شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

وأقول : ألحق بالمثنى خمسة ألفاظ ـ وهي : اثنان ، للمذكّرين ، واثنتان ، للمؤنّثتين ، في لغة الحجاز ، وثنتان لهما في لغة تميم ـ وهذه الثلاثة تجري مجرى المثنى في إعرابه دائما ، من غير شرط ، وإنما لم نسمّها مثنّاة لأنها ليست اختصارا للمتعاطفين ؛ إذ لا مفرد لها ، لا يقال «اثن» ولا «اثنة» ولا «ثنت».

ومن شواهد رفعها بالألف قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة ، ٦٠] ف (اثنتا) فاعل فانفجرت ، وقوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) [المائدة ، ١٠٦] ف (اثنان) مرفوع إما على أنه خبر المبتدأ ، وهو «شهادة» وذلك على أن الأصل شهادة بينكم شهادة اثنين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع [ارتفاعه] وإنما قدّرنا هذا المضاف لأن المبتدأ لا بد أن يكون عين الخبر نحو «زيد أخوك» أو مشبها به نحو : «زيد أسد» والشهادة ليست نفس الاثنين ولا مشبهة بهما ، وإما على أنه فاعل بالمصدر ، وهو الشهادة ، والتقدير : ومما فرض عليكم أن يشهد بينكم اثنان.

ومن شواهد النصب قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) [يس ، ١٤] (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر ، ١١] ف (اثنين) مفعول به ، و (اثنتين) مفعول مطلق : أي إماتتين ، وكذلك (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر ، ١١] ومنه أيضا قوله تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) [المائدة ، ١٢] ف (اثني) مفعول (بعثنا) وعلامة نصبه الياء.

والكلمتان الرابعة والخامسة : كلا ، وكلتا ، وشرط إجرائهما مجرى المثنى إضافتهما إلى المضمر ، تقول : جاءني كلاهما ، ورأيت كليهما ، ومررت بكليهما ، وكذا في كلتا ، قال الله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ

__________________

الاعتراض الثاني بأن اللام التي لا تدخل على خبر المبتدأ هي لام الابتداء ، ونحن لا نقول بأن هذه لام الابتداء ، بل هي اللام الزائدة مثل التي في قول الراجز* أم الحليس لعجوز شهربه* وقد حكى المقري في نفح الطيب (٧ / ١٨٩ بتحقيقنا) أن ابن البناء سئل عن هذه الآية : لم لم تعمل إن النصب والرفع في هذه الآية؟ فأجاب : لما لم يؤثر القول في المقول لهم لم يعمل العامل في المعمول ، فقال له السائل : إن هذا الجواب لا ينهض؟ فقال : إن هذا الجواب زهرة لا تحتمل أن تحك بين الأكف ـ وأقول : هذا الجواب ليس من باب التخريج على القواعد ، ولكنه من الإشارات التي يقول مثلها أهل التصوف.

٨١

كِلاهُما)(١) [الإسراء ، ٢٣] ف (أحدهما) فاعل ، و (كلاهما) معطوف عليه ، والألف علامة لرفعه ؛ لأنه مضاف إلى الضمير ، ويقرأ (إمّا يبلغان) بالألف ؛ فالألف فاعل ، و (أحدهما) فاعل بفعل محذوف ، وتقديره : إن يبلغه أحدهما أو كلاهما ، وفائدة إعادة ذلك التوكيد ، وقيل : إن (أحدهما) بدل من الألف ، أو فاعل (يبلغان) على أن الألف علامة ، وليسا بشيء (٢) ، فتأمل ذلك.

فإن أضيفا إلى الظاهر كانا بالألف على كل حال ، وكان إعرابهما حينئذ بحركات مقدّرة في تلك الألف ، قال الله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) [الكهف ، ٣٣] أي : كل واحدة من الجنتين أعطت ثمرتها ولم تنقص منه شيئا ، ف (كلتا) مبتدأ ، و (آتَتْ أُكُلَها) فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، وفاعله مستتر ، ومفعول ومضاف إليه ، والجملة خبر ، وعلامة الرفع في (كلتا) ضمة مقدرة على الألف ؛ فإنه مضاف للظاهر.

ثم قلت : الخامس جمع المذكّر السّالم ، كالزّيدون والمسلمون ؛ فإنه يرفع بالواو ، ويجرّ وينصب بالياء المكسور ما قبلها المفتوح ما بعدها.

وأقول : الباب الخامس مما خرج عن الأصل : جمع المذكر السالم ، واحترزت بالمذكر عن المؤنث كهندات وزينبات ، وبالسالم عن المكسّر كغلمان وزيود (٣).

وحكم هذا الجمع أنه يرفع بالواو نيابة عن الضمة ، ويجر وينصب بالياء المكسور

__________________

(١) أما أن جعل «أحدهما» بدلا ليس بشيء ؛ فلأنه يضعف المعنى ، وبيان ذلك أن البدل ـ كما هو معروف ـ هو الذي يكون مقصودا بالحكم ، فلو جعلناه بدلا لأفاد أن المقصود هو بلوغ أحدهما الكبر ، مع أن المقصود التوكيد والتعميم ، وهذا المعنى إنما يدل عليه جعل «أحدهما» فاعلا بفعل محذوف يدل عليه الفعل المذكور.

(٢) وأما أن جعله فاعلا ، مع وجود الألف وجعل الألف حرفا دالا على التثنية ليس بشيء أيضا ؛ فمن جهتين ؛ الأولى : أن لغة الجمهور من العرب لا تبيح ذلك ، لأنها تجرد الفعل من علامتي التثنية والجمع ، والجهة الثانية : أن لغة «أكلوني البراغيث» الضعيفة إنما تجيز لحاق علامة التثنية والجمع للفعل إذا كان فاعله مثنى أو مفردين عطف ثانيهما على الأول بالواو ، على خلاف في الأخير ، وما هنا ليس واحدا من هذين.

(٣) يسمى هذا النوع بعدة أسماء ، أولها «جمع المذكر السالم» والثاني «جمع السلامة لمذكر» والثالث «الجمع على حد المثنى» والمراد بحد المثنى طريقته ، وطريقته هي أنه يعرب بحرف من حروف العلة ـ وهذا الحرف في المثنى هو الألف في حالة الرفع ، والياء في حالة النصب والجر ـ وأنه يلحق به بعد حرف الإعراب نون ، وأن هذه النون تحذف عند الإضافة ، وإنما قيل «جمع المذكر» لأن المؤنث لا يجمع هذا الجمع ، سواء أكان مؤنثا في اللفظ

٨٢

ما قبلها المفتوح ما بعدها نيابة عن الكسرة والفتحة ، تقول : جاء الزّيدون والمسلمون ، ومررت بالزّيدين والمسلمين ، ورأيت الزّيدين والمسلمين ، وإنما مثلت بالمثالين ليعلم أن هذا الجمع يكون في أعلام العقلاء وصفاتهم.

فإن قلت : فما تصنع في (الْمُقِيمِينَ) من قوله تعالى في سورة النساء : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء ، ١٦٢] فإنه جاء بالياء ، وقد كان مقتضى قياس ما ذكرت أن يكون بالواو ؛ لأنه معطوف على المرفوع ، والمعطوف على المرفوع مرفوع ، وجمع المذكر السالم يرفع بالواو كما ذكرت؟ وما تصنع ب (الصَّابِئُونَ) من قوله تعالى في

__________________

والمعنى مثل فاطمة ورقية ، أم كان مؤنثا في اللفظ فقط مثل طلحة وحمزة ، وفي هذا خلاف بين الكوفيين والبصريين ، فالكوفيون ينظرون إلى معناه فيجيزون جمعه جمع المذكر السالم بعد حذف تائه ، والبصريون ينظرون إلى لفظه فيمنعون جمعه هذا الجمع ، أم كان مؤنثا في المعنى فقط نحو زينب ، وقيل له «السالم» لأن لفظ المفرد المجموع هذا الجمع ، لم يتغير بنوع من التغيير الذي يحدث في جمع التكسير نحو زيد وزيود وكتاب وكتب.

