وكرامته.

قال الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه : وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عزوجل يومئذ (١). وهذا استدلال بمفهوم الآية ، يدل عليه منطوق قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣].

ثم إنهم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن هم من أهل النيران ، فهم داخلو النار ، وملازموها غير خارجين منها ، ومقاسو حرها ، وصليّ الجحيم أشد من الإهانة وحرمان الكرامة.

ويقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ :

(ثُمَّ يُقالُ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي تقول لهم خزنة جهنم وزبانيتها تبكيتا لهم وتوبيخا : هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا ، فانظروه وذو قوه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن أعمال الفجار العصاة الكفرة مرصودة في كتاب مسطور بيّن الكتاب ، معلم بعلامة ، ومصيرهم السجن والضيق في جهنم والعذاب المهين.

٢ ـ هناك شدة وعذاب أليم يوم القيامة للذين يكذبون بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٨٥

١٢٢

٣ ـ لا يصدر التكذيب بالبعث والآخرة إلا من الفاجر المتجاوز حدود الحق ، المعتدي على الخلق في معاملته إياهم ، وعلى نفسه ، وهو الأثيم العاصي في ترك أمر الله ، وهو القائل عن القرآن إذا تلي عليه : إنه أساطير الأولين ، أي أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها.

٤ ـ ليس القرآن أساطير الأولين كما زعموا ، وإنما هو كلام الله الحق المنزل على قلب نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وسبب زعمهم كثرة القبائح والمعاصي التي غطت قلوبهم بالران وهو الحجاب الكثيف الذي يحدث بسبب تراكم الذنوب ، فمنعتها من رؤية الحق والباطل ، والتمييز بين الخير والشر.

٥ ـ حقا ، إن هؤلاء الكفار المنكرين للبعث المكذبين بالقرآن محجوبون عن رؤية ربهم يوم القيامة ، فلا ينظر إليهم نظرة رحمة ، ولا يرونه ، ثم إنهم يلازمون الجحيم (النار المحرقة) فلا يخرجون منها ، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ، وكلما خبت نارها زادهم الله سعيرا ، ويقال لهم من خزنة جهنم : هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به رسل الله في الدنيا.

٦ ـ قال الزجاج في آية : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) : في هذه الآية دليل على أن الله عزوجل يرى في القيامة ، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولا خسّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون.

وقال جل ثناؤه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه ، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه.

وقال مالك بن أنس في هذه الآية : لما حجب أعداءه ، فلم يروه ، تجلى لأوليائه حتى رأوه.

١٢٣

وقال الشافعي : لما حجب قوما بالسخط ، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال : أما والله ، لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد ، لما عبده في الدنيا.

ديوان الخير وقصة الأبرار

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

الإعراب :

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ عَيْناً) : تمييز ، أو حال من (تَسْنِيمٍ) ؛ لأنها بمعنى جارية ، على أن (تسنيما) اسم للماء الجاري من علو الجنة ، فهو معرفة ، تقديره : ومزاجه من الماء جاريا من علو ، أو منصوب ب (تَسْنِيمٍ) وهو مصدر ، مثل : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) أي ومزاجه من ماء تسنيم عينا ، أو منصوب بتقدير (أعني عينا) أو منصوب على المدح و (يَشْرَبُ) : جملة فعلية في موضع نصب على الموضع لقوله : (عَيْناً). وباء (بِهَا) إما زائدة ، أي يشربها بمعنى : يشرب منها ، أو بمعنى فيها.

البلاغة :

(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) تفخيم وتعظيم لمراتب الأبرار.

(فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) جناس اشتقاق.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) إطناب بذكر أوصاف المتقين ومقر نعيمهم.

١٢٤

(خِتامُهُ مِسْكٌ) تشبيه بليغ ، أي كالمسك في الطيب والبهجة ، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه.

