شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه).

(إن ابن هشام على علم جمّ يشهد بعلوّ قدره في صناعة النحو ، وكان ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جنّي ، واتبعوا مصطلح تعليمه ؛ فأتى من ذلك بشيء دالّ على قوة ملكته واطّلاعه).

ابن خلدون

٣
٤

بين يديّ هذه الطبعة

إن الحمد لله ، نحمده ونشكره ، ونتوب إليه ونستغفره ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، عليه وعلى آله أفضل صلاة وأزكى تسليم

أما بعد :

ليس من شك أن التراث النحوي والصرفي الذى تركه أسلافنا نفيس غاية النفاسة ، وأن الجهد الناجح الذي بذلوه فيهما خلال الأزمان المتعاقبة جهد لم يهيأ للكثير من العلوم المختلفة في عصورها القديمة والحديثة.

وكتاب «شذور الذهب فى معرفة كلام العرب» وشرحه ، وهما من تصانيف العلامة المحقق فخر العربية جمال الدين بن هشام الأنصاري ، من الدرر النفيسة لهذا التراث ، والذي لا يزال ـ بعون الله وفضله ـ موردا للظمأى من طلاب العلم وأهله ، حافلا بذخائر العربية ، ومنهلا لراغبي البحث والدراسة. وقد حقق هذا الكتاب وشرحه العلامة الراحل شيخ العلماء المحققين محمد محيي الدين عبد الحميد ، فجزى الله العالمين خير الجزاء ونفع بعلمهما.

وإنه ليسعد دار الطلائع أن تقدم هذه الطبعة الشرعية الجديدة من «شرح شذور الذهب فى معرفة كلام العرب» في ثوب جديد ، يظهر فيه من الدقة وحسن الإخراج ما تقرّ به عين الباحثين ، وكل محبّ وغيور على تراث العربية التليد.

وسوف يلمس القارئ الكريم ـ عبر صفحات هذا الكتاب ـ ما بذلناه فيه

٥

من جهد في العناية والتدقيق وضبط مادته ، وإخراجه بشكل فني جذاب ، وتنسيق هوامشه وشروحه ، وكل ذلك تلافيّا لما كان في بعض الطبعات السابقة من أخطاء ، سواء بالسقط أو التحريف.

هذا ... ونرجو أن يكون الكتاب بهذا الثوب القشيب مما تقرّ به عينك إن شاء الله تعالى ، ونعدك بالمزيد من العناية والتدقيق وحسن الإخراج فيما يلى من طبعات.

والحمد لله العلي الحميد ، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

الناشر

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على نعمائه ، والشكر له على آلائه (١) ، وصلّى الله على سيدنا محمد واسطة عقد أنبيائه ، وعلى آله وصحبه وأوليائه.

أحمده ـ سبحانه ـ حمدا يكون سببا مدنيا من رضاه ، وأشكره شكرا يكون مقرّبا من الفوز بمغفرته.

وبعد ، فهذا كتاب «شذور الذهب ، في معرفة كلام العرب» وشرحه ، وهما من تصانيف العلامة المحقق ، فخر العربية ، وحامل لواء علمائها ، أفضل من صنّف من رجالات القرن الثامن الهجري في قواعد العربية والتطبيق عليها ، جمال الدين بن هشام الأنصاري ، وهذا الكتاب وشرحه صنو كتابه «قطر الندى ، وبلّ الصّدى» وشرحه ، صنفهما ابن هشام للذين شدوا من علم العربية شيئا يكون كالمقدمة لقراءتهما ، وكنا ندرسهما معا في الجامع الأزهر في فرقة دراسية واحدة ، وفي عام واحد ، وكنا نستوعبهما قراءة ودرسا ، ولم نجد في ذلك مشقة ولا عنتا.

وللكتابين في نفسي ذكريات لن يأتي عليها الزمان ؛ فقد تلقيتهما معا على شيخ واحد ، وكان ـ رحمه‌الله تعالى ـ مثالا للجدّ والإخلاص في التحصيل والإفهام وبعث الهمة على الاقتداء به ، فكان ذلك أحد البواعث على محبة الكتابين وتحصليهما ، ثم كان أشدّ البواعث إلى الكتابة عليهما وبعثهما.

وقد كان مما جرى به القدر أن رأت مشيخة الجامع الأزهر في نظامها الجديد (٢) تدريس هذين الكتابين لفرقتين دراسيتين ؛ فجعلت «قطر الندى» وشرحه للسنة الثالثة الإعدادية ، و «شذور الذهب» وشرحه للسنة الرابعة الإعدادية ، وقد كنت قدّمت لقراء العربية عامة ولأبنائي وإخواني من طلبة الأزهر وأساتذته خاصّة شرحا سهل العبارة فائق التحقيق على شرح قطر الندى ، فكان لزاما عليّ أن أعزّزه بشرح على «شذور الذهب» ليكون له أخا يدانيه في السهولة والتحقيق ، ويقرّب ما أغرب به ابن هشام ما

__________________

(١) الآلاء : النعم ، واحدها إلى ، بوزن رضا.