ثم إن الجمع أربعة أنواع ، الأول جمع التكسير للمذكر مثل رجال ومساجد ، والثاني : جمع التكسير للمؤنث مثل زيانب ، وصوامع ، وهذان يعربان بالحركات الظاهرة أو المقدرة مثل جرحى وعذارى ، والثالث :

جمع المؤنث السالم ، وقد مضى الكلام فيه ، والرابع جمع المذكر السالم ، وهذا هو موضوع الكلام في هذا المكان.

إذا علمت هذا فاعلم أنه لا يجمع هذا الجمع إلا ما كان علما أو صفة ، وأنه يشترط فيما يجمع هذا الجمع شروط عامة يشترك فيها العلم والصفة جميعا ، كما يشترط فيه شروط تختص بالعلم وشروط تختص بالصفة.

فأما الشروط العامة التي يشترك فيها النوعان فثلاثة ، الأول : أن يكون لمذكر نحو زيد وكاتب ، والثاني : أن يكون لعاقل فلا يجمع هذا الجمع ما كان لغير عاقل نحو واشق وصاهل ، والثالث : أن يكون خاليا من تاء التأنيث.

وأما الشروط التي تختص بالعلم فاثنان :

الأول : ألا يكون مركبا تركيبا إسناديّا نحو «برق نحره» و «شاب قرناها» ولا مركبا تركيبا مزجيّا نحو سيبويه ومعديكرب ، فإن أردت جمع هذين النوعين فأت بلفظ صاحب أو بلفظ ذي الذي بمعنى صاحب فاجمعه كجمع المذكر السالم وأضفه إلى ما تريد ، فتقول «جاءني صاحبو تأبط شرّا ، أو ذوو تأبط شرّا ، وجاءني صاحبو معديكرب».

الشرط الثاني : ألا يكون معربا بحرفين ، نعنى ألا يكون مثنى ولا مجموعا جمع السلامة لمذكر أو لمؤنث.

وأما الشروط التي تختص بالصفة فاثنان ، الأول : ألا تكون على وزن أفعل الذي مؤنثه فعلاء مثل أحمر وحمراء ، وأسود وسوداء ، والثاني : ألا يكون على وزن فعلان الذي مؤنثه فعلى نحو سكران وسكرى ، وعطشان وعطشى ، فإن كان مؤنثه على فعلانة جمع هذا الجمع.

٨٣

السورة التي تليها : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة ، ٦٩] فإنه جاء بالواو ، وقد كان مقتضى قياس ما ذكرت أن يكون (وَالصَّابِئِينَ) بالياء ؛ لأنه معطوف على المنصوب ، والمعطوف على المنصوب منصوب ، وجمع المذكر السالم ينصب بالياء كما ذكرت؟

قلت : أما الآية الأولى ففيها أوجه ، أرجحها وجهان :

أحدهما : أن (الْمُقِيمِينَ) نصب على المدح ، وتقديره : وأمدح المقيمين ، وهو قول سيبويه والمحققين ، وإنما قطعت هذه الصفة عن بقية الصفات لبيان فضل الصلاة على غيرها.

وثانيهما : أنه مخفوض ؛ لأنه معطوف على «ما» في قوله تعالى : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي : يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة ، وهم الأنبياء ، وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثّقفي ، ولا إشكال فيها.

وأما الآية الثانية ففيها أيضا أوجه ، أرجحها وجهان :

أحدهما : أن يكون (الَّذِينَ هادُوا) مرتفعا بالابتداء ، و (الصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) عطفا عليه ، والخبر محذوف ، والجملة في نية التأخير عما في حيّز «إنّ» من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا بألسنتهم من آمن منهم ـ أي بقلبه ـ بالله إلى آخر الآية.

ثم قيل : والذين هادوا والصابئون والنصارى كذلك.

والثاني : أن يكون الأمر على ما ذكرناه من ارتفاع (الَّذِينَ هادُوا) بالابتداء ، وكون ما بعده عطفا عليه ، ولكن يكون الخبر المذكور له ، ويكون خبر «إنّ» محذوفا مدلولا عليه بخبر المبتدأ ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا من آمن منهم ، ثم قيل : والذين هادوا ... إلخ.

والوجه الأول أجود ؛ لأن الحذف من الثاني لدلالة الأول أولى من العكس ، وقرأ أبيّ بن كعب : (والصابئين) بالياء ، وهي مرويّة عن ابن كثير ، ولا إشكال فيها.

٨٤

ثم قلت : وألحق به : أولو ، وعالمون ، وأرضون ، وسنون ، وعشرون ، وبابهما ، وأهلون ، وعلّيّون ، ونحوه.

وأقول : ألحق بجمع المذكر السالم ألفاظ : منها أولو ، وليس بجمع (١) ، وإنما هو اسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما له واحد من معناه وهو ذو ، ومن شواهده قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) [النور ، ٢٢].

(لا) ناهية ، (يأتل) فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، وعلامة جزمه حذف الياء ، وأصله يأتلي ، ومعناه يحلف ، وهو يفتعل من الأليّة (٢) ، وهي اليمين ، أو من قولهم : «ما ألوت جهدا» أي ما قصّرت ، وعلى الأول فأصل (أَنْ يُؤْتُوا) على أن لا يؤتوا فحذفت على ولا ، كما قال الله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء ، ١٨٦] أي : لأن لا تضلوا ، وعلى الثاني فأصله في أن يؤتوا ، فحذفت «في» خاصة ، وقرئ (ولا يتألّ) وأصله يتالّى ، وهو يتفعّل (٣) من الأليّة ، و (أولو) فاعل يأتل ، وعلامة رفعه الواو ، و (أولي) مفعول بيؤتوا ، وعلامة نصبه الياء.

وقال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) [الزمر ، ٢١] فهذا مثال المجرور وذانك مثالا المرفوع والمنصوب.

ومنها «عالمون» و «عشرون» وبابه إلى التسعين ، فإنها أسماء جموع أيضا لا واحد لها من لفظها.

__________________

(١) بين الجمع واسم الجمع اتفاق واختلاف ، فيتفقان في كون كل منهما يدل على ثلاثة فصاعدا ، ويختلفان في أن الجمع لا بد أن يكون له مفرد من لفظه كرجل ورجال ومحمد ومحمدين ، ولا بد أن يكون معنى المفرد هو بعينه معنى الواحد من أفراد الجمع ، ولهذا كان العالمون اسم جمع ولم يكن جمعا لأن العالم المفرد اسم لكل ما سوى الله ، والعالمين خاص بالعقلاء.