المفردات اللغوية :

(كَلَّا) حقا ، أو ردع وزجر عن الباطل. (كِتابَ الْأَبْرارِ) ما يكتب من أعمال المؤمنين الصادقين في إيمانهم. (لَفِي عِلِّيِّينَ) لمثبت في ديوان الخير ، فهو إما أنه الكتاب الجامع لأعمال الخير من الملائكة ومؤمني الثقلين ، بدليل تفسيره بعدئذ : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ، كِتابٌ مَرْقُومٌ) وإما أنه مكان عال في الجنة. (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟) ما أعلمك ما كتاب عليين. (كِتابٌ مَرْقُومٌ) مسطور بيّن الكتابة أو معلم بعلامة. (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يحضرونه فيحفظونه ، وهم الملائكة. (لَفِي نَعِيمٍ) جنة.

(عَلَى الْأَرائِكِ) السرر أو الأسرّة في الحجال ، والحجال : جمع حجلة وهي كالقبة ، ولا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة وهي الكلّة. (يَنْظُرُونَ) ما أعطوا من نعيم يسرّهم. (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجة التنعم وحسنه وبريقه. (رَحِيقٍ) شراب خالص لا غش فيه ، وهو أجود الخمر غير المسكرة. (مَخْتُومٍ) ختم إناؤه بالمسك ، لا يفكه إلا الأبرار تكريما لهم. (خِتامُهُ مِسْكٌ) ختام إنائه المسك ، مكان الطين أو غيره. (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليتسارع أو فليستبق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى ، وليجاهدوا النفوس ، ليلحقوا بالركب المتقدم من العالمين المخلصين. وأصل التنافس : التنازع في الشيء بغية أن ينفرد به أحد المتنازعين دون غيره ، أي يضن به.

(وَمِزاجُهُ) ما يمزج به أو يخلط ، فالمزاج والمزج : الشيء الذي يمزج بغيره ، والمزج : خلط أحد الشيئين بالآخر. (تَسْنِيمٍ) عين من ماء تجري من الأعلى إلى الأسفل ، وهو أشرف شراب في الجنة. (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) يشرب منها ، أو ضمن يشرب معنى يلتذ ، و (الْمُقَرَّبُونَ) هم الأبرار السابق ذكرهم.

المناسبة :

بعد بيان حال المطففين وحال الفجار المكذبين بيوم الدين ، وتبيين درجتهم يوم القيامة ، أتبعه ببيان حال الأبرار الذين آمنوا بالله ورسله واليوم الآخر ، وعملوا صالحا في الدنيا ، والتعريف بمنزلتهم عند الله ، وأن الله رصد أعمالهم في كتاب مرقوم هو (عِلِّيُّونَ) وأن لهم الجزاء الحسن على إحسانهم في الدنيا ، حتى

١٢٥

يتبين أن كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانيه ، فيقبل العاقل على مقوّمات الأولين ، ويبتعد عن محاكاة الآخرين.

التفسير والبيان :

(كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي حقا ، إن كتاب الأبرار وهم المؤمنون المخلصون العاملون المطيعون مرصود في كتاب بيّن مسطور ، أو في أعالي الجنة ، ومصيرهم إلى الجنة ، وهم بخلاف الفجار ، وهو بخلاف سجين.

(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي وما أعلمك يا محمد أي شيء هو عليون؟ ويراد بذلك تفخيم أمره وتعظيم شأنه ، إنه كتاب مسطور ، سطرت فيه أسماؤهم وأعمالهم ، وهو السجل الكبير ، الذي تحضره الملائكة وتحفظه ويرونه كما يحفظ اللوح المحفوظ ، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة.

ثم أبان الله تعالى حالهم فقال :

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم يوم القيامة ، وفي جنات الخلود ، على الأسرّة التي في الحجال (ذات القبب الساترة) ينظرون إلى ما أعده الله لهم من أنواع النعيم في الجنة ، وإلى ما لهم من الكرامات المادية والمعنوية ، أما الماديات فهي مختلف أنواع الأطعمة الشهية والأشربة الهنية والحور العين والمراكب الفارهة والمساكن الفخمة ، وأما المعنويات فأنساهم بالله ورؤيتهم له ورضاه عنهم وشعورهم بالأمن والطمأنينة والسعادة الأبدية.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي إذا رأيتهم عرفت آثار النعمة والترف والسرور والدعة في وجوههم ، التي تتلألأ بالنور والحسن والبياض ،

١٢٦

والبهجة والرونق ؛ لأن الله تعالى زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف ، كما قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس ٨٠ / ٣٨ ـ ٣٩].