(٢) في سنة ١٩٣٥ الميلادية.

٧

أودعه فيه من عويص المسائل التي ترجع إلى الفقه في العربية والدقة في معرفة أسرارها.

وقد سميت هذا الشرح «منتهى الأرب ، بتحقيق شرح شذور الذهب» راجيا أن يتطابق الاسم والمسمّى ، وأن يكون ما أودعته فيه من ذخائر العربية مقنعا لراغبي البحث ، وسادّا لنهمة المولعين بالتّفقّه في الحقائق العلمية.

فإن أكن قد أصبت الذي أردت ؛ فهذا توفيق الله تعالى وتيسيره ، وإن تكن الأخرى فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وبحسبي خلوص النّيّة لله تعالى ولرسوله.

ربّ هب لي من لدنك رحمة ؛ إنك أنت الوهاب.

كتبه

محمد محيي الدين عبد الحميد

٨

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة ابن هشام

صاحب كتاب «شذور الذهب في معرفة كلام العرب» وشرحه

هو الإمام الذي فاق أقرانه ، وشأى من تقدّمه ، وأعيا من يأتي بعده ، الذي لا يشقّ غباره في سعة الاطلاع وحسن العبارة وجمال التعليل ، الصالح الورع ، أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري.

ولد في القاهرة في ذي القعدة عام ثمان وسبعمائة من الهجرة (عام ١٣٠٩ من الميلاد).

ولزم الشهاب عبد اللطيف بن المرحل ، وتلا على ابن السراج ، وسمع على أبي حيّان ديوان زهير بن أبي سلمى المزني ، ولم يلازمه ، ولا قرأ عليه غيره ، وحضر دروس التاج التبريزي ، وقرأ على التاج الفاكهاني شرح الإشارة له إلا الورقة الأخيرة ، وحدّث عن ابن جماعة بالشاطبية ، وتفقّه على مذهب الشافعي ، ثم تحنبل فحفظ مختصر الخرقي قبيل وفاته.

وتخرج به جماعة من أهل مصر وغيرهم ، وتصدّر لنفع الطالبين ، وانفرد بالفوائد الغريبة ، والمباحث الدقيقة ، والاستدراكات العجيبة ، والتحقيق البارع ، والاطلاع المفرد ، والاقتدار على التصرف في الكلام ، وكانت له ملكة يتمكن بها من التعبير عن مقصوده بما يريد مسهبا وموجزا ؛ وكان ـ مع ذلك كله ـ متواضعا ، برّا دمث الخلق ، شديد الشفقة ، رقيق القلب.

قال عنه ابن خلدون : «ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه».

وقال عنه مرة أخرى : «إن ابن هشام على علم جمّ يشهد بعلوّ قدره في صناعة النحو ، وكان ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جنّي واتبعوا مصطلح تعليمه ؛ فأتى من ذلك بشيء عجيب دالّ على قوة ملكته واطّلاعه» اه.

٩

ولابن هشام مصنفات كثيرة كلها نافع مفيد تلوح منه أمارات التحقيق وطول الباع ، وتطالعك من روحه علائم الإخلاص والرغبة عن الشهرة وذيوع الصيت ، ونحن نذكر لك من ذلك ما اطّلعنا عليه أو بلغنا علمه مرتبا على حروف المعجم وندلّك على مكان وجوده ، إن علمنا أنه موجود ، أو نذكر لك الذي حدّث به إن لم نعلم وجوده ، وهاكها :

) الإعراب ، عن قواعد الإعراب : طبع في الآستانة وفي مصر ، وشرحه الشيخ خالد الأزهريّ ، وقد طبع هذا الشرح مرارا.

(٢) الألغاز ، وهو كتاب في مسائل نحوية ، صنفه لخزانة السلطان الملك الكامل ، طبع في مصر ، وفي الآستانة.

(٣) أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك : طبع مرارا وشرحه الشيخ خالد ، ولنا عليه ثلاثة شروح : أولها شرح وجيز مطبوع ، وثان متوسط ، طبع أيضا ، وثالث مبسوط طبع أخيرا في أربعة أجزاء.

(٤) التذكرة : ذكر السيوطي أنه كتاب في خمسة عشر مجلدا ؛ ولم نطلع على شيء منه.

(٥) التحصيل والتفصيل ، لكتاب التذييل والتكميل : ذكر السيوطي أنه عدة مجلدات.

(٦) الجامع الصغير : ذكره السيوطي ، ويوجد في مكتبة باريس.

(٧) الجامع الكبير : ذكره السيوطي.

(٨) رسالة في انتصاب «لغة» و «فضلا» وإعراب «خلافا» و «أيضا» و «هلمّ جرّا» وهي موجودة في دار الكتب المصرية ، وفي مكتبة برلين ومكتبة ليدن ، وهي برمتها في كتاب «الأشباه والنظائر النحوية» للسيوطي ، المطبوع في الهند.