(٢) من استعمال الألية بمعنى اليمين قول الشاعر ، وينسب لمجنون ليلى :

عليّ أليّة إن كنت أدري

أينقص حبّ ليلى أم يزيد

(٣) ومن استعمال تألى بمعنى حلف قول زيد الفوارس :

تألّى ابن أوس حلفة ليردّني

إلى نسوة كأنهنّ مفايد

٨٥

ومنها «أرضون» وهو بفتح الراء ، وهو جمع تكسير لمؤنث لا يعقل ؛ لأن مفرده أرض ساكن الراء ، والأرض مؤنثة ؛ بدليل (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة ، ٢] وهي مما لا يعقل قطعا ، وإنما حقّ هذا الإعراب ـ أي : الذي يجمع بالواو والنون ـ أن يكون في جمع تصحيح لمذكر عاقل ، تقول : هذه أرضون ، ورأيت أرضين ، ومررت بأرضين ، وفي الحديث : «من غصب قيد شبر من أرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة» وربما سكنت الراء في الضرورة ، كقوله :

١٦ ـ لقد ضجّت الأرضون إذ قام من بني

هداد خطيب فوق أعواد منبر

ومنها «سنون» وهو كأرضون ؛ لأنه جمع سنة ، وسنة مفتوح الأول ، وسنون مكسور الأول ، وسنة مؤنث غير عاقل ، وأصله سنو أو سنه ؛ بدليل قولهم في جمعه بالألف والتاء : سنوات ، وسنهات ، وقولهم في اشتقاق الفعل منه : سانهت وسانيت وأصل سانيت سانوت ، فقلبوا الواو ياء حين تجاوزت متطرفة ثلاثة أحرف.

______________________________________________________

١٦ ـ هذا بيت من الطويل ، وقائله كعب بن معدان الأشقري ، وممن استشهد به من النحاة السيوطي في همع الهوامع ، وابن جني في كتابه المحتسب ١ / ٢١٨.

اللّغة والرّواية : «هداد» بوزن سحاب ـ حى من اليمن ، ويروي كثير من الناس «إذ قام من بني سدوس» ولكن رواية الأثبات مثل رواية المؤلف.

المعنى : يهجو قوما بأنهم ليسوا أهلا للتقدم ولا للرياسة ، وأنهم لا يحسنون الكلام ، وذكر أن الأرض اضطربت وضج أهلها حين قام من هؤلاء خطيب يخطب الناس.

الإعراب : «لقد» اللام موطئة للقسم ، قد : حرف تحقيق ، «ضجت» ضج : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، «الأرضون» فاعل ضج مرفوع بالواو نيابة عن الضمة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ، والنون عوض عن التنوين في مفرده ، «إذ» كلمة دالة على التعليل قيل : إنها ظرف ، وقيل : إنها حرف ، «قام» فعل ماض ، «من بني» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من خطيب ، لأن أصل هذا الجار والمجرور نعت له ، فلما تقدم عليه صار حالا ؛ لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا لئلا يلزم تقدم التابع على المتبوع ، وبني مضاف ، و «هداد» مضاف إليه ، «خطيب» فاعل قام «فوق» ظرف مكان متعلق بقام ، وفوق مضاف ، و «أعواد» مضاف إليه ، وأعواد مضاف و «منبر» مضاف إليه.

٨٦

ومن شواهد سنين قوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) [الكهف ، ٢٥] تقرأ (مائة) على وجهين : منونة ، وغير منونة ؛ فمن نوّنها ف «سنين» بدل من ثلاث ؛ فهي منصوبة ، والياء علامة النصب ، قيل : أو مجرورة بدل من مائة ، والياء علامة الجر ، وفيه نظر ؛ لأن البدل يعتبر لصحته إحلاله محلّ الأول مع بقاء المعنى ، ولو قيل ثلاث سنين لاختلّ المعنى كما ترى ، ومن لم ينونها فسنين مضاف إليه ، فهي مخفوضة ، والياء علامة الخفض.

ولم تقع في القرآن مرفوعة ، ومثالها قول القائل :

١٧ ـ ثمّ انقضت تلك السّنون وأهلها

فكأنّها وكأنّهم أحلام

______________________________________________________

الشّاهد فيه : قوله «الأرضون» فإنه جمع أرضا جمع مذكر سالما شذوذا ؛ فإن جمع المذكر السالم إنما يكون للعقلاء المذكرين ، وأرض ليس من العقلاء ، فوق أنه من المؤنثات.

والمعروف أنهم إذا جمعوا أرضا هذا الجمع يحركون راءه إيذانا بهذه الحركة التي تخالف ما في المفرد بأنهم خالفوا قواعدهم في هذا اللفظ ، فجمعوا على هذا الجمع ما لم يكونوا ليجمعوه عليه ، ولكن هذا الشاعر قد جاء به ساكن الراء ، فتكون في هذه الكلمة مخالفة للقياس بما ذكرناه أولا ، ومخالفة للاستعمال بسبب تسكين الراء ، فافهم ذلك.

١٧ ـ هذا بيت من الكامل من قصيدة لأبي تمام : حبيب بن أوس الطائي ، المتوفى في سنة ٣٢١ من الهجرة ، وهو من الشعراء الذين لا يحتج بشعرهم على مفردات اللغة ولا على قواعد النحو والصرف ، لأنه كان في الزمن الذي اضطربت فيه ألسنة العرب ، والمؤلف جاء بكلامه مثالا ولم يأت به شاهدا ، وقبل البيت الذي أنشده المؤلف قوله :

أعوام وصل كان ينسي طولها

ذكر النّوى ، فكأنّها أيّام

ثمّ انبرت أيّام هجر أردفت

نحوي أسى ، فكأنّها أعوام

اللّغة : «أحلام» جمع حلم ـ بضم الحاء المهملة واللام مضمومة أو ساكنة ـ وهو ما يراه النائم في نومه ، ووزانه قفل وأقفال ، أو عنق وأعناق.

المعنى : يصف أيام سروره بلقاء أحبائه بأنها قصيرة ، ويشبهها بعد أن مضت بحلم يراه النائم في نومه ، فكأنه خيال لا حقيقة له.

٨٧

وأشرت بقولي و «بابه» إلى أن كل ما كان كسنين (١) ـ في كونه جمعا ، لثلاثي ، حذفت لامه ، وعوّض عنها هاء التأنيث ـ فإنه يعرب هذا الإعراب ، وذلك كقلة وقلين ،

______________________________________________________

الإعراب : «ثم» حرف عطف ، «انقضت» انقضى : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، «تلك» تي : اسم إشارة فاعل انقضت ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، «السنون» بدل من اسم الإشارة ، وبدل المرفوع مرفوع ، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه ملحق بجمع المذكر ، «وأهلها» الواو عاطفة ، وأهل : معطوف على قوله السنون ، وأهل مضاف وضمير الغائبة مضاف إليه ، «فكأنها» الفاء عاطفة ، كأن : حرف تشبيه ونصب وضمير الغائبة اسم كأن ، «وكأنهم» الواو عاطفة ، كأن : حرف تشبيه ونصب أيضا ، وضمير الغائبين اسم كأن ، «أحلام» خبر كأن الأول ، وخبر الثاني محذوف يدل عليه خبر الأول ، وأصل الكلام : فكأنها أحلام وكأنهم أحلام ، وتقدير الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه أولى من العكس كما مر للمؤلف قريبا.

التمثيل به : في قوله «السنون» فإن هذه الكلمة وقعت في موقع المرفوع ، لكونها بدلا من المرفوع على الفاعلية ، والبدل يتبع المبدل منه في إعرابه ، وقد جاء بها الشاعر بالواو ؛ لأن هذه الكلمة ترفع بالواو ، وتنصب وتخفض بالياء ، مثل جمع المذكر السالم.

__________________

(١) ذكر المؤلف في هذا النوع مما يلحق بجمع المذكر السالم ثلاثة قيود :

الأول : أن يكون مفرده ثلاثيّا ، فخرج ما كان مفرده رباعيّا كجعفر وشبهه.