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ، خِتامُهُ مِسْكٌ ، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي يسقون من الخمر التي لا غش فيها ولا يشوبها شيء يفسدها ، وقد ختم إناؤها بالمسك فلا يفكه إلا الأبرار ، ويكون آخر طعمه ريح المسك ، وفي ذلك فليرغب الراغبون ، وليتسابق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة الله باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه. وهذا يعني أن التسابق أو التنافس يكون فيما يؤدي إلى النعيم ، لا إلى الجحيم ، كما قال تعالى : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٦١].

أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ظمأ ، سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع ، أطعمه الله من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري ، كساه الله من خضر الجنة».

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي ومزاج ذلك الرحيق وهو ما يخلط به من تسنيم ، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ ، وهو أشرف شراب الجنة. ويسقون الرحيق أو التسنيم من عين جارية من الأعلى إلى الأسفل يمزجون بها كؤوسهم ، وهي التي يشرب منها الأبرار المقربون صرفا ، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا.

سئل ابن عباس عن قوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) فقال : هذا مما قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة ٣٢ / ١٧].

١٢٧

فقه الحياة أو الأحكام :

يتبين من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن صحف أعمال الأبرار مدونة في السجل الكبير وهو الكتاب المسطر البيّن الكتابة ، الذي يتميز بعلامته الخاصة ، ويشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وهذه أضداد كتاب الفجار.

وبالمقارنة بينهما يتبين أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة ، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة. والمقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين وفي أضيق المواضع : إذلال الفجار وتحقير شأنهم. والمقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين وشهادة الملائكة لهم بذلك : إجلالهم وتعظيم شأنهم (١).

٢ ـ بعد أن عظم الله تعالى كتاب الأبرار عظم منزلتهم ، فأبان أنهم في نعيم الجنة. ووصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة :

أولها ـ على الأرائك ينظرون ، أي على الأسرة في الحجال ينظرون إلى ما أنعم الله به عليهم ، من الكرامات ومن أنواع النعم في الجنة من الحور العين والولدان ، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يلحظ المؤمن ، فيحيط بكل ما آتاه الله ، وإن أدناهم يتراءى له مثل سعة الدنيا».

ثانيها ـ تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، أي بهجته وغضارته ونوره ، والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية الله عزوجل ، على ما قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣].

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ٩٧

١٢٨

ثالثها ـ يسقون من رحيق مختوم ، أي يسقون من شراب لا غشّ فيه ، والرحيق : صفوة الخمر ، وخمر الجنة غير مسكرة ، كما قال تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات ٣٧ / ٤٧]. وقال عزوجل : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة ٥٦ / ١٩].

وهذا النوع من الخمر يختلف عن النوع الآخر الذي يجري في الأنهار ، المشار إليه في قوله تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد ٤٧ / ١٥] لكن هذا المختوم أشرف وأفضل من الجاري.

وللرحيق صفات أربع هي :

الأولى ـ أنه شراب مختوم قد ختم عليه تكريما له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان.

الثانية ـ ختامه مسك ، أي عاقبته المسك ، بمعنى أن يختم له آخره بريح المسك. قال الفراء : الختام آخر كل شيء.

الثالثة ـ أنه محل التنافس والتنازع لرفعته وطيبه ، والمراد : فليرغب الراغبون به إلى المبادرة إلى طاعة الله عزوجل.

الرابعة ـ ومزاجه من تسنيم ، أي مزاج ذلك الرحيق الذي يخلط به من تسنيم ، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ ، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة : الارتفاع ، فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل ، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه ، وكذلك تسنيم القبور.

قال عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه : تسنيم : عين في الجنة يشرب بها المقرّبون صرفا ، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين ، فتطيب.

وقال ابن عباس كما تقدم في قوله عزوجل : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) : هذا

١٢٩

مما قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

لذا قال تعالى بعدئذ : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي يشرب منها أهل جنة عدن ، وهم أفاضل أهل الجنة ، صرفا وهي لغيرهم مزاج.

ويلاحظ أنه تعالى لما قسم المكلفين في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام : المقربون ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، وذكر كرامة المذكورين في هذه السورة بأنه يمزج شرابهم من عين يشرب بها المقربون ، علمنا أن المذكورين هنا هم أصحاب اليمين. وهذا يدل على أن الأنهار متفاوتة في الفضيلة ، فتسنيم أفضل أنهار الجنة ، والمقربون أفضل أهل الجنة (١).