(٩) رسالة في استعمال المنادى في تسع آيات من القرآن الكريم : موجودة في مكتبة برلين.

(١٠) رفع الخصاصة ، عن قرّاء الخلاصة : ذكره السيوطي ، وذكر أنه يقع في أربعة مجلدات.

١٠

(١١) الروضة الأدبية ، في شواهد علوم العربية : ويوجد بمكتبة برلين ، وهو شرح شواهد كتاب «اللّمع» لابن جني.

(١٢) شذور الذهب ، في معرفة كلام العرب : طبع مرارا ، ولنا عليه شرح مطبوع.

(١٣) شرح البردة : ذكره السيوطي ، وربما كان هو شرح قصيدة «بانت سعاد» الآتي ذكره ؛ لأن من العلماء من يسمّيها «البردة» بسبب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاز كعب ابن زهير قائلها ببردته.

(١٤) شرح شذور الذهب ، المتقدم ، طبع مرارا ، ولنا عليه شرح ، طبع مرارا ، وهو هذا الذي نقدمه اليوم.

(١٥) شرح الشواهد الصغرى : ذكره السيوطي أيضا ، ولا ندري : أهو كتاب الروضة السابق أم هو كتاب آخر؟

(١٦) شرح الشواهد الكبرى : ذكره السيوطي أيضا ، ولا ندري حقيقة حاله.

(١٧) شرح قصيدة «بانت سعاد» : طبع مرارا.

(١٨) شرح القصيدة اللغزية ، في المسائل النحوية : يوجد في مكتبة ليدن.

(١٩) شرح قطر الندى وبل الصدى : طبع مرارا ، ولنا عليه شرح ، طبع مرارا أيضا.

(٢٠) شرح اللمحة لأبي حيان : ذكره السيوطي.

(٢١) عمدة الطالب ، في تحقيق صرف ابن الحاجب : ذكره السيوطي ، وذكر أنه في مجلدين.

(٢٢) فوح الشّذا ، في مسألة كذا ، وهو شرح لكتاب «الشذا ، في مسألة كذا» تصنيف أبي حيّان : يوجد في ضمن كتاب «الأشباه والنظائر النحوية» للسيوطي.

(٢٣) قطر الندى وبلّ الصدى ، طبع مرارا ، وهو متن الشرح السابق ذكره ، ولنا عليه شرح مطبوع.

(٢٤) القواعد الصغرى : ذكره السيوطي.

(٢٥) القواعد الكبرى : ذكره السيوطي.

(٢٦) مختصر الانتصاف من الكشاف ، وهو اختصار لكتاب صنفه ابن المنير في الردّ على آراء المعتزلة التي ذكرها الزمخشري في تفسير الكشاف ، واسم كتاب

١١

ابن المنير «الانتصاف من الكشاف» وكتاب ابن هشام ، يوجد في مكتبة برلين ومكتبة الأزهر.

(٢٧) المسائل السفرية ، في النحو : ذكره السيوطي.

(٢٨) مغني اللبيب ، عن كتب الأعاريب : طبع في طهران والقاهرة مرارا ، وعليه شروح كثيرة طبع منها عدد واف ، ولنا عليه شرح مبسوط ، نسأل الله أن يعين على طبعه.

(٢٩) موقد الأذهان ، وموقظ الوسنان ، تعرّض فيه لكثير من مشكلات النحو : يوجد في دار الكتب المصرية ومكتبتي برلين وباريس.

وتوفي رحمه‌الله تعالى بالقاهرة في ليلة الجمعة ـ وقيل : ليلة الخميس ـ الخامس من ذي القعدة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة (سنة ١٣٦٠ من الميلاد).

وقد ذكر حاجي خليفة في غير موضع من كتابه «كشف الظنون» أنه توفي في عام اثنتين وستين وسبعمائة من الهجرة ، وهو ما لم أجده لأحد سواه.

رضي الله تعالى عنه وأرضاه (١)!!.

__________________

(١) تجد لابن هشام الأنصاري ـ رحمه‌الله تعالى ـ ترجمة في الدرر الكامنة لابن حجر ٢ / ٣٠٨ ، وفي بغية الوعاة للسيوطي ٢٩٣ ، وفي حسن المحاضرة للسيوطي أيضا ١ / ٢٤٧ ، وفي المنهل الصافي ، وفي المنهج الأحمد للعليمي ٢٥٥ ، وفي دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٢٩٥ وفي مواضع متفرقة من كشف الظنون.

وقد اشتهر بهذه الكنية قبل المؤلف جماعة :

منهم الإمام عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري ، الذى هذّب سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي ألفها ابن إسحاق ، وقد توفي بمصر في عام ٢١٣ ، وقيل : في عام ٢١٨ ، وقد ترجمه ابن خلكان (الترجمة رقم ٢٥٣ بتحقيقنا).

ومنهم العلامة أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام بن إبراهيم بن خلف ، اللخمي ، السبتي ، النحوي ، اللغوي ، أحد أعيان القرن السادس. وتجد له ترجمة في بغية الوعاة للسيوطي ١٩ ، وفي ابن خلكان (الترجمة رقم ٨٦ بتحقيقنا).