والقيد الثاني : أن تكون اللام قد حذفت في المفرد ، فخرج به ما لم يحذف منه شيء أصلا نحو تمرة وكلمة ، وما حذفت فاؤه دون لامه نحو عدة وصفة وضعة ، وشذ أضون في جمع أضاة ـ وهي بوزن قناة :

الغدير ـ كما شذ حرون في جمع حرة ـ وهي الأرض ذات الحجارة ـ وكما شذ رقون في جمع رقة ـ وهي بزنة عدة : الفضة ـ وكما شذ لدون في جمع لدة ـ وهي بوزن عدة أيضا : الذي يساويك في سنك ـ وكما شذ حشون في جمع حشة ـ وهو بزنة صفة أيضا : الأرض الموحشة ـ فإن أضاة وحرة لم يحذف منهما شيء ، ورقة ولدة وحشة حذفت فاءاتها لا لاماتها ، فإن أصل الرقة الورق واللدة الولد والحشة الوحش.

والقيد الثالث : أن يعوض من اللام المحذوفة في المفرد تاء التأنيث ، فخرج به ما لم يعوض أصلا كيد ودم وأب وأخ ، وما عوض بغير تاء التأنيث نحو اسم ، وشذ بنون وأبون وأخون في جمع ابن وأب وأخ ، فإن لاماتها قد حذفت ، ولكن لم يعوض في الأب والأخ شيء ، وعوض في الابن همزة الوصل في أوله ، وأصلها بنو وأبو وأخو.

وبقي قيد رابع لم يذكره المؤلف ، وهو ألا يكون المفرد قد جمع جمع تكسير ، فخرج به ما جمع مفرده جمع تكسير نحو شاة وشفة فإنهما جمعا على شياه وشفاه ، وشذ من ذلك ظبون في جمع ظبة ـ وهي حد السيف ـ فإنها جمعت جمع تكسير على ظبي مثل مدى ، وعلى أظب مثل أيد وأدل.

٨٨

وعزة ، وعزين ، وعضة وعضين ، قال الله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) [المعارج ، ٢٧] أي : فرقا شتّى ؛ لأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الفرقة الأخرى ، وانتصابها على أنها صفة لمهطعين بمعنى مسرعين ، وانتصاب مهطعين على الحال ، وقال الله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) [الحجر ، ٩١] فعضين : مفعول ثان لجعل منصوب بالياء وهي جمع عضة ، واختلف فيها ؛ فقيل : أصلها عضو ، من قولهم : «عضّيت [الشيء] تعضية» إذا فرّقته ، قال رؤبة :

١٨ ـ * وليس دين الله بالمعضّى*

يعني بالمفرّق : أي جعلوا القرآن أعضاء ؛ فقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : كهانة ، وقال بعضهم : أساطير الأولين ، وقيل : أصلها عضهة من العضه ، وهو الكذب والبهتان ، وفي الحديث «لا يعضه بعضكم بعضا» (١).

______________________________________________________

١٨ ـ هذا الشاهد بيت من مشطور الرجز ، وهو من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج أولها :

داينت أروى والدّيون تقضى

فمطلت بعضا وأدّت بعضا

وقد أنشده الأشموني لمثل ما هنا (رقم ٢٤).

اللّغة : «أروى» اسم امرأة «مطلت» ، تقول : مطل فلان فلانا بدينه الذي عليه إذا كان يسوف في قضائه ولا يؤديه ، «المعضى» اسم مفعول من عضاه ـ بتشديد الضاد ـ إذا جزأه وفرقه.

__________________

(١) إذا سميت بما أصله جمع مذكر سالم أو ما أصله ملحق بجمع المذكر السالم ، فالأول كما تجده كثيرا في أسماء الأندلسيين والمغاربة كابن زيدون وابن حمدون وابن عمرون ، والثاني نحو ابن سبعين ، فالنحاة يذكرون أن لك في هذا العلم خمس لغات :

اللغة الأولى : أن تعامله بعد العلمية كما كنت تعامله في حال الجمع ، فترفعه بالواو نيابة عن الضمة وتنصبه وتجره بالياء نيابة عن الفتحة أو الكسرة ، وتتعين هذه اللغة فيما زادت حروفه بعد الجمع عن سبعة أحرف كما لو سميت رجلا بإشهيبابين.

اللغة الثانية : أن تلزمه الياء ، وتعربه بحركات ظاهرة على النون مع التنوين ، وهذه اللغة تجعله كمفرد في آخره ياء ونون مثل غسلين وسجين.

اللغة الثالثة : أن تلزمه الواو وتعربه بحركات ظاهرة على النون مع التنوين ، وهذه اللغة تجعله كاسم مفرد في آخره واو ونون مثل زيتون وعربون وجيحون وسيحون.

٨٩

ثم قلت : السّادس يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلون وتفعلين ؛ فإنها ترفع بثبوت النّون ، وتنصب وتجزم بحذفها ، وأمّا نحو (تُحاجُّونِّي) فالمحذوف نون الوقاية ، وأمّا (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) فالواو أصل ، والفعل مبنيّ ، بخلاف (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)

وأقول : الباب السادس مما خرج عن الأصل : الأمثلة الخمسة ، وهي : كل فعل

______________________________________________________

الإعراب : «ليس» فعل ماض ناقص ، «دين» اسم ليس ، وهو مضاف و «الله» مضاف إليه ، «بالمعضى» الباء حرف جر زائد ، المعضى : خبر ليس.

الشّاهد فيه : قوله «المعضى» فإن هذه الكلمة اسم مفعول من معتل اللام المضعف الوسط ، مثل زكى ووفى وأدى ، واسم المفعول منها مزكى وموفى ومؤدى ـ بضم الميم في الثلاثة وفتح ما بعدها وتشديد الحرف الثالث ـ ومعنى المعضى المجزأ المفرق ، تقول : عضيت الذبيحة ، إذا قطعتها أجزاء عدة ، وفصلت كل جزء منها عن أخواته ، والأصل في ذلك كله العضو الذي هو واحد الأعضاء ، والمؤلف يريد أن يقول : «عضة» بكسر العين وفتح الضاد التي هي مفرد «عضين» في نحو قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) مأخوذة من التعضية ؛ لأن المعنى فيهما واحد ؛ ألا ترى أن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما فسر هذه الآية بقوله : «أي جزؤوا القرآن أجزاء» وعلى هذا يكون أصلها عضو ، فحذفوا الواو ، ثم عوضوا منها الهاء ، وهذا أحد مذهبين للعلماء في هذه الكلمة ، والمذهب الثاني أشار إليه المؤلف ، وحاصله أن عضة مأخوذة من العضه وهو السحر ، والكهانة أو البهتان والإفك بدليل جمع عضة على عضاه مثل شفاه ، وبدليل تصغيرها على عضيهة ، ومن المعلوم أن الجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها ، وقد أشبعنا القول في بيان المذاهب في هذه الكلمة وبيان أدلتها في كتابتنا على الأشموني ، وهذه اللمحة دالة فلا داعى للإطالة بسردها.

__________________

اللغة الرابعة : أن تلزمه الواو ثم تعربه إعراب الاسم الذي لا ينصرف بضم النون في حال الرفع وفتحها في حالتي النصب والجر من غير تنوين ، وعللوا منع صرفه بوجود العلمية وشبه العجمة.

اللغة الخامسة : أن تلزمه الواو ، وتلتزم فتح النون في الأحوال الثلاثة الرفع والجر والنصب ، ويكون الإعراب حينئذ بحركات مقدرة على الواو ، والنون عوض عن التنوين وعلى هذا يصح أن يكون ما التزموا فيه الواو كابن زيدون وابن عمرون وابن حمدون جاريا على إحدى اللغات الثالثة والرابعة والخامسة ، وما التزموا فيه الياء كابن سبعين جاريا على اللغة الثانية.

ومما نحب أن ننبهك إليه أن هذه اللغات الخمس مترتبة في القوة على الترتيب الذي حكيناه ، فالأولى أعلاها ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، وهلم جرّا.

٩٠

مضارع اتصل به ألف اثنين ، أو واو جماعة ، أو ياء مخاطبة.

وحكمها أن ترفع بثبوت النون نيابة عن الضمة ، وتنصب وتجزم بحذفها نيابة عن الفتحة والسكون ، مثال الرفع قوله تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) [الرحمن ، ٥] (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة ، ٢٢] (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) [البقرة ، ٨٤] (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الأعراف ، ٩٥] فالمضارع في ذلك كله مرفوع ؛ لخلوه عن الناصب والجازم ، وعلامة رفعه ثبوت النون ، ومثال الجزم والنصب قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة ، ٢٤] ف (لَمْ تَفْعَلُوا) جازم ومجزوم ، و (لَنْ تَفْعَلُوا) ناصب ومنصوب ، وعلامة الجزم والنصب فيهما حذف النون.

فإن قلت : فما تصنع في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) [البقرة ، ٢٣٧] فإن «أن» ناصبة ، والنون ثابتة معه؟

قلت : ليست الواو هنا واو الجماعة ، وإنما هي لام الكلمة التي في قولك «زيد يعفو» وليست النون هنا نون الرفع ، وإنما هي اسم مضمر عائد على المطلقات ، مثلها في (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة ، ٢٢٨] والفعل مبنيّ لاتصاله بنون النسوة ، ووزن يعفون على هذا يفعلن ، كما أنك إذا قلت «النسوة يخرجن» أو «يكتبن» كان ذلك وزنه ، وأما إذا قلت «الرّجال يعفون» فالواو واو الجماعة ، والنون علامة الرفع ، والأصل يعفوون ، بواوين أولاهما لام الكلمة والثانية واو الجماعة ، فاستثقلت الضمة على واو قبلها ضمة وبعدها واو ساكنة ـ وهي الواو الأولى ـ فحذفت الضمة فالتقى ساكنان ، وهما الواوان ، فحذفت الأولى ، وإنما خصّت بالحذف دون الثانية لثلاثة أمور :

أحدها : أن الأولى جزء [كلمة] والثانية كلمة ، وحذف جزء أسهل من حذف كلّ.

والثاني : أن الأولى آخر الفعل ، والحذف بالأواخر أولى.

والثالث : أن الأولى لا تدلّ على معنى والثانية دالة على معنى ، وحذف ما لا يدلّ أولى من حذف ما يدلّ.

٩١

ولهذه الأوجه حذفوا لام الكلمة في «غاز» و «قاض» دون التنوين ؛ لأنه جيء به لمعنى ، وهو كلمة مستقلة ، ولا يوصف بأنه آخر ؛ إذ الآخر الياء.

ويزيد وجها رابعا : وهو أنه صحيح والياء معتلة.

فلما حذفت الواو صار وزن يعفون يفعون ، بحذف اللام ، ولهذا إذا أدخلت عليه الناصب أو الجازم قلت : «الرّجال لم يعفوا» و «لن يعفوا» فاعرف الفرق.

ثم قلت : السّابع الفعل المعتلّ الآخر ، كيغزو ، ويخشى ، ويرمى ؛ فإنه يجزم بحذفه ، ونحو (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) [يوسف ، ٩٠] مؤوّل.

وأقول : هذا خاتمة الأبواب السبعة التي خرجت عن القياس ، وهو الفعل [المضارع] الذي آخره حرف علّة ، وهو الواو والألف والياء ؛ فإنه يجزم بحذف الحرف الأخير نيابة عن حذف الحركة ، تقول : «لم يغز» و «لم يخش» و «لم يرم» قال الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) [العلق ، ١٧].

اللام لام الأمر ، و (يدع) فعل مضارع مجزوم ، وعلامة جزمه حذف الواو ، و (ناديه) مفعول ومضاف إليه ، وظهرت الفتحة على المنقوص لخفتها ، والتقدير فليدع أهل ناديه : أي أهل مجلسه.

وقال الله تعالى : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) [التوبة ، ١٨] (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) [البقرة ، ٢٤٧] ، فهذان مثالان لحذف الألف.

وقال الله تعالى : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) [عبس ، ٢٣] :

(لما) حرف جزم لنفي المضارع وقلبه ماضيا ، كما أن «لم» كذلك ، والمعنى أن الإنسان لم يقض بعد ما أمره الله تعالى به حتى يخرج من جميع أوامره ، وهذا مثال حذف الياء ، والله أعلم.

وأما قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) [يوسف ، ٩٠] بإثبات الياء في (يتقي) وإسكان الراء في (يصبر) على قراءة قنبل ـ فمؤول ، هذا جواب سؤال تقديره أن الجازم وهو (من) دخل على (يتّقي) ولم يحذف منه حرف العلة ، وهو الياء ؛

٩٢

فالجواب عنه أن (من) موصولة لا أنها شرطية (١) ، وسكون الراء من (يصبر) : إما لتوالي حركات الباء والراء والفاء والهمزة تخفيفا ، أو لأنه وصل بنية الوقف ، أو على العطف على المعنى ، لأن «من» الموصولة بمنزلة الشرطية لعمومها وإبهامها.

ثم قلت : فصل ـ تقدّر الحركات كلّها في نحو «غلامي» ونحو «الفتى» ويسمّى مقصورا ، والضمة والكسرة في نحو «القاضي» ويسمّى منقوصا ، والضمّة والفتحة في نحو «يخشى» والضمّة في نحو «يدعو» و «يرمى».

وأقول : الذي تقدر فيه الحركات (٢) ثلاثة أنواع : ما تقدر فيه الحركات الثلاث ، وما تقدر فيه حركتان ، وما تقدر فيه واحدة

__________________

(١) حاصل الكلام في هذه الآية الكريمة أن من النحاة من ذكر أن «من» في قوله سبحانه (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) شرطية تجزم فعلين الأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه ، فقيل لهم : إذا كانت من شرطية فلماذا لم تجزم (يتقي) مع أنه فعل الشرط ، ولو أنها جزمته لحذفت الياء لأن الفعل المضارع المعتل الآخر يجزم بحذف حرف العلة؟ وأجاب المحققون من النحاة القائلون بأن (من) شرطية بجوابين ، أولهما : أن (يتقي) مجزوم ، وعلامة جزمه السكون ، كالفعل الصحيح الآخر تماما ، وقد اختار ابن مالك هذا الجواب وحكى أن من العرب من يثبت أحرف العلة الثلاثة الألف والواو والياء في الفعل المضارع المعتل المجزوم وعلى لغتهم يكون الجزم بالسكون معاملة للمعتل بمعاملة الصحيح ، والجواب الثاني : أن (يتقي) مجزوم بحذف الياء كما هي لغة جمهور العرب ، وهذه الياء ليست لام الكلمة التي حذفها الجازم ، بل هي ياء ناشئة عن إشباع كسرة القاف.

ومن العلماء من زعم أن (من) ليست شرطية جازمة ، بل هي اسم موصول ، وعليه يكون (يتقي) مرفوعا بضمة مقدرة على الياء ، فاعترض على هؤلاء بأن (يصبر) معطوف عليه وهو مجزوم ، فكيف يعطف المجزوم على المرفوع؟ وقد أجاب هؤلاء بثلاثة أجوبة ، الأول : أن سكون الراء في (يصبر) ليس للجزم ، بل هو لتوالي أربع متحركات والعرب تستثقل تواليها فهو مرفوع لأنه معطوف على مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها استثقال توالي أربع متحركات ، والجواب الثاني : أن القارئ وقف على (يصبر) بالسكون ، ثم وصل بنية الوقف ، والجواب الثالث : أنه عطف على المعنى ، أي أنه عامل (من) الموصولة معاملة الشرطية لشبهها بها في العموم والإبهام.

(٢) لم يذكر المؤلف أن السكون قد يقدر أيضا ، وعذره أن الأسباب التي تقتضي تقدير السكون طارئة عارضة ، وليست من جوهر اللفظ ، وأشهر هذه الأسباب اثنان : أولهما التقاء الساكنين نحو قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بكسر نون (يكن) للتخلص من التقاء الساكنين ، والثاني الرويّ ، نحو قول الممزق :

فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي

وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق

بكسر قاف (أمزق) لأن الشاعر قد بنى القصيدة على كسر الحرف الأخير.

٩٣

فأما الذي تقدر فيه الثلاث فنوعان :

أحدهما : ما أضيف إلى ياء المتكلم وليس مثنى ، ولا جمع مذكر سالما ، ولا منقوصا ، ولا مقصورا ، وذلك نحو : «غلامي» و «غلماني» و «مسلماتي» (١) فهذه الأمثلة ونحوها تعرب بحركات مقدرة على ما قبل الياء ، والذي منع من ظهورها أنهم التزموا أن يأتوا قبل الياء بحركة تجانسها ، وهي الكسرة ، فاستحال حينئذ المجيء بحركات الإعراب قبل الياء ؛ إذ المحل الواحد لا يقبل حركتين في الآن الواحد ، فتقول «جاء غلامي» فتكون علامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل الياء ، و «رأيت غلامي» فتكون علامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل الياء ، و «مررت بغلامي» فتكون علامة جره كسرة مقدرة على ما قبل الياء ، لا هذه الكسرة الموجودة كما زعم ابن مالك ؛ فإنها كسرة المناسبة ، وهي مستحقّة قبل التركيب ، وإنما دخل عامل الجر بعد استقرارها.

واحترزت بقولي «وليس مثنى ولا جمع مذكر سالما» من نحو : «غلاماي» [وغلاميّ] و «مسلميّ» ، فإن الياء تثبت فيهما جرّا ونصبا مدغمة في ياء المتكلم ؛ والألف تثبت في المثنى رفعا ، وليس شيء من [الحرف] المدغم ولا من الألف قابلا للتحريك.

وقولي «ولا منقوصا» لأن ياء المنقوص تدغم في ياء المتكلم ؛ فتكون كالمثنى والمجموع جرّا ونصبا.

وقولي «ولا مقصورا» لأن المقصور تثبت ألفه قبل الياء ، والألف لا تقبل الحركة ؛ فهو كالمثنى رفعا ، قال الله تعالى : (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) [يوسف ، ١٩]

__________________

(١) القول بأن المضاف إلى ياء المتكلم معرف بحركات مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ـ هو أرجح مذاهب النحاة في هذا النوع ، وللنحاة فيه ثلاثة مذاهب ؛ أولها : هذا الذي ذكره المؤلف ، وهو كما قلنا أرجحها ، وأقربها دليلا ، وثانيها : أنه مبني ؛ لأن آخره لا يتغير بتغير العوامل ، وثالثها : أنه واسطة بين المبني والمعرب ، فليس هو بمبني ولا بمعرب ، وأصحاب هذا المذهب يقسمون الاسم إلى ثلاثة أقسام : معرب ، ومبني ، ولا معرب ولا مبني ، وأصحاب القولين السابقين يجعلون الاسم نوعين فقط : المعرب ، والمبني.

٩٤

نوديت البشرى مضافة (١) إلى ياء المتكلم ، وفي الألف فتحة مقدرة لأنه منادى مضاف ، وقرأ الكوفيون (٢) (يا بشرى) بغير إضافة ؛ فالمقدر في الألف إما ضمة كما في قولك : «يا فتى» لمعيّن ، وإما فتحة على أنه نداء شائع مثل : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس ، ٣٠] إلا أنه لم ينون ؛ لكونه لا ينصرف لأجل ألف التأنيث.

والنوع الثاني : المقصور ، وهو : الاسم المعرب الذي في آخره ألف لازمة ك «الفتى» و «العصا» تقول : «جاء الفتى» و «رأيت الفتى» و «مررت بالفتى» ؛ فتكون الألف ساكنة على كل حال ؛ وتقدّر فيها الحركات الثلاث لتعذر تحركها.

ومن محاسن بعض الفضلاء أنه كتب في مدينة قوص إلى الشيخ العلامة بهاء الدين

__________________

(١) ذكر المؤلف ستة مواضع تقدر في كل موضع منها الحركات ـ وهي : المضاف لياء المتكلم ، والمقصور ، والمنقوص ، والفعل المعتل بالواو كيدعو ، والمعتل بالياء كيرمي ، والمعتل بالألف كيسعى ـ وبقي مما تقدر فيه الحركة خمسة مواضع لم يذكرها ، ونحن نبين لك هذه المواضع الخمسة ، فنقول :

الموضع الأول : الاسم المحكي ، كأن يقول لك قائل «رأيت زيدا» فتقول له «من زيدا» بالنصب مع أنه خبر ، وكأن يقال لك «مررت بزيد» فتقول «من زيد» بالجر مع أنه خبر أيضا ، وإعرابه أن تقول في المثال الأول : زيدا خبر المبتدأ الذي هو (من) مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها حركة الحكاية ، وهكذا تقول في الباقي.

الموضع الثاني : الموقوف عليه ، كأن تقول «جاء محمد» بالسكون حين تقف عليه «ورأيت الأبطال» بالسكون كذلك ، و «مررت بمحمد» بالسكون أيضا ، وتقول في إعرابه : مرفوع أو منصوب ، أو مجرور ، بضمة أو بفتحة أو بكسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف.

الموضع الثالث : الاسم الذي أتبع آخره لحركة ما بعده ، كقراءة من قرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بكسر الدال من الحمد إتباعا لكسرة اللام بعدها مع أن «الحمد» مبتدأ فحقه الرفع كما في قراءة الجماعة ، وتقول في إعرابه : الحمد مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع.

الموضع الرابع : الحرف المدغم في مثله نحو «يقول له صاحبه» بسكون لام يقول لإدغامها في لام «له» وتقول في إعرابه : يقول فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها السكون المأتي به للإدغام.

الموضع الخامس : ما سكن آخره لأجل التخفيف ، ويخرج عليه قراءة من قرأ (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) بسكون الهمزة في «بارئكم» وكقراءة أبي عمرو (وَما يُشْعِرُكُمْ) بسكون الراء في «يشعركم» وتقول في إعراب الكلمة الأولى : (بارئكم) مجرور بإلى وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بالسكون المأتي به لأجل التخفيف.

وعذر المؤلف في عدم ذكر هذه المواضع أن هذه الأسباب كلها عارضة طارئة ، وهو إنما عني بذكر الأسباب التي ترجع إلى جوهر اللفظ.

(٢) الكوفيون هم : حمزة وعاصم والكسائي.

٩٥

محمد بن النحاس الحلبي ـ رحمه‌الله ـ يتشوّق إليه ، ويشكو له نحوله ؛ فقال :

١٩ ـ سلّم على المولى البهاء ، وصف له

شوقي إليه ، وأنّني مملوكه

أبدا يحرّكني إليه تشوّقي

جسمي به مشطوره منهوكه

لكن نحلت لبعده فكأنّني

ألف وليس بممكن تحريكه

______________________________________________________

١٩ ـ هذه الأبيات من الكامل ، وهي لمحمد بن رضوان بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، المعروف بابن الرعاد ، وكتب بها إلى الشيخ بهاء الدين بن النحاس (انظر الترجمة رقم ٤٠٧ في فوات الوفيات ٢ / ٤٠٨ بتحقيقنا) ولم ينشد المؤلف هذه الأبيات للاستشهاد بها على قاعدة ، ولا للتمثيل بها لقاعدة ، وإنما أنشدها استطرافا لمعناها ؛ ولأن الشاعر قد ذكر في معرض الإشارة إلى حاله وتقرير ضعفه عن الحركة قوله عن الألف «وليس بممكن تحريكه» وفي البيت الأخير نوع من البديع يسمى التوجيه.

المعنى : يصف أنه قد براه الشوق إلى ابن النحاس وأضعفه ، حتى صار بحالة لا يتمكن معها من الحركة ؛ فهو يقول : إنني قد بلغت من الضعف وعدم القدرة على الحركة بسبب نحول جسمي وهزاله ، أن صرت أشبه الألف التي هي حرف من حروف الهجاء ، وكما أن الألف لا تقبل الحركة فأنا كذلك.

الإعراب : «سلم» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «على المولى» جار ومجرور متعلق بسلم ، «البهاء» بدل أو عطف بيان للمولى ، «وصف» الواو عاطفة ، صف : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «له» جار ومجرور متعلق بصف ، «شوقي» شوق : مفعول به لصف ، و «شوق» مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «إليه» جار ومجرور متعلق بشوق ، «وأنني» الواو عاطفة ، أن حرف توكيد ونصب ، والنون للوقاية ، وياء المتكلم اسم أن ، «مملوكه» مملوك : خبر أن ، وهو مضاف والهاء ضمير الغائب مضاف إليه ، «أبدا» ظرف متعلق بقوله يحرك الآتي ، «يحركني» يحرك : فعل مضارع ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، «إليه» جار ومجرور متعلق بيحرك ، «تشوقي» تشوق : فاعل يحرك وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «جسمي» جسم : مبتدأ ، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «به» جار ومجرور متعلق بمشطور الآتي ، «مشطوره» مشطور : خبر المبتدأ ، وهو مضاف والهاء ضمير الغائب مضاف إليه ، «منهوكه» خبر ثان ومضاف إليه ، «لكن» حرف استدراك ، «نحلت» فعل وفاعل ، «لبعده» الجار والمجرور متعلق بنحل ، وبعد مضاف والهاء مضاف إليه ، «كأنني» كأن : حرف تشبيه ونصب ، والياء اسمه ، «ألف» خبر كأن ، «وليس» فعل ماض ناقص ، «بممكن» الباء حرف جر زائد ، ممكن : خبر ليس مقدم «تحريكه» تحريك : اسم ليس مؤخر ، وهو مضاف والهاء مضاف إليه.

٩٦

وأما الذي تقدّر فيه الحركتان فنوعان :

أحدهما : ما تقدّر فيه الضمة والكسرة فقط ، وتظهر فيه الفتحة (١) ، وهو المنقوص ، وهو الاسم المعرب الذي آخره ياء لازمة قبلها كسرة ، نحو : «القاضي» و «الدّاعي» تقول : «جاء القاضي» و «مررت بالقاضي» بالسكون ، و «رأيت القاضي» بالتحريك ، وإنما قدرت الضمة والكسرة للاستثقال ، وإنما ظهرت الفتحة للخفة ، قال الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) [العلق ، ١٧] (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [الأحقاف ، ٣١] (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) [مريم ، ٥] (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) [القيامة ، ٢٦] والتراقي : جمع ترقوة ـ بفتح التاء ـ وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق.

والنوع الثاني : ما تقدر فيه الضمة والفتحة ، وهو الفعل المعتل بالألف ، تقول : «هو يخشى» و «لن يخشى» فإذا جاء الجزم ظهر بحذف الآخر (٢) ؛ فقلت : «لم يخش» قال الله تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص ، ٧٧].

__________________

(١) وربما وقع في ضرورة الشعر عكس الأمرين جميعا ، فظهرت الضمة والكسرة على الياء أو الواو ، وقدرت الفتحة عليهما.

فمن ظهور الضمة على الياء قول أبي خراش الهذلي :

تراه وقد فات الرّماة كأنّه

أمام الرّماة مصغي الخدّ أصلم

ومن ظهور الكسرة على الياء قول ابن قيس الرقيات :

لا بارك الله في الغواني هل

يصبحن إلّا لهنّ مطّلب

وقول الآخر ، وهو مما أنشده سيبويه وذكر أنه لأعرابي من بني كلب :

فيوما يجارين الهوى غير ماضي

ويوما ترى منهنّ غولا تغوّل

ومن تقدير الفتحة على الياء قول رؤبة :

كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق

وقول الآخر :

ولو أنّ واش باليمامة داره

وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا

(٢) وربما بقيت الألف وقدر السكون عليها لضرورة الشعر ، ومن ذلك قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي وقد أسرته التيم في يوم الكلاب الثاني :

وتضحك منّي شيخة عبشميّة

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا

٩٧

وأما الذي تقدّر فيه حركة واحدة فهو شيئان : الفعل المعتلّ بالواو ك «يدعو» والفعل المعتل بالياء ك «يرمي» فهذان تقدّر فيهما الضمة فقط للاستثقال ؛ تقول : «هو يدعو» و «هو يرمي» فتكون علامة رفعهما ضمة مقدرة ، ويظهر فيهما شيئان :

أحدهما : النصب بالفتحة ، وذلك لخفتها نحو «لن يدعو» و «لن يرمي» (١)

قال الله تعالى : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً)(٢)(لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) [هود ، ٣١]

__________________

ومنه ما رواه القالي عن ثعلب :

كأن لم ترى قبلي أسيرا مقيّدا

ولا رجلا يرمى به الرّجوان

ومنه ما ينشده كثير من النحاة :

إذا العجوز غضبت فطلّق

ولا ترضّاها ولا تملّق

(١) وربما وقع لضرورة الشعر عكس الأمرين جميعا ، فجاء الفعل المضارع المعتل بالواو أو بالياء مرفوعا بالضمة الظاهرة عكس الأصل المتلئب الذي يقتضي عدم ظهور الضمة ويلتزم رفعه بضمة مقدرة على الياء أو الواو لاستثقال الضمة على كل منهما ، وجاء نصب الفعل المضارع المعتل بالواو أو بالياء بفتحة مقدرة على كل منهما عكس الأصل المطرد الذي يقتضي نصبه بفتحة ظاهرة على كل من الواو والياء لأن الفتحة لا تستثقل على واحد منهما.

فما جاء مرفوعا بضمة ظاهرة على الواو قول الشاعر :

إذا قلت علّ القلب يسلو قيّضت

هواجس لا تنفكّ تغريه بالوجد

الشاهد في قوله «يسلو» حيث رفعه بضمة ظاهرة على الواو لضرورة إقامة وزن البيت ، ومما جاء مرفوعا بضمة ظاهرة على الياء قول أعرابي نزل به ضيف فذبح له عنزا فلما أراد الضيف الارتحال منح هذا الأعرابي قدرا كبيرا من المال :

فقمت إلى عنز بقيّة أعنز

فأذبحها فعل امرئ غير نادم

فعوّضني منها غناي ولم تكن

تساوي عندي غير خمس دراهم

الشاهد في قوله «تساوي» حيث رفعه بالضمة الظاهرة لضرورة إقامة وزن البيت أيضا.

ومما ورد منصوبا بفتحة مقدرة على الواو قول عامر بن الطفيل :

فما سوّدتني عامر عن وراثة

أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب

الشاهد في قوله «أن أسمو» حيث نصبه بفتحة مقدرة على الواو للضرورة.

ومما ورد منصوبا بفتحة مقدرة على الياء قول حندج بن حندج :

ما أقدر الله أن يدني على شحط

من داره الحزن ممّن داره الفرح

الشاهد فيه قوله «أن يدني» حيث نصبه بفتحة مقدرة على الياء لأنه اضطر إلى ذلك لإقامة وزن البيت.

(٢) سورة الكهف ، ١٤ و (ندعو) هو محل الاستشهاد في الآية الكريمة.

٩٨

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ) [الفرقان ، ٤٩] (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة ، ٤٠] (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) [المجادلة ، ١٧].

الثاني : الجزم بحذف الآخر ، نحو «لم يدع» و «لم يرم» قال الله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء ، ٣٦] (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) [القصص ، ٧٧] (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [الإسراء ، ٣٧ ولقمان ، ١٨] وانتصاب (مرحا) على الحال ، أي : ذا مرح (١) ، وقرئ : (مرحا) بكسر الراء.

ثم قلت : باب ـ البناء (٢) ضدّ الإعراب ، والمبنيّ إما أن يطّرد فيه السّكون

__________________

(١) المرح ـ بفتح الميم والراء جميعا ـ مصدر في الأصل ، وهو مثل الفرح في الوزن والمعني ، وقول المؤلف «أي ذا مرح» المقصود به تأويل وقوع المصدر حالا ، وللعلماء فيه ثلاثة تأويلات ، أولها : أنه على حذف مضاف يكون في معنى المشتق ، وهذا هو الذي أشار إليه المؤلف ، فإذا قلت : طلع زيد بغتة ، وجاءنا ركضا ؛ فهو على تقدير : طلع ذا بغتة. وجاءنا ذا ركض ، أي : صاحب بغتة وصاحب ركض ؛ والتأويل الثاني : أن تجعل المصدر نفسه بمعنى المشتق ، فيكون قولهم «طلع زيد بغتة» بمعنى طلع مباغتا ، ويكون قولهم «جاء زيد ركضا» بمعنى جاء راكضا ، والتأويل الثالث : أن يبقى المصدر على معناه الأصلي ، ولا يكون ثمة مضاف مقدر والقصد المبالغة ، ومراد المتكلم أن يبالغ في زيد حتى يجعله نفس البغتة ، ونفس الركض ، ونفس المرح ، والسر في هذا كله أن الأصل في الحال أن يكون مشتقا لكونه وصفا لصاحبه ، والوصف إنما يكون بالمشتق ، ومثل هذه التأويلات يجري في وقوع المصدر خبرا ، من نحو قولهم : زيد عدل ، وخالد رضا ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) وكذلك تجري هذه التأويلات في وقوع المصدر نعتا.

(٢) البناء في اللغة : وضع شيء على شيء على وجه يقتضي الثبوت والدوام ، وهو في اصطلاح النحاة ما ذكره المؤلف في الشرح بقوله : «لزوم آخر الكلمة .. إلخ» وهنا سؤالان :

أولهما أن يقال : أينحصر الاسم في هذين النوعين المعرب والمبني فلا يخرج عنهما أبدا أم لا ينحصر فيهما فيكون ثمة اسم لا هو معرب ولا هو مبني؟ والجواب عن هذا السؤال أن نعرفك أن مذهب جمهور النحاة بصريهم وكوفيهم : أن الاسم لا يكون إلا واحدا من هذين النوعين ، فكل ما ليس بمعرب مبني ، وكل ما ليس بمبني معرب.

وذهب بعض النحاة إلى أن الاسم ثلاثة أنواع : معرب ومبني ، وما ليس معربا ولا مبنيّا ، وسمى هذا النوع الثالث «خصيا» ومثل له بالاسم المضاف إلى ياء المتكلم نحو غلامي وكتابي وصديقي ، زعم أنه ليس معربا لأنه لزم حركة واحدة ، وليس مبنيّا لأنه لم يشبه الحرف.

وأجيب عن هذا : بأنه معرب ، والحركات مقدرة على ما قبل ياء المتكلم ، وهذا هو ما اختاره المؤلف تبعا لمذهب الجمهور ، وقد تقدم كلامه فيه (انظر ص ٩٤ السابقة).

٩٩

وهو المضارع المتّصل بنون الإناث ، نحو : (يتربّصن) و (يرضعن) ، أو الماضي المتّصل بضمير رفع متحرّك ك «ضربت» و «ضربنا» ، أو السّكون أو نائبه وهو الأمر ، نحو : «اضرب ، واضربا ، واضربوا ، واضربي ، واغز ، واخش ، وارم».

وأقول : قد مضى أن الإعراب أثر ظاهر أو مقدّر يجلبه العامل في آخر الكلمة ؛ وذكرت هنا أن البناء ضدّ الإعراب ؛ فكأنني قلت : ليس البناء أثرا يجلبه العامل في آخر الكلمة ، وذلك كالكسرة في «هؤلاء» فإن العامل لم يجلبها بدليل وجودها مع جميع العوامل.

والبناء : لزوم آخر الكلمة حالة واحدة لفظا أو تقديرا ، وذلك كلزوم «هؤلاء» للكسرة ، و «منذ» للضمة ، و «أين» للفتحة.

ولما فرغت من تفسيره شرعت في تقسيمه تقسيما غريبا لم أسبق إليه ، وذلك أنني جعلت المبنيّ على تسعة أقسام : (١)

__________________

والسؤال الثاني : ما علة بناء ما بني من الأسماء؟ والجواب عن هذا : أن جمهور النحاة يقررون أن علة بناء ما بني من الأسماء منحصرة في مشابهة الاسم للحرف ، ويقسمون هذه المشابهة إلى ثلاثة أنواع :

الأول : مشابهة الاسم للحرف في الوضع ، بأن يكون على حرف هجائي واحد أو على حرفين كتاء المتكلم ونون النسوة ونا.

النوع الثاني : مشابهة الاسم للحرف في المعنى ، بأن يدل الاسم على معنى من المعاني التي حقها أن تؤدى بالحروف ، سواء أوضع لهذا المعنى حرف كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام أم لم يوضع مثل أسماء الإشارة.

النوع الثالث : مشابهة الاسم للحرف في الاستعمال ، بأن ينوب عن الفعل ولا يتأثر بالعوامل كأسماء الأفعال ، وبأن يفتقر افتقارا متأصلا إلى جملة كالموصولات.

(١) اعلم أولا أن النحاة جميعا بصريهم وكوفيهم اتفقوا على أن الأصل في الاسم الإعراب ، وأنهم اختلفوا في الأصل في الفعل ، فذهب البصريون إلى أن الأصل في الفعل البناء ، وذهب الكوفيون إلى أن الأصل في الفعل الإعراب ، ولبيان دليل كل فريق منهما والسر في اختيار مذهب البصريين في هذه المسألة موضع غير هذا المختصر ، فإن شئت فارجع إلى التحقيق البارع الذي أثرناه في كتابنا «عدة السالك لتحقيق أوضح المسالك» ثم اعلم أن الأصل في البناء أن يكون على السكون.

ثم اعلم ـ بعد هاتين القاعدتين ـ أن كل ما جاء على أصله لا يسأل عن علته ، وكل ما جاء على غير أصله يسأل عن خروجه عما هو الأصل فيه ما سببه ، فالاسم المبني يسأل عن علة بنائه ، فيقال في الجواب عن هذا السؤال : علة بناء هذا الاسم شبهه بالحرف شبها وضعيّا أو معنويّا أو استعماليّا ، ثم إن كان هذا الاسم مبنيّا على السكون لم يسأل عن سر بنائه عليه لأنه هو الأصل في البناء ، وإن كان مبنيّا على الفتحة مثلا سئل فيه سؤالان ،

١٠٠