التفسير المنير - ج ٣٠

الدكتور وهبة الزحيلي

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن من علامات يوم القيامة تبدل النظام الكوني ، بتشقق السماء ، وتساقط الكواكب ، وتفجير البحار بعضها في بعضها ، حتى تصير بحرا واحدا ، ثم توقد حتى تصير نارا تضطرم ، وبعثرة القبور وإخراج موتاها منها.

٢ ـ إذا حدثت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة ، حصل الحشر والنشر ، وختمت صحائف الأعمال ، فعلمت كل نفس ما كسبت ، ووجدت ما قدمت من خير أو شر ، وحوسبت كل نفس بما عملت ، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها ، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها ، ولم يعد ينفعها عمل بعد ذلك.

٣ ـ مسكين هذا الإنسان لا يشكر نعم ربّه بإطاعة أوامره ، ولا يدخر من العمل الصالح ما يفيده في سفينة النجاة في آخرته ، وغرّه كرم الله الذي تجاوز عنه في الدنيا ، أو حمقه وجهله ، أو شيطانه المسلط عليه. أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن عمر سمع رجلا يقرأ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فقال عمر : الجهل ، كما قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب ٣٣ / ٧٢]. وقيل للفضيل بن عياض : لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه ، فقال لك : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟) ما ذا كنت تقول؟ قال : كنت أقول : غرّني ستورك المرخاة ؛ لأن الكريم هو الستّار.

٤ ـ نعم الله على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى ، وأهمها ما يتعلق بنفسه ، حيث خلقه الله من نطفة ولم يك شيئا ، وجعله سليم الأعضاء ، منتصب القامة ، متناسب الأعضاء ، مستعدا لقبول الكمالات ، بالسمع والبصر والعقل وغير ذلك ، وصوّره في أحسن الصور وأعجبها وأبدعها ، واختار له الهيئة الجميلة والشكل البديع ، كما قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين ٩٥ / ٤].

١٠١

علة الجحود وكتابة الملائكة وانقسام الناس فريقين

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

الإعراب :

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ ... يَوْمَ) : بالنصب على البدل من (يَوْمَ الدِّينِ) [الآية : ١٥] الأول المنصوب. ويقرأ بالرفع على البدل من (يَوْمَ الدِّينِ)] [الآية : ١٨] المرفوع ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو يوم لا تملك.

البلاغة :

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ) سجع مرصع ، ومثله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ). والسجع : هو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير ، وهو ثلاثة أنواع : مطرف ومتوازي وترصيع.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) بينهما مقابلة ، قابل بين الأبرار والفجار ، وبين النعيم والجحيم. وفيها سجع الترصيع : وهو أن يكون في إحدى الفقرتين مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن والتقفية وهو من المحسنات اللفظية. والمقابلة من المحسنات المعنوية: وهي أن يؤتي معنيين متوافقين أو أكثر ، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب ، فقد تكون بين اثنين أو ثلاثة أو أكثر.

(نَعِيمٍ) و (جَحِيمٍ) التنكير للتعظيم والتهويل.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) إطناب بإعادة الجملة ، لتعظيم هول ذلك اليوم وبيان شدته.

١٠٢

المفردات اللغوية :

(كَلَّا) ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى ، فهي كلمة تفيد نفي شيء تقدم ، وتحقق غيره. (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ بَلْ) : إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم. والمراد. (بِالدِّينِ) : الجزاء على الأعمال يوم القيامة. (لَحافِظِينَ) ملائكة حفظة لأعمالكم ، يحصون كل ما كان منها من خير أو شر. (كِراماً) عند الله ، ووصفهم بذلك لتعظيم الجزاء. (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) يعلمون جميع الأفعال.

(الْأَبْرارَ) هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم ، الذين يفعلون البرّ (الخير) ويتقون الله في كل أفعالهم ، جمع برّ. (نَعِيمٍ) جنّة. (الْفُجَّارَ) هم الكفار التاركون لما شرع الله لعباده ، جمع فاجر. (جَحِيمٍ) نار محرقة. (يَصْلَوْنَها) يدخلونها ويقاسون حرّها. (يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء. (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي لا يخرجون منها ، لخلودهم فيها.

(وَما أَدْراكَ) ما أعلمك وعرّفك ، وكرر الجملة لتفخيم شأن اليوم وتعظيم هوله ، بحيث لا يدركه إنسان. (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) من المنفعة. (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي لا أمر لغيره فيه ، فلا يمكّن أحد من التوسط فيه. والمقصود بالآية تقرير شدة هول ذلك اليوم ، وتفخيم أمره إجمالا.

المناسبة :

بعد بيان أمارات الساعة الدالة على صحة القول بالبعث والنشور ، وبعد تعداد نعم الله على الإنسان ، وجحوده إياها ، ذكر الله تعالى علة هذا الجحود وهو التكذيب بالبعث ، ثم رغب بالطاعة ، وحذر من المعصية بسبب كتابة الحفظة جميع الأعمال ، ثم أوضح أن الناس يوم القيامة فريقان : أبرار منعمون ، وفجار معذبون مخلّدون في النار ، وأن يوم القيامة ذو شدائد وأهوال ، تتجرد فيه النفوس من قواها ، ويتفرد الله عزوجل بالحكم والسلطان.

التفسير والبيان :

(كَلَّا ، بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي ارتدعوا وانزجروا عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به ، والواقع أنكم تكذبون بيوم المعاد والحساب

١٠٣

والجزاء ، حيث لا يحملكم الخوف من هذا اليوم على التزام طاعة الله واجتناب معاصيه.

ثم زاد في التحذير من العناد والتكذيب بالإخبار أن جميع الأعمال مرصودة على الناس بالملائكة ، فقال :

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي إن عليكم لملائكة حفظة كراما ، فلا تقابلوهم بالقبائح ، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم ، ويعلمون جميع ما تفعلون ، كما قال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٧ ـ ١٨].

وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد مرسلا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين : الجنابة والغائط. فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط ، أو ببعيره ، أو ليستره أخوه».

ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، فوصله بلفظ آخر ، وأسنده عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ينهاكم عن التعري ، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم ، الكرام الكاتبين ، الذين لا يفارقونكم إلا عند ثلاث حالات : الغائط ، والجنابة ، والغسل ، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء ، فليستتر بثوبه أو بجرم حائط ، أو ببعيره».

لذا كره العلماء الكلام عند الغائط والجماع ، لمفارقة الملك العبد عند ذلك.

ثم ذكر الله تعالى تصنيف الناس العاملين يوم القيامة فريقين نتيجة كتابة الحفظة لأعمال العباد ، فقال :

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي (إِنَّ الْأَبْرارَ) : وهم الذين أطاعوا الله عزوجل ، ولم يقابلوه بالمعاصي يصيرون إلى دار النعيم وهي الجنة ، (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) : وهم الذين كفروا بالله وبرسله ، وقابلوا ربّهم بالمعاصي ، يصيرون إلى دار الجحيم ، وهي النار المحرقة ،

١٠٤

يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به ، كما قال تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى ٤٢ / ٧].

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي لا يفارقون الجحيم ولا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ، ولا يخفف من عذابها ، بل هم فيها إلى الأبد ، ملازمون لها ، كما قال تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [البقرة ٢ / ١٦٧].

ثم وصف يوم القيامة وصفا إجماليا في غاية التهويل وأكد ذلك مرتين ، فقال :

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي وما أعلمك وما أعرفك ما يوم الجزاء والحساب ، وكرر الجملة تعظيما لشأن يوم القيامة ، وتفخيما لقدره ، وتهويلا لأمره ، مما يستدعي التدبر والتأمل ، فلو عرف المرء تلك الأهوال ، لما فارق طاعة الله ساعة ، وابتعد عن المعصية بعد السماء من الأرض ، ولكن الإنسان في غفلة وسهو وتجاهل ، يعيش في الآمال ، ويعتمد على الأحلام أحيانا ، ويهرب من الواقع.

ثم حسم الله تعالى الأمر ، وأبان حقيقة الموقف ، ودور الإنسان فيه ، فقال : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي إنه اليوم الذي لا يقدر فيه أحد كائنا من كان عليه نفع أحد ، ولا خلاصه مما هو فيه ، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، ولا يملك أحد القضاء بشيء أو صنع شيء ، إلا الله ربّ العالمين ، فهو المتفرد بالحكم والسلطان ، فبيده الأمر كله ، وإليه ترجع الأمور كلها. قال قتادة : والأمر ، والله اليوم ، لله ، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد.

ونظير الشطر الأول من الآية قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة ٢ / ٤٨] ، وقوله عزوجل : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ

١٠٥

بِما كَسَبَتْ ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر ٤٠ / ١٧] ، وقوله سبحانه : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٤ ـ ٣٧]. وجاء في الحديث الثابت الذي أخرجه الترمذي : «يا بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار ، لا أملك لكم من الله شيئا».

ونظير الشطر الآخر قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر ٤٠ / ١٦] ، وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ ..) [الحج ٢٢ / ٥٦] ، وقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة ١ / ٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أمر تعالى بأن نرتدع عن الاغترار بحلم الله وكرمه ، وأن نتفكر في آيات الله.

٢ ـ إن منشأ عدم الخوف من الله والتجرؤ على الكفر والعصيان في الحقيقة والواقع هو التكذيب بالجزاء والحساب في يوم القيامة.

٣ ـ حال الناس مما يثير التعجب ، فهم يكذبون بيوم الحساب والجزاء ، وملائكة الله موكلون بهم ، يكتبون أعمالهم ، حتى يحاسبوا بها يوم القيامة. ولا يختلف الحال بين المؤمنين والكفار ، فعليهم جميعا الحفظة ؛ لقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ...) [الحاقة ٦٩ / ١٩] ، ثم قال : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) [الحاقة ٦٩ / ٢٥] ، وفي آية أخرى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) [الانشقاق ٨٤ / ١٠] ، فهذا خبر يدل أن الكفار يكون لهم كتاب ، ويكون عليهم حفظة.

١٠٦

سئل سفيان الثوري : كيف تعلم الملائكة أن العبد قد همّ بحسنة أو سيئة؟ قال : إذا همّ العبد بحسنة ، وجدوا منه ريح المسك ، وإذا همّ بسيئة وجدوا منه ريح النّتن.

٤ ـ وصف الله تعالى الملائكة الحفظة بصفات أربع : هي كونهم حافظين ، وكونهم كراما ، وكونهم كاتبين ، وكونهم يعلمون ما تفعلون. ووصف الله إياهم بهذه الصفات يدل على أنه تعالى أثنى عليهم وعظم شأنهم ، وفي تعظيمهم تعظيم لأمر الجزاء ، وأنه عند الله تعالى من جلائل الأمور ، ولولا ذلك لما وكلوا بضبط ما يحاسب عليه كل إنسان. قال بعض العلماء : من لم يزجره من المعاصي مراقبة الله إياه ، كيف يرده عنها كتابة الكرام الكاتبين.

٥ ـ أحوال العاملين ومصيرهم يوم القيامة : إن الأبرار يكونون في جنات النعيم ، وإن الفجار يكونون في نيران الجحيم ، يدخلونها ويقاسون لهابها وحرها يوم الجزاء والحساب ، ويلازمونها إلى أبد الآبدين ، فلا يغيبون عنها. وليس صاحب المعصية الكبيرة فاجرا ، وإنما الكفار هم الفجرة لا غيرهم كما تقدم ، وليس صاحب الكبيرة بفاجر على الإطلاق ، لقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس ٨٠ / ٤٢].

وفي هذا تهديد عظيم للعصاة ، حكي أن سليمان بن عبد الملك مرّ بالمدينة ، وهو يريد مكة ، فقال لأبي حازم : كيف القدوم على الله غدا؟ قال : أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله ، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه ، قال : فبكى ، ثم قال : ليت شعري ما لنا عند الله! فقال أبو حازم : اعرض عملك على كتاب الله ، قال : في أي مكان من كتاب الله؟ قال : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) قال سليمان : فأين إذن هي رحمة الله؟ فأجابه بقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (١) [الأعراف ٧ / ٥٦].

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ٨٥

١٠٧

٦ ـ في يوم القيامة والجزاء والحساب الرهيب لا يستطيع أحد مهما كان أن يقدم منفعة لآخر ، والأمر كله حينئذ لله الواحد القهار ، لا ينازعه فيه أحد.

وفي هذا وعيد عظيم وتهويل جسيم ليوم القيامة ، ودليل على أنه لا يغني عن الناس إلا البر والطاعة يومئذ ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. قال الواسطي في قوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) إشارة إلى فناء غير الله تعالى ، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات فمن كانت صفته في الدنيا كذلك ، كانت دنياه أخراه.

وقال الرازي في قوله تعالى : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) : هو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله ، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم ، وفي الآخرة ، ولم يتغير من حال إلى حال ، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر ، لا إلى أحوال المنظور إليه (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ٨٦

١٠٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المطففين

مكيّة ، وهي ست وثلاثون آية.

تسميتها :

سميت سورة (المطففين) ، لافتتاحها بقوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) وهم الذين يبخسون المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضوا من الناس ، وإما بالنقصان إن قضوهم أو وزنوا أو كالوا لهم.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق هذه السورة بما قبلها من وجوه أربعة :

١ ـ قال الله تعالى في آخر السورة المتقدمة واصفا يوم القيامة : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة ، فلهذا أتبعه هنا بقوله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) والمراد : الزجر عن التطفيف : والبخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية. أما الكثير فيظهر ، فيمنع منه.

٢ ـ في كل من السورتين توضيح أحوال يوم القيامة.

٣ ـ ذكر الله تعالى في السورة السابقة : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ) [١٠ ـ ١١] وذكر هنا ما يكتبه الحافظون : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) [٢٠] يجعل في عليين ، أو في سجين.

١٠٩

٤ ـ ذكر الله تعالى تصنيف الناس إلى فريقين : أبرار وفجار في كل من السورتين ، وذكر مآل كل فريق ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار. قال أبو حيان : لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه ، ذكر ما أعد لبعض العصاة ، وذكّرهم بأخس ما يقع من المعصية ، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته (١).

ما اشتملت عليه السورة :

عنيت هذه السورة كسائر السور المكية بأمور العقيدة ، وعلى التخصيص أحوال يوم القيامة وأهوالها ، وعنيت بأمور الأخلاق الاجتماعية ، وهي هنا تطفيف الكيل والميزان.

بدأت السورة بمطلع مخيف ، وهو وعيد المطففين بالعذاب الشديد : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ..) [الآيات ١ ـ ٦].

ثم أبانت أن كتاب الفجار الأشقياء في ديوان الشر ، وفي كتاب مرقوم بعلامة ، وأن مصيرهم أسفل السافلين في نار جهنم : (كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ..) [الآيات ٧ ـ ١٧].

وأردفت ذلك على سبيل المقارنة والعبرة والجمع بين الترغيب والترهيب ببيان أن صحائف الأبرار في أعلى عليين ، وأنها في كتاب مرقوم بعلامة متميزة عن صحائف الفجار: (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ..) [الآيات ١٨ ـ ٢٨].

وختمت السورة بوصف موقف المجرمين من المؤمنين ، حيث كانوا يستهزئون ويضحكون منهم في الدنيا لإيمانهم وتقواهم ربهم ، ثم انعكاس هذا الموقف في الآخرة حيث صار المؤمنون يتضاحكون من الأشقياء المجرمين ويسخرون منهم ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٤٣٩

١١٠

وينظرون إليهم وهم يعذبون في النار وما يلقونه من النكال : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ..) [الآيات ٢٩ ـ ٣٦].

وعيد المطففين

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

الإعراب :

(كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) الهاء والميم : إما ضمير منصوب بالفعل ، وتقديره : كالوا لهم ووزنوا لهم ، فحذفت اللام ، فاتصل الفعل به ، وإما ضمير مرفوع مؤكد لواو الجماعة في الفعل. قال ابن كثير : والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا متعديا ، ويكون (هم) في محل نصب. وقال أبو حيان : كال ووزن مما يتعدى بحرف الجر ، فتقول : كلت لك ووزنت لك ، ويجوز حذف اللام كقولك : نصحت لك ونصحتك وشكرت لك وشكرتك.

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ يَوْمَ) الثاني : إما منصوب بفعل مقدر ، دل عليه (مَبْعُوثُونَ) اي مبعوثون يوم يقوم الناس ، وإما بدل من موضع الجار والمجرور في قوله تعالى : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ).

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أَلا) هنا : ليست أداة استفتاح ، وإنما الهمزة للإنكار والتعجب ، و (لا) للنفي.

البلاغة :

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) تنكير (وَيْلٌ) للتهويل والتفخيم.

(يَسْتَوْفُونَ) و (يُخْسِرُونَ) بينهما طباق.

١١١

المفردات اللغوية :

(وَيْلٌ) كلمة عذاب ، أي شدة عذاب ، في الآخرة. (لِلْمُطَفِّفِينَ) المنقصين ، جمع مطفّف : وهو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق ، في كيل أو وزن ، والمراد بالتطفيف هنا : إما الازدياد إن اقتضوا من الناس ، وإما النقصان إن قضوهم. وسمي بذلك لأن ما يبخس شيء حقير طفيف. (اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) أخذوا منهم حقوقهم. (يَسْتَوْفُونَ) يأخذون الكيل وافيا كاملا. (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) كالوا لهم أو وزنوا لهم. (يُخْسِرُونَ) ينقصون الكيل أو الوزن.

(أَلا يَظُنُ) يتيقن ، وهو استفهام توبيخ وإنكار وتعجب من حالهم ، وعبر بالظن ؛ لأن من ظن ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح ، فكيف بمن تيقنه. (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي يوم القيامة ، عظمه لعظم ما يكون فيه. (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) من قبورهم. (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي رب الخلائق ، والمراد : يوم يقف الناس أمام ربهم لأجل أمره وحكمه وحسابه وجزائه. قال البيضاوي : وفي هذا الإنكار والتعجب ، وذكر الظن ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس فيه لله ، والتعبير برب العالمين مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

أخرج النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، كانوا من أبخس الناس كيلا ، فأنزل الله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وقال السّدّي : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان ، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت. وهي آخر سورة نزلت بمكة ، فهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل. ويقال : إنها أول سورة نزلت بالمدينة ، فهي مدنية في قول الحسن وعكرمة. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة ، وكانوا من أخبث الناس كيلا ، فنزلت ، فأحسنوا الكيل (١). وهذا على أن السورة مدنية ، أو قرأها عليهم بعد قدومه إن كانت مكية.

__________________

(١) رواه النّسائي عن ابن عباس.

١١٢

التفسير والبيان :

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) أي عذاب شديد للمنقصين في الكيل أو الوزن ، والتطفيف : الأخذ في الكيل أو الوزن شيئا طفيفا ، أي نزرا حقيرا أو يسيرا ، والمطفف : هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن. قال ابن كثير رحمه‌الله : البخس في المكيال والميزان : إما بالازدياد إن اقتضى من الناس ، وإما بالنقصان إن قضاهم ، ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى :

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي هم الذين إذا اكتالوا من الناس وقبضوا لهم ، يأخذون حقهم وافيا زائدا ، وإذا كالوا أو وزنوا لغيرهم من الناس أو أقبضوهم ، ينقصون الكيل أو الوزن.

وقد أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان ، فقال : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٣٥] وقال سبحانه : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [الأنعام ٦ / ١٥٢] وقال عزوجل : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن ٥٥ / ٩]. وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ، بعد أن كرر النصح لهم ، فقال تعالى : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود ١١ / ٨٥].

ثم توعد الله تعالى المطففين بقوله :

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي ألا يخطر ببال أولئك المطففين أنهم مبعوثون ، فمسئولون عما

١١٣

يفعلون؟ وأما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي ربهم في يوم عظيم الهول كثير الفزع ، جليل الخطب ، من خسر فيه أدخل نارا حامية؟ وهو يوم القيامة.

إنه يوم يقوم الناس فيه حفاة عراة ، في موقف صعب حرج ، منتظرين لأمر رب العالمين وجزائه وحسابه. وفي هذا دلالة على عظم ذنب التطفيف ، ومزيد إثمه ، وشدة عقابه ، لما فيه من خيانة الأمانة وأكل حق الغير. وفي الإشارة إليهم بأولئك ، وقد ذكرهم عما قريب ، تبعيد لهم عن رتبة الاعتبار ، بل عن درجة الإنسانية. وفي هذا الإنكار والتعجيب ، وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظيم ، وقيام الناس فيه لرب العالمين ، بيان بليغ لعظم هذا الذنب. ويلاحظ أن المطففين إن كانوا من أهل الإسلام ، فالظن بمعنى اليقين أو العلم ، وإن كانوا كفارا منكري البعث ، فالظن بمعناه الأصلي ، والمراد : هب أنهم لا يقطعون بالبعث ، أفلا يظنونه أيضا ، كقوله : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية ٤٥ / ٣٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ التطفيف : وهو إنقاص حق الآخر في الكيل أو الوزن ونحوهما من المقاييس حرام شرعا ، موجب للإثم الشديد والعذاب الأليم في الآخرة ، وهو أيضا رذيلة اجتماعية ونقيصة وعيب يطعن في الخلق ، ويؤدي إلى ابتعاد الناس عن فاعله.

روي أن أهل المدينة كانوا تجارا يطففون ، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، يعني بيع الغرر ، كالطير في الهواء ، فنزلت ـ على أن السورة مدنية في رأي جماعة ـ فخرج رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأها عليهم ، فقال :

١١٤

«خمس بخمس ، ما نقض قوم العهد إلا سلّط عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا المكيال إلا منعوا النّبات ، وأخذوا بالسّنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» (١).

٢ ـ المراد بالتطفيف هنا : الزيادة في الكيل أو الوزن ونحوهما عند استيفاء الحق ، ونقص الكيل أو الوزن ونحوهما عند إيفاء الحق.

٣ ـ قوله تعالى : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) توبيخ للمطففين ، وإنكار وتعجيب عظيم من حالهم ، في الاجتراء على التطفيف ، كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة ، فمسئولون عما يفعلون. والظن هنا كما تقدم بمعنى اليقين ، أي ألا يوقن أولئك ، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وهذا دليل على أن التطفيف من الكبائر.

وهذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك ، ومن يعزم عليه ؛ إذ العزم عليه أيضا من الكبائر(٢).

وأكثر العلماء على أن قليل التطفيف وكثيره يوجب الوعيد ، وبالغ بعضهم كما تقدم ، حتى عدّ العزم عليه من الكبائر.

وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه‌الله : لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب وإخفائه ، وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ومن لم يرض لأخيه المسلّم ما يرضاه لنفسه ، فليس بمنصف ، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه ، فهو من هذه الجملة ، ومن طلب حق

__________________

(١) أخرجه الطبراني عن ابن عباس ، وهو حديث صحيح. وأخرجه أبو بكر البزار بمعناه ، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر.

(٢) وهذا رأي الرازي ، تفسير الرازي : ٣١ / ٨٩

١١٥

نفسه من الناس ، ولا يعطيهم حقوقهم ، كما يطلب لنفسه ، فهو من هذه الجملة ، والفتى من يقضي حقوق الناس ، ولا يطلب من أحد لنفسه حقا (١).

ويحكى أن أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان : إن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك ، وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ووزن؟!

٤ ـ قوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي للعرض والحساب ، فيه غاية التخويف ؛ لأن جلال الله وعظمته يملآن النفس رهبة وهيبة ، والقيام له شيء حقير أمام عظمته وحقه.

أما قيام الناس بعضهم لبعض ، ففيه خلاف ، فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه ، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار ، حين طلع عليه سعد بن معاذ فيما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري : «قوموا إلى سيّدكم». وقال أيضا : «من سرّه أن يتمثل له الناس قياما ، فليتبوأ مقعده من النار» (٢).

قال القرطبي : وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته ، فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه ، فهو ممنوع ، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة ، فإنه جائز ، وبخاصة عند الأسباب ، كالقدوم من السفر ونحوه (٣).

والخلاصة كما ذكر الرازي : جمع الله سبحانه في هذه الآية أنواعا من التهديد ، فقال أولا : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء ، وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء ، ثم قال ثانيا : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) وهو استفهام بمعنى الإنكار ، ثم قال ثالثا :

__________________

(١) غرائب القرآن : ٣٠ / ٤٩

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٥٦

(٣) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٥٦

١١٦

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة ، ثم قال رابعا : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وفيه نوعان من التهديد :

أحدهما ـ كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذل والانكسار.

والثاني ـ أنه وصف نفسه بكونه ربا للعالمين (١).

ديوان الشر وقصة الفجار

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

الإعراب :

(... لَفِي سِجِّينٍ سِجِّينٍ) : من السجن ، وهو الحبس والتضييق ، وقيل : النون فيه بدلا من اللام.

(كِتابَ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو كتاب مرقوم ، أي هو في موضع كتاب مرقوم ، وكذا التقدير في قوله بعدئذ : (عِلِّيُّونَ) [١٩] (كِتابٌ مَرْقُومٌ) [٢٠] فحذف المبتدأ والمضاف جميعا ، وإنما وجب هذا التقدير ، لقيام الدليل على أن (عِلِّيِّينَ) مكان ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم لترون أهل عليين ، كما يرى الكوكب الذي في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم». وعليين : جمع لا واحد له ، كعشرين ، سمي به.

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) بدل أو عطف بيان للمكذبين.

(ثُمَّ يُقالُ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ هذَا) : في موضع رفع مبتدأ ، وخبره (الَّذِي). والجملة في موضع رفع نائب فاعل.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣١ / ٩٠ ـ ٩١

١١٧

البلاغة :

(كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ...) و (كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ...) بينهما مقابلة ، حيث قابل بين حال (الفُجَّارِ) وحال (الْأَبْرارِ) ، وبين (سِجِّينٍ) و (عِلِّيِّينَ).

المفردات اللغوية :

(كَلَّا) للردع والزجر عما هم فيه من التطفيف والتكذيب بالنسبة للكافر أو الغفلة عن البعث والحساب بالنسبة للمؤمن. (كِتابَ الفُجَّارِ) كتاب أعمال الكفار ، وهو ما يكتب فيه من أعمالهم. (سِجِّينٍ) كتاب جامع لأعمال الفجرة من الثقلين : الشياطين والفسقة والكفرة ، فهو ديوان الشر ، بدليل قوله تعالى بعدئذ : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان. وقيل : هو مكان في أسفل السافلين ، و (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ليس تفسيرا للسجين ، بل التقدير : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ، وإن كتاب الفجار مرقوم وموقع. لكن قال الزمخشري : سجين كتاب جامع هو ديوان الشر ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبّت في ذلك الديوان ، وسمي سجينا فعّيلا من السجن وهو الحبس والتضييق ؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، فهو اسم علم لا صفة ، منقول من وصف كخاتم ، وهو منصرف ؛ لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف (١).

وقال أبو حيان : والظاهر أن سجينا هو كتاب ، ولذلك أبدل منه (كِتابٌ مَرْقُومٌ؛) (٢).

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟) ما كتاب سجين؟ (كِتابٌ مَرْقُومٌ) كتاب مسطور بيّن الكتابة ، أو معلم ، يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، كما تقدم ، يقال : رقم الكتاب : إذا جعل له علامة ، وتسمى العلامة رقما. (لِلْمُكَذِّبِينَ) بالحق. (مُعْتَدٍ) متجاوز حدود الشرع والنظر والعقل. (أَثِيمٍ) كثير الآثام (أي المعاصي) منهمك في الشهوات المعيبة ، صيغة مبالغة.

(آياتُنا) القرآن. (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) حكايات وأخبار القدماء ، جمع أسطورة ، أو اسطارة. (كَلَّا) ردع وزجر لهم عن هذا القول. (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) غطّاها وغلب عليها ، أي اسودت من الذنوب ، وهو رد لما قالوه وبيان سبب قولهم : وهو حب المعاصي بالانهماك فيها ،

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٣٢٢

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٤٤٠

١١٨

حتى صار ذلك صدا على قلوبهم ، فعمّى عليهم معرفة الحق والباطل. والرين : الصدأ. (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي ، فهو كالصدأ.

(كَلَّا) ردع عن الكسب الزائن. (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة. (لَمَحْجُوبُونَ) فلا يرونه ، بخلاف المؤمنين ، ومن أنكر الرؤية جعله تمثيلا لإهانتهم بإهانة حجاب الملوك الذين يمنعون عن الدخول عليهم. (لَصالُوا الْجَحِيمِ) لداخلو النار المحرقة وملازموها. (ثُمَّ يُقالُ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) يقول لهم الزبانية : هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به.

المناسبة :

بعد بيان عظم ذنب التطفيف ، وبيان سببه وهو إنكار البعث والحساب أو الغفلة عنهما ، ردعهم الله تعالى عن الأمرين معا ، ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر ، فإنه مكتوب مسطر عند الله ، وأوعد منكري البعث المكذبين به ، والقائلين بأن القرآن أساطير الأولين ، وليس وحيا من عند الله ، ثم زجرهم عن هذه المقولة الباطلة ، وأوضح سببها وهو انغماسهم في المعاصي التي حجبت قلوبهم عن رؤية الحق والباطل ، فصاروا لا يميزون بين الخير والشر ، وأعقب ذلك بيان جزائهم وهو طردهم من رحمة الله ودخولهم نار جهنم وملازمتهم لها.

وقدّم ديوان الشر عن ديوان الخير ؛ لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور ، فناسب إيراد حال الأشرار أولا.

التفسير والبيان :

(كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أي ارتدعوا وانزجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، فإن الفجار ومنهم المطففون أعمالهم مكتوبة في ديوان الشر وسجل أهل النار وهو السجين ، أو في حبس وضيق شديد ، فكلمة (سِجِّينٍ) من السجن : وهو الضيق والحبس.

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي وما أعلمك أنت ولا قومك

١١٩

ما هو السجين؟ إنه الكتاب الذي رصدت فيه أسماؤهم ، فهو كتاب مسطور بيّن الكتابة ، جامع لأعمال الشر الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة. وهذا السجل المسمى بالسجين هو السجل الكبير أو العظيم ، الذي فيه لكل فاجر صحيفة.

وهذا هو الظاهر في معنى كلمة (سِجِّينٍ). وقد عرفنا سابقا أن بعضهم يرى أن السجين هو مكان وهو جهنم وهي أسفل السافلين ، لذا قال محمد بن كعب القرظي : قوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ليس تفسيرا لقوله : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟) وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين ، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه ، لا يزاد فيه أحد ، ولا ينقص منه أحد (١). وهو رأي النحويين كما تقدم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي عذاب شديد يوم القيامة لمن كذب بالبعث والجزاء وبما جاء به الرسل ، فهؤلاء المكذبون هم الذين لا يصدقون بوقوع الجزاء ، ولا يعتقدون كونه ، ويستبعدون أمره. وهذا وعيد للذم لا للبيان ؛ لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله ، سواء كان مكذبا بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى.

ثم أبان الله تعالى صفات من يكذب بيوم الدين وهي ثلاث ، فقال :

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ ، أَثِيمٍ ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي لا يكذب بيوم الدين إلا من كان متصفا بهذه الصفات الثلاث : وهي أولا ـ كونه معتديا ، أي فاجرا جائرا متجاوزا منهج الحق ، ثانيا ـ أنه أثيم : وهو المنهمك في الإثم في أفعاله ، من تعاطي الحرام وتجاوز المباح ، وفي أقواله : إن حدّث كذب ، وإن وعد أخلف ، وإن خاصم فجر ، وثالثا ـ أنه إذا

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٨٥

١٢٠