ومنهم محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي ، ويعرف بابن البردعي ، وكان رأسا في العربية ، وتوفي بتونس سنة ٦٤٦ ، وله ترجمة في بغية الوعاة للسيوطي ١١٥ ، وابن هشام صاحبنا ينقل عنه كثيرا في كتابيه «أوضح المسالك» و «مغني اللبيب».

واشتهر بهذه الكنية من أسرة المؤلف : حفيده محمد بن عبد الرحمن المتوفى فى عام ٨٦٦ من الهجرة ، وله ترجمة في الضوء اللامع للسخاوي ٧ / ٩١.

واشتهر بها أيضا محب الدين بن عبد الرحمن ، وهو ابن الحفيد السابق ، وكانت وفاته في سنة ٨٩٠ من الهجرة ، وله ترجمة في الضوء اللامع ٩ / ٩٢.

١٢

ترجمة العلامة الراحل

محمد محيى الدين عبد الحميد

شيخ العلماء المحققين عفا الله تعالى عنه!

[٢٨ من جمادى الأولى سنة ١٣١٨ ـ ٢٤ من ذي القعدة سنة ١٣٩٢ من الهجرة]

[٢٣ من سبتمبر سنة ١٩٠٠ ـ ٣٠ من ديسمبر سنة ١٩٧٢ من الميلاد]

«لقد قيل في الطبري : إنه كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن ، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث ، وكالفقيه الذي لا يعرف إلّا الفقه ، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو ، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب ، وكذا يقال في الشيخ محيى الدين : إنه كالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو ، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه ، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث ، وكالمتكلم الذي لا يعرف إلا الكلام ، وآية ذلك ما ألّفه وأخرجه من الكتب في هذه الفنون».

العلامة محمد على النجار

عضو مجمع اللغة العربية

«كان محيى الدين نزّاعا للعلم شغوفا به منذ نشأته الأولى ، إذ تربّي في بيت فقه وقضاء ؛ لأن والده الشيخ عبد الحميد إبراهيم كان من رجال القضاء والفتيا وله صلات قوية بزملائه ، والصفوة من علماء بيئته ، فكانوا يجتمعون لديه في منزله ، وقد ترعرع الطفل الناشئ ليسمع آيات القرآن ، وأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومسائل العلم في نقاش الزائرين ، ويلحظ لوالده من الهيبة والمكانة ما دفع به إلى محاكاته ، حتى إذا بلغ دور الصّبا دفع به والده إلى معهد دمياط الديني ليرتشف من معينه ، إذ كان والده قاضيا بمحكمة فارسكور ، ثم انتقل إلى القاهرة مفتيا دينيّا لوزارة الأوقاف ، فانتقل معه إلى الجامع الأزهر ، وأكبر ما يدل على ألمعية الطالب وظهور هلاله مبشّرا بما سيعقبه من إبدار ، أن طمح للتأليف العلمي وهو في ساحة الدرس قبل أن يظفر بدرجة العالمية سنة ١٩٢٥ م ، إذ أقدم على عمل جادّ مثمر هو شرح مقامات الهمذاني ، ومؤلف الشرح ومحقق النص في هذا المقتبل من الشباب لا بدّ أن يكون بعيد الطموح ، واسع الأمل ، ولا بد أن يكون قد وعى من مسائل اللغة والأدب والتاريخ العربي ما سمح له بالإتقان ، بل لا بدّ أن يكون قد وجد من والده منذ نشأته الأولى في القسم الابتدائي حثّا على الدأب في المذاكرة ، ومواصلة التوجيه ، وقوة التتبع حتى بلغ الطالب أشده واستوى على سوقه ، وقد اعترف لوالده بواجب البرّ حين جعل إهداء الشرح لوالده ، وحين قال في ذلك الإهداء :

١٣

(سيدي الوالد :

إلى نفسك الطاهرة ، وحكمتك العالية ، وأدبك الجمّ ، وفضلك الغزير ، أقدّم كتابي هذا ، لقد ربيتني على الفضيلة ، وحببت إليّ العمل ، وزهدتني في الدعة والونى ، وعند الله في ذلك جزاؤك ، فليس بيدي شيء منه ، ولا في استطاعتي أن أناله ، ولو رقيت أسباب السماء ، ولكني أتقدم إليك بكتابي هذا برهانا على أنك غرست فأثمرت ، وبذرت فأنميت ، ودليلا على أن غراسك سيزداد نموّا بمر الأيام إلى أن يؤتي أكله مرتين بإذن الله) ، والحق أن الغراس قد آتى أكله مرات عدة ، فإن ما أخرجه الأستاذ من الكتب العلمية تأليفا وتحقيقا ليعجز القرناء ، حتى ليأتوا خلفه تابعين» (١).