سوء معاملة الكفار للمؤمنين في الدنيا ومقابلتهم بالمثل في الآخرة

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

الإعراب :

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) في موضع نصب ب (يَنْظُرُونَ). وقيل : لا موضع لها من الإعراب ؛ لأنها مستأنفة. وقرئ : «هل ثوّب» : بإدغام اللام في (هَلْ) في الثاء ، وبإظهارها ، من أدغم ، فلما بينهما من المناسبة ؛ لأنهما من حروف اللسان والثنايا العليا.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١٠٠

١٣٠

البلاغة :

(يَكْسِبُونَ يَضْحَكُونَ يَتَغامَزُونَ يَنْظُرُونَ يَفْعَلُونَ) سجع مرصع ، وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) هم رؤساء قريش ومشركو مكة : أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي يضحكون استهزاء من عمّار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) مروا بالمؤمنين. (يَتَغامَزُونَ) يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم بالجفن والحاجب استهزاء. والغمز : إرخاء الجفن والحاجب استهزاء وسخرية ، أو لغرض آخر يعبر به عن شيء بين الناس ، إما خير أو شر ، وأكثر ذلك إنما يكون على سبيل الخبث.

(انْقَلَبُوا) رجعوا. (فَكِهِينَ) معجّبين بذكرهم المؤمنين أي ينسبونهم إلى الضلال ، وقرئ : فاكهين ، أي ملتذين بالسخرية منهم ، والمعنى في القرائتين واحد. (وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي رأوا المؤمنين. (لَضالُّونَ) ينسبونهم إلى الضلال ، لإيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ) وما أرسل الكفار على المؤمنين. (حافِظِينَ) لهم أو لأعمالهم ، أي رقباء يهيمنون على أعمالهم ، شاهدين عليها ، يشهدون برشدهم وضلالهم.

(فَالْيَوْمَ) أي يوم القيامة. (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) يهزؤون بهم حين يرونهم أذلّاء مغلولين في النار ، (عَلَى الْأَرائِكِ) على الأسرة في الحجال في الجنة. (يَنْظُرُونَ) من منازلهم إلى الكفار ، وهم يعذبون ، فيضحكون منهم ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. (هَلْ ثُوِّبَ) جوزي ، من التثويب والإثابة : المجازاة ، أي هل أثيبوا؟ (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) نعم.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٩):

ذكر العلماء في سبب النزول وجهين :

الأول ـ أن المراد من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل السّهمي ، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم.

١٣١

الثاني ـ جاء علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في نفر من المسلمين ، فسخر منهم المنافقون ، وضحكوا ، وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم ، فقالوا : رأينا اليوم الأصلع ، فضحكوا منه ، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

المناسبة :

بعد بيان قصة الفجار وقصة الأبرار وما أعد لكل فئة في الآخرة ، حكى الله تعالى بعض قبائح أفعال الكافرين في الدنيا بالاستهزاء بالمؤمنين ، ومعاملتهم بالمثل في الآخرة ، جزاء ما فعلوا في الدنيا. والمقصود منه تسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم.

التفسير والبيان :

حكى الله تعالى عن رؤساء الشرك وأمثالهم أربعة أشياء من المعلومات القبيحة ، فقال :

١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي إن كفار قريش ومن وافقهم على الكفر كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ، ويسخرون منهم. وهكذا شأن الأقوياء والأغنياء في كل عصر يسخرون من المؤمنين المصلّين أو الفقراء المتأدبين بآداب الإسلام والقرآن ، ويهزؤون من المتدينين ومن دينهم ، اعتمادا منهم على قوتهم ، أو سلطتهم ونفوذهم ، أو ثروتهم وغناهم. قال ابن عباس في تفسير (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ...) : هو الوليد بن المغيرة ، وعقبة بن أبي معيط ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والعاص بن هشام ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث. وأولئك الذين آمنوا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل عمار ، وخبّاب ، وصهيب ، وبلال.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ١٠١

١٣٢

٢ ـ (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي وإذا مر الكفار بالمؤمنين يتغامزون عليهم محتقرين لهم ، يعيرونهم بالإسلام ، ويعيبونهم به. والتغامز : صيغة تفاعل تقتضي المشاركة ، من الغمز : وهو الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء ، ويكون الغمز أيضا بمعنى العيب ، يقال : غمزة : إذا عابه ، وما في فلان غميزة ، أي ما يعاب به ، والمعنى : أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء ، ويعيبونهم ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ، ويحرمونها لذاتها ، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه.