«تتلمذ الأستاذ محمد محيي عبد الحميد على جيل الرواد الإسلاميين الكبار الذين ازدانت بهم الحياة المصرية في أوائل القرن العشرين ، وكانوا دعامة النهضة العربية والأدبية والوطنية في العالم العربي كافة ، ومضى على تخرجه في الأزهر الشريف ـ يحمل شهادة العالمية أعلى شهاداته العلمية آنذاك ـ نحو نصف قرن من الزمان ، وكان نجاحه بل تفوقه يومئذ مثار الدهشة ، فقد جاء الأول على فحول أقرانه من العلماء» (٢).

«واختير مدرسا بالجامع الأزهر ، وظهر من دلائل فضله العلمي ما أعدّه بعد خمس سنوات فحسب ، لأن يكون مدرسا بكلية اللغة العربية سنة ١٩٣١ م ، إذ أصدر عدة أجزاء من شرح خزانة الأدب للبغدادي ، جاءت خالية من التحريف ، وحافلة بالضبط والتعليق ، فأذاعت علمه كما أذاعه تلاميذه الذين نهلوا من حياضه ، وأساتذته من المفتشين الذين شهدوا بنبوغه وتحدثوا عنه مكبرين ، وقد كان أصغر أعضاء هيئة التدريس بالكلية سنّا ، ولكن مقامه العلمي دفعه إلى الصدارة ، فاختير سنة ١٩٣٥ م للتدريس بتخصص المادة لطلبة الدراسات العليا ، وزامل الكبار من أساتذته مزاملة خصبة مثمرة فاعترفوا بفضله ، وسمعه الإمام المراغيّ في زيارته المتعاقبة للكلية

__________________

(١) من كتاب «النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين» للدكتور إبراهيم رجب البيومي ، عميد كلية اللغة العربية بالمنصورة.

(٢) من قرار جامعة الأزهر بترشيحه لنيل جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة ١٩٧١ م.

١٤

فاسترعى انتباهه ، واختاره محاضرا في الاجتماعات العامة بالجامع الأزهر عند المناسبات الدينية ، كالاحتفال بالمولد والهجرة والإسراء ، إذ كان الشيخ الأكبر يلقي الكلمة الأولى ليترك المجال لأستاذ من نابهي هيئة التدريس بالأزهر كالشيخ محمد عرفة والشيخ محمد أحمد العدوي والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد» (١).

«وشغل في هذه الحقبة الطويلة الكثير من المناصب العلمية الرفيعة : أستاذا بالأزهر ، فأستاذا بكلية اللغة العربية ، فمفتشا عامّا بالمعاهد الدينية ، فوكيلا لكلية اللغة العربية ، فأستاذا بكلية أصول الدين ، فرئيسا لمفتشي العلوم الدينية والعربية بالأزهر ، فعميدا لكلية اللغة العربية ، وعضوا بالمجمع اللغوي ، ورئيسا للجنة الفتوى بالأزهر ، وعضوا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (ومجمع البحوث الإسلامية والمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم) وفي كثير من الهيئات العلمية ، ولا ننسى أنه اختير عام ١٩٤٠ من للسودان ليشارك في تأسيس مدرسة الحقوق العليا في الخرطوم ، وقد قام حينئذ بمهمته خير قيام ، وكان مضرب المثل في علو المنزلة وسموّ المكانة بين السودانيين والمصريين على السواء» (٢).

«ومثّل الأزهر في كثير من المؤتمرات الثقافية واللغوية والأدبية ، ووجه الثقافة فيه الوجهة الرفيعة العميقة ، التي أثّرت في بناء الجيل الحاضر تأثيرا كبيرا» (٣).

«وقد عاش أبيّ النفس عزيزا لا يمكن أن يمكّن من نفسه أيّ إنسان مهما كانت منزلته ، دعاه إلى ذلك حفاظه على كرامته ، حفاظه على رجولته ، حفاظه على خلقه ، وإن اختياره أستاذا بكلية اللغة العربية وهو بعد على مشارف الثلاثين كان مؤذنا بأن ذلك الرجل الألمعيّ جدير بأن يكون موطن التقدير والإعجاب ، وما كاد عام ١٩٣٥ م يبدأ وكانت الأمور السياسية في مصر مضطربة ، وكان الأزهر آنذاك معرضا لبعض الاضطرابات الخطيرة ، قام الأزهر بثورة قوية لأنه كان يراد إقصاء الجمهرة الغفيرة من أبناء الأزهر وصدهم عن التعليم ، قامت الثورة وكانت ثورة قوية ، ثورة هادفة ، تهدف إلى تخليص الأزهر من براثن الرجعية وإلى النهوض به نهضة قوية ، وكان عماد تلك

__________________

(١) من كتاب «النهضة الإسلامية» السابق.

(٢ ، ٣) من قرار جامعة الأزهر السابق.

١٥

النهضة أساتذة أجلاء على رأسهم المغفور له الأستاذ محمد محيى الدين عبد الحميد ، إنه آنذاك عرضت عليه العروض لكي يمتنع عن مناصرة تلك الثورة ، ولكي يبتعد عن الوقوف بجانب أبنائه ، ولكنه لم تلن له قناة ، ولم يخضع لتهديد ، ولم يأبه لوعيد ، وذلك خلق قويّ في تلك الفترة العصيبة التي يدركها الجميع ، ظل أستاذنا على هذا الوضع إلى أن صدر قرار بنقله مدرسا إلى معهد الإسكندرية انتقاما لموقفه المشرف ، فلم يزده ذلك إلا إصرارا على مناصرة الحق ، وإلا إصرارا على السير في ركاب الحرية ، وإلا إصرارا على الوقوف في وجه أولئك الطغاة الذين لا همّ لهم إلا أن يكبتوا الأنفاس ، ويخمدوا الأرواح الطاهرة البريئة ، وقد أراد الله للأزهر أن ينتصر ، وأراد الله أن تعود الدراسة بعد تعطيلها ، وأن يعود أستاذنا إلى كليته موفور الكرامة ، مرفوع الهامة ، مظلّا لأبنائه بظله الوارف القويّ ، لا يأخذه زهو العلم ، ولكنه كان كالأب الحنون العطوف على أبنائه ، بيته بيت الأبناء ، مكتبته مكتبة الأبناء ، فكنا نفد إليه نستطلع رأيه ونستفيد من خبرته ومن تجاربه ، فلم يضنّ على إنسان يوما بأيّ ناحية من تلك النواحي المتعلقة بدراسته ، وعند ما أنشئت الدراسات العليا كان الرائد الأول لنا والموجه لنفعنا ...» (١).

«عند ما عين وكيلا لكلية اللغة العربية ، وكانت الكلية آنذاك في حرب ضروس ومعاناة قوية من الداخل والخارج ، ما كاد يتولى أمرها ويسوس شأنها إلا ورأيناه يقود السفينة بحكمة الربان الماهر الحكيم ، فينهي المآزق القوية ، ويقضي على الفتن التي كادت تقضي على تلك الكلية ، وإن أستاذنا الجليل الدكتور عبد الرزاق السنهوري ، وكان وقتذاك وزيرا للمعارف ، رأى بثاقب فكره أن ذلك الرجل جدير بأن يتولى عمادة الكلية ؛ لتفتح ذهنه وتوقد فكره ، وإمكانه التفاهم مع كل الناس ، ولكنه لم يتمكن من إقناع المسؤولين لما عرف عن فقيدنا الراحل من جرأة في الحق لا ترضي بعض الناس آنذاك ، فانتقل إلى التفتيش ونقل من التفتيش إلى أصول الدين ظنا منهم أن ذلك الرجل الذي كرس حياته في علوم العربية لا يمكن أن يجلّي في أي ميدان آخر ، ولكنه ـ بحمد الله ـ وهو الحصيف الرأي ، القوي البيان ، المتين الحجة ، أمكنه أن يكون رائدا في علوم الدين كما كان رائدا في علوم اللغة ، وأن يكون قويّا بين أساتذته مما

__________________

(١) انظر جريدة «البلاغ» ـ ١٥ ديسمبر ١٩٣٤ م والأعداد التالية حتى أول مايو ١٩٣٥ م.

١٦

جعل الجميع يشيدون بفضله ويعترفون بنبله ، ويرجعونه إلى عمادة تلك الكلية التي أرسى فيها قواعد العدل ، والتي هيأ فيها للجميع حياة مستقرة ، والتي أمكنه بفضل تفتح ذهنه أن يوجد فيها الأقسام المختلفة ؛ لتتمكن تلك الكلية من متابعة الدرس ومن السير في الدراسة اللغوية والأدبية ، فأنشأ فيها قسما لأصول اللغة كان هو النواة الأولى فيها والمرجع الأوفى فيها» (١).

«إن أستاذنا الجليل ووالدنا الراحل كرّس حياته معتزّا بكرامته ، معتزّا بفضله ، معتزّا بعلمه ، لم يتمكن أحد من أن ينال منه إطلاقا ؛ عرضت عليه المناصب ، وقيل إنه يطلب منك أن تقابل بعض المسؤولين ، فأبت عليه عزة نفسه أن يخضع لتلك الرغبة قائلا أمامنا جميعا ، والله يشهد على ما أقول أنني صادق فيه : «إن المنصب إذا كانت الدولة تعترف أنني أهل له فلتسنده إليّ ، وإن لم تكن معترفة بي فلا حاجة بي إلى مقابلة أي مسؤول مطلقا» لم يقلها رحمه‌الله غرورا وتأبيا ، بل حفاظا على كرامة العلماء ، وعلى كرامة الرجال الذين أثبتوا في شتى العهود السابقة أن رجال الأزهر يجب أن يثبتوا للملأ أن الأخلاق الفاضلة ، وأن الرجولة الحقة هي التي يجب أن تسيطر عليهم ، وألا تغرهم المناصب ، وألا يبعدهم زهو الحياة وبريق المال إلى الانحراف عن الجادة القويمة التي سار عليها أستاذنا ، والتي دربنا عليها تدريبا قويّا» (٢).

ولئن أمكنك ـ بعد هذا التجوال السريع في دروب حياته وبين معالمها ـ أن تضع يدك على بعض مواطن النبوغ العلمي والعملي ؛ فحري بك أن تجمع إليها قطوفا من أمارات الشموخ والإباء ، ويأتي في مقدمتها موقفه من اعتلاء المناصب الكبرى مثل مشيخة الأزهر ، والتي كان في مقدمة المرشحين لتوليها المرة تلو المرة تلو المرة ، وكذا في ترشيحه لنيل جائزة الدولة في الآداب المرة بعد المرة ، وأضف لذلك ـ إن شئت ـ تلك العروض التي تلقاها لرئاسة جامعات عربية وإسلامية ، وحالت ظروفه الصحية دون قبولها ، وإن كان أهل الأزهر ـ آنذاك ـ يجمعون على أنه أجدر من يتولى المنصب ، فقد كان اعتلاء المناصب يقتضي التحلي بشيم ليست بينها الأهلية

__________________

(١ و ٢) من كلمة الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد نجا في حفل مجمع اللغة العربية السابق.

١٧

والكفاءة والنزاهة والصرامة في الحق ، ولا يلوينك عن الحقيقة جاهل أو مكابر يبطر الحق فيوهمنّك أن عزوفه عن المناصب كان اتقاء لبطش السلطان ؛ فلم يكن لمثله أن ينأى عن الميدان وقد توافرت له العدة والعتاد ، وإنما كانت له شروط لقبول المنصب ، تنطوي على إصلاح لحال الأزهر ، وإحلال علمائه المكانة اللائقة بهم ، وكانت السلطة الحاكمة تدخر للأزهر وعلمائه مآلات أخرى ، وحسبك من هذا التاريخ ـ غير البعيد ـ تلك العبارات المقتضبة التي لا يتسع المقال لما يفوقها بسطا ، وحسبك أن تستشف رأيه فيما شابه ذلك من أمور من إحدى الترجمات التي أعدّها عن واحد من سلف الأمة الصالح ، وهاك طرفا من مقاله عن الإمام العلامة ابن قيّم الجوزية :

«سبحانك ربي! ما أجلّ حكمتك! وما أبدع تدبيرك! من كان يظن أن ابن القيّم الذي قضى حياته كلها مضطهدا ، معذب القلب ، مؤرق الجفن ، لا لشيء غير النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، يصبح بعد أن تمضي ستة قرون ، وهو من أول من يتنافس الناس في بعث مؤلفاته وقراءتها وتحصيلها ، من كان يظن ذلك وقد كان الناس إلى عهد قريب جدّا يتهمون من يذكر اسم ابن القيّم واسم شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية بالمروق والزندقة والإلحاد وما أشبه هذه الأوصاف؟ وإنما يتعزى أصحاب ابن القيّم عما لقيه من الهضيمة والعنت في حياته ، بأن ذلك كله لم يثنه عما رسمه لنفسه ، ولم يعقه عن السير في طريقه ، فلا يتوهمنّ متوهم أنه لو لقي من إقبال الخاصة والعامة ما هو خليق به وبأمثاله ، لكان له إنتاج فوق ما صنعه أو أكثر مما صنعه ، فما كان الجحود ونكران الحق على مستحقيه بعائق لذوي المبادئ القويمة عن أن يسيروا قدما إلى ما يهدفون ، ذلك لأنهم لم يفكروا في الناس ، وإنما فكروا للناس ولصالح الناس ، وعلموا أن المثوبة من لدن العليم الخبير».

ولقد كانت ثمّ قضايا ثلاث تمحور حولها جهاده ، وتبلورت من خلالها ألمعيته وإنجازاته ، وهي قضايا : اللغة العربية ، والتراث ، والأزهر ، والقضايا الثلاث تلتقي في أمور عدة ؛ فإن افترقت فهي تلتقي بعد عنده ؛ فإن بحثت في أمور العربية ألفيته إمامها ـ غير منازع ـ والمنافح الأول عنها ، وإن تطرقت إلى التراث فهو رائد بعثه وإحيائه وإن شغلت بهمّ من هموم الأزهر وجدته أكثر اهتماما به ، ووجدت عنده الدواء الذي

١٨

يشفي العلة ويبرئ السقم ، ولا عجب بعد ذلك أن يتطرق به الحديث كلما تحدث أو كتب عن واحد من تلك القضايا أو عنها جميعا ، ولكيما ندنيك من اليقين بصدق ما قدمنا فلتنصت إليه وهو يحدثك :

«أما بعد؟ فإن بي من حب العربية والشغف بها ما يدفعني إلى احتمال المصاعب ، والرضا بركوب المخاطر والأهوال ، وبذل النفيسين : الوقت والراحة ، وإني لأجد من السرور بهذا ما لا يبلغ معشاره غريب ألقى بين أهله عصا الترحال ، أو محبّ لقي حبيبه بعد طول افتراق ، وواصله بعد طول تجنّ وصدود ، وقد أخذت على عاتقي أن أقوم لهذه اللغة بما يسعه جهدي من خدمة ، فلم أجد أنبل مقصدا ، ولا أسمى غرضا ، ولا أقرب عند الله قبولا ، من أن أتوفر على كتب أسلافنا من علماء هذه اللغة ، فأحققها وأحاول ردها إلى الصورة التي خرجت عليها من أيدي مؤلفيها قبل أن يصيبها تحريف النسّاخ وتصحيف الناشرين ، أو مسخهم.

وأردت أن أجمع بذلك بين خلال أربع :

أولاها : أن أبتعد عن الغرور بالنفس والتفاخر بالتأليف.

وثانيتها : أن أظهر شباب هذه الأمة على تراثنا الذي ورثناه عن آباء لنا كانوا قادة العالم وأهل الرأي فيه ، يوم كان الناس كلهم يتيهون في بيداوات الجهالة ، ويعيشون عيش السائمة والأنعام ، وأنا أعلم أن شبابنا اليوم ليس لهم الصبر والجلد على قراءة هذه الذخائر في منظرها الذي يختاره لهم الورّاقون وتجار الكتب ، وإن من حسن الرأي أن نضع بين أيديهم كتبا بهيجة المنظر بديعة الرواء ؛ ليقبلوا عليها ، وينتفعوا بما فيها من علم.

وثالثتها : أن أثبت لهؤلاء الذين ينتقصون من قدر آبائنا وينالون منهم أن لأولئك الآباء من المجد والمنزلة ما يفاخر به الأبناء ، وليس يضير الغادة الهيفاء ضنانة أهلها وبخلهم ولؤم أنفسهم ، ولا يغض من جمالها أن تظهر في أطمار مهلهلة ، ولكن على من تكون من نصيبه أن ينفض عنها غبار الإهمال ويجلوها في فاخر الديباج ، ليظهر له بديع ما أودعها الله من فتنة وجمال.

ورابعتها : أن أنفي عن نفسي تهمة التقصير في وقت نحن أحوج ما نكون إلى

١٩

التساند والتضافر على إعادة رسومنا الدارسة إلى ما كانت عليه يوم كنا قادة الشعوب وسادة هذا العالم ؛ وليس للبلاد العربية كلها من بدّ أن تسلك لوحدتها طريق الاتحاد في المشاعر والمعارف ، وأقرب ما يصل بنا إلى هذه الغاية معاودة معارفنا القديمة مع اختيار أقربها إلى أنفسنا وقلوبنا في فروع العلم كلها» (١).

وفي مقال آخر يقول :

«وقد خلق الله في نفسي حب السلف ، والتفاني في الدفاع عن علومهم وأفكارهم ، والحرص على إذاعة فضلهم وعظيم منّتهم علينا وعلى من يأتي بعد من الأجيال المتلاحقة ، ولست أدري سرّ ذلك كله ، غير أني لا أشكّ في أن بين أيدينا ثروة يحسّ بها المستشرقون أكثر مما نحسّ بها نحن أبناء هؤلاء الموّرّثين ، وأنّا نضيع هذه الثروة بأحد سببين لا ثالث لهما ؛ أولهما : الانصراف عنها إلى الافتتان بالغرب وعلوم الغرب ، وردّ كل نبوغ وفوق إلى نبوغ الغرب وفوقه ، وثانيهما : الاقتناع من باعة الكتب بأن يظهروا لنا كتب أسلافنا على صور مشوهة ممسوخة لا تسد نهمة ولا تبلّ أواما ، ولو أننا أرغمناهم على أن يظهروها موافقة لروح العصر الحديث لاستطعنا أن نفيد ، وأن نجد في ميراثنا النفع والغناء» (٢).

وفي أحد المؤتمرات التي مثّل الأزهر فيها يقول (٣) :

«حضرات السادة .. إن في أعناقكم أمانة من أثقل الأمانات حملا ، وأنتم بحمد الله صفوة الصفوة من رجال الأمم العربية ، فليس يعجزكم أن تنهضوا بما حملتم وأن تؤدوا الأمانة على أفضل وجوه الأداء ، وإني لعلى ثقة من أنكم ستنظرون إلى قديمنا الخالد نظرة المعتز به العارف لما فيه من خير وفضل ، وستحاولون ما وسعه جهدكم أن تنفضوا عنه ما علق به بدواعي الإهمال من غبار فيظهر للناس رواؤه ، وتتكشف لهم بهجته ، كما أني على ثقة من أنكم لا تهملون من الجديد إلا ما تحقق لكم زيفه وثبت

__________________

(١) من مقدمة كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» سنة ١٣٥٨ ه‍ ـ ١٩٣٩ م.

(٢) من مقدمة كتاب «العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده» ١٣٥٣ ه‍ ـ ١٩٣٤ م.

(٣) من كلمة ألقاها في حفل افتتاح المؤتمر الثقافي الأول للجامعة العربية في بيت مري ـ لبنان ـ ٢ سبتمبر ١٩٤٧ م.

٢٠