٣ ـ (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي وإذا رجع الكفار إلى أهلهم في منازلهم من مجالسهم في السوق ، رجعوا معجبين بما هم فيه ، متلذذين به ، يتفكهون بما فعلوا بالمؤمنين ، وبما قاموا به من استهزاء وطعن فيهم ، واستهزاء بهم ، ووصفهم بالسخف والطيش وضعف الرأي وقلة العقل.

٤ ـ (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا : إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي وإذا رأى المشركون المؤمنين ، ووصفوهم بالضلال ؛ لكونهم على غير دينهم وعقائدهم الموروثة ، ولاتباعهم محمّدا ، وتمسكهم بما جاء به ، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدرى : هل له وجود أم لا.

فرد الله تعالى عليهم ما قالوه بقوله :

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي وما بعث هؤلاء المجرمون من قبل الله رقباء على المؤمنين ، يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم ، ولا كلّفوا بهم؟ وإنما كلفوا بالنظر في شؤون أنفسهم.

ثم قرر الله تعالى مبدأ المعاملة بالمثل في الآخرة ، تسلية للمؤمنين وتقوية قلوبهم ، فقال :

١٣٣

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي ففي اليوم الآخر يوم القيامة ، يضحك المؤمنون ويهزؤون من الكفار حين يرونهم أذلّاء مغلوبين ، قد نزل بهم ما نزل من العذاب ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، معاملة بالمثل ، وتبيانا أن الكفار الجاحدين هم في الواقع سفهاء العقول والأحلام ، خسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين. وكلمة (فَالْيَوْمَ) دليل على أن التكلم واقع في يوم القيامة.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي ينظر المؤمنون إلى أعداء الله ، وهم يعذبون في النار ، والمؤمنون متنعمون على الأرائك. وهذا دائم خالد لا يعادل بشيء من المؤقت الفاني.

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي هل أثيب وجوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والطعن والتنقيص ، أم لا؟ نعم ، قد جوزي الكفار أتم الجزاء بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم. والثواب : من ثاب يثوب : إذا رجع ، فالثواب : ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ، ويستعمل في الخير والشر. والاستفهام بمعنى التقرير للمؤمنين ، أي هل جوزوا بها؟.

فقه الحياة أو الأحكام :

استدل العلماء بالآيات على ما يأتي :

١ ـ الكفار دائما في عداوة وحقد وتغاير مع المؤمنين ، فلا يلتقي الإيمان مع الكفر ، ولا الدين الصحيح مع الضلال ، ولا الأخلاق العالية مع الأخلاق المرذولة. فقد كان يصدر من المشركين ألوان متعددة من أذى المؤمنين ، منها ما ذكرته هذه الآيات : وهو الاستهزاء والسخرية من المؤمنين ، وتعييبهم والطعن بهم وتعييرهم بالإسلام ، والتفكه بذكر المسلمين بالسوء أمام أهاليهم ،

١٣٤

والعجب بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم بالدنيا ، وقولهم بأن المؤمنين في ضلال لتركهم دين الآباء والأجداد واتباعهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب غير مؤكد الحصول.

٢ ـ قوبل الكفار في الآخرة بمثل فعلهم وقولهم ، تسلية للمؤمنين ، وتثبيتا لهم على الإسلام ، وتصبرا على متاعب التكاليف ، وأذية الأعداء ، في أيام معدودة ، لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية ، ففي الآخرة يهزأ المؤمنون من الكفار ويضحكون منهم ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، بسبب الضر والبؤس ، فضحك المؤمنون منهم بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء.

قال قتادة في قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) : ذكر لنا أن كعبا كان يقول : إن بين الجنة والنار كوىّ ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ كان له في الدنيا ، اطلع من بعض الكوى ؛ قال الله تعالى في آية أخرى : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات ٣٧ / ٥٥] قال : ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي.

ويدخل المؤمنون الجنة ، وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار ، كيف يعذبون في النار ، وكيف يصطرخون فيها ، ويدعون بالويل والثبور ، ويلعن بعضهم بعضا.

ويقال على سبيل التهكم : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ٤٤ / ٤٩] والمعنى : كأنه تعالى يقول للمؤمنين : هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بطريقتكم ، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة؟ فيكون هذا القول زائدا في سرورهم ؛ لأنه يقتضي زيادة في تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم.

١٣٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الانشقاق

مكيّة ، وهي خمس وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة الانشقاق ؛ لقوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أي تشققت وتصدعت مؤذنة بخراب العالم ، ومنذرة بهول يوم القيامة.

مناسبتها لما قبلها :

السور الأربعة : الانشقاق وما قبلها وهي سور المطففين والانفطار والتكوير كلها في صفة حال يوم القيامة ، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه ، فغالب ما وقع في التكوير ، وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة ، وأغلب ما ذكر في المطففين في أحوال الأشقياء الفجار والمتقين الأبرار في الآخرة ، وعنيت سورة الانشقاق بالجمع بين ما يحدث من مقدمات ومشاهد الآخرة الرهيبة وبين ما يعقب ذلك من الحساب اليسير لأهل اليمين والحساب العسير لأهل الشمال.

وفي السورة المتقدمة ذكر مقر كتب الحفظة ، وفي هذه ذكر كيفية عرضها يوم القيامة.

ما اشتملت عليه السورة :

محور السورة كالسور المكية الأخرى : شؤون العقيدة ، وتصوير أهوال

١٣٦

القيامة. وقد بدئت ببيان بعض التبدلات الكونية الخطيرة عند قيام الساعة : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ..) [الآيات : ١ ـ ٥].

وأردفت ذلك حال الإنسان في موقف العرض والحساب يوم القيامة ، وانقسام الناس فريقين : أهل اليمين وأهل الشمال : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ...) [الآيات : ٦ ـ ١٥].

ثم أقسم الله بالشفق والليل والقمر على ملاقاة المشركين في القيامة أهوالا شديدة ، وأحوالا عصيبة : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ...) [الآيات : ١٦ ـ ١٩].

وختمت السورة بتوبيخ المشركين والكفار والملاحدة والوجوديين وأمثالهم على عدم إيمانهم بالله تعالى ، وبإنذارهم بالعذاب الأليم ، والتنبيه على نجاة المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، ومنحهم الثواب الدائم المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) [الآيات : ٢٠ ـ ٢٥].

والخلاصة : أن السورة اشتملت على مقصدين : بيان ما يلاقيه الإنسان من نتائج أعماله يوم القيامة ، وانحصار المصير إما في جنات النعيم وإما في نيران الجحيم.

فضلها :

أخرج مسلم والنسائي : أن أبا هريرة قرأ بهم : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها.

وأخرج البخاري ومسلّم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة (العشاء) فقرأ : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد ، فقلت له ، فقال : سجدت خلف أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا أزال أسجد بها ، حتى ألقاه.

١٣٧

وزاد النسائي عن أبي هريرة نفسه قال : سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).

أهوال يوم القيامة وانقسام الناس فريقين

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

الإعراب :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذَا) ظرف ، والعامل فيه جوابه ، وجوابه إما مقدر ، أي بعثتم ، أو جوابه : (أَذِنَتْ) والواو فيها زائدة ، والتقدير : إذا السماء انشقت أذنت. وقيل : جوابه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) على تقدير : فيا أيها الإنسان ، فحذفت الفاء ، أو جوابه : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ).

(ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أَنْ) مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي أنه ، وقد سدت مسد مفعولي (ظَنَ). و (ظَنَ) وما عملت فيه : في موضع رفع خبر : إن.

البلاغة :

(السَّماءُ) و (الْأَرْضُ) بينهما طباق.

١٣٨

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) و (أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) بينهما مقابلة.

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ...) إلخ سجع مرصع : وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(انْشَقَّتْ) تشققت وتصدعت. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) استمعت له ، وانقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها ، انقياد المطواع الذي يأذن للأمر ، والأذن : هو الاستماع للشيء والإصغاء إليه (١).

ويكون انشقاقها بالغمام ، كما قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان ٢٥ / ٢٥].

(وَحُقَّتْ) وحق لها أن تسمع وتطيع وتنقاد. (مُدَّتْ) بسطت واتسعت رقعتها بزوال جبالها وآكامها وأبنيتها. (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من الموتى والكنوز إلى ظاهرها. (وَتَخَلَّتْ) تكلفت في الخلو أقصى جهدها ، حتى لم يبق في باطنها شيء. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) سمعت وأطاعت في ذلك ، أي في الإلقاء والتخلية. (وَحُقَّتْ) حق لها أن تسمع وتطيع ، وذلك كله يوم القيامة.

وجواب (إِذَا) وما عطف عليها محذوف دل عليه ما بعده تقدير : لقي الإنسان عمله ، أو بعثتم.

(كادِحٌ) جاهد ومجدّ في عملك. (إِلى رَبِّكَ) إلى لقاء ربك ، وهو الموت. (فَمُلاقِيهِ) ملاق عملك من خير أو شر يوم القيامة. (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أعطي كتاب عمله. (بِيَمِينِهِ) هو المؤمن. (حِساباً يَسِيراً) سهلا لا يناقش فيه ، بأن يعرض عليه عمله ، كما في حديث الصحيحين ، ثم يتجاوز عنه ، وفي الحديث المذكور : «من نوقش الحساب عذّب». (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي يرجع في الجنة إلى عشيرته المؤمنين ، مسرورا بحسابه اليسير.

(مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) هو الكافر ، يؤتى كتاب عمله بشماله من وراء ظهره ، قيل : يغل يمناه إلى عنقه ، ويجعل يسراه وراء ظهره. (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) ينادي عند رؤية ما فيه هلاكه ، قائلا : يا ثبوراه ، وهو الهلاك. (وَيَصْلى سَعِيراً) يقاسي نارا مستعرة ، ويدخل نارا شديدة. (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) كان في عشيرته في الدنيا فرجا بطرا باتباعه لهواه. (يَحُورَ) يرجع ، والمراد : أنه لن يرجع إلى ربه. (بَلى) أي بلى يحور ويرجع إليه ، فهو إيجاب لما بعد (لَنْ) أي جواب لما بعد النفي ، أي نعم يرجع. (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) عالما بأعماله وبرجوعه إليه ، فلا يهمله ، بل يرجعه ويجازيه.

__________________

(١) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن» أي يتلوه يجهر به (النهاية لابن الأثير : ١ / ٣٣).

١٣٩

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أهوال يوم القيامة وأماراتها بقوله :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي إذا تشققت السماء وتصدعت مؤذنة بخراب العالم ، وانشقاقها من علامات القيامة ، وأطاعت ربها وانقادت له فيما أمر ، وحق لها أن تطيع أمره وتنقاد وتسمع ؛ لأنه العظيم القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب ، بل قد قهر كل شيء ، وخضع له كل شيء.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) أي وإذا الأرض بسطت وسوّيت ووسّعت بزوال جبالها وآكامها. ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا.

ولفظت وأخرجت ما فيها من الأموات والكنوز ، وطرحتهم إلى ظهرها ، وخلت خلوا تاما عما فيها ، وتخلت إلى الله وتبرأت من كل من فيها ، ومن أعمالهم.

ونظير الآية : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه ٢٠ / ١٠٥ ـ ١٠٧].

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي استمعت وأطاعت أوامر ربها ، وحق لها أن تتخلى وتستمع لما يريد ربها أن يأمرها به ؛ لأنها واقعة في قبضة القدرة الإلهية. وجواب (إِذَا) محذوف لإرادة التهويل على الناس ، والتقدير : إذا حدث ما حدث ، رأيتم أعمالكم من خير أو شر.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) أي يا أيها الإنسان ، والمراد به الجنس الذي يشمل المؤمن والكافر ، إنك عامل في هذه الحياة ومجاهد ومجدّ في عملك ، ومصير سعيك وعملك إلى ربك أو إلى لقائه بالموت ، وإنك ستلقى ما عملت من خير أو شر ، أو سوف تلقى ربك بعملك. والكدح : جهد النفس في العمل حتى تأثرت.

١٤